الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخرى واضحة محددة، فيكون المقصود النهائي من الجملة أرسخ في الذهن وهذا هو السرُّ في قولهم: البدل في حكم تكرير العامل») (1).
وبناء على هذا الكلام فَإِنَّ البدل يأتي لتأكيد شيء معروف ومعهود عند المُتَكَلِّم والمخاطب. وهنا سؤال: هل يجوز استخدام البدل لشيء غير معروف عند المُتَكَلِّم أو المخاطب؟
والإجابة أَنَّهُ لا يجوز هذا؛ لأَنَّ هذا يتنافى مع طبيعة البدل؛ فإذا قلت: «بى المسكينَ كان الأمر، أو بك المسكينَ مررت، فلا يحسن فيه البدل؛ لأَنَّكَ إذا عنيت المخاطَب أو نفسَك فلا يجوز أَنْ يكون لا يدرى من تعنى، لأَنَّكَ لست تحدث عن غائب» ) (2).
ــ
ثانيا التوكيد:
باب التوكيد من الأبواب المرتبطة بسياق الحال أشدَّ الارتباط، فهو سبب وجود هذا الباب في الكلام أصلا. فالمُتَكَلِّم ــ محكوما بالسِّياق ومدفوعا به ــ يلجأ إلى التوكيد لتأكيد «المعنى» الذي يرغب بشِدَّة في إيصاله إلى «المخاطب» ، فالتوكيد وجودًا وعدمًا سببه المُتَكَلِّم والمخاطب والسِّياق المحيط بهما. وهذا ما يقوله المنطق والعقل، وما تقوله دراسات علمائنا السابقين القدامى عن التوكيد التي سبق وأشرنا إليها) (3). ويشير سيبويه إلى وظيفة ألفاظ التوكيد قائلا عنها أنَّها: «توصَف بها الأسماء ولا تُبنى على شيء. وذاك أَنَّ موضعها من الكلام أَنْ يُعمّ ببعضها، ويؤكد ببعضها بعد ما يُذكر الاسم)) (4).
وجملة سيبويه عن ألفاظ التوكيد «لا تبنى على شيء» تعني أنَّها لا تأتي في المراحل الأولى للكلام ولا يُبدَأُ بها الجملة، فهي تأتي بعد «البناء»: بناء الخبر على المبتدأ، أو بناء الفاعل على الفعل. وهذا يعنى أيضا أَنَّ ما يأتي إليه التوكيد ليزيله أو يؤكد عليه لا يكون مع بداية الكلام بالتبعية فالشك والتوَهُّم والتثبت لا يظهر إلا في مراحل متأخرة من الكلام. وعلى هذا نقول أيضا: إِنَّ ممَّا يتصدر الكلام في الغالب الجملة الاسمِيَّة وبعدها الفعلِيَّة.
وممَّا أثبته سيبويه أيضا أَنَّ وظيفة ألفاظ التوكيد أنها «يُعَمُّ ببعضها» ؛ أي أَنَّ بعضها يفيد العموم، ووظيفة بعضها «التوكيد» بعد الاسم؛ أي أَنَّ بعضها: يأتي لإزالة الشك من نفس المخاطب
(1) د. محمد عيد: النحو المصفى، مكتبة الشباب، القاهرة، ) بدون تاريخ للطبعة (، ص 626
(2)
سيبويه: الكتاب، 2/ 76، ومن إشارات سيبويه عن البدل إشارته إلى إمكانِيِّة إبدال النكرة من المعرفة، وذلك بشرط أن تستقل هذه النكرة بفائدة، مثل قوله تعالى:{كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} . 2/ 9
(3)
ينظر ما ذكر عند الحديث عن المفعول المطلق، في: سياق الحال والجملة الفعلِيَّة.
(4)
سيبويه: الكتاب، 2/ 116
أو تقرير المؤكد في نفس السامع أو المخاطب، أو دفع المُتَكَلِّم توهم غفلة في كلامه. ولا شك أَنَّهُ يقصد هنا ألفاظ التوكيد المعنوي.
ولسيبويه نصوص يشير فيها إلى تأثير سياق الحال في التوكيد اللفظي، ويوضح كيف يؤثِّر سياق الحال على هذا التوكيد. ففي سياق قد يُقبل تكرار اللفظ على أَنَّهُ توكيد لفظي، وفي سياق آخر يكون هذا التكرار جملة.
يقول في نصّ له: «وتقول: أنت أنت، تكررها، كما تقول للرجل: أنتَ وتسكت، على حد قولك: قال الناس زيد. وعلى هذا الحد تقول: قد جُرّبْتَ فكنتَ كنت، إذا كررتها توكيدًا» ) (1).
أي أَنَّ قول القائل: «كنت كنت» قد يكون كررها توكيدًا بحسب السِّياق.
فعندما نقول: «أنت أنت» فهذان الضميران قد يكونان جملة اسمية كما أشار النَّصّ
السابق، وقد يكونان في سياق آخر مجرد توكيد لفظي.
وفي بعض الأحيان لا يصح أَنْ يقع ضمير الغائب بعد الفعل إلا إذا كان هذا في إطار سياق التأكيد الذي يأتي به المُتَكَلِّم. يقول: «
…
[و] لو قلت فعل هو لم يجز إلا أَنْ يكون صفة. ولا يجوز أَنْ يكون هُما في موضع الألف التي في ضربا، والألف التي في يضربان، لو قلت ضرب هُما أو يضربُ هُما لم يجز. ولا يقع هُم في موضع الواو التي في ضربوا، ولا الواو التي مع النون في يضربون. لو قلت ضرب هُم أو يضربُ هُم لم يجز. وكذلك هي، لا تقع موضع الإضمار الذي
في فعلتْ، لأَنَّ ذلك الإضمار بمنزلة الإضمار الذي له علامة. ولا يقع هُنّ في موضع النون التي في فعلْنَ ويفعلنَ، لو قلت فعل هُنّ لم يجز إلا أَنْ يكون صفة») (3).
وكلمة «صفة» التي وردت في النَّصّ السابق فسَّرها الأستاذ هارون قائلا: «هو ما يسمى بالتوكيد» ) (4). إذن فضمير الغائب لا يصلح هنا إلا إذا كان الكلام على سبيل التوكيد؛ وهذا يعني
(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 360
(2)
سيبويه: الكتاب، 2/ 359
(3)
سيبويه: الكتاب، 2/ 351، وينظر موضع آخر يشبه هذا الموضع في مضمونه: 2/ 379
(4)
سيبويه: الكتاب، 2/ 351، الحاشية ذات الرَّقْم 2، وفي هذا إشارة إلى أهمِيَّة الوقوف على مصطلحات العلماء والإلمام بها، وإلا وقعنا في خلط كبير، وسوء فهم خطير.
أَنَّ التركيب النَّحْوِيّ: «فعل + فاعل ضمير مستتر هو + ضمير ظاهر هو» لا يصح نحويا إلا على سبيل التوكيد المرتبط بالسياق.
وكما تتجه إرادة المُتَكَلِّم عند قصدها إزالة الشك من نفس المخاطب، أو تقرير المؤكَّد في نفس السامع أو المخاطب، أو دفع توهم غفلة ــ إلى ألفاظ التوكيد المعنوي، أو التوكيد اللفظي، فَإِنَّ هذه الإرادة قد تتجه إلى استخدام بعض المصادر الفردية لنفس هذا القصد.
ففي باب «ما ينتصب من المصادر توكيدًا لما قبله» ) (1) ذكر سيبويه مجموعة من المصادر تأتي في الكلام على سبيل التوكيد، وهي:
- «حقًا» ، في مثل: هذا عبد الله حقا.
- «الحق لا الباطل» ، في مثل: هذا زيد الحق لا الباطل.
- «غير ما تقول» ، في مثل: وهذا زيد غير ما تقول.
- «أجدك لا تفعل كذا وكذا؟ » ، كَأَنَّه قال:«أحقا لا تفعل كذا وكذا؟ »
- «ألبتة» ، في قولك: قد قعد ألبتة.
فهذه الألفاظ تتبَّعها سيبويه في السِّياقات المختلفة كما نعلم ذلك من منهجه، ووجد أنَّها ترتبط بالتوكيد في الاستعمال اللغويّ، فلا تذكر إلا للتوكيد، أي لا تذكر إلا لإزالة شك من نفس المخاطب أو تقرير المؤكَّد في نفس السامع أو المخاطب، أو دفع توهم غفلة.
وقال النحاةُ من بعد سيبويه عن هذه الألفاظ مبيِّنين وموضحين بصورة أشد علاقتها بالسياق:
- قال ابن يعيش: «اعلم أنَّ ((حقًّا)) و ((الحَقَّ)) ونحوهما مصادرُ، والناصبُ لها فعلٌ مقدَّرٌ قبلها دلّ عليه معنى الجملة، فتؤكِّد الجملةَ، وذلك الفعل أحقُّ، وما جرى مجراه، وذلك أنَّك إذا قلت:
((هذا عبد الله)) جاز أن يكون إخبارُك عن يقين منك وتحقيق، وجاز أن يكون على شكٍّ، فأكدتَه بقولك:((حقًّا))، كأنَّك قلت:((أَحُقُّ ذلك حقًّا))») (2).
- قال الشيخ خالد الأزهري: «المسألة ((الرابعة: أن يكون المصدر مؤكدًا لنفسه))، ((أو)) مؤكدا
((لغيره، فالأول))، وهو المؤكِّد لنفسه، هو ((الواقع بعد جملة هي نص في معناه
…
))
((والثاني))، وهو المؤكد لغيره؛ هو ((الواقع بعد جملة تحتمل معناه وغيره))، ويقع منكرًا ومعرفًا، فالأول نحو:((زيد ابني حقًّا))، فجملة ((زيدٌ ابني)) تحتمل الحقيقة والمجاز، ولكنَّها صارت نصًّا بالمصدر؛ لأنَّ قولك:((حقًّا)) يرفع المجاز ويثبت الحقيقة، وسمّي مؤكِّدًا لغيره؛ لأنَّه يجعل ما قبله نصًّا بعد أن كان محتملًا، فهو مؤثِّر، والمؤكد به متأثّر، والمؤثر غير المتأثر. ((و)) الثاني
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 378، وما بعدها
(2)
شرح المفصل: 1/ 285