الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن اهتمام سيبويه بالاستعمال اللغويّ والاعتماد عليه والاستفادة منه لَهو دليل على ما أكدَّناه من تنميط القاعدة النحوِيَّة وتتَبُّعها في السِّياقات المختلفة، كما أَنَّهُ يؤكِّدُ الاتجاه الإِحْصَائِيّ الذي كان يتبناه.
وقد يُطرَح علينا سؤال ونحن في معرض حديثنا عن علاقة تنميط القاعدة عند سيبويه بالسياق يقول: ألا يتعارض ميل سيبويه لتنميط القاعدة النحوية والرجوع لسياق الحال؟
ونقول مجيبين إنَّه لا تعارض بين تنميط القاعدة عند سيبويه والرجوع لسياق الحال؛ لأنَّ سيبويه عندما ينمِّطُ القاعدة ينمِّط معها سياق الحال إنْ أمكن، فهو يُلازم بين القاعدة المنمَّطة وسياق الحال الملازم لها، وعندما يذكر نمط القاعدة يذكر معها الدلالات السياقية المرتبطة بها، فمثلا:
• التركيب «أداة الاستفهام) ما / كيف (+ الضمير أنت + حرف العطف الواو + اسم علم» ، يمثل نمطا تركيبيًّا مرتبط بدلالة التحقير أو الرِّفْعة.
• ودلالة الفعل المضارع في التركيب «جملة) سببية (+ حتى) الابتدائية (+ [فعل مضارع مرفوع + فاعل
…
) جملة مسببة (]» تلازم المستقبلية أو الحالية حسبما يدل عليه السياق.
***
4 ــ معايشة التراكيب اللُّغَوِيَّة في نصوصها المنطوقة:
العنصر الرابع من عناصر المنهج: معايشة التراكيب اللغوية في نصوصها المنطوقة. ونقول: لم يكن لسيبويه أَنْ يصل إلى ما وصل إليه من قواعد وأَنْ يقف على أدقّ التفاصيل اللُّغَوِيَّة والدِّلالِيَّة إلا بمعايشة نصوص اللُّغَة والامتزاج بها امتزاج اللحم بالعظم.
وتشهد بهذا عشرات النصوص في الكتاب منها مثلا قوله عن الشعراء: «وليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجها» ) (1). فهذا النَّصّ ورد في «الضرورات الشعرِيَّة وما يجوز في لغة الشعر» ، ومقولته هذه تشي بأَنَّه كان يقف متأمِّلا أمام الضرورة في النَّصّ الشعري، ويخرج بعد هذا التأَمُّل بأَنَّ الضرورة الشعرِيَّة يأتي بها الشاعر لـ «وجه ما، وهدف يبتغيه» ، ولا شك أَنَّ هذا الهدف في خدمة «معنى النَّصّ» الذي يصل إلى المتلقي. ولاشك أيضا أَنَّه لكي يصل إلى مبتغى الشاعر لابد من معرفته لملابسات النصوص وسياقاتها الذي قيلت فيها. وهذا يدل على تمام المعايشة للنص المُسْتقى منه القاعدة.
ومن هذه النصوص أيضا:
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 32
- «كما يشبهون الشيء بالشيء، وإن لم يكن مثله ولا قريبا منه» ) (1).
- «
…
وليس هذا طريقة الكلام، ولا سبيله؛ لأنَّهُ ليس من كلامهم أَنْ ضمروا الجار») (3).
ــ الفوائد العَمَلِيَّة التي تعود على البحث من خلال الوقوف على منهج سيبويه في كتابه:
نأتي في نهاية فصلنا هذا إلى نقطة مُهِمَّة ومحورية وهي: ما الفوائد العَمَلِيَّة التي تعود على بحثنا هذا من وقوفنا على منهج سيبويه؟ ولماذا تجشمنا عناء ماسطَّرناه في الصفحات الفائتة؟
سبق أَنْ قدمنا في بداية هذا الفصل أَنَّ حديثنا عن آليات منهج سيبويه تساعدنا بشكل دقيق في معرفة دور سياق الحال في التوجيه والتَّقْعِيد عنده، وتجعلنا نفهم بشكل صحيح أقواله ونصوصه. ونضيف هنا أيضا بعضا من هذه الفوائد:
• بعد أَنْ وقفنا على العناصر الأربعة السابقة لمنهج سيبويه: تنميط اللُّغَة إلى تراكيب مجرَّدة، ثُمَّ تتَبُّعها إِحْصَائِيّا في السِّياقات المختلفة، ثُمَّ ربط التركيب النَّمَطِيّ المُعَيَّن بدلالات مُعَيَّنَة إِنْ
وجدت، ومعايشة هذه التراكيب، نقول: إِنَّ هذه العناصر ستجعل ما يقوله سيبويه من نتائج سيكون مرتبطا باللُّغَة لا الكلام، أي أَنَّ كل ما سنثبته إِنْ شاء الله متعلِّقًا بقرينة السِّياق ودورها في التَّقْعِيد والتوجيه النَّحْوِيّين عنده سيكون مرتبطا باللُّغَة ذاتها، وليس بالأحداث الكلامِيَّة الوقتِيَّة العارضة.
• ومن الأمور شديدة الأهمِيَّة التي نقف عليها من خلال هذا المنهج أَنَّ الأمثلة التي يضربها سيبويه لتوضيح قواعده ما هي إلا أمثلة تمثل ((تراكيب وبنية لغَوِيَّة)) موجودة في اللُّغَة. فسيبويه إذا أدار الكلام في قاعدة نحوِيَّة حول ((مَثَل)) أو مجموعة من ((الأمثلة))؛ فإِنَّهُ لا يقصد المثل في حد ذاته، بل يقصد ((التركيب)) الذي تمثِّله هذه الجملة أو تلك الجمل.
• إن وقوفنا على هذه العناصر ــ وخاصة عنصر الإحصاء ــ يرفع مصداقيَّة سيبويه في أقواله وتقريراته؛ إذ أَنَّها ليست وليدة معالجة نصٍّ واحد أو اثنين، بل لأَنَّ معظم هذه الأقوال والتقريرات ناتجة عن دراسة لمعظم نصوص اللُّغَة.
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 259، وينظر مع هذا الموضع أيضا المواضع التالية: 1/ 59، 1/ 123، 1/ 182، 3/ 353، 3/ 382، 3/ 646، 4/ 93
(2)
سيبويه: الكتاب، 3/ 208
(3)
سيبويه: الكتاب، 2/ 115
• ووقوفنا على منهج سيبويه وخاصة تنميطه للتراكيب اللُّغَوِيَّة يدلُّنا على أَنَّه اتَّبع الطريق الصحيح في تقعيد القواعد، فهذا التتَبُّع يشبه ما أسماه العلماء بـ «القياس الاستقرائي» الذي سبق أَنْ أشرنا إليه في التمهيد.
• الوقوف على المنهج بشكل عام مكننا من ملاحظة وجود تأثير لسياق الحال على اللُّغَة، ومكننا من إثبات وجود ترابط بين تراكيب مُعَيَّنَة ودلالات سِيَاقِيَّة مُعَيَّنَة.
• بعد الوقوف على هذا المنهج أصبحنا نفهم بشكل واضح وصريح المصطلحات التي كان يصف بها سيبويه بعض الجمل، مثل:«ضعيف، قوي، جَيِّد، كثير، قبيح، خبيث» ؛ فهذه مصطلحات قائمة على الجانب الإِحْصَائِيّ الذي قام به سيبويه للتركيب النَّمَطِيّ الذي يدرسه.
• من خلال الوقوف على هذه العناصر سنفهم أسباب تقوية سيبويه لتوجيه نحوي ما أو تضعيف آخر؛ فالتقوية ستكون نتيجة أَنَّ هذا التركيب هو الأكثر إِحْصَائِيًّا في استخدامات العرب من التركيب الآخر.
***
الفصل الثاني
دور سياق الحال في التوجيه الإعرابِيّ عند سيبويه
ويشمل المباحث التالية:
- المبحث الأول: أهمِيَّة سياق الحال في التوجيهات النحوِيَّة عند سيبويه.
- المبحث الثاني: إثراء سياق الحال للتوجيهات الإعرابِيّة والدِّلالِيَّة.
- المبحث الثالث: تحرُّك سيبويه بحُرِّيَّة في توجيهاته النحوِيَّة في حالة عدم اللَّبس.