الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو حدث، أو وقع، أو وجد، أو جاء») (1). يقول سيبويه:«وقد يكون لكانَ موضعٌ آخَرُ يُقتصَرُ على الفاعل فيه، تقول: قد كان عبدُ الله؛ أي قَد خُلِق عبدُ الله. وقد كان الأمرُ؛ أي وقعَ الأمرُ وقد دام فلانٌ؛ أي ثبت» ) (2).
من خلال نصه لا يمكن أَنْ نحكم على جملته «كان عبد الله» أَنَّ كان تامة بدون سياق، وما كان لسيبويه ولا لغيره أَنْ يصل إلى هذه القاعدة بدون اعتباره.
-
الحذف في الجملة الفعلِيَّة:
الحذف ظاهرة لغوية ثابتة وموجودة، تحدَّث عنها العلماء، وبيَّنوا معنى الحذف وشروطه وعلاقته بسياق الحال؛ فقالوا: «الاختصار أصل بلاغيّ، لا يختص بباب، ولا يقتصر على مسألة، ويراد به: حذف ما يمكن الاستغناء عنه من الألفاظ لداع يقتضيه. وهو جائز بشرطين:
أأن يوجد دليل يدل على المحذوف، ومكانه)؛ لأَنَّ عدم معرفة المحذوف يفسد المعنى فسادًا كاملًا، وعدم معرفة مكانه يؤثِّر في المعنى قليلًا أو كثيرًا (؛ فلوضع الكلمة في الجملة أثر في المعنى. ولا فرق في الدليل) القرينة (بين أَنْ يكون مَقَاليًّا؛ ) أي: قولًا يدل على المحذوف (وأَنْ يكون حاليًا؛ ) أي: أمرًا آخر مفهومًا من الحال والمقام، بغير نطق ولا كلام (.
ب وألا يرتب على حذفه إساءة للمعنى، أو إفسادٌ فى الصياغة اللفظِيَّة») (3).
أي أَنَّ المُتَكَلِّم الموجود في سياق الحال لا يملك أَنْ يحذف أي جزء من الجملة إلا إذا تأكَّد من أَنَّ هذا لا يؤثِّر في فهم المخاطب للكلام من خلال قرينة قوية كقرينة سياق الحال أو الحال الحاضرة كما يسمِّيها السيرافي. وقد سبق سيبويه غيره في التأكيد على هذا فقال في باب «ما جرى من الأمر والنهى على إضمار الفِعل المستعمَلِ إظهارُه إذا عَلِمْت أنّ الرجل مُسْتَغْن عن لَفْظِكَ بالفِعل» :
(1) د. علي توفيق الحمد ويوسف جميل الزغبي: المعجم الوافي في أدوات النحو العربي، ص 244
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 46
(3)
عباس حسن: النحو الوافي، 2/ 56
(4)
سيبويه: الكتاب، 1/ 253
وقد يكون من المفيد أَنْ نذكر أَنَّه تتردد عند سيبويه عدة مصطلحات ترادف مصطلح الحذف، منها ما أسماه بـ «الاختزال». يقول:«وإِنَّمَا اختُزِل الفعل هاهنا؛ لأنهم جهلوه بدلا من اللفظ بالفعل» ) (1)، وقال: «
…
فلذلك اختَزَلَوا الفعلَ هنا، كما اختزلوه فى قولهم: الحَذَرَ») (2).
وقد انفرد سيبويه بهذا المصطلح، فكان أول من صكه، قال الزَّبِيدِي:«الاختزال الحذف، قال ابن سِيدة: ولا أعرفه عن غير سيبويه» ) (3). وأصبح فيما بعد من المصطلحات التي يرددها علماء اللُّغَة بمعنى الحذف، يقول الزركشي: «الاختزال وهو الافتعال
…
، نقل في الاصطلاح إلى حذف كلمة أو أكثر») (4).
ومن المصطلحات التي ترددت عند سيبويه والقريبة أيضا من مصطلح الحذف مصطلح
«الاستخفاف» ، ويعرِّفه سيبويه بأنَّه «إضمار ما يقع مظهرا» ) (5). ويقرُّ سيبويه أَنَّ الذي يسمح بهذا الاستخفاف «علم المخاطب» و «كثرة التكرار» ) (6)، يقول:«وإِنَّمَا أضمروا ما كان يقع مظهرا استخفافا؛ ولأَنَّ المخاطب يعلم ما يعني؛ فجرى بمنزلة المثل، كما تقول: لا عليك، وقد عرف المخاطب ما تعني، أَنَّهُ لا بأس عليك، ولا ضر عليك، ولَكِنَّه حذف لكثرة هذا في كلامهم» ) (7).
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 312
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 317، وينظر أيضا المواضع التالية على هذا اللفظ: الموضع 1/ 314، 1/ 322
(3)
تاج العروس: 28/ 406
(4)
البرهان في علوم القرآن: ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتاب العربي، ط 1، القاهرة، ) 1957 م (، 3/ 134
(5)
سيبويه: الكتاب، 1/ 224
(6)
الحق أن من يريد تحديد مصطلح ((الاستخفاف)) يقابل صعوبة في هذا، فنحن لا نجد لهذا المصطلح تعريفا مانعا جامعا. يقول د. أحمد عفيفي، في كتابه ((ظاهرة التخفيف في النحو العربي)) ما نصه:((الحق أن عدوى عدم تعريفهما) يقصد مصطلحي الخفة والثقل (في المعاجم قد انتقلت إلى علم اللُّغَة بكل مستوياته، فلم نجد هذا التعريف الجامع المانع؛ وإِنَّمَا وجدنا توصيفا للظاهرة))، ص 29، وينقل د. أحمد محاولة بعض الباحثين لتحديد التخفيف أو الخفة من خلال مقابلتها بمصطلح الثقل، فيقول: ((لا حد للثقل إذا اعتبرنا العنصر الخفيف على حدة، ولكن الخفة نسبية تُقاس بالثقل، والثقل نسبي يقاس بالخفة، ومتى عرفنا ما بينهما من النسبة
…
صارت لهما حدود محددة ومقادير مقدرة))، ص 29، والذي يستقر عليه د. أحمد عفيفي في كتابه:((أن البعض يُرجع الخفة والثقل إلى مجرد الانطباع، وبعضهم يرجعهما إلى إحساس المُتَكَلِّم؛ ولهذا قال النُّحَاة: إِنَّ الخفة والثقل شيء نسبي))، ص 30، ينظر: ظاهرة التخفيف في النحو العربي: الدار المصريَّة اللبنانية، ط 1، (1996 م)
(7)
سيبويه: الكتاب، 1/ 224
وما يفهم من النَّصّ السابق أَنَّ الاستخفاف مرتبط بالتراكيب كثيرة الاستعمال التي تشبه الأمثال التي تتردَّد على الألسنة. ومن الأمثلة التي ذكرها على الحذف استخفافا قولنا: «الله أكبر ومعناه: الله أكبر من كل شيء» ) (1).
نأتي هنا إلى تفصيل الكلام عن علاقة الحذف في الجملة الفعلِيَّة بسياق الحال بشيء من التفصيل. ونقول ابتداء إِنَّ السِّياق مُهِمّ لكي يكون للحذف مشروعية، بل هو مُهِمّ لإدراك الحذف أصلا، ومُهِمٌّ في تقدير المحذوف وتحديد معناه كما سبق وأن قررنا.
فمن الأمثلة على أَنَّ تقدير المحذوف وتحديد معناه يتوقَّف لا محالة على سياق الحال؛
قولنا: «زيدًا فقد تعني: اقتل زيدًا، أكرم زيدًا، اشتم زيدًا» ) (2). يقول سيبويه: «وذلك أنَّك رأيت رجلا يَضْرِبُ أو يَشْتِمُ أو يَقتل؛ فاكتفيتَ بما هو فيه من عمله أَنْ تَلفظَ له بعمله فقلت: زيدًا؛ أى أَوْقِعْ عملَك بزيدٍ» ) (3).
ومن خلال السِّياق نحدد نوع العنصر المحذوف الذي قد يكون:
- المفعول به، يقول: «ومما يقوَّى تركَ نحوِ هذا لعلم المخاطَب، قولُه عز وجل:
{وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} ، فلم يُعْمِل الآخِرَ فيما عمل فيه الأوّلُ استغناءً عنه ومثلُ ذلك: ونَخْلَعُ ونَتْرُكُ من يَفْجُرك») (4). قال السيرافي: «فقد ترك إما مفعول نخلع، وإما مفعول نترك اكتفاء بعلم المخاطب» ) (5).
- الفعل الأمر، يقول:«حدثنا أبو الخطاب أَنَّهُ سمع بعض العرب وقيل له: لِمَ أفسدتم مكانكم هذا؟ فقال: الصبيان بأبي. كَأَنَّه حذِر أَنْ يلام؛ فقال: لُمِ الصبيان» ) (6).
قال ابن يعيش: «ومن ذلك ما حكاه سيبويه عن أبي الخطاب الأخفش ــ وكان من مشايخ سيبويه ــ أنَّه سمع بعض العرب، وقد قيل له: «لم أفسدتم مكانكم؟ » فقال: «الصبيان بأبي» ، كأنَّه خاف أن يلام، فقال: لم الصبيان، فأضمر ما ينصب») (7).
(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 33
(2)
السيرافي: شرح كتاب سيبويه، 2/ 154
(3)
سيبويه: الكتاب، 1/ 253
(4)
سيبويه: الكتاب، 1/ 74
(5)
شرح كتاب سيبويه: 1/ 364
(6)
سيبويه: الكتاب، 1/ 255، وينظر الموضع: 1/ 339
(7)
شرح المفصل، 1/ 313
- الفعل الماضي: من المصادر والصفات التي تنصب بسبب إضمار فعل مجموعة المصادر التالية «سَقيًا وَرْعيًا، وخَيْبةً، ودَفرًا، وجَدْعًا وعَقْرًا، وبؤُسًا، وأُفَّةً وتُفَّةً، وبُعْدًا وسُحْقا، وتَعْسًا وتَبًّا، وجُوعًا وجُوسًا، وبهرا، هنيئا مريئا» . يقول سيبويه: «وإِنَّمَا يَنتصب هذا وما أشبهه إذا ذُكر مذكورٌ فدعوتَ له أو عليه، على إضمار الفعل، كأَنّك قلت: سَقاك الله سَقيًا ورَعاك الله رعيًا، وخيبك الله خيبة» ) (1). وقال في الصفات «هنيئا مريئا» : «وإنَّما نصبتَه لأنَّهُ ذَكر لك خيرًا أًصابه رجلٌ؛ فقلتَ: هنيئًا مريئًا، كأَنّك قلت: ثَبَتَ ذَلك له هنيئًا مريئًا أو هنأه ذلك هنيئًا؛ فاختُزِلَ الفعلُ» ) (2).
إن سيبويه يعلل حذف الفعل الماضي مع هذه المصادر والصفات بسبب سِياقِيّ فيقول: «ذُكر مذكورٌ فدعوتَ له
…
»، «ذُكِر لك خيرا أصابه رجل
…
»؛ فسمح هذا باختزال الفعل.
- أداة النداء والمنادى: قد تحذف أداة النداء والمنادى لدلالة السِّياق، يقول:«فلَحاقُ الكاف كقولك: يا فلانُ، للرَّجُل حتَّى يُقْبِلَ عليك. وتركُها كقولك للرجل: أنت تَفعلُ، إذا كان مُقْبِلا عليك بوجهه مُنْصِتًا لك. فتركتَ يا فلانُ حين قلت: أنت تَفعَلُ؛ استغناءً بإِقبالِه عليك» ) (3).
- الجملة بكاملها: قد يكون المحذوف المفهوم من خلال السِّياق «جملة كاملة» ، قال سيبويه:
«ومن ذلك أيضًا أَنْ ترى رجلاً قد أوْقَعَ أمرًا أو تعرَّض لِه، فتقول: متعرَّضًا لعنن لم تعنه، أى: دنا من هذا الأمر متعرَّضًا لعَنَن لم يَعنِه. وتَرَكَ ذكرَ الفعل لما يَرى من الحال.
ومثله: بَيْعَ المَلَطَى لا عهدَ ولا عقَدَ، وذلك إنْ كنتَ فى حال مساومةٍ وحالِ بيعٍ، فتَدَعُ أُبايِعُك استغناءً لما فيه من الحال») (4).
- ويمكن أَنْ يكون المحذوف جمل بكاملها تمثل قصة وقع فيها مَثَلٌ من الأمثلة. فعندما نضرب مثلا من الأمثال فنحن نستحضر تباعًا الموقف أو السِّياق الأول الذي وقع فيه المثل والذي هو بدوره موجود في أذهاننا سلفا من خلال معرفتنا بملابسات هذا المثل.
وقد يكون لاتجاه الكلام بين عدد من الأشخاص، وحضورهم وغيابهم عن موقف الكلام تأثير على صحة الحذف وعدمه، فقد يصح الحذف إذا توجه الكلام إلى الشخص «أ» ، ولا يصح إذا توجَّه إلى الشخص «ب» ، مع أَنَّ من يتوجه إليهما الكلام أوب يجمعهما سياق واحد.
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 312
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 317
(3)
سيبويه: الكتاب، 1/ 244
(4)
سيبويه: الكتاب، 1/ 272
ونضرب لذلك مثلين من كلام سيبويه:
» النص الأول:
ولنفهم ما يقصده سيبويه في هذا الاقتباس نتخيل أَنَّ لدينا موقفا أو سياقا يضم أربعة
أشخاص: «المُتَكَلِّم، المخاطب، زيد، عمرو» ، ونتأمل الجدول التالي:
م
…
الجمل التي لا تجوز في النَّصّ السابق
…
ما يريده المُتَكَلِّم
…
السبب في عدم الجواز
…
استنتاج
1
…
زيدٌ
…
لِيُضْرَب زيدٌ أو لِيَضْرِبَ زيدٌ
…
غياب زيد
…
تجوز هذه الجملة إذا كان زيد حاضرا، وتوجه إليه المُتَكَلِّم بالكلام، وعلم من خلال السِّياق أَنَّ المُتَكَلِّم يريد منه أَنْ يضرب أو يُضرب.
2
…
زيدًا
…
ليضربَ عمرو زيدًا
…
غياب عمرو وزيد عن موقف الكلام
…
تجوز الجملة السابقة إذا كان عمرو وزيد حاضرين أمام المُتَكَلِّم، وعلم عمرو من السِّياق أَنَّ المُتَكَلِّم يريد منه أن يضرب زيدًا.
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 254 ــ 255
3
…
زيدٌ عمرا
…
يريد المُتَكَلِّم أَنْ ينقل المخاطبُ الأمرَ إلى زيد الغائبِ أَنْ يضرب عمرا
…
أن المُتَكَلِّم لا يخاطب زيدا مباشرة؛ لأَنَّه غائب وأنَّ المُتَكَلِّم يتَّجه بالخطاب إلى المخاطب
…
تجوز العبارة السابقة إذا كان زيد حاضرا الكلام وتوجه المُتَكَلِّم إليه مباشرة بالكلام.
4
…
زيدا
…
يريد المُتَكَلِّم أَنْ ينقل المخاطبُ الأمرَ إلى عمرو أَنْ يضرب زيدا
…
غياب عمرو وزيد، والتباس الكلام على السامع والشاهد أَنَّ الأمر له.
نخلص من هذا الجدول أَنَّ اتجاه الكلام وإلى من يتوجه يتحكم في حذف بعض عناصر الجملة، وأنَّ حذف الفعل لا يجوز إذا اتجه الكلام إلى شخص غائب عن موقف الكلام، ويصح الحذف إذا كان من يتوجه إليه بالكلام حاضرا شاهدا له.
» النص الثاني: يقول:
ومقصود سيبويه في هذا النَّصّ «أَنَّ إضمار الفعل مع إرادة الأمر إِنَّمَا يكون مع المخاطب، ولا يصح إضماره مع إرادة الأمر للغائب، إذا قلت: زيدًا وأنت تريد ليضرب زيدًا؛ لأنَّهُ يصير بمنزلة قولك: قل له ليضرب زيدًا» ) (2).
ذلك مثلان يبيِّنان أَنَّ الحذف قد يصحُّ إذا اتجه الكلام لشخص ما، وقد لا يصح إذا اتجه لشخص آخر في نفس الموقف ونفس السِّياق.
ومن أسباب الحذف التي أقرها سيبويه «كثرة الاستعمال» ، ففي كثير من النصوص ذكر أَنَّهُ قد حذف عنصر من عناصر الجملة والسبب هو كثرة الاستعمال. بل إِنَّهُ خصص بابا في الكتاب
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 258
(2)
هذا شرح الأستاذ عبد السلام هارون في الحاشية ذات الرَّقْم 1، من الكتاب: 1/ 258
جعل عنوانه «هذا باب يحذف منه الفعل لكثرته في كلامهم حتى صار بمنزلة المثل» ) (1). وذكر مجموعة من الجمل ينطبق عليها هذا الوصف:
أ «هذا ولا زعماتك» ؛ ) أي: ولا أتوهم زعماتك (.
ب «كليهما وتمرًا» ؛ ) أي كَأَنَّه قال: أعطني كليهما وتمرا (.
ت «كلّ شيء ولا شتيمة حر» ؛ ) أي: ائتِ كل شيء ولا ترتكب شتيمة حر (.
ث «كلاهما وتمرًا» ؛ ) أي كَأَنَّه قال: كلاهما لي ثابتان وزدني تمرا (.
ج قول الشاعر:
دِيارَ مَيَّةَ إِذ مَيُّ تُساعِفُنا
…
وَلا يَرى مِثلَها عُجمٌ وَلا عَرَبُ [بحر البسيط]) أي كَأَنَّه قال: أذكر ديار مية (.
الفعل المحذوف من هذه الأمثلة حذف لكثرة الاستعمال ولعلم المخاطب بالمحذوف. وهذا يعني أَنَّ الحذف هنا يستند إلى الخبرة السابقة عند المخاطب) (2) الذي سمع هذه الجملة التي تشبه المثل أكثر من مَرَّة قبل ذلك، ويعلم مسبقا من خلال سياقات سابقة مرت عليه أَنَّ هذا التركيب يقصد هذا المعنى أو ذاك؛ أي أَنَّ كثرة الاستعمال ترتبط بوجه ما بسياق الحال؛ هذا الربط يظهر في مناقشة سيبويه للجملة الأولى في المجموعة السابقة، حيث يقول:«ولم يَذكر: ولا أتوهَّمُ زعماتِك لكثرة استعمالهم إيَّاه، ولاستدلاله مما يَرَى من حاله أَنَّهُ يَنْهاه عن زَعْمه» ) (3).
وينقل سيبويه نفس التعليل السابق) كثرة الاستعمال (عن الخليل لمجموعة من الجمل حذف فيها الفعل وهي: «وراءك أوسع لك، حسبك خيرًا لك، قوله تعالى: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ}» فيقول:
«حذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إياه في الكلام، ولعلم المخاطب أَنَّهُ محمول على أمر» ) (4).
وقبل أَنْ ننتقل إلى فكرة أخرى نثبت هنا فائدة مستخلصة من عنوان سيبويه السابق الذي قال فيه: «هذا باب يحذف منه الفعل لكثرته في كلامهم حتى صار بمنزلة المثل» ، وهذه الفائدة هي أَنَّ من خصائص المثل التي يمكن أَنْ تضاف إليه «كثرة الاستعمال وارتباطه بسياق حال ما» ، وتضاف
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 280
(2)
أو ما سماه سيبويه ((علم الصدور))، يقول:((وأمّا قول الناس: كان البُرُّ قَفيزَيْنِ، وكان السَّمْنُ مَنَوَينِ، فَإِنَّما استغنوا هاهنا عن ذكر الدَّرهم لِما فى صدورهم من عِلمه)). 1/ 393
(3)
سيبويه: الكتاب، 1/ 280
(4)
سيبويه: الكتاب، 1/ 283
هذه الخصيصة لخصائص المثل العامة، وهي: الإيجاز البليغ، إصابة المعنى، حسن التشبيه، جودة الكناية إذا كان المثل من باب الكنايات) (1).
وباستدعاء سيبويه للمثل في عنوانه السابق، وربط كثرة الاستعمال به يعطي إشارة سريعة إلى أهمِيَّة السِّياق بالنسبة للمثل اللغويّ وما به من حذف، فقد أفصح سيبويه عن هذه العلاقة بشكل صريح في أحد نصوصه، حيث أبان أَنَّنا لا نستطيع تفسير المحذوف الموجود في المثل اللغويّ بدون استحضار السِّياق الذي يقال فيه هذا المثل، يقول: «من ذلك قولُ العرب فى مَثَلٍ من أمثالهم:
«اللَّهُمَّ ضَبُعًا وذِئبًا» إذا كان يدعو بذلك على غنم رجُل. وإذا سألتَهم ما يَعْنُون قالوا: اللهُمَّ اجْمَعْ أو اجعلْ فيها ضَبُعًا وذئبا. وكلُّهم يفسَّرُ ما يَنْوِى. وإنَّما سَهُلَ تفسيرُه عندهم؛ لأَنَّ المضمَر قد استُعمل فى هذا الموضعِ عندهم بإِظهارٍ») (2).
• سعة الكلام وسياق الحال:
مما يتصل بالحذف في هذا المقام أيضا ما سماه سيبويه بسعة الكلام. والسعة يراد بها في كتاب سيبويه «الاختصار والإيجاز والحذف» ) (3). فهو يقر أَنَّ اللُّغَة تتجه إلى سعة الكلام والاتساع فيه، يقول:«ومن ذلك أَنْ تقول: كم وُلِد له؟ فيقول: ستون عاما. فالمعنى: ولد له الأولاد ستين عاما ولَكِنَّه اتسع وأوجز» ) (4). وهو يعطي سلطة الاختصار والإيجاز والحذف للمتكلم بدليل قوله في النَّصّ السابق «اتسع وأوجز» ؛ أي: اتسع المُتَكَلِّم وأوجز.
ويقول في موضع ثان: «ومما جاء على اتساع الكلام واختصار قوله تعالى جده: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا}؛ إِنَّمَا يريد: أهل القرية؛ فاختصر» ) (5).
وقد نتساءل ونقول: ما حدود هذا الحذف والاختصار؟ وهل يجوز في كل وقت أم لا؟
قيد سيبويه الحذف والاختصار والإيجاز في الجملة بعلم المخاطب بالمعنى، فالاعتماد عليه في ذلك، ولا يجوز الحذف ولا الاختصار إلا بمراعاته. يقول: «ومثله في الاتساع قوله عز
(1) د. محمد بكر إسماعيل: دراسات في علوم القرآن، دار المنار، القاهرة، ط 2، ) 1999 م (، ص 205
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 255
(3)
سيبويه: الكتاب، 1/ 211، وينظر أيضا: معجم مصطلحات النحو، ص 297
(4)
سيبويه: الكتاب، 1/ 211
(5)
سيبويه: الكتاب، 1/ 212، ونشير إلى أن مصطلح السعة قد تكرر عنده في واحد وعشرين مَرَّة.
وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ} ، فلم يُشبَّهوا بما يَنْعق، وإِنَّمَا شُبهوا بالمنعوق به
…
ولَكِنَّه على سعة الكلام والإيجاز لعلم المخاطب بالمعنى») (1).
أي أَنَّ فهم المخاطب للمعنى، وعدم وجود أي لبس في المعنى الذي يصله هو أساس الإيجاز والاختصار، بمعنى أَنَّه:
- إذا فهم المخاطب المعنى جاز التوسع في الكلام، توسع اختصار وإيجاز وحذف.
- إذا اضطرب المعنى والتبس على المخاطب فهمه؛ لم يجز التوسع في الكلام.
ومن خلال فهم المخاطب للمعنى الذي لا بد أَنْ يوجد في سياق حال ما ــ يمكن أَنْ يُحَدَّد المحذوف والمختصر من الكلام ذات الدلالة المُعيَّنة الذي حذفه المُتَكَلِّم. يقول: «بنو فلان يطؤهم الطريق، يريد يطؤهم أهل الطريق، وقالوا: صدنا قنوين، وإِنَّمَا يريد صدنا بقنوين، أو صدنا وحش قنوين، وإِنَّمَا قنوان اسم أرض» ) (2). ومن الأمثلة الأخرى التي ذكرها سيبويه على هذا الاتساع:
«أكلت أرض كذا كذا، وأكلت بلدة كذا وكذا؛ إِنَّمَا أراد أصاب من خيرها» ) (3)، و «اجتمع القيظ؛
أي: اجتمع الناس في القيظ») (4).
وأَكَّد سيبويه على أَنَّ السعة في الكلام أكثر من أَنْ يحصيها) (5). ولا شك أَنَّ سعة الكلام التي يقوم بها المتكلم كما ألمح سيبويه تؤثر بمرور الأيام في المعنى الدِّلَالِيّ المعجمي للألفاظ؛ أي أَنَّه يصح لنا أَنْ نقول إِنَّ السِّياق لا يساهم فقط في الإثراء الدلالي للتراكيب النحوية بل يساهم أيضا في الإثراء الدِّلَالِيّ المعجمي لِلُّغَة بمرور الوقت) (6).
ويمكن أَنْ نقول أيضا إِنَّ الحذف يثبت أهمِيَّة سياق الحال في تحليل الكلام، وذلك أَنَّ الكلمة المفردة التي لا تكون في تركيب لغوي أو في سياق ما لا تملك من المعاني إلا معناها المعجمي، أَمَّا
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 212
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 213
(3)
سيبويه: الكتاب، 1/ 214
(4)
سيبويه: الكتاب، 1/ 215
(5)
ويفهم من كلام سيبويه في 1/ 410 أن هناك علاقة عنده بين السعة والأصل والتتبع التاريخي للتركيب اللغويّ.
(6)
يشير أستاذنا الدكتور رمضان عبد التواب في كتابه: التطور اللغوي، تحت عنوان التطور الدلالي ص 111 وما بعدها إلى دور السياق في الإثراء الدلالي للألفاظ، فيقول: وربما تتغير مدلولات كثيرة؛ لأن الشيء الذي تدل عليه قد تغيرت طبيعته أو عناصره أو وظائفه، أو الشئون الاجتماعية المتصلة به وما إلى ذلك. ويعطي بعض الأمثلة على ذلك، مثل كلمة ريشة وقطار.
إذا وجدت مفردة في تركيب ما محذوفا بعض عناصره فقد تملك بجوار معناها المعجمي معان أخرى منها المعنى النَّحْوِيّ.
ويبقى أيضا إثبات إشارة سيبويه أَنَّهُ إذا طال الكلام كان الحذف أجمل؛ كَأَنَّه شيء يصير بدلا من شيء) (1).
***
بقي من المادة التي جمعها الباحث وتتَعَلَّق بالجملة الفعلِيَّة وسياق الحال تلك الإشارات السريعة:
1 ــ الظرف وسياق الحال: يتمثل تأثير سياق الحال على الظرف في أَنَّ النُّحَاة قرروا أَنَّ من أسماء المكان التي تصلح للنصب على الظرفية «الأسماء المبهمة» ، وقرروا أَنَّ «الأماكن المختصة التي لا تقع ألفاظها على كل مكان لا تستعمل ظروفا») (2). لذلك فقد حكم سيبويه بالشذوذ على قول من قال:«ذهبت الشامَ» بنصب الشام؛ لأَنَّه اسم مختص لا يقع على كل مكان، يقول موضحا ومعللا: «وقد قال بعضهم ذهب الشامَ، يشبّهه بالمبهَم، إذ كان مكانًا يَقع عليه المكانُ والمذهبُ. وهذا شاذٌ؛ لأنَّهُ ليس في ذهبَ دليلٌ على الشام، وفيه دليلٌ على المذهبِ
والمكانِ») (3).
إن سيبويه يعتبر إعراب الشام هنا ظرفا شذوذا؛ لأَنَّ كلمة «الشام» لفظ مختص غير مبهم
عنده؛ أي أَنَّ سيبويه يحتكم إلى عرف الناس واتفاقهم على أَنَّ الشام اسم مكان مُحَدَّد؛ لذلك حكم بشذوذ الإعراب هنا. وهذا يعنى أَنَّ الناس لو تعارفوا على أَنَّ الشام اسم مبهم لأجاز الإعراب هنا بلا شذوذ. وهذا يعني أيضا بالنسبة للباحث أَنَّ هناك تأثيرا لسياق الحال) متمثل في عرف الناس، وهو أمر خارج اللُّغَة (في إعراب الظرف هنا.
ومن النصوص التي نلاحظ أَنَّ سياق الحال) متمثلا في العرف والعادة أيضا (يتدخل فيها مع الظرف قول سيبويه: «فأما ضحوةٌ وعشيةٌ فلا يكونان إلَاّ نكرةً على كلّ حال، وهما كقولك: آتيك غدًا وصباحًا ومساءً. وقد تقول: أتيتك ضحوةً وعشيةً، فيُعلَمَ أَنَّكَ تريد عشيّةَ يومك وضحوته، كما تقول: عامًا أول؛ فيُعَلَم أَنَّكَ تريد العام الذي يليه عامك»)(4).
(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 38
(2)
السيرافي: شرح كتاب سيبويه، 1/ 271
(3)
سيبويه: الكتاب، 1/ 35
(4)
سيبويه: الكتاب، 3/ 294
لماذا عندما يذكر المُتَكَلِّم «أتيتك ضحوةً وعشيةً» يعلم المخاطب «أَنَّكَ تريد عشيّة يومك وضحوته» ؟ ولماذا عندما يذكر المُتَكَلِّم «عامًا أول» يعلم المخاطب «أَنَّكَ تريد العام الذي يليه
عامك»؟ لماذا لا تدل الكلمات «ضحوةً وعشيةً» على العموم وخاصة أَنَّها نكرة؟
ما نعرفه من منهج سيبويه أَنَّهُ لا يفتات على اللُّغَة ولا يتقول عليها ولا ينسب إليها شيئا رآه هو، بل هو كما علمنا يتَتَبَّع التركيب المُعَيَّن في السِّياقات المختلفة ويحدد الدِّلَالَة المشتركة لهذا التركيب بين كل السِّياقات، وهذا ما فعله هنا. لقد تتبع سيبويه هذه الظروف في السِّياقات المختلفة فوجدها تدل هذه الدِّلَالَة، ووجد أَنَّ بين المُتَكَلِّم والمخاطب «عُرفا» يسيران عليه مع هذه الظروف؛ فأقرَّ هذا العرف هنا وقعَّده قاعدة نحوِيَّة، وقد أبطل هذا العرفُ «عمومية التنكير» هنا) (1).
إِنَّنَا إذا قلنا إِنَّ التنكير في «أتيتك ضحوةً وعشيةً
…
» يفيد العموم وأنَّه يُقصَدُ به أَيَّة ضحوة أو عشية لوقع المخاطب في لبس؛ فأَيَّة ضحوة أو عشية يقصدها المُتَكَلِّم؟ ! وهنا يتدخل العرف والعادة ليحدد أَنَّ المقصود ضحوة المخاطب وعشيته.
2 ــ تحَدَّثنا عن فكرة البناء بين المبتدأ والخبر في الجملة الاسمِيَّة، وهذه الفكرة موجودة أيضا في الجملة الفعلِيَّة، حيث يُبنَى الفاعل على الفعل. يقول:«فأما ضربت وقتلت ونحوهما، فَإِنَّ الأسماء بعدهما بمنزلة المبني على المبتدأ» ) (2).
3 ــ ضمير الفاعل العائد على ما يفهم من سياق الحال: قد يلعب سياق الحال دورا مهما مع الفاعل الضمير الذي ليس له عائد. وقد سبق أَنْ تكلمنا عن هذا الأمر فيما مضى عند حديثنا عن أهمِيَّة سياق الحال في التوجيهات الإعرابِيّة عند سيبويه.
***
(1) جاء في المعجم الوافي لأدوات النحو العربي عن الظرف ((ضحوة)) ص 193 ما نصه: ((ظرف زمان منصوب ممنوع من الصرف إن دل على وقت) ضحوة (معين معروف، ومنع من الصرف لأنَّه علم جنس وفيه تاء التأنيث
…
فإن لم يُقصد يوم معين صرف ونوِّن، كقولك: لقيتُه ضحوةً)) ا. هـ، ويبدو من ظاهر هذا الكلام أنَّه متناقض مع كلام سيبويه في النص السابق. ويحل هذا التناقض هنا ما نقله صاحب النحو الوافي 2/ 260 عن الصبان وهو قوله: ((لزيادة الإيضاح نسوق ما قاله الصبَّان في هذا الموضع من الجزء الثاني آخر باب الظرف، قال: عن غدوة وبكرة ومثلهما: ضحوة ما نصه:
…
فلا يلزم من استعمالهما في يوم معين أن يكونا علمين؛ لجواز أن يشار بهما إلى معين مع بقائهما على كونهما من أسماء الأجناس النكرات بحسب الوضع، كما تقول: رأيت رجلا وأنت تريد شخصًا معينًا، فيحمل على ما أردته من المعنى، ولا يكون علمًا. ا. هـ ـ، ما نقله الصبان))
(2)
سيبويه: الكتاب، 2/ 387