الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
دور قرينة السِّياق في إعمال ظن وأخواتها أو إلغاء عملها:
ومما يمكن ضمه إلى الجملة الفعلِيَّة هنا الحديث عن ظنَّ وأخواتها ودور السِّياق في إعمالها أو إلغائها، ونقول: إِنَّ مجموعة الأفعال التي وضعها النَّحْوِيّون تحت عنوان «ظن وأخواتها» نالت اهتماما كبيرا وعناية ملحوظة منهم.
لقد درسوا أهم الأحكام المتعلقة بها دراسة متأنيَّة. من تلك الأحكام حكم الإلغاء، ويقصدون به
«منع الناسخ من نصب المفعولين معًا، لفظا ومحلا منعًا جائزًا ــ في الأغلب ــ لا واجبا» ) (1). وهذا المصطلح يقابل مصطلح الإعمال الذي يعني أَنَّ المفعولين اللذين يأتيان مع هذه الأفعال نُصِبا بهذه الأفعال الناسخة.
ويعلل النُّحَاة لسبب الإلغاء بأنَّه ناتجٌ عن «إمَّا توسُّط الناسخ بين مفعوليه مباشرة بغير فاصل آخر بعده يوجب التعليق، وإما تأخره عنهما» ) (2).
ويكتفي معظمهم بهذا سببا لإلغاء عمل ظن وأخواتها، وهذا السبب يحتاج إلى فضل تأمُّل وإنعام نظر. إِنَّ العلَّة في الإلغاء كما يقولون «توسط الناسخ بين مفعوليه» ، وهذه العلة تثير تساؤلا مُؤَدّاه: أنَّى للناسخ أَنْ يتوسط بين مفعوليه بدون تدخل خارجي من إرادة واعية؟ أم أَنَّ التوسط يكون من تلقاء نفسه؟ وما السبب الذي جعل هذه الإرادة تقوم بهذا التوسط؟
إن تفسير الإلغاء بسبب التوسط فقط بدون الإشارة إلى السياق ودوره في هذا أمر يحتاج إلى فضل مراجعة وإيضاح. إِنَّ لكل حادث سببا كما يقول المناطقة، والتوسُّط لا بدَّ له من إرادة نابعة من متكلم، والمُتَكَلِّم لا يتكلَّم إلا وهو في سياق ما، وإغفال النُّحَاة للسياق جعلهم يعللون للإلغاء بهذا التعليل الذي قد تشوبه شائبة غموض.
ومما يثير العجب أَنَّ سيبويه إمام النُّحَاة وجَّه النظر إلى السِّياق في علاج هذه المسألة، واستطاع من خلاله تفسير الإلغاء، فقال في باب «الأفعال التي تستعمل وتُلغى»: «وكلَّما أردتَ الإِلغاء فالتأخيرُ أقوى. وكلٌّ عربىٌّ جَيِّد
…
، وإِنَّمَا كان التأخير أقوى؛ لأنَّهُ إِنَّمَا يجيء بالشكّ بعدما يَمْضِى كلامُه على اليقين، أو بعدما يبتدئ وهو يريد اليقينَ ثُمَّ يُدْرِكُه الشكُّ، كما تقول: عبدُ الله صاحبُ ذاك بلغَنى
…
، فأَخّرَ ما لم يَعمَلْ في أول كلامه. وإِنَّمَا جعل ذلك فيما بلغه بعدما مَضى
(1) عباس حسن: النحو الوافي، 1/ 38
(2)
السابق: 1/ 38
كلامُه على اليقين، وفيما يَدرى. فإذا ابتدأ كلامَه على ما فى نيّته من الشكَ أَعْملَ الفعلَ قدّم أوْ أخَّر، كما قال: زيدًا رأيتُ، ورأَيتُ زيدا») (1).
يُفْهَمُ من النَّصّ السابق أَنَّ جملة مثل «أظن زيدا قائمًا» يكون فيها الشك مسيطرًا على المُتَكَلِّم قبل أَنْ يتكلم؛ لذلك أعمل الفعل. أَمَّا الجملتان: «زيدٌ أظن قائمٌ» و «زيدٌ قائمٌ أظن» فَإِنَّ اليقين مسيطر على المُتَكَلِّم في بداية الكلام ثُمَّ طرأ عليه الشك؛ إذن فتردد المُتَكَلِّم بين الشك واليقين ظهر أثره الفوري على التركيب المشتمل على ظن وأخواتها.
وعليه فإِنَّه يتوجب علينا عند معالجة ظاهرة الإلغاء أَنْ نستصحب سياق الحال الذي يوجد فيه المُتَكَلِّم، ولا يكتفى بذكر أَنَّ سبب الإلغاء هو التوسط.
ولعل هذا الاستنتاج الذي أخذناه من نصّ سيبويه يتوافق مع كلام أستاذنا فاضل السامرائي حول هذه المسألة إذ يقول: «إِنَّ قول النُّحَاة أَنَّه يجوز إلغاء الفعل إذا توسط أو تأخَّر قد يُفهم منه أَنَّه يسوغ ذلك متى شاء المُتَكَلِّم دون نظر إلى المعنى. والحق أَنَّ معنى الإلغاء غير معنى الإعمال والمُتَكَلِّم مقيَّد بالمعنى؛ فليس له أَنْ يُعمل أو يُلغي من دون نظر إلى القصد والمعنى» ) (2).
وأعتقد أَنَّ أستاذنا السامرائي يقصد بالمعنى والقصد هنا السِّياق.
ولا يفوتنا في ختام هذه النقطة أَنْ نشير إلى أَنَّ العلامة الإعرابِيّة تَأَثَّرت بالسِّياق، وظهر أثره فيها بشكل فوري وظاهر.
ويمكن أَنْ نستغل حديثنا هنا عن تأثير السِّياق في جملة ظن في الحديث عن تأثير سياق الحال على معنى الفعل ظن نفسه، فعندما نقول:«ظننت زيدًا» وتصبح جملة مفيدة يحسن السكوت عليها؛ فلا بد أَنَّ معنى ظن لا يفيد الشك ولا الرجحان. يقول سيبويه: «قد يجوز أَنْ
تقول: ظننتُ زيدًا، إذا قال: من تظنُّ، أى من تَتَّهمُ؟ فتقول: ظننتُ زيدًا، كأَنَّه قال: اتَّهَمْتُ زيدا. وعَلَى هذا قيل: ظَنينٌ؛ أى مُتَّهَمٌ») (3).
أي أَنَّ الفعل ظن قد تتغير وظيفته النحوِيَّة، ويصبح ذا مفعول واحد إذا تغيَّر معناه الدِّلَالِيّ وأصبح بمعنى «اتهم» ) (4).
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 120
(2)
معاني النحو، دار الفكر، عمان، ط 1، ) 2000 م (، 2/ 33
(3)
سيبويه: الكتاب، 1/ 126
(4)
الواقع أن النصوص التي ذكرها سيبويه عن ظن وأخواتها غنية بالدلالات السِّياقيَّة التي قد تحتاج إلى دراسة مستقلة وتأمل وفحص دقيق. ففي بعضها نجد تأثيرا دقيقا لسياق الحال) متمثلا في المُتَكَلِّم (على التركيب. من هذه النصوص مثلا: ((وقال عز وجل: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ}؛ كَأَنَّك قلت: قد حسبت أنَّه لا يقول ذاك. وإِنَّمَا = حسنت أنَّه ههنا لأنك قد أثبتَّ هذا في ظِّنك كما أثبتَّه في علمك، وأنَّك أدخلته في ظنك على أنه ثابتٌ الآن كما كان في العلم ولولا ذلك لم يحسن ((أنَّك)) ههنا ولا ((أنَّه))، فجرى الظن ههنا مجرى اليقين لأنَّهُ نفيه)). 3/ 167
والفعل «علم» قد يلغى عمله بلام التوكيد، ويأتي في الجملة لإفادة التوكيد و «عدم التظنِّي» وألا يحيل المُتَكَلِّم على علم غيره. يقول سيبويه: «ومن ذلك: قد علمتُ لَعبدُ الله خيرٌ منك. فهذه اللامُ تمنَعُ العملَ
…
؛ لأَنَّها إنَّما هى لامُ الابتداء، وإِنَّمَا أَدخلتَ عليه علمتُ لتُؤكَّدَ وتجعلَه يقينًا قد علمتَه، ولا تُحيلَ على علم غيرك») (1).
فـ «علم» تفيد اليقين، ومع زيادة المبنى بدخول لام الابتداء زاد المعنى، وهو: عدم الإحالة على علم الغير. وهذا المعنى لا يمكن أَنْ يوقف عليه إلا بتتَبُّع استقصائي لهذا التركيب في السِّياقات المختلفة.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر كما يقولون؛ فإِنَّنَا يمكن أَنْ نذكر جملة من الأفعال التي يتوقَّف عملها النَّحْوِيّ على معناها الدِّلَالِيّ الذي يحدده السِّياق، بعضها من أخوات ظن، منها:
» الفعل جعل: من الأفعال التي يؤثِّر سياق الحال على معناها، وينعكس على وظيفتها النحوِيَّة الفعل «جعل» ، فالجملة التي تقول:«جعلت متاعك بعضَه فوق بعض» بنصب «بعضه» يمكن توجيه النصب على ثلاثة أوجه:
1 ــ أن تكون ((جعل)) بمعنى ((صنع أو عمل))؛ فينصب مفعولا واحدًا؛ وتكون ((فوق في موضع الحال)) (2).
2 ــ أن تكون «جعل» بمعنى «ألقى أو أسقط» ، وتكون «بعضه فوق بعض» في هذا
«كالمفعول، لا في موضع الحال؛ لأنَّهُ في جملة الفعل الذي هو ألقيت» ) (3).
3 ــ أن تكون «جعل» بمعنى «صيَّر» ؛ «فينصب مفعولين؛ فتصبح فوق في موضع المفعول الثاني» ) (4).
ويُجمل بعض العلماء هذه المعاني للفعل جعل ويتتبعها تاريخيا فيقول: «وأصل الجعل حِسِّيّ، تقول: جعل الشيء يجعله جعلا؛ أي: وضعه، وجعله: صنعه، وجعله: صيره
…
، ثم نقل إلى معنى الظن والاعتقاد») (5).
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 236، وينظر تعليق السيرافي على هذا الموضع 2/ 136
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 156
(3)
السيرافي: شرح كتاب سيبويه، 2/ 20
(4)
السابق: 2/ 20
(5)
د. فاضل السامرائي: معاني النحو، 2/ 29
ولا شك أَنَّ تلك المعاني يتوقَّف تحديدها على سياق الحال؛ فبه يتحدّد معنى جعل الذي يترتب عليه التوجيه الإعرابِيّ السليم.
» الأفعال رأى، وجد، علم:
يبين سيبويه تأثير السِّياق على معنى هذه الأفعال قائلا: «وإن قلت رأيتُ فأردْتَ رؤيةَ العين، أو وجدتُ فأردْتَ وِجدانَ الضالة؛ فهو بمنزلة ضربتُ، ولكنّك إِنَّمَا تريد بوجدت عَلِمْتُ، وبرأيت ذلك أيضًا. ألا ترى أَنَّهُ يجوز للأَعمى أنْ يقول: رأيتُ زيدًا الصالحَ. وقد يكون علمتُ بمنزلة عرفتُ لا تريد إلاعِلْمَ الأوّل» ) (1).
ويقول العلماء عن الفعل «وجد» وتنقله الدلالي أنَّه «منقول من وجد الشيء ولقيه، وأصله في الأمور الحسية، ثم نقل معناه إلى الأمور القلبية، فعندما تقول: «وجدت الظلم وخيم العاقبة» ، كان معناه أنَّك وجدت هذا الأمر وأصبته كما تُصاب الأمور المحسوسة ليس في ذلك شك، فنقل من هذا المعنى المادي إلى الأمر المعنوي، ولما كان وجدان الشيء ولقيه أمرًا يقينًا كان الأمر العقلي
بمنزلته») (2). وكذلك الفعل «رأى» فإنّه «منقول من الرؤية البصرية، فأنت إذا رأيت شيئا فقد تيقَّنت منه وعلمته، ثم نقل من هذا المعنى إلى الأمور القلبية، فإذا قلت مثلا: «رأيت الباطل زهوقا» كان المعنى كأنَّك رأيت هذا الأمر بعينك، فكما أنَّه ليس في الرؤية العينية شك، كان هذا بمنزلته») (3).
إذن بحسب معاني هذه الأفعال في سياقاتها يكون عملها النَّحْوِيّ.
» الفعل دعا:
يشير سيبويه إلى الفعل «دعا» في باب الأفعال التي تنصب مفعولين فيقول: «دعَوْتُه زيدًا إذا أردت دعوته التي تجري مجرى سميته، وإن عنيت الدعاء إلى أمر لم يجاوز مفعولا واحدًا» ) (4).
إذا أتى الفعل دعا بمعنى ((سمّى)) نصب مفعولين، وإن عنيت الدعاء نصب مفعولا واحدًا.
وجملة سيبويه الأخيرة تشير إلى إرادة المُتَكَلِّم التي لا بدَّ أنَّها مرتبطة بالسِّياق.
»
كان التامَّة (وكذلك: دام، أصبح، أمسى):
يأتي الفعل كان على حالين، تاما وناقصا. وقيل إِنَّ كان التامة تكون كذلك «لاكتفائها
بالفاعل، وقيل لدلالتها على الحدث والزمان؛ فلا تحتاج إلى اسم أو خبر؛ وتكون بمعنى: حصل،
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 40، وينظر أيضا الموضع: 2/ 367
(2)
د. فاضل السامرائي: معاني النحو، 2/ 12
(3)
السابق، 2/ 12
(4)
سيبويه: الكتاب، 1/ 37