الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المخاطب والمُتَكَلِّم أبرز عناصر سياق الحال التي اهتَمَّ بها سيبويه:
دراسة نصوص الكتاب وأقواله يبيِّنان ــ كما أثبتنا ــ اعتماد صاحبه على النصوص الحَيَّة المنطوقة، وأَنَّه كان على وعي بسياق الحال الذي تقال فيه هذه النصوص والأقوال، وأَنَّه أخذه بعين الاعتبار في تقعيده وتحليلاته الدِّلالِيَّة لبعض الجمل.
وبعد دراسة الباحث للكتاب لاحظ أَنَّ أبرز عناصر سياق الحال التي اعتنى بها سيبويه وعرض لها وكانت محلَّ اهتمامه: المخاطَبُ (1) أولا والمُتَكَلِّم ثانيا. ويظهر هذا الاهتمام بهما في عدد المسائل التي استعان فيها بالمخاطب وعلمه ومناقشته لقضية أمن اللَّبس من خلاله، واستعانته بالمُتَكَلِّم وإمكانِيِّة سكوته في تفسير كثير من قواعد الكتاب.
ومقصدي هنا أَنْ أشير فقط إلى أَنَّ أبرزَ عنصرين من عناصر سياق الحال كانا المخاطب والمُتَكَلِّم، وسنكتفي بأدلة بسيطة على ذلك، وسيأتي الكلام بشكل أعمق عنهما في فصل: دور السِّياق في التوجيه الإعرابِيّ. وقد لزم التنبيه هنا على هذا الإبراز المؤقت لدور هذين العنصرين حتى نؤكد على ترابط عناصر الرسالة، وننفي عنها ما قد يتوهم فيها من تكرار.
ــ أولا المخاطب:
استغل سيبويه المخاطَب وكون الكلام موجَّه إليه في كثير من القواعد النحوِيَّة التي حاول أَنْ يقرِّرَها؛ فكان المخاطب وعلمه ووجودهما الافتراضيان حاضرين عنده، يلجأ إليهما في تفسير ما يريد توضيحه، فمن خلاله ومن خلال علمه استطاع أَنْ يقف على الآتي:
1.
تفسير حذف الموصوف: ففي قول النابغة:
كَأَنَّكَ مِن جِمالِ بَني أُقَيشٍ
…
يُقَعقَعُ خَلفَ رِجلَيهِ بِشَنِّ [بحر الوافر]
2.
ومن خلاله استطاع تقدير جواب الشرط المحذوف: يقول: «وسألت الخليل عن قوله جلَّ ذكره: {إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ} [الزمر: 71] {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام: 27]، فقال: إن العرب قد تترك في مثل هذا الخبر) الجواب (في كلامهم لعلم المخبَر لأي شيء وضع هذا الكلام» (3).
(1) ويسميه سيبويه أحيانا: المُخبَر والمُحدَّث 3/ 103، وأحيانا: المُكلَّم 2/ 208
(2)
سيبويه: الكتاب، 2/ 346
(3)
سيبويه: الكتاب، 3/ 103
3.
ومن خلاله يضمر الفعل في أسلوب الاختصاص: يقول: «قولك: إِنَّا معشر العرب نفعل كذا وكذا؛ كَأَنَّه قال: أعني، ولكنَّه فعلٌ لا يظهر ولايستعمل
…
لأَنَّهم اكتفوا بعلم المخاطب» (1).
4.
ومن خلال علم المخاطب يُجَوِّزُ حذف المستثنى فيه: في مثل قولنا: «ليس غيرُ» و «ليس إلا» كَأَنَّ القائل قال في مثل هذه التراكيب: «ليس إلا ذاك، وليس غيرُ ذاك؛ ولَكِنَّهم حذفوا ذلك تخفيفا واكتفاء بعلم المخاطب ما يعني» (2).
5.
ومن خلاله يقدِّرُ اسم كان أحيانا: يقول: «تقول العرب: من كذب كان شرا له؛ يريد: كان الكذب شرا له؛ إلا أَنّهُ استغنى بأن المخاطَب قد علم أَنّهُ الكذب» (3).
6.
وتُحذَف كثيرٌ من العوامل في الجملة لكثرة الاستعمال ولعلم المخاطب: يقول: «تالله رجلا، وسبحان الله رجلا، وإِنَّمَا أراد: تاللهِ ما رأيت رجلا، ولَكِنَّه يترك الإظهار استغناء؛ لأَنَّ المخاطب يعلم أَنَّ هذا الموضع إِنَّمَا يُضْمَر فيه الفعل لكثرة استعمالهم إياه» (4).
7.
ولأهمِيَّة المخاطب في عَمَلِيَّة الكلام اهتمت اللُّغَة بتنبيهه دوما، وخصصت أدوات لذلك، مثل
«ها» التنبيه، يقول:«وقد تكون ها في ها أنت ذا غير مقدَّمة، ولَكِنَّها تكون للتنبيه بمنزلتها في هذا؛ يدُلُّك على هذا قوله عز وجل: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ}» ) (5). أي أَنَّه لولا المخاطب ما كانت هذه الأدوات.
ومن طريف ما أبرزه سيبويه متعلقا بالمخاطب إيضاحُه أَنَّ اللُّغَة تحترم درجة المخاطب من حيث قربه وبعده من المُتَكَلِّم، فالمخاطب الأقرب له الأولوِيَّة في الحديث عنه عن الأبعد. يبرز هذا سيبويه قائلا: «فقولك: أعطانيهِ وأعطانيك، فهذا هكذا إذا بدأ المُتَكَلِّم بنفسه، فإذا بدأ بالمخاطب قبل نفسه فقال: أعطاكني، أو بدأ بالغائب قبل نفسه فقال: أعطاهوني، فهو قبيح لا تَكَلَّم به العرب
…
، وإِنَّمَا قبح عند العرب كراهية أَنْ يبدأ المُتَكَلِّم في هذا الموضع بالأبعد قبل الأقرب
…
وإِنَّمَا كان المخاطب أولى بأن يبدأ به من قبل أَنَّ المخاطب أقرب إلى المُتَكَلِّم من الغائب، فكما كان
(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 233
(2)
سيبويه: الكتاب، 2/ 345
(3)
سيبويه: الكتاب، 2/ 391
(4)
سيبويه: الكتاب، 2/ 394 ــ 294 ويمكن لمن أراد أن يحصر عدد المواضع التي استغل فيها سيبويه المخاطب مباشرة وبمنتهى الوضوح لتفسير قاعدة أو إقرارها من أن يقف على أكثر من خمسة وخمسين موضعا) 55 موضعا (وأكثر، مُنْبَثَّة في أطواء الكتاب ونصوصه.
(5)
سيبويه: الكتاب، 2/ 354
المُتَكَلِّم أولى بأَنْ يبدأ بنفسه قبل المخاطب، كان المخاطب الذي هو أقرب من الغائب أولى بأن يبدأ به من الغائب» (1).
لقد استغل سيبويه المخاطب مع المُتَكَلِّم والغائب في تفسير استعمال الضمير عند اجتماع المخاطب مع المُتَكَلِّم، أو المخاطب مع الغائب. فهو ينبِّه على أنَّه عند استعمال ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب يجب أنْ نبتدئ بالأقرب قبل الأبعد؛ أي نبدأ بالمتكلم قبل المخاطب والمخاطب قبل الغائب، «والعلِّةُ في ذلك أن الأولى أن يبدأ الإنسان بنفسه؛ لأنَّها أعرف وأهم عنده. وكما كان المختار أن يبدأ بنفسه، كان المختار تقديم المخاطب على الغائب؛ لأنَّه أقرب إلى المتكلم» ) (2).
وهذا نصّ عجيب يوحي بأن سيبويه كان يتَتَبَّع التركيب النَّحْوِيّ الذي يدرسه في نصوص اللُّغَة أقصى درجات التتَبُّع، متأمِّلا إياه في سياقاته المختلفة، وليس مجرد تتَبُّع بل هو تتَبُّع يمكن أَنْ نسميه «تتَبُّعا إِحْصَائِيّا» ؛ وإلا فكيف يتسنَّى له استخلاص مثل هذه النتيجة ومثل هذه القاعدة!
ويوحي هذا النَّصّ أيضا أَنَّ اللُّغَة لها نوع منطق داخلي، وثوابت منهجِيَّة، وأنَّ الأمور مع اللُّغَة لا تسير بعفويَّة مطلقة، فهناك نوع منطق ونوع نظام بداخلها، قد نختلف في تحديد درجة هذه المنطقية وهذا النظام، إلا أَنَّ الثابت أَنَّهما موجودان. ويوحي أيضا أَنَّ اللُّغَة تهتم بما هو حاضر وتقدمه على ما غائب.
ــ المخاطب وحمايته من اللَّبس والالتباس:
من الأمور المُهِمَّة التي تدل على اهتمام سيبويه بالمخاطب وعنايته الفائقة به حديثُهُ المُكَرَّرُ والمعاد عن «تجنب اللَّبس والالتباس» في الكلام، ففي أكثر من موضع أشار إلى أَنَّ اللُّغَة تتَّخذ كافة الوسائل التي تضمن «وضوح المعنى المنقول للمخاطب» ، وأوضح أَنَّ اللُّغَة تتَّخذ إجراءات وقائِيَّة لمنع اللَّبس في المعنى على كافة المستويات سواء على مستوى البنية الصَّرْفِيَّة أو التركيب النَّحْوِيّ. ونشعر هنا أَنَّ الخوف من اللَّبس كان نصب عيني سيبويه طوال تقعيداته وتوجيهاته النحوِيَّة التي ذكرها، فهو لا يقرِّرُ قاعدة ما إلا إذا تأكَّد من وضوحها وأهليَّتها لنقل المعنى بسلام، وإذا أحسَّ أَنَّ هناك احتمالا ما لأنْ يقع اللَّبس نبَّه على ذلك.
ولا يبقى هنا سوى أَنْ نسوق من الأدِلَّة ما نؤيِّد به ما قدمنا، ونثبت اهتمام سيبويه بهذه القضية:
(1) سيبويه: الكتاب، 4/ 364
(2)
ابن يعيش: شرح المفصل، 2/ 321
1 ــ لخوف العرب من التباس لام الابتداء مع لام الإضافة حرَّكوا لام الابتداء بالفتح وكسروا لام الإضافة، يقول:«وذلك أَنَّ اللام لو فتحوها في الإضافة لالتبست بلام الابتداء إذا قال: إِنَّ هذا لَعليٌّ، ولَهذا أفضلُ منك، فأرادوا أَنْ يميِّزوا بينها؛ فلما أضمروا لم يخافوا أَنْ تلتبس بها» (1).
أي أَنَّ التفريق بين اللامين من خلال الضبط؛ لكي لا تلتبس إحداهما بالأخرى، فإنْ أتت إحدى اللامين في موقف سِياقِيّ يمكن من خلاله التفريق بينهما أهملوا الضبط؛ لأَنَّ السِّياق يضمن عدم الالتباس.
2 ــ عند اجتماع همزة الاستفهام مع همزة الوصل المكسورة أو المضمومة تحذف همزة الوصل، ويكتفى بهمزة الاستفهام، وذلك لعدم وجود لبس بين الخبر والاستفهام، أَمَّا همزة الوصل المفتوحة فَإِنَّها تبقى مع همزة الاستفهام وتُمَدّ، في مثل: آلرجل. .؟ وذلك: «كراهية أَنْ [يكون] كالخبر؛ فيلتبس، فهذا قول الخليل» (2). أي أَنَّنا أبقينا همزة الاستفهام مع ألف الوصل المفتوحة ومددناها لكي يكون هذا «المد» قرينة على أَنَّ الجملة استفهامية، وليست خبرِيِّة مكونة من مبتدأ وخبر.
3 ــ المنادى المضاف لياء المُتَكَلِّم تحذف منه هذه الياء؛ وذلك «لكثرة النداء في كلامهم، حيث استغنوا بالكسرة عن الياء، ولم يكونوا ليثبتوا حذفها إلا في النداء، ولم يكن لبس في كلامهم لحذفها» (3).
إن حذف الياء شائع في كلامهم، ولكن هذا مقيَّد بالمخاطب، ففَهْم المخاطب للكلام هو المعيار إذا فهم المخاطب الكلام جاز الحذف، وإذا لم يفهم لم يجز. كما أَنَّ وجود أداة النداء قبل المنادى قرينة لغَوِيَّة على أَنَّ الكلمة بعدها منادى؛ فلا مجال للبس.
والنص السابق يجعلنا نخرج بقاعدة تقول: ما كثُر استعماله جاز أَنْ يُحذَف جزء منه إذا أُمِن اللَّبس، وقد يكون ما يكثر استعماله كلمة أو جملة أو مجموعة كلمات تأتي مع بعضها.
4 ــ يُلزَمُ الفعل المضارع في حالة القسم بـ «النون» ؛ حتى لا يلتبس معنى الحالِيَّة بالمستقبلية: قال سيبويه للخليل: «فَلِمَ ألزمت النون آخر الكلمة؟ ) أي آخر الفعل المضارع في حال القسم (فقال: لكي لا يشبه قوله إِنَّهُ ليفعل؛ لأَنَّ الرجل إذا قال هذا فَإِنَّما يخبر بفعل واقع فيه الفاعلُ، كما ألزموا اللام: إِنْ كان ليقولُ؛ مخافة أَنْ يلتبس بما كان يقول ذاك» (4).
(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 376 ــ 377
(2)
سيبويه: الكتاب، 3/ 325
(3)
سيبويه: الكتاب، 2/ 209
(4)
سيبويه: الكتاب، 3/ 107
إن قولنا «إِنَّهُ ليفعل» لها دلالتان: الأولى: الحالِيَّة، والثانية: المستقبلية، والمخاطب قد تلتبس عليه الدِّلَالَة في هذا التركيب، أهي للحالِيَّة أم المستقبلية؟ أَمَّا «ليفعلن» فقد جَعَلَت النونُ الفعلَ يدلُّ على معنى واحد، هو معنى المستقبلية.
5 ــ في النداء التعجبي والاستغاثة، لا تستخدم إلا الأداة «يا» التي تأتي للتنبيه؛ «لئلا تلتبس اللام التي تأتي بعد «يا» بـ «لام التوكيد» ، كقولنا: لعمرو خير منك» (1).
6 ــ منع سيبويه رفع وجر ما بعد الواو في قولهم: «ما شأنك وعمرا» ، ولم يجز إلا النصب. والسبب الذي أبداه سيبويه لمنع الرفع والجر أَنَّكَ «توهم أَنَّ الشأن) الخطب والأمر والحال (هو الذي يلتبس بزيد، وإِنَّمَا يلتبس شأن الرجل بشأن زيد، ومن أراد ذلك فهو ملغز، تارك لكلام الناس الذي يسبق إلى أفئدتهم» (2).
أي أَنَّ من يتَّجه إلى الجر والرفع بعد الواو في الكلام السابق يوهم السامع والقارئ ويلبس عليه. وهذا النَّصّ يدل ضمنا أيضا على أَنَّ من وظيفة العلامة الإعرابِيّة إزالة الإبهام عن معنى الجملة، وإن التوجيه النَّحْوِيّ ينبغي أَنْ يكون بعد فهمٍ للمعنى، معنى الكلام والسِّياق (3).
(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 218
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 308، قال السيرافي:((وإِنَّمَا نصبوا عمرا لأنَّ عمرا هو شريك الكاف في المعنى، ولم يصح العطف عليه؛ لأنَّ الكاف ضمير مخفوض، ولا يجوز عطف الظاهر المخفوض على المكني، ولم يصلح رفعه؛ لأنك لو رفعته كنت عاطفا على الشأن، وليس عمرو بشريك للشأن، ولا أردت أن تجمع بينهما؛ فحمل الكلام على المعنى)). يُنْظَر أبو سعيد السيرافي: شرح كتاب سيبويه، ت: أحمد حسن مهدلي، علي سيد علي، دار الكتب العلمِيَّة، بيروت، ط 1، ) 2008 م (، 2/ 202، وبشكل أوضح قال ابن يعيش في شرح المُفَصّل 1/ 442: ((وأما قولهم: ما لك وزيدا، وما شأنك وعمرا، فهو نصب أيضا. وإِنَّمَا نصبوا ها هنا؛ لأنه شريك الكاف في المعنى، ولا يصح عطفه عليها؛ لأن الكاف ضمير مخفوض، والعطف على الضمير المخفوض لا يصح إلا بإعادة الخافض. ولم يجز رفعه بالعطف على الشأن؛ لأنه ليس شريكا للشأن؛ لأنه لم يرد أن يجمع بينهما. وإِنَّمَا المراد: ما شأنك، وشأن عمرو؟ )). والشأن ــ كما في تاج العروس ــ: ((الخطب والأمر والحال الذي يشين ويصلح. ولا يقال إلا فيما يعظم من الأحوال والأمور، قاله الراغب))، 35/ 253
(3)
وتحت يدي الكثير من الشواهد في هذه الجزئيَّة يضيق المقام عن ذكرها كلها بالطبع، وتجدر الإشارة إلى أن قسم كبير منها يقع في النصف الثاني من المجلد الرابع، في حديث سيبويه عن الأبنية الصرفِيَّة والإعلال والإبدال والإدغام وغيره. ومن هذه المواضع 2/ 114، 2/ 223، 2/ 224، 2/ 251، 3/ 190، 3/ 307، 3/ 376، 3/ 414، 3/ 518، 3/ 525، 3/ 590، 3/ 603، 4/ 13، 4/ 150، 4/ 156، 4/ 165، 4/ 282، 4/ 346، 4/ 348، 4/ 398، 4/ 411، 4/ 423، 4/ 454، 4/ 455، 4/ 456، 4/ 474، 4/ 476، 4/ 519
إن الاهتمام بالمخاطب له ما يبرِّره منطقيا، فالإنسان لن «يتكلم» إلا إذا أراد أَنْ ينقل كلاما
لـ «مخاطب» ، ولكي يحقق هذه «الرغبة» وهذا «الدافع» لا بد أَنْ يحرص على أَنْ يكون كلامه
واضحا، ويتخذ كل السبل والإجراءات لتحقيق هذا الوضوح.
وبعد سرد هذه الشواهد التي دلَّت على اهتمام سيبويه بقضية أمن اللَّبس نقول: إِنَّ هذا الاهتمام لَدليل من أقوى الأدِلَّة على اهتمامه بالمخاطب الذي هو أهم عناصر السِّياق، وأنَّ المخاطب كان نصب عينيه دائما في كل قواعده، والاهتمام بالمخاطب لاشك هو اهتمام بالسِّياق في حد ذاته.
وأختم كلامي هنا في هذه الجزئيَّة بنقل كلام أحد الباحثين في بحث له بمجلة مجمع اللُّغَة العربِيَّة عن سيبويه وكتابه، يقول فيه: «
…
فمثل هذه الملاحظات كثيرة جدا في الكتاب، وهي تخص أحوال الخطاب مقترنا بأحوال المخاطب: علم المخاطب وجهله واستحالة الإخبار عن منكور اللهم إلا إذا احتاج المخاطب إلى تحديد هذا المنكور بأن يعين حلية خاصة به تميزه عن غيره، ويمكن بالدراسة المتعمقة لهذه الملاحظات أَنْ تُستخرَج قوانين التخاطب الحقيقيَّة، وهذا ما فعله العلماء الأولون. هذا ولا بد أَنْ نُنَبِّه القارئ الكريم أَنَّ مثل هذا الكلام عن ((علم المخاطب)) وسائر أحواله لا يمكن أَنْ نعثر عليه في كتب المتأخرين. فالقواعد الجامدة ــ الخاطئة أحيانا ــ قد حلت محل الملاحظات العلميَّة، تكلموا مثلا عن شروط الابتداء بالنكرة فقط، وبدون أَنْ يفسروا ظواهر الخطاب بالكيفية العلميَّة الوصفيَّة والتعليليِّة معا») (1).
إن إشارة هذا الباحث الجليل تدعونا إلى الدراسة المتعمِّقة لدراسة الملاحظات المتعلِّقة بعلم المخاطب لاستخراج قوانين التخاطب الحقيقيَّة، وهي لا شك دعوة تستحق الاهتمام والاعتناء بها.
ــ ثانيا المُتَكَلِّم:
المُتَكَلِّم من أهم العناصر المكوِّنة لسياق الحال، فهو يستدعي من التراكيب النحوِيَّة ما تخدمه وتخدم سياقه، فإذا كان السِّياق يستدعي التأكيد برز أمامه: التوكيد بكافة أشكاله، إِنَّ وأَنَّ، الجملة الاسمِيَّة، الاستثناء
…
، وإن كان السِّياق يستدعي شكًّا برز أمامه: ظنّ وأخواتها: حسب، وزعم وخال، إِنْ الشرطيِّة
…
، وإذا أراد المُتَكَلِّم أَنْ يتعجَّب أو يستغيث أتى بأسلوب التعجب أو
الاستغاثة، وإذا أراد استفهاما أتي بالاستفهام.
وتكفي نظرة عجلى لتعريف النُّحَاة بأبواب مثل: الاستغاثة، أو التعجب، أو التوكيد للتأكُّد من هذا. فالاستغاثة: «طلب المعونة للتخليص من شدة أو الإعانة على دفع مشقة، وهي أسلوب مستعمل في مجال النداء، ولهذا الأسلوب مكونات ثلاثة، هي: المستغيث، والمستغاث به،
(1) د. عبد الرحمن الحاج صالح: الجملة في كتاب سيبويه، مجلة مجمع اللُّغَة العَرَبِيَّة، القاهرة، ع: 78) 1996 م (، ص 103 ــ 104
والمستغاث من أجله، ولا يتحقق بناء هذا الأسلوب إلا بالنداء؛ أي: أَنَّ المستغاث اصطلاحا لا يكون إلا منادى، ومثاله: يا لمحمد لعلي؛ ومعناه: الاستغاثة بمحمد من أجل إنقاذ على
ومعونته») (1). والتعجب: هو «ــ كما يعرفه النُّحَاة ــ استعظام فعل فاعل ظاهر المزية بسبب زيادة فيه خفي سببها؛ بحيث لا يتعجب مما لا زيادة فيه ولا مما ظهر سببه. وقد عرَّفه الدماميني: بأَنَّه انفعال يحدث في النفس عند الشعور بأمر يجهل سببه» ) (2). والتوكيد: «لفظ يتبع الاسم المؤكد لرفع اللَّبس وإزالة الاتساع، وإِنَّمَا تؤكد المعارف دون النكرات» ) (3).
في التعريفات السابقة يتضح بشِدَّة دور المُتَكَلِّم في هذه الأبواب، ومدى تَأَثُّره بالسِّياق، فالمُتَكَلِّم يستغيث إذا وقع في «شدة» ، أو «أراد المعونة على دفع مضرة» ، ويتعجب عندما «ينفعل نفسِيّا بأمر يجهل سببه» ، ويتَّجه للتوكيد «إذا أراد أَنْ يزيل لبسا» .
والمُتَكَلِّم ــ كأحد مكوِّنات سياق الحال ــ نجد أَنّهُ نال قسطا من اهتمام صاحب الكتاب؛ فقد وظَّف سيبويه المُتَكَلِّم و «إمكانِيَّة سكوته» و «إرادته» في إقرار قواعد نحوِيَّة متعددة.
استخدم سيبويه إمكانيَّة سكوت المُتَكَلِّم من عدمها كمعيار للوقوف على صحة تركيب ما أو
فساده، أو تحديد دلالة الجملة خبرِيِّة كانت أم إنشائِيِّة، أو تحديد وجه إعرابي معين ورفض آخر، أو اختيار أداة معيَّنة ورفض أخرى.
دليل ذلك:
1 ــ يقول سيبويه في أحد نصوصه: «ألا ترى أَنَّكَ تقول: سبحان الله، من هو وما هو! فهذا استفهام فيه معنى التعجب. ولو كان خبرا لم يجز ذلك؛ لأنَّهُ لا يجوز في الخبر أَنْ تقول: من هو وتسكت» (4).
2 ــ الاسم المحلى بـ «أل» بعد المنادى «أيّ، أَيَّة» في أسلوب النداء يعرب صفة ويرفع؛
«وإِنَّمَا صار وصفه لا يكون فيه إلا الرفع؛ لأَنَّكَ لا تستطيع أَنْ تقول: يا أيُّ، ولا: يا أيُّها وتسكت؛ لأنَّهُ مبهم يلزمه التفسير؛ فصار هو والرجل بمنزلة اسم واحد، كَأَنَّك قلت:
يارجل» (5).
(1) د. محمد سمير نجيب اللبدي: معجم المصطلحات النَّحْوِيَّة والصَّرْفِيَّة، ص 167
(2)
السابق، ص 143
(3)
ابن جني: اللمع في العَرَبِيَّة، ت: فائز فارس، دار الكتب الثقافيَّة، الكويت، ) بدون تاريخ للطبعة (، ص 84
(4)
سيبويه: الكتاب، 2/ 181
(5)
سيبويه: الكتاب، 2/ 188
3 ــ يرفع الفعل المضارع المقترن بالفاء في أسلوب الشرط إذا سُكِتَ عليه. يقول: «إِنْ تأتني فأكرمُك؛ أي: فأنا أكرِمُك، فلا بد من رفع فأكرمُك إذا سكت عليه؛ لأنَّهُ جواب، وإِنَّمَا ارتفع لأنَّهُ مبنيٌّ على مبتدأ» (1).
4 ــ وفي مثل قولنا: ما أبالي أضربت زيدا أم عمرا؛ لا يجوز فيه إلا أم وتمتنع «أو» ؛ «لأنَّهُ لا يجوز لك السكوت على أول الاسمين» (2).
ويرتبط حسن السكوت بشكل ما بسياق الحال؛ فإِنَّ المُتَكَلِّم لا يَقضى لُبانته من الحديث ويسكت عنه حتى يفهم المخاطب المقصود. وهذا ما يفهم من كلام سيبويه الذي ذكره في باب «ما يحسن عليه السكوت في هذه الأحرف الخمسة) إِنَّ وأخواتها (» ، حيث يناقش حذف خبر هذه الحروف، وأنَّ هذا الحذف يُقبَل إذا «حَسُنَ السكوت» ، يقول:«ويقول الرجل للرجل: هل لكم أحدٌ؛ إِنَّ الناس أَلْبٌ عليكم؛ فيقول: إنَّ زيدًا، وإنَّ عمرًا؛ أي: إِنَّ لنا» (3).
فحسن السكوت هنا في ((إِنَّ زيدًا وإن عمرا)) مرتبط بشكل أساسي بالسِّياق والمقام الذي يضم المُتَكَلِّم والمخاطب.
ونلاحظ هنا أَنَّ سيبويه قبل أَنْ يصل إلى الجملة المرادة رسم مسرحا لغويا حواريا بسيطا بين رجلين، يبدأ أحدهما بسؤال فيرد عليه الآخر بالجملة المقصودة) (4).
ولأهمِيَّة سكوت المُتَكَلِّم استغله بعض النُّحَاة في تعريف الجملة المفيدة والكلام التام والكلام المفيد؛ فقالوا في تحديده بأَنَّه «القول المفيد بالقصد، والمراد بالمفيد: ما دَلَّ على معنى يحسن السكوت عليه» (5). وبتعبير سيبويه المختصر أَنَّ الإفادة هي: «حسن السكوت» (6).
(1) سيبويه: الكتاب، 3/ 69
(2)
سيبويه: الكتاب، 3/ 180
(3)
سيبويه: الكتاب، 2/ 141، جاء في شرح المُفَصّل لابن يعيش 1/ 259 في فصل ((حذف خبر إِنَّ)):((اعلم أنَّ أخبار هذه الحروف إذا كانت ظرفا أو جارا ومجرورا، فَإِنَّه قد يجوز حذفها، والسكوت على أسمائها دونها، وذلك لكثرة استعمالها والاتساع فيها على ما ذكرناه، ودلالة قرائن الأحوال عليها)).
(4)
يمكن أن نطور هذه اللفتة وهذا الأمر أمر رسم مسرح الحدث اللغويّ، من خلال الرسوم الفعلِيَّة الكاريكاتيرية والفوتوغرافية الحوارية وغيرها في شرح القواعد النَّحْوِيَّة على الأَقَلّ في كتب النحو التي تقدم للناشئة أو للأجانب الذين يتعلمون اللُّغَة العَرَبِيَّة.
(5)
ابن هشام: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ت: مازن المبارك ومحمد على حمد الله، دار الفكر، دمشق، ط 6، ) 1985 م (، ص 490
(6)
سيبويه: الكتاب، 2/ 88
أي أَنَّ الإفادة مرتبطة بحسن السكوت. وأظنُّ أَنَّ حسن السكوت مرتبط بالمُتَكَلِّم والمخاطب معا فالجملة المفيدة تكتمل عند المخاطب والمُتَكَلِّم في اللحظة التي يشعران فيها أَنَّهما يستطيعان السكوت عندها، فالمُتَكَلِّم يسكت لأنَّهُ أوصل المعنى الذي يريده، والمخاطب يسكت لأنَّهُ فهم المعنى وحصَّلَ الفائدة من الجملة. وما أجمل تعليق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد على هذا التعريف حيث قال:«الإفادة مصدر أفاد، والمراد بها إفهام معنى من اللفظ يحسن السكوت عليه من المُتَكَلِّم أو من السامع أو من كل منهما» (1).
ويُبرزُ سيبويه جانبًا آخر من جوانب اهتمامه بالمُتَكَلِّم هذا الجانب هو «إرادة المُتَكَلِّم ومشيئته» ، فقد حرص سيبويه على إبراز إرادة المُتَكَلِّم ودورها في اختيار التراكيب النحوِيَّة والصيغ الصَّرْفِيَّة الملائمة للموقف الذي يُتكلم فيه، وكثيرا ما قرأنا عبارتيه المشهورتين هاتين «إِنْ أردتَ» و «إِنْ شئت» ، وقد أحصى الباحث ما يقرب من خمسمائة وسبعة وأربعين موضعا) 547 (تحدَّث فيها عن هذه الإرادة.
ونضرب هنا أمثلة توضح ما نتحدث عنه:
أيقول سيبويه في أحد أبواب الكتاب عنونه بـ «باب تخبر فيه عن النّكرِة بنكرة» :
نعلم أَنَّ الجملة الاسمِيَّة تبدأ في الغالب باسم معرفة، يكون بمثابة نقطة لقاء معرفيَّة مشتركة بين المُتَكَلِّم والمخاطب، يبني عليها المُتَكَلِّم فائدة للمخاطب أو السامع، ولكن قد تتَّجه إرادة المُتَكَلِّم إلى بدأ الجملة الاسمِيَّة بـ «نكرة» ووضع هذه النكرة في سياق نفي لكي يدلَّ على أَنَّ هذا المبتدأ النكرة
(1) محمد محيي الدين عبد الحميد: تنقيح الأزهرية، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، ط 11، ) 1386 هـ ــ 1967 م (، ص 5، وللباحث تعليق على هذا التفسير من الشيخ الجليل، حيث إِنَّ الشيخ أفرد المُتَكَلِّم مَرَّة والمخاطب مَرَّة عند تحديد الفائدة، وفي الحاشية ذات الرَّقْم 3 من الصفحة 5 يرجِّح أن الأصوب أن المُتَكَلِّم هو الذي يعتبر حسن سكوته دليلا على الفائدة، ويدلل على ذلك بقوله: ((
…
؛ لأنهم اتفقوا على أن التكلم صفة المُتَكَلِّم، وعلى أنَّ السكوت خلاف التكلم؛ فينبغي أن يكون السكوت صفة من التكلم)). والباحثُ يظنُّ أنَّ إفراد المُتَكَلِّم بمفرده أو المخاطب بمفرده في تحديد إفادة الجملة غير دقيق، والأفضل أنْ يقال مباشرة أنَّ المُتَكَلِّم والمخاطب شريكان في حسن السكوت، فالمُتَكَلِّم لن يسكت وهو يشك في أنَّ كلامه ناقص المعنى، والمخاطب لن يسكت إذا لم يفهم المعنى.
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 54
ليس «في مثل حالة شيء أو فوقه شيء» ــ كما قال سيبويه. ويؤكد هذا المعنى ابن يعيش في قوله: «قولك: ما كان أحد مثلك، وما كان أحد مجترئا عليك، وإنَّما جاز الإخبار عن نكرة هنا لأنَّ
((أحدًا))، في موضع ((الناس))، والمراد أنْ يعرِّفَهُ أنَّه فوق الناس كلهم حتى لا يوجد له مثل، أو دونهم حتى لا يوجد له في الصفة مثل. وهذا معنى يجوز أن يُجْهلَ مثله، فيكون في الإخبار فائدة») (1).
إِنَّ إرادة المُتَكَلِّم هي التي «قَصَدَتْ» ، وهي التي «اختارت» التركيبَ الملائم لتعبِّرَ عن مقصدها ولا بدَّ أَنْ يكون هذا القصد من قِبَل هذه الإرادة «مرتبطًا» بالسِّياق الذي تقال فيه.
ب التعبير بالصيغ الصَّرْفِيَّة التي تعبِّر عن جموع القِلَّة والكثرة ترتبط بإرادة المُتَكَلِّم، تلك الإرادة المرتبطة بدورها بسياق الحال. فهو ــ أي سياق الحال ــ الذي يرشد المُتَكَلِّم إلى تحديد صيغة الجمع المناسبة.
يقول سيبويه: «وأما ما كان فَعَلًا فإِنَّهُ يكسَّر على أفعالٍ إذا أردتَ بناء أدنى العدد، وذلك نحو: قاعٍ وأقواع، وتاج وأتواج
…
، وإذا أردت بناء أكثر العدد كسَّرْته على فِعْلان، وذلك نحو: جيران وقيعان
…
، وما كان مؤنثا من فَعَل من هذا الباب فإِنَّهُ يُكَسَّرُ على أَفْعُل، إذا أردت بناء أدنى العدد
…
، فإذا أردت بناء أكثر العدد قلت في الدار: دور» (2).
ت ويبرز إرادة المُتَكَلِّم أيضا في اختيار صيغة التحذير المناسبة من أسماء الفعل التالية:
«مكانك، وبعدك، وعندك، وفرطك، وأمامك» ؛ فإرادة المُتَكَلِّم هي التي تختار اسم الفعل المناسب للمقام.
يقول: «وأما ما لا يتعدى المأمور ولا المنهي فقولك: مكانك وبعدك، إذا قلت: تأخَّر أو حذرته شيئا خلفه، كذلك عندك؛ إذا كنت تحذره من بين يديه شيئا، أو تأمره أَنْ يتقدَّم. وكذلك فرطك إذا كنت تحذره من بين يديه شيئا، أو تأمره أَنْ يتقدَّم. ومثلها أمامك إذا كنت تحذره أو تبصره
شيئا» (3).
هذه النصوص إِنَّمَا هي غيض من فيض، ففي هذه النصوص وغيرها عشرات بل مئات يظهر تأثير هذه الإرادة في اختيار التركيب أو الأسلوب المناسبين لسياق الحال.
وإذا تأمَّلنا ما تؤول إليه كلمة «إرادة» التي وردت في هذا العدد الهائل من النصوص في الكتاب نجدها تؤول إلى معني «حُرِّيَّة الاختيار» ؛ إذ لا معنى لوجود إرادة بدون حُرِّيَّة اختيار، يقول
(1) شرح المفصل: 4/ 343
(2)
سيبويه: الكتاب، 3/ 591
(3)
سيبويه: الكتاب، 1/ 249، ويرتبط بمصطلح الإرادة قوله:((أن تجعل))، الذي تكرر أكثر من 28 مَرَّة
الزَّمَخْشَرِيّ: «والإرادة نقيض الكراهة، وهي مصدر أردت الشيء إذا طلبته نفسك، ومال إليه قلبك. وفي حدود المُتَكَلِّمين: الإرادة معنى يوجب للحي حالا لأجلها يقع منه الفعل على وجه دون وجه» ) (1).
وحُرِّيَّة الاختيار تعني وجود بدائل تسمح بظهور هذه الإرادة، وتكون مجالا لحُرِّيَّة الاختيار. وبما أَنَّنا في مجال دراسة نحوِيَّة فَإِنَّ البدائل المتاحة لا بدَّ وأنَّ تكون بدائل لغَوِيَّة. واختيار المُتَكَلِّم للبديل المُعَيَّن لابدَّ أَنْ يكون مرتبطا بسياق ما، لأَنَّ الاختيار العشوائي للبدائل قد يضرُّ المُتَكَلِّمَ، وقد يسبِّبُ لبسا للمخاطب.
وتلك البدائل التركيبية المرتبطة بإرادة المُتَكَلِّم تقود إلى أَنَّ صاحب الكتاب لا بدَّ وأَنَّه قام بعَمَلِيَّة
«تنميط لتراكيب اللُّغَة» ، أي تصنيف اللُّغَة لتراكيب نمطِيَّة تندرج تحتها «الجمل التي يمكن أَنْ يقولها المُتَكَلِّم» ، وحدد البدائل التركيبية لكل نمط. وقد أثبتنا هذا عند حديثنا عن منهج سيبويه في المبحث التالي.
وتثير قضية البدائل التي يمكن أَنْ يختار منها المُتَكَلِّم بإرادته التركيب المناسب للسياق سؤالا مهمًّا هو: هل يُجبِرُ السِّياقُ المُتَكَلِّمَ على اختيار تركيب نحويّ ما؟ أم أَنَّ المُتَكَلِّم حرٌّ في اختيار البديل التركيبيّ كيفما يحلو له وكيفما يشاء؟ هل ينبغي على المُتَكَلِّم الذي يوجد في سياق ما أَنْ يختار تركيبا ما ويترك آخر؟
يمكن أَنْ نسهِّل على أنفسنا إجابة هذا السؤال إذا استعنا ببعض المعطيات التي يُقَدِّمها علم مُهِمّ من العلوم الإنسانيَّة هو «علم النفس» . فمن المباحث التي يدرسها هذا العلم مبحث مُهِمّ للغاية هو مبحث «الدافع Motive» و «الدافعيّة Motivation» و «الباعث أو الحافز Incentive» .
والدافع يطلق «اصطلاحا على كل ما يدفع إلى النشاط، حركيًّا كان أو ذهنيًّا» ) (2). وقد عرَّفه علماء النفس بأَنَّه: «قوة نفسِيّة تدفع الفرد إلى القيام بسلوك معين وتوجِّهُه وتواصله حتى يتحقَّقَ الهدف من السلوك» ) (3). وهو: «عامل انفعالي حركي، فطري أو مكتسب، شعوري أو لاشعوري، يثير نشاط الفرد للأداء والإنجاز، أو تحقيق غاية، وينشأ داخل الفرد كنتيجة لخبرته في الحياة. وقد يكون الدافع ذاتيا
…
وقد يكون عرضيا») (4).
(1) الكشاف: 1/ 111
(2)
د. يوسف مراد: مبادئ علم النفس العام، دار المعارف، القاهرة، ط 3، ) 1957 م (، ص 40
(3)
معجم مصطلحات علم النفس والتربية: مجمع اللُّغَة العَرَبِيَّة، القاهرة، ط 1، ) 2008 م (، 2/ 83
(4)
د. أحمد زكي بدوي: معجم مصطلحات العلوم الاجتماعِيَّة، مكتبة لبنان، بيروت، ) بدون تاريخ واضح للطبعة (، ص 275
وأهم ما أسفرت عنه أبحاث علماء النفس عن الدافع والدافعية «أَنّهُ من غير الممكن للكائن أَنْ يُصْدِرَ نشاطا أو سلوكا مُعَيَّنًا دون أَنْ يُهَيَّأَ دافعيًّا للإتيان بهذا السلوك أو النشاط. بمعنى آخر أَنَّ مجرد صدور النشاط في ذاته يقضي بتوافر درجة معيَّنة من الدافعِيَّة دونها يستحيل إصدار هذا النشاط» ) (1). وممّا يقرُّهُ علماء النفس أَنَّ سلسلة تفسير السلوك يجب أَنْ تحوي «الحلقات الثلاث الأتية: المنبِّه) شرط خارجي (ــ الطاقة الحيوية والتوتر العضوي) شرط داخلي (ــ الاستجابة» ) (2). ويقرُّون أيضا أَنَّ من خصائص الكائن الحي قابليَّته للتهيُّج، وهي «مقدرة الكائن الحي على الردّ على التنبيهات بألوان مختلفة من الحركات» ) (3). وأنَّ إرادة المُتَكَلِّم لكي تجد طريقها لتنفيذ الفعل يجب أَنْ تكون في بؤرة شعور المُتَكَلِّم) (4).
إذا حاولنا تطويع هذه الحقيقة لخدمة موضوعنا يمكن أَنْ نعتبر السِّياق «دافعا ــ منبِّها ــ
مهيِّجًا»، وأنَّ الكلام هو «النشاط» أو «الاستجابة» ، الناتجة عن هذا الدافع. فالدافع يدفع «إرادة
المُتَكَلِّم» إلى أَنْ يصدر عنه «نشاطٌ / كلامٌ» لتحقيق هذا الدافع. ويفهم من الحقائق السابقة أَنَّ العلاقة بين «الدافع / السِّياق» و «النشاط/ الكلام» علاقة تلازم واجبة، فلا نشاط أو كلام بدون دافع سِياقِيّ وراءه. وهذا ما يمكن أَنْ نفسر به كلام د. مصطفى ناصف إذ يقول:«إِنَّ المُتَكَلِّم يقف موقفا خاصا من السامع. ويتضح هذا الموقف في اختيار الكلمات وترتيبها» ) (5).
فإذا وُضِعَ المُتَكَلِّم في موضع «شكّ» مثلا و «دُفِعَ» إلى تأكيد كلامه فَإِنَّ هذا «يضطره» إلى اختيار تركيب نحوِيّ ما «مناسب» من البدائل النحوِيَّة التي تفيد التوكيد لكي يُزيل هذا
«التوتر أو الاستثارة» التي خلقها السِّياق بالنسبة له.
ولعل كلامنا هنا يتوافق مع ما أثبته شيخنا محمود شاكر في كتابه «المتنبي» ، عند إيضاحه للعلاقة بين المُتَكَلِّم وكلامه إذ يقول: «في نظم كل كلام وفي ألفاظه ولابد أثر ظاهر أو وسم خفي من نفس قائله، وما تنطوي عليه من دفين العواطف والنوازع والأهواء من خير أو شر أو صدق
(1) د. محيي الدين أحمد حسين: دراسات في الدافعية والدوافع، دار المعارف، القاهرة، ط 1، ) 1988 م (،
ص 10
(2)
د. يوسف مراد: مبادئ علم النفس العام، ص 39
(3)
السابق، ص 78
(4)
السابق، ص 40 وينبغي الإشارة إلى أَنَّنا لسنا بدعا في استعانتنا بمعطيات علم النفس، فقد قام العالم اللغويّ بلومفيلد Bloomfield بهذا من قبل عند تحليله للمعنى بأسلوب ((سلوكي))؛ أي أنه ((نظر إليه على أنه سلسلة من المثيرات والاستجابات))، ينظر: ستيفن أولمان، دور الكلمة اللُّغَة، ص 18
(5)
اللُّغَة والتفسير والتواصل، ص 11
وكذب، ومن عقل قائله، وما يكمن فيه من جنين الفكر من نظر دقيق ومعان جلية أو خفية، وبراعة صادقة ومهارة مموهة، ومقاصد مرضية أو مستكرهة») (1).
ولَعلَّ هذا العدد الهائل من المواضع التي تتحدث عن حُرِّيَّة الإرادة عند سيبويه والذي تجاوز الخمسمائة موضع هو ما جعل الزَّمَخْشَرِيّ المعتزلي متيمًّا به، ومكثرا من ذكر اسمه، ومدافعا عنه، بل في بعض الأحيان مرددا أقواله في كثير من مؤلفاته. فالمعتزلة ــ بوجه عام ــ والزَّمَخْشَرِيّ إمام من أئمتهم «يقررون بمبحثهم في العدل أَنَّ للإنسان قدرة وإرادة ومشيئة واستطاعة، قد خلقها له الله، وأَنَّها تؤدِّي وظائفها بشكل مستقل وحر» ) (2). فلَعلَّ هذا الاتفاق بينهما في هذه المسألة هو ما شد الزَّمَخْشَرِيّ لسيبويه.
ولَعلَّ هذه القضية قضية حُرِّيَّة الإرادة تفسِّر لنا أيضا قول المستشرقين «هـ. ا. ر. جب»
و«ج. هـ. كالمرز» الذي ذكراه في مادة «المعتزلة» في موسوعتهما، حيث قرَّرا أَنَّ المعتزلة لهم دورهم في شرح القرآن، «فهم الذين أدخلوا الأسلوب النَّحْوِيّ بالمعنى الدقيق. [وأنَّ] هناك علاقة وثيقة جدا بينهم وبين المدرسة النحوِيَّة في البصرة، التي كان ممثلوها يعلمون بوجه عام المذاهب
المعتزلية») (3).
وكَأَنَّ هذين المستشرقين يريدان أَنْ يثبتا علاقة نحاة البصرة ومن بينهم سيبويه بالاعتزال، وهذا زعم قد يؤَيِّده هذا العدد الهائل من إشارات سيبويه لإرادة المُتَكَلِّم وحريتها.
***
(1) ص 15
(2)
د. محمد عمارة: تيارات الفكر الإسلامي، دار الشروق، القاهرة، ط 1، ) 1991 م (، ص 48
(3)
هـ. ا. ر. جب وج. هـ. كالمرز: الموسوعة الإسلامية الميسرة، مكتبة الأسرة ــ الهيئة المصريَّة العامة للكتاب، القاهرة، ط 1، ) 2013 م (، 2/ 1098