الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيه، ويلازم بين هذا النمط والدِّلَالَة السِّياقِيَّة كما سنرى تباعا. والأمثلة التي ذكرناها هنا تدلُّ أيضا على سبق سيبويه لـ «دي سوسير» في اهتمامه بالتتَبُّع الرأسي والأفقي للظاهرة اللُّغَوِيَّة.
2 ــ الإحصاء العددي للتراكيب النَّمَطِيَّة:
أصبح الإحصاء «من أهم وسائل وأدوات البحث العلمي في العلوم التجريبيَّة أو التطبيقيَّة؛ وذلك بهدف تعميم النتائج التي يحصل عليها الباحث» ) (1). وأصبح علما مستقلا بذاته، له مناهجه وأصوله وقواعده. ولقيمته العلميَّة في كافَّة المجالات دعا إلى تطبيقه في مجال الدراسة الأدبيَّة والنقد الأدبي بعض أساتذتنا) (2).
وأزعم هنا أنَّ سيبويه كان سبَّاقا في استخدام الإحصاء كأداة منهجِيَّة في عمله، فقد كان يقوم بعَمَلِيَّة إِحْصَائِيَّة للتركيب النَّمَطِيّ المُعَيَّن الذي «يترسَّب لديه من خلال دراسته النصوص المنطوقة والمنشدة أمامه» وأنَّه كان يقوم ــ للحصول على نتائجه التي يريدها ــ بما يسميه علماء الإحصاء
«الإحصاء الوصفي Descriptive statistics» ) (3)، أو «أسلوب المسح Surveying» ) (4) .
ولا أدعي هنا أنَّ سيبويه قد استخدم هذا الأسلوب باحترافيَّة في استخلاص نتائجه، ولَكِنَّه على الأَقَلّ لجأ إليه بدرجة ما.
ودعوانا هذه التي ادّعيناها على صاحب الكتاب تحتاج إلى دليل وبيِّنة، وها هي ذي الأدِلَّة على وجود هذا الاتجاه:
1 ــ يذكر سيبويه في أحد مواضع الكتاب علاقة «كأين) بمعنى كم (» بـ «مِنْ الجارة» فيقول: «إلا أنَّ أكثر العرب إِنَّمَا يتكلمون بها) كأين (مع مِن» ) (5).
(1) د. عبد اللطيف عبد الفتاح ود. أحمد محمد عمر: مقدمة الطرق الإِحْصَائِيَّة، القاهرة، ط 4، ) 1982 م (،
ص 4
(2)
هو أستاذنا د. سعد مصلوح في كتابيه المهمين: ((الأسلوب: دراسة لغَوِيَّة إِحْصَائِيَّة))، و ((في النص الأدبي دراسة أسلوبية إِحْصَائِيَّة)). وأشار في الأخير) ص: 9 (إلى أهمِيَّة الأسلوب الإحصائي في حل مشكلات نقدية مُهِمَّة وأن الأسلوب الإِحْصَائِيّ يمثل أداة منهجية، وليس منهجا.
(3)
د. عبد اللطيف عبد الفتاح ود. أحمد محمد عمر: مقدمة الطرق الإِحْصَائِيَّة، ص 7
(4)
أسلوب المسح Surveying: هو أسلوب لجمع البيانات عن طريق حصر أو مسح الوضع القائم للظواهر موضع الدراسة كما هو، دون التحكم في العوامل المختلفة التي قد تؤثر أو تؤدي إلى الحالة التي توجد عليها هذه الظواهر. ويقترن هذا الأسلوب في الغالب بالدراسات الاجتماعِيَّة والإنسانيَّة؛ حيث يصعب التحكم في العوامل المحيطة بهذه النوعية من الدراسات. يُنْظَر: د. صلاح مهدي محمد: الإحصاء، القاهرة، ط 1، ) 2008 م (، ص 7
(5)
سيبويه: الكتاب، 2/ 170
2 ــ «وثُمَّ بمنزلة الفاء، تقول: ثُمَّ صاعدا، إلا أنَّ الفاء أكثر في كلامهم» ) (1).
3 ــ «والرفع أجود وأكثر في ما أنت وزيدٌ» ) (2).
4 ــ «فهذا ضعيف، والوجه الأكثر النصب» ) (3).
5 ــ «فأما الأصل الأكثر الذي جرى مجرى الفعل من الأسماء ففاعل» ) (4).
6 ــ «وهذا أيضا ليس بالكثير في كلامهم؛ والأكثر في كلامهم: أعطاه إياه» ) (5).
7 ــ «وقد زعم بعضهم أنَّ «ليس» تجعل «كما» ، وذلك قليل لا يكاد يعرف») (6).
8 ــ «وزعموا أنَّ ناسا يقولون: كيف أنت وزيدًا، وما أنت وزيدًا، وهذا قليل في كلام العرب» (7)
9 ــ «
…
؛ لأَنَّ حسبتنيه وحسبتكه قليل في كلامهم») (8).
10 ــ «
…
وقد جاء رفعه على شيء هو قليل في الكلام») (9).
11 ــ «وقد بلغنا أَنَّ قوما من أهل الحجاز من أهل التحقيق يحقِّقون نبيءٌ وبريئةٌ؛ وذلك قليل
ردئ») (10).
12 ــ «
…
ولكن كثر النصب في كلامهم») (11).
13 ــ «
…
وهذا لا يكاد يعرف») (12).
14 ــ «
…
وهذا النحو في الكلام كثير») (13).
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 291
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 309
(3)
سيبويه: الكتاب، 1/ 86
(4)
سيبويه: الكتاب، 1/ 117
(5)
سيبويه: الكتاب، 2/ 365
(6)
سيبويه: الكتاب، 1/ 147
(7)
سيبويه: الكتاب، 1/ 303
(8)
سيبويه: الكتاب، 2/ 365
(9)
سيبويه: الكتاب، 3/ 99
(10)
سيبويه: الكتاب، 3/ 555
(11)
سيبويه: الكتاب، 1/ 271
(12)
سيبويه: الكتاب، 1/ 60
(13)
سيبويه: الكتاب، 1/ 83
15 ــ «
…
فهذا ضعيف، والوجه الأكثر الأعرف النصب») (1).
ومن الواضح من هذه الأمثلة أَنَّ سيبويه استخدم ألفاظا معياريَّة مثل: «كثير» و «كَثُرَ»
و«الأكثر» و «قليل»
…
ولم يستخدم إِحْصَائِيّات صريحة، وهذا ما سبق وبدأنا به كلامنا قبل ذكر الأمثلة. إِنَّ غاية ما نريد إثباته هنا أَنْ نشير إلى استخدام سيبويه لهذا الاتجاه بدرجة ما.
ولعله ممَّا يدعم كلامنا هنا عن اتخاذ سيبويه لهذا الاتجاه الإحصائي ما قاله البغدادي: «حدثنا على بن سليمان قال: حدثنا محمد بن يزيد: أَنَّ المفتشين من أهل العربية ومن له المعرفة باللغة تتبَّعوا على سيبويه الأمثلة، فلم يجدوه ترك من كلام العرب إلا ثلاثة أمثلة: منها الهُندلِع وهي بقلة، والدُّرْداقِس وهو عظم في القفا، وشَمَنْصير وهو اسم أرض، وقد فسر الأصمعي حروفا من اللغة التي في كتابه، وفسر الجرمي الأبنية، وفسرها أبو حاتم وأحمد بن يحيى. وكلُّ واحد منهم يقول ما عنده فيما يعلمه، ويقف عما لا علم له به، ولا يطعن على ما لا يعرفه، ويعترف لسيبويه في اللغة بالثقة وأنَّه علم ما لم يعلموا وروى ما لم يرووا» ) (2).
وفي تتَبُّعنا لتلك الأقوال الدالة على المنهج الإِحْصَائِيّ عند سيبويه يمكن أَنْ نقول بعض الملحوظات المُهِمَّة التالية:
» الملحوظة الأولى: من خلال وقوفنا على الجانب الإحصائي النسبي عند سيبويه يمكن أَنْ نقول إِنَّ التركيب الأساسي للقاعدة النحوِيَّة التي يُقعِّد لها سيبويه هو الأكثر تَرَدُّدًا في النصوص المستخلص منها القاعدة.
وهنا نوجه النظر إلى أَنَّ سيبويه كان يستخلص هذا التركيب الأساسي بناء على «نوع مُعَيَّن من القياس» كان يقوم به.
ولتحديد هذا النوع من القياس نقول ابتداء إنَّه من الخطأ أَنْ نتصور أَنَّ مصطلح القياس «لا يتغير من عصر إلى عصر، ولا يتفاوت مضمونه من مدرسة إلى أخرى، بل [إِنَّهُ من الخطأ أَنْ نتصور] أَنَّه لا يختلف عن القياس المنطقي بما يتطلبه من قضايا، ويفترضه من مقدمات، ويستلزمه من شروط» ) (3). وإِنَّنَا بعد التحليل العلمي لاصطلاح القياس يمكن أَنْ نميز «بين مدلولين يختلفان تمام الاختلاف، أَمَّا أولهما فيرتكز على مدى اطراد الظاهرة في النصوص اللُّغَوِيَّة مروية أو مسموعة، واعتبار ما يطرد من هذه الظواهر قواعد ينبغي الالتزام بها، وتقويم ما يشذُّ من نصوص
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 86
(2)
البغدادي: خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، ت: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي القاهرة، ط 4، ) 1997 م (، 1/ 370
(3)
د. على أبو المكارم: أصول التفكير النحوي، دار غريب، القاهرة، ط 1، ) 2006 م (، ص 36
اللُّغَة عنها، ومن ثمَّ فإِنَّهُ يرفض الأخذ بالظواهر الشاذة، ويرد هذه الظواهر، كما يرفض الأخذ بالنصوص التي تحملها مهما كان مصدر هذه النصوص.، وأما المدلول الثاني للقياس فهو أَنَّه عَمَلِيَّة شكلية يتم فيها إلحاق أمر ما بآخر لما بينهما من شبه أو علة؛ فيعطي الملحق حكم ما ألحق به. ومن ثَمَّ فَإِنَّ لهذه العَمَلِيَّة أطرافا أربعة: المقيس، والمقيس عليه، والجامع بينهما، والحكم. والمدلول الأول للقياس هو الشائع في البحث النَّحْوِيّ طوال القرون الثلاثة الأولى منه؛ أي حتى ابن السراج وتلميذه الفارسي وتلميذه ابن جني») (1).
وقد استعمل سيبويه القياس بمدلوله الأول، ويدلُّ على ذلك من نصوصه قولُه:
• ((وإن أضفت إلى عباديد قلت: عباديديٌّ؛ لأنَّهُ ليس له واحد؛ وواحده يكون على فُعْلولٍ أو فِعْليلٍ أو فِعلال؛ فإذا لم يكن واحدٌ لم تجاوزه حتَّى تعلم؛ فهذا أقوى من أَنْ أحدث شيئًا لم تتكلَّم به العرب»)(3).
إِنَّنَا بعد أَنْ نقرأ هذه النصوص نشعر أَنَّ سيبويه بعد استخلاصه للتركيب الأساسي للقاعدة يريد أَنْ يقول «هذا هو التركيب الذي وجدته أكثر شيوعا في نصوص اللُّغَة» . ولقد كان هذا التركيب الأساسي المستخلص «مسحا لنصوص اللُّغَة» هو «المعيار» الذي يحتكم إليه لإبراز مدى درجة «التراكيب البديلة بالنسبة للتركيب الأساسي» من حيث الكثرة، أو القِلَّة أو الشذوذ.
وأود هنا بعد قولي السابق أنْ أتجرأ قليلا وأعبِّر عن رأي قد يخالف كلاما لأستاذنا شوقي ضيف في كتابه «المدراس النحوِيَّة» عن سيبويه، حيث يقول سيادته:
فقول سيادته «وينعته بالغلط» أمر مثير للانتباه، فكلمة «غلط» لم ترد في كتاب سيبويه ــ حسبما وقفت ــ إلا أربع مرَّات:
(1) السابق: ص 27
(2)
سيبويه: الكتاب، 4/ 8
(3)
سيبويه: الكتاب، 3/ 379
(4)
المدارس النَّحْوِيَّة، ص 82
» منها مَرَّة لم تستخدم في وصف تركيب نحوي بل لشرح استخدام للحرف بل (1)
» ومرتان لتوضيح مسألتين صرفِيَّتَيْن (2)،
» والمَرَّة الرابعة يوضح مسألة صوتيَّة (3).
فلم تأت كلمة «غلط» لوصف تركيب نحوي ما، كما قال د. ضيف. وأما ما أثبته سيبويه من توهم في بعض أبوابه فليس على العرب بل على النُّحَاة الذين سبقوه.
وهذا النَّصّ قد يشوبه شيءٌ من عدم الدقة ونقص استقصاء من الدكتور ضيف؛ لأَنَّنا وجدنا سيبويه يصف بعض التراكيب البديلة بـ ((الجَيِّدة))، وبعضها بـ ((الكثير))، وبعضها بـ ((الجَيِّد الكثير)) أيضا، فليست كل البدائل بالقبيحة ولا الغلط ولا الشاذة. والتراكيب الشاذة عند سيبويه هي التراكيب الأَقَلّ تَرَدُّدًا من التركيب الأصلي المولودة منه والناشئة عنه.
وإذا عدنا للقياس عند سيبويه مَرَّة أخرى نقول: إِنَّ سيبويه كان يقوم بقياسه «على الأكثر» المأخوذ بدوره من «الواقع اللغويّ الذي تقوله العرب» ، ولشَدَّ ما أكَّد مرارا وتكرارا في مواضع من كتابه على أهمِيَّة الرجوع إلى هذا الواقع اللغويّ الذي أخذ منه «قياسه على الأكثر» ، يقول:
- «
…
إِنَّمَا تجري ذا كما أجرت العرب») (5).
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 430، حيث قال: ((
…
ومنه: مررت برجلٍ راكع بل ساجد، إما غلط فاستدرك، وإما نسىَ فذكر)).
(2)
سيبويه: الكتاب، 3/ 462، حيث قال:((ومن العرب من يقول في نابٍ: نويبٌ، فيجيء بالواو؛ لأنَّ هذه الألف مبدلة من الواو أكثر، وهو غلطٌ منهم)). و 4/ 356، حيث قال:((فأما قولهم مصائب فَإِنَّه غلطٌ منهم)).
(3)
سيبويه: الكتاب، 4/ 160، حيث قال: ((وزعم أبو الخطاب أن ناسًا من العرب يقولون: ادعه من دعوت؛ فيكسرون العين؛ كأَنَّها لما كانت في موضع الجزم توهموا أنها ساكنة إذ كانت آخر شيء في الكلمة في موضع الجزم؛ فكسروا حيث كانت الدال ساكنةلأنه لا يلتقي ساكنان، كما قالوا: رُدِّ يا فتى. وهذه لغةٌ رديئة، وإِنَّمَا هو
غلطٌ)).
(4)
المدارس النَّحْوِيَّة، ص 81
(5)
سيبويه: الكتاب، 1/ 318 وقال السيرافي تعليقا على هذه الجملة:((ذكر سيبويه هذه الأشياء على نحو استعمالها ولم يجز سقيك؛ لأنَّ العرب لم تدع به))، نقلا عن الحاشية ذات الرَّقْم 2 من كلام المحقق.
- «
…
فاستعمل من هذا ما استعملت العرب، وأجز منه ما أجازوا») (1).
- «
…
فأجره كما كما أجرت العرب واستحسنت») (2).
- «
…
ولم يؤخَذْ ذلك إلاّ من العرب») (3).
وكان الواقع اللغويّ الحيّ والقياس الأكثري ــ إِنْ صح التعبير ــ النابع من هذا الواقع الحي
«أداتَيْنِ» معياريَّتين «يُعَايرُ» بهما كلَّ الأقوال التي ترد إليه، فنراه مثلا يقول:«وزعم الخليل رحمه الله أَنَّ قولهم: رَبِحتُ الدرهمَ درهمًا، محالٌ، حتَّى تقول: فى الدرهمِ وللدّرهمِ. وكذلك وجدنا العربَ تقول» ) (4).
وعبارة سيبويه الأخيرة في النَّصّ السابق مُهِمَّة؛ فهو لم يأخذ نصّ الخليل مُسلَّمًا به بل قارنه بـ
«الواقع اللغويّ» وما «تقوله العرب» ؛ فوجد أَنَّ ما قاله الخليل موافق لهذا الواقع.
ومن النصوص المُهِمَّة أيضا التي نري أَنَّها تدلُّ على اهتمام سيبويه بالواقع اللغويّ بشكل كبير نصه الذي يقول فيه:
إن سيبويه في هذا النَّصّ يكشف عن جانب من جوانب منهجه في كتابه، وهو أَنَّه يهتم بوصف الواقع اللغويّ كما هو، وكما وقف عليه، ثُمَّ تأتي مرحلة تالية يقوم بها هي مرحلة تفسير هذا الواقع، فهو «يصفُ» أولا، ثُمَّ «يفسِّرُ» ثانيا، ولا يتدخل بتعليقٍ على أَنَّه ينبغي أَنْ يكون تركيب ما بشكل ما، بدليل أقواله:«إِنَّمَا تجري ذا كما أجرت العرب، فأجره كما كما أجرت العرب فاستعمل من هذا ما استعملت العرب، وأجز منه ما أجازوا» التي أثبتناها آنفا.
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 414
(2)
سيبويه: الكتاب، 2/ 124
(3)
سيبويه: الكتاب، 1/ 237
(4)
سيبويه: الكتاب، 1/ 395
(5)
سيبويه: الكتاب، 1/ 266 وفي الحاشية ذات الرَّقْم 2 من تحقيق الأستاذ هارون يورد رواية أخرى للجملة الأخيرة في النص وهي ((ثم قس بعد))، ويفسر سيادته التفسير في الجملة الأولى بـ ((التعليل)).
ولا بدَّ أَنْ تعقُب هاتين المرحلتين عنده مرحلتان تاليتان هما مرحلة «الفرز والتصنيف» ، فرز وتصنيف ما هو «أكثر، وما هو كثير، وما هو قليل وما هو شاذ» ؛ ثُمَّ مرحلة «وضع القاعدة على الأكثر» .
والنص المذهل الذي قاله سيبويه في الاقتباس السابق هو قمة ما وصل إليه علماء اللُّغَة المعاصرون، فكلامه فيه يكاد يتطابق مع ما يقوله العالم اللغويّ المعاصر ديفيد كريستال David Crystal، بل أكاد أقول إِنَّ نصّ ديفيد كريستال التالي هو ترجمة لمنهج سيبويه ولجملته في النَّصّ السابق «فقف على هذه الأشياء حيث وقَفوا ثُمَّ فسِّرْ» ، يقول هذا العالم اللغويّ عند شرحه لمصطلح
«علم اللُّغَة الوصفي Description» :
" The aim of descriptive linguisticsis to describe the facts of linguistic usage as they are، and not how they ought tobe، with reference to some imagined ideal state . The emphasis on a given timeplaces it in contrast with historical linguistics، where the aim is to demonstratelinguistic change: descriptive linguistics aims to describe a language synchronically، at a particular time (not necessarily the present - one can describe thelinguistic patterns of any period) . "
«إِنَّ هدف علم اللُّغَة الوصفي أَنْ يصف حقائق الاستخدام اللغويّ كما هي، لا كيف ينبغي أَنْ تكون مع الإشارة لبعض الحالات المثالِيَّة. إِنَّ تأكيد [علم اللُّغَة الوصفي أَنَّه يعمل] على فترة زمَنِيَّة محدّدة يضعه في تباين مع علم اللُّغَة التاريخي الذي يهدف إلى أَنْ يشرح) وبتعبير سيبويه: يفسر (التغير اللغويّ. إِنَّ علم اللُّغَة الوصفي يهدف إلى أَنْ يصف اللُّغَة بطريقة تزامُنية تواقُتية، في وقت مُحَدَّد، ليس بالضرورة في الوقت الحاضر، ففي مُكْنة عالم اللُّغَة أَنْ يصف نماذج اللُّغَة في أَيَّة فترة
زمَنِيَّة») (1). وفي إشارة ديفيد كريستال David Crystal في نصه السابق: «with reference to some imagined ideal state» إشارة تشبه بدرجة كبيرة عبارة لسيبويه كان يكرِّرها كثيرا عندما يتعرض لأقوال النُّحَاة المصنوعة المثالِيَّة، وهي:«وهذا تمثيل ولم يُتَكَلَّمْ به» ) (2).
(1) ينظر: A Dictionary Of Linguistics And Phonetics، P 139 والترجمة للباحث
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 73 وقد تكررت هذه العبارة بنصها ولفظها في أكثر من 20 موضعا آخر في الكتاب، منها: 1/ 312، 1/ 323، 1/ 353، 1/ 371، 1/ 374، 1/ 375، 1/ 376، 1/ 427، 1/ 83، 2/ 118، 2/ 119، 2/ 171، 2/ 19، 2/ 92
وفي مرحلة التفسير تَأَثَّرَ سيبويه بالبيئة الفلسفِيَّة في البصرة، تلك البيئة التي تغذَّت علميا بكتب الفلسفة التي ترجمها المترجمون، وخاصة الكتب التي احتوت منطق أرسطو.
وإذا كان الواقع اللغويّ لا يعطي عددا كبيرا من الأمثلة «يسمح» باستخلاص «قياس أكثري» توقف عن تعميم القياس للتركيب المستخلص من هذه الأمثلة القليلة، وطالب أَنْ يظل هذا التركيب مقصورا على الأمثلة التي أتى فيها. في ضوء ذلك نفهم قول سيبويه:
- وقوله: «هو مني منزلة الشغاف، وهو مني منزلة الولد، هو مني معقد الإزار، هو مني درج السيل» ، ثُمَّ يفسر معنى هذه الظروف أَنَّ قائليها أرادوا القرب الشديد، ثُمَّ يقول بعد هذا التوضيح:«وليس يجوز هذا في كل شيء، لو قلت: هو منّى مَجْلِسَكَ أو مُتَّكأَ زيدٍ، أو مَربِطَ الفرسِ، لم يجز. فاستَعملْ من هذا ما استَعملتِ العربُ، وأَجِزْ منه ما أجازوا» ) (2).
- «ودُونَك لم يؤْخَذ من فعلٍ، ولا عندك، فَإِنَّما يُنتَهَى فيها حيث انتهتِ العربُ» ) (3).
» الملحوظة الثانية: أَنَّهُ يبدو أنَّ هذا الاتجاه الإِحْصَائِيّ أخذه سيبويه عن أستاذه الخليل لقوله:
«وزعم الخليل ــ رحمه الله ــ أَنَّهُ سمع أعرابيا يقول: ما أنا بالذي قائل لك شيئا. وهذه قليلة
…
وقلَّ من يتكلم بذلك») (4).
» الملحوظة الثالثة: تمكن سيبويه من خلال هذا الاتجاه الإِحْصَائِيّ أَنْ يفسر بعض المسائل النحوِيَّة، مثل قوله:«وإذا كان الاسم على بناء فَعَالِ: حَذَامِ ورَقَاش، لا تدري ما أصله، أمعدول أم غير معدول، أم مؤنث أم مذكر؛ فالقياس فيه أَنْ تصرفه؛ لأَنَّ الأكثر من هذا البناء مصروف غير معدول، مثل: الذهاب، والصلاح» ) (5).
(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 402
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 414
(3)
سيبويه: الكتاب، 1/ 252
(4)
الكتاب، 2/ 404
(5)
سيبويه: الكتاب، 3/ 280، وينظر أيضا: 3/ 462
أي أَنَّهُ إذا كان الاسم على وزن «فَعَالِ» ، ولم ندرِ أمعدول) (1) هو أم لا، فسيبويه يصرفه استنادا على الجانب الإِحْصَائِيّ الذي قام به لهذا الوزن، والذي قال إِنَّ معظم حالات هذا الوزن يكون فيها مصروفا.
» الملحوظة الرابعة: أنَّ الاتجاه الإِحْصَائِيّ ليس مقصورا فقط على التراكيب النحوِيَّة بل يمتد أيضا إلى الأبنية الصَّرْفِيَّة، مثل:
• «
…
وفَعِلٌ أقل من فَعِيل بكثير») (2).
• «ألا ترى أَنَّ تَفْعَلُ ويَفْعَلُ في الأسماء قليل» ) (3).
• «ومع ذا أنَّ فَعاعِيل وفَعاعل أكثر وأعرف من فعالل وفعاليل» ) (4).
• «ليس في الكلام مثل: سَرْداحٍ ولا فَعْلالٌ إلا مُضعَّفًا» ) (5).
• «ألا ترى أنَّه ليس في الكلام سِفْعَال» ) (6).
» الملحوظة الخامسة: أنَّ سيبويه في إحصائه الوصفي المسحي يحدد البيئة اللُّغَوِيَّة) المجتمع (التي يستقي منها مادته، ويعتمد الأسئلة المباشرة، ولا يخلط ما تَتَمَيَّز به بيئة لغَوِيَّة عن بيئة أخرى، فهو يحفظ لكل بيئة لغَوِيَّة خصوصيَّتها اللُّغَوِيَّة: النحوِيَّة والصَّرْفِيَّة، وكثيرا ما ردَّدَ سيبويه قوله «ومن العرب
…
»، تلك المقولة التي ترددت أكثر من مَرَّة، وبلغ عدد المرَّات التي أحصيتُها لهذه المقولة مائتين وتسعة) 209 (مَرَّة.
ومن الأمثلة التي تؤيد هذه الملحوظة أقواله:
• «وسألنا العُلْويين والتميميين
…
») (7).
• «وسألنا من يرفع في قوله: سرتُ حتى أدخلها
…
») (8).
(1) يقصد بمصطلح ((العدول)): إخراج الكلمة عن صيغتها الأصلية لغير قلب أو تخفيف أو إلحاق أو معنى زائد. ينظر: د. محمد سمير اللبدي: معجم المصطلحات النَّحْوِيَّة والصَّرْفِيَّة، ص 147
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 112
(3)
سيبويه: الكتاب، 3/ 197
(4)
سيبويه: الكتاب، 3/ 432
(5)
سيبويه: الكتاب، 3/ 218
(6)
سيبويه: الكتاب، 3/ 434
(7)
سيبويه: الكتاب، 3/ 291
(8)
سيبويه: الكتاب، 3/ 22
• «وناس من العرب يقولون: بُشْرَيَّ
…
») (1).
• «
…
وإنْ شئت قلت: إذا كان غدًا فأتي، وهي لغة بني تميم») (2).
• «ومن العرب من ينصب بالألف واللام، من ذلك قولك: الحمدَ لله، فينصبها عامة بني تميم وناس من العرب كثير» ) (3).
• «
…
وهذه كلمة تَكَلَّم بها العرب في حال اليمين، وليس كل العرب تتكلم بها، تقول: لَهِنَّكَ لَرجلُ صدق») (4).
• «والذي ذكرت لك قول الخليل، ورأينا العرب توافقه بعد ما سمعناه منه» ) (5).
• «كما تخرج هند في التحقير إذا قلت: هنيدة إلى ما لا ينصرف في جميع اللغات» ) (6).
• «واعلم أَنَّ ناسا كثيرا من العرب يقولون: عِلياوان وحِرباوان» ) (7).
وسيبويه لا يُقصر بحثه الميداني على النواحي النحوِيَّة والصَّرْفِيَّة، بل إِنَّ بحثه الميداني يشمل الدراسة الصَّوْتِيَّة لما تَتَمَيَّز به كل قبيلة على حدى. يقول مثلا:«واعلم أنَّ ناسًا من العرب كثيرًا ما يلقون على الساكن الذي قبل الهمزة حركة الهمزة، سمعنا ذلك من تميم وأسدٍ، يريدون بذلك بيان الهمزة، وهو أبين لها إذا وليت صوتًا» ) (8).
وعبارات سيبويه في النصوص السابقة «وسألنا، وسألنا من يرفع، وناس من العرب، وهي لغة، ومن العرب من، وهذه كلمة تَكَلَّم بها العرب في حال، ورأينا العرب، جميع اللغات، واعلم أنَّ ناسا كثيرا من العرب
…
» تذكرنا بالطريقة التي كان علماء اللُّغَة المعاصرون يتبعونها في دارسة
«علم اللهجات Dialectology» تلك الطريقة التي عُرفت باسم «الاستبيانات Questionnaire» . التي
(1) سيبويه: الكتاب، 3/ 414
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 224
(3)
سيبويه: الكتاب، 1/ 329
(4)
سيبويه: الكتاب، 3/ 150
(5)
سيبويه: الكتاب، 2/ 117
(6)
سيبويه: الكتاب، 3/ 200
(7)
سيبويه: الكتاب، 3/ 391
(8)
سيبويه: الكتاب، 4/ 177