المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ السياق والابتداء بالمعرفة: - قرينة السياق ودورها في التقعيد النحوي والتوجيه الإعرابي في كتاب سيبويه

[إيهاب سلامة]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌ الدراسات السابقة:

- ‌ منهج البحث في أثناء الدراسة:

- ‌ خطة البحث

- ‌تمهيد

- ‌ ترجمة سيبويه

- ‌ الاسم والنشأة والوفاة:

- ‌ أسفاره العلميَّة:

- ‌ شيوخه:

- ‌ منزلة سيبويه العلميَّة:

- ‌ كتاب سيبويه:

- ‌ وقت تأليفه:

- ‌ القيمة العلميَّة للكتاب:

- ‌ منهج الكتاب:

- ‌ أهم المصطلحات المستخدمة في البحث:

- ‌ المصطلح الأول ((…السِّياق)):

- ‌ المصطلح الثاني ((…التَّقْعِيدالنَّحْوِيّ)):

- ‌ المصطلح الثالث ((…التوجيه الإعرابِيّ)):

- ‌ المصطلح الرابع ((…الأصل)):

- ‌ المصطلحات ((…الغالب، الكثير، القليل، الضعيف، الشاذ، الردئ

- ‌الفصل الأول: السياق والمنهج عند سيبويه

- ‌مقدمة:

- ‌المبحث الأول: سيبويه والسِّياق:

- ‌ سيبويه يقوم بالتَّقْعِيدالنَّحْوِيّ والتوجيه الإعرابِيّ من خلال النصوص الحَيَّة المنطوقة:

- ‌اعتبار سيبويه للسياق:

- ‌المخاطب والمُتَكَلِّم أبرز عناصر سياق الحال التي اهتَمَّ بها سيبويه:

- ‌ المبحث الثاني: خطوات إجرائِيَّة ومنهجِيَّة قبل التقيعد النَّحْوِيّ والتوجيه الإعرابِيّ عند سيبويه:

- ‌1 ــ تصنيف اللُّغَة إلى تراكيب نمطِيَّة مُجَرَّدة:

- ‌2 ــ الإحصاء العددي للتراكيب النَّمَطِيَّة:

- ‌3 ــ تتَبُّع التركيب اللغويّ المُعَيَّن قيد البحث في السِّياقات المختلفة وربطه بدلالة السِّياق إِنْ وجدت:

- ‌4 ــ معايشة التراكيب اللُّغَوِيَّة في نصوصها المنطوقة:

- ‌الفصل الثاني: دور سياق الحال في التوجيه الإعرابِيّ عند سيبويه

- ‌1 ــ المبحث الأول: أهمِيَّة سياق الحال في التوجيهات الإعرابِيّة عند سيبويه:

- ‌أوجود تراكيب نحوِيَّة لا يصِحُّ تركيبُها ولا تصِحُّ كينونتُها وبالتالي لا يصِحُّ توجيهها نحويا إلا إذا قامت قرينة من سياق الحال تُصَحِّحُها:

- ‌ب وجود تراكيب نحوِيَّة توجَّه في إطار معرفة قرينة السِّياق:

- ‌ت يستعين به أحيانا في شرح توجيهه:

- ‌ث يفسِّرُ بالسِّياق مَرْجِعِيَّة الضمير:

- ‌ج خطورة عدم الاعتداد بقرينة السِّياق وأثره في التوجيه:

- ‌2 ــ المبحث الثاني: إثراء السِّياق للتوجيهات الإعرابِيّة والدِّلالِيَّة:

- ‌ حال المُتَكَلِّم ودوره في التوجيه الإعرابِيّ وإثرائه:

- ‌ المخاطب ودوره في التوجيه الإعرابِيّ وإثرائه:

- ‌3 ــ المبحث الثالث: تَحَرُّك سيبويه بحُرِّيَّة في توجيهاته النحوِيَّة في حالة عدم اللَّبس:

- ‌الفصل الثالث: دور السِّياق في التَّقْعِيد النَّحْوِيّ عند سيبويه

- ‌المبحث الأول: سياق الحال والجملة الاسمِيَّة:

- ‌ السِّياق والابتداء بالمعرفة:

- ‌ الحذف في الجملة الاسمِيَّة وسياق الحال:

- ‌ قرينة السِّياق والحال النَّحْوِيّ:

- ‌المبحث الثاني: سياق الحال والجملة الفعلِيَّة وما يتعلق بها:

- ‌ سياق الحال يُؤَثِّر في كينونة الجملة الفعلِيَّة أيضا:

- ‌ الترتيب بين العناصر المكوِّنة للجملة الفعلِيَّة:

- ‌ السِّياق وإعمال اسم الفاعل عمل الفعل:

- ‌ نواصب الفعل المضارع:

- ‌ المفعول المطلق:

- ‌ دور قرينة السِّياق في إعمال ظن وأخواتها أو إلغاء عملها:

- ‌ الحذف في الجملة الفعلِيَّة:

- ‌المبحث الثالث: سياق الحال والتوابع:

- ‌ أولا البدل:

- ‌ ثانيا التوكيد:

- ‌ ثالثا النعت:

- ‌ رابعا العطف:

- ‌المبحث الرابع: سياق الحال والأساليب النحوِيَّة:

- ‌1 ــ أسلوب الاستفهام:

- ‌2 ــ أسلوب النفي:

- ‌3 ــ أسلوب التفضيل:

- ‌4 ــ أسلوب النداء:

- ‌5 ــ أسلوب التحذير والإغراء والاختصاص:

- ‌6 ــ أسلوب الاستثناء:

- ‌7 ــ أسلوب القسم:

- ‌8 ــ النصب على التعظيم أو الذم:

- ‌المبحث الخامس: سياق الحال والأدوات النحوِيَّة:

- ‌ المبحث السادس: سياق الحال والتنوين والتنكير والتعريف:

- ‌الفصل الرابع: سياق الحال والقواعد الصَّرْفِيَّة

- ‌ المبحث الأول: سياق الحال ودلالة الفعل الزَّمَنِيَّة والمصادر والمشتقات

- ‌أ - سياق الحال والدِّلَالَة الزَّمَنِيَّة للفعل:

- ‌ج - سياق الحال ودلالة أوزان المصدر:

- ‌ح - سياق الحال ودلالة المشتقات:

- ‌ المبحث الثاني: سياق الحال ومعاني الأوزان الصَّرْفِيَّة:

- ‌الفصل الخامسالسِّياق وسيبويه والنظَرِيَّةالنحوِيَّة

- ‌ المبحث الأول:‌‌ تعريف مصطلح النظَرِيَّة، وأهم خصائص النظَرِيَّةالعلميَّة:

- ‌ تعريف مصطلح النظَرِيَّة

- ‌ أهم خصائص النظَرِيَّة العلميَّة:

- ‌ المبحث الثاني:‌‌ النظَرِيَّة النحوِيَّة السِّياقِيَّة:

- ‌ النظَرِيَّة النحوِيَّة السِّياقِيَّة:

- ‌ نقد نظَرِيَّة العامل:

- ‌الخاتمة

- ‌قائمة المصادر والمراجع

- ‌أولا ـ المصادر والمراجع العربِيَّة

- ‌ثانيا المراجع الأجنبية

- ‌ثالثا: المجلات والدوريات

- ‌ملخص الرسالة

الفصل: ‌ السياق والابتداء بالمعرفة:

‌المبحث الأول: سياق الحال والجملة الاسمِيَّة:

سنناقش هنا تأثير سياق الحال على الجملة الاسمِيَّة، وسنحاول أنْ نجيب على السؤالين التاليين: ما مدى تأثير سياق الحال على تكوين الجملة الاسمِيَّة؟ وكيف يتحكم في العلاقة بين ركنيها؟

ويمكن أَنْ نناقش تحت هذا العنوان العناوين الفرعِيَّة الآتية:

•‌

‌ السِّياق والابتداء بالمعرفة:

قبل دراسة كتاب سيبويه توقَّع الباحث تأثيرًا محدودًا لسياق الحال على الجملة الاسمِيَّة، تأثيرٌ قد يوجد مثلا في تقديم الخبر على المبتدأ، أو في حذف أحد ركنيها. ولكن ما لم يتوقَّعه الباحث أَنْ يصل تأثير سياق الحال على الجملة الاسمِيَّة برمتها وجودًا وعدمًا، وأنَّه يتحكَّم في وجودها وكينونتها وذاتها.

هذا ما تقوله نصوص سيبويه، وما أدَّى إليه تحليل هذه النصوص. ففي أحد النصوص الخطيرة والمُهِمَّة لسيبويه يقول:

«واعلم أَنَّهُ إذا وقع في هذا البابِ نكرةٌ ومعرفةٌ فالذي تَشْغَلُ به كان المعرفةُ؛ لأنَّهُ حدُّ الكلام؛ لأَنَّهما شيء واحد، وليس بمنزلة قولك: ضرب رجل زيدًا لأَنَّهما شيئان

مختلفانِ، وهما في كان بمنزلتهما في الابتداء إذا قلت: عبد الله منطلق، تبتدئ بالأعرف ثُمَّ تَذكر الخبرَ») (1).

وقد وقفتُ أمام جملة سيبويه المُهِمَّة «تبتدئ بالأعرف ثُمَّ تذكر الخبر» ، وأثارت عندي عدة أسئلة:

» من الذي يبتدئ بالأعرف؟

» والأعرف لمَنْ؟

»

وألا تقتضي هذه الجملة أَنْ يكون هناك «شيء معروف» بين طرفين.

» ولماذا استخدم صيغة التفضيل «الأعرف» .

والإجابة المنطقية العقلِيَّة البديهيَّة لهذه الأسئلة أَنَّ الذي يبتدئ بالأعرف هو المُتَكَلِّم، وأَنْ يتَّجه بكلامه إلى مخاطَب، وأنَّ المُتَكَلِّم إذا أراد أَنْ يبدأ حديثًا مع المخاطب لا بد أَنْ يبدأ بشيء

(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 47، ويقدم السيرافي لنص سيبويه السابق فضل بيان فيقول:((الوجه أن تجعل الأعرف هو الاسم، كقولك: كان زيدٌ منطلقا، وكان منطلقًا زيد، ولم يحسن أن تقول: كان منطلقٌ زيدًا؛ لأنَّك إِنَّمَا تخبر عمن يعرفه المخاطب بما لا يعرفه من شأنه حتى يعرفه فيساويك فيه وفي خبره)) 2/ 219 ويقول سيبويه في نصّ ثان مؤكدا لفكرة الابتداء بالمعرفة: ((إِنَّمَا تكون المعرفة مبنيا عليها أو مبنيةٌ على اسم أو غير اسم)). 2/ 114

ص: 187

«معروف» بينهما لكي يستطيع أَنْ «يبني» عليه الكلام، وينبغي أَنْ يتحرى المُتَكَلِّم أَنْ يبتدئ بأعرف الأشياء بينه وبين المخاطب قدر استطاعته.

ومعنى هذا أَنَّ بداية الجملة الاسمِيَّة مرتبطة بالمُتَكَلِّم وإرادته، وهو الذي يكسبها مشروعيَّة وجودها بأن يبدأها بـ «شيء معروف» بينه وبين المخاطب.

ويعني هذا أيضا أَنَّ صحَّة الجملة الاسمِيَّة مشروطة بأن يكون «مبتدؤها» معروفًا بين المُتَكَلِّم والمخاطب، أي أَنَّ الجملة الاسمِيَّة لكي تقع صحيحة يجب أَنْ يبدأ المُتَكَلِّم بما هو معروف بينه وبين المخاطب، ولا بد أَنْ تكونَ هناك نقطة لقاء معرفية بين المُتَكَلِّم والمخاطب لكي يمتدَّ الكلامُ وتتكوَّن الجمل التالية) (1).

وهنا سؤال مُهِمّ هو: ألا يتدخَّل سياقُ الحال في هذه المعرفة بين المُتَكَلِّم والمخاطب؟ ! وهل يُعقَلُ أَنْ يبدأ المُتَكَلِّم كلاما بـ «شيء معروف» يعرفه المُتَكَلِّم والمخاطب بدون أَنْ يكون هناك «رابط سِياقِيّ ما» يربط المُتَكَلِّم بالمخاطب سلفا؟ ! وهل يُعقَل على سبيل المثال أَنْ يُوقف أحدُ الأشخاص شخصا في الطريق لا يعرفه ولا توجد بينهما سابق معرفة، ولم ير الأول الثاني قط، ثُمَّ يقول الأول للثاني:«عبد الله نجح» ، أو «الطعام لذيذ» ؟ ! إِنَّ هذا لا يُعقل، وسيظنّ الشخص الثاني أَنَّ الأول صاحب السؤال مجنونا يهذي.

إن المُتَكَلِّم الذي يريد أَنْ يُنْشِئ «اتصالا» بينه وبين المخاطب لا بدَّ أَنْ تكونَ لديه «الإرادة والدافع» لإنشاء هذا الاتصال، ولكي ينجح هذا الاتصال يجب أَنْ يبدأ المُتَكَلِّم بنقطة لقاء معرفية بينه وبين المخاطب، ونقطة اللقاء المعرفيَّة هذه يتدخل السِّياق في تحديدها؛ فمثلا عندما يضم

«مسجدٌ» مجموعة من روّاده لا يعرف بعضهم بعضا لحضور «محاضرة علمِيَّة» لأحد العلماء، وبعد انتهاء المحاضرة قال أحد الحاضرين لباقي المجموعة:«المحاضرة جَيِّدة» . فكون هذه المجموعة في «مسجد» يتلقَّون «محاضرة» يمثل هذا كله سياقا يُمَكِّنُ أحدَهم من أَنْ يختار «مبتدأ» يشترك الجميع في معرفته، هو «المحاضرة» ويخبر عنه بخبر هو «جَيِّد» ، وتتقبَّل باقي المجموعة هذا الخبر، ويجعله السِّياق مستساغا مقبولا. ولو قام نفس الشخص قائل العبارة بقول نفس العبارة خارج المسجد لأحد الأشخاص لاستنكرت عليه هذه الجملة.

ولَعلَّ هذا ما يجعل كاتب المقال الصحفي، أو من يكتب كتابا يضع له عنوانا، يكون بمثابة نقطة اللقاء المعرفيَّة المشتركة بين كاتب المقال أو الكتاب وقارئه، ويكون المقال ذاته أو الكتاب عينه بمثابة الخبر لهذا المبتدأ.

(1) تنبغي الإشارة إلى أنه يجوز في الشعر وفي ضعف من الكلام الابتداء بالنكرة. سيبويه: الكتاب 1/ 48

ص: 188

إننا نعتقد أَنَّ سياق الحال حاضر في بداية تكوين الجملة الاسمِيَّة متمثِّلا في المُتَكَلِّم وإرادته الواعية التي تختار ما يبدأ به كلاما مفهوما يتواصل به مع المخاطب، ومتمثِّلا أيضا في تهيئته لقدر من المعرفة مشترك بين المُتَكَلِّم والمخاطب.

ولا يقتصر الأمر على مجرد تهيئة هذا القدر من المعرفة، بل لا بدَّ أَنْ يكون هذا القدر من المعرفة هو «الأعرف» بين المُتَكَلِّم والمخاطب؛ فكلمة «الأعرف» التي أتت في نصّ سيبويه السابق توحي بأنه يجب على المُتَكَلِّم أَنْ يجتهد في الابتداء بما هو «أعرف» بينه وبين المخاطب، وأن يتحرَّى ذلك، ولا يكون على صواب إذا بدأ بما هو «معروف» وترك «الأعرف» ؛ لأَنَّ هذا ينعكس سلبا على وضوح الجملة.

ومما يؤكد أيضا أَنَّ الكلام يجب أَنْ يبنى على ما هو معروف بين المُتَكَلِّم والمخاطب أَنَّنا لا يجوز أَنْ نستخدم الضمائر في المرحلة الأولى من الكلام؛ لأَنَّ الإضمار يأتي بعد ذكر.

ومما يدعم هذه النتيجة وهي أَنَّ سياق الحال يتدخَّل في اختيار المبتدأ وبداية تكوين الجملة الاسمِيَّة هذا النَّصّ المهم الذي ذكره سيبويه في باب النداء:

«وإِنَّمَا فعلوا هذا بالنداء لكثرته في كلامهم؛ ولأَنَّ أول الكلام أبدًا النداء؛ إلا أَنْ تدعه استغناءً بإقبال المخاطب عليك، فهو أول كل كلام لك به تعطف المُكَلَّم عليك، فلمّا كثر وكان الأول في كل موضع؛ حذفوا منه تخفيفا؛ لأنَّهم ممَّا يُغَيِّرون الأكثر في كلامهم» ) (1).

إن أول الكلام أبدًا النداء، والنداء يتطلب متكلِّما ومخاطَبا، وحتما يجب أَنْ يكون هناك موقف يقال فيه النداء. وبالنداء يعطف المُتَكَلِّم المخاطب عليه؛ أي يطلب منه الانتباه لما سيقوله وقد يستغنى عن النداء إذا كان المخاطب مقبلا على المُتَكَلِّم وتخفيفا في الكلام. ثُمَّ بعد ذلك يبدأ المُتَكَلِّم في إنشاء الكلام الذي يكون في الغالب جملة اسمية) (2). إِنَّ هذا النَّصّ هو الآخر يثبت بما لا يدع مجالا للشك أَنَّ لسياق الحال تأثيرا واضحا على الجملة الاسمِيَّة.

(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 208

(2)

قمتُ ببحث بسيط على مائة خبر صحفي في صحيفة الأهرام المصريَّة، على اعتبار أن هذه الأخبار مجرد حديث بين متكلم) صحفي (ومخاطب) قارئ (فوجدتُ أن 99% من هذه الأخبار تبدأ بعنوان جملة اسمية) قد يكون مبتدؤها محذوف (، وأن الجملة الأولى في بداية 97% من هذه الأخبار كانت جملة فعلية فعلها ماض.

ص: 189

وعَلَّمَنا سيبويه في نصوص كثيرة أَنَّ حالة الرفع ترتبط بما هو ثابت ومستقر في نفس

المُتَكَلِّم؛ فقال في أحد هذه النصوص: «فإذا رفعت) على الابتداء (فالذي في نفسك ما

أظهرت») (1).

ويذكر في نصّ ثان عند مناقشته للجمل: «سلامٌ عليك، وخيرٌ بين يديك، وويلٌ لك، وويسٌ لك، وويلةٌ لك، وعولةٌ لك

» أَنَّ المصادر والأسماء في بداية هذه الجمل مبتدأ، مبني عليها ما بعدها، والسبب أَنَّ «المعنى فيهن أَنَّكَ ابتدأت شيئا قد ثبت عندك، ولست في حالة حديثك تعمل في إثباتها وتزجيتها» ) (2)؛ أي أَنَّ ما سوغ مجئ المبتدأ نكرة ورفعه في الجمل السابقة أَنَّ المُتَكَلِّم ابتدأ شيئا «قد ثبت عنده» ؛ أي شيء معروف عنده، وتتجه إرادة المُتَكَلِّم إلى أَنْ يبني عليه خبرا يتَّجه به إلى المخاطب، ولكي ينجح في هذا يجب أَنْ يكون ما يعرفه معروفا عند المخاطب أيضا.

إذن فحالة الرفع عامة ــ كما لاحظ سيبويه من خلال استقرائه وتتَبُّعه للتراكيب اللُّغَوِيَّة في السِّياقات المختلفة ــ مرتبطة بما يدور في نفس المُتَكَلِّم، وما هو ثابت فيها. وكون المبتدأ مرفوع؛ فهو يدخل ضمن هذه القاعدة، وهذا دليل آخر على تأثير سياق الحال على الجملة الاسمِيَّة من أساسها.

ومن لطيف إشارات العلماء إشارتهم إلى الفرق بين النصب والرفع، ففي «النصب إشعارًا بالفعل، وفي صيغة الفعل إشعار بالتجدد والطرو، ولا كذلك الرفع، فإِنَّهُ إِنَّمَا يستدعى اسما: ذلك الاسم صفة ثابتة» ) (3).

ويظهر هنا سؤال مُهِمّ آخر: ماذا يحدث لو بدأ المُتَكَلِّم بما هو «ليس معروفًا عند المخاطب» ؟ والسؤال بطريقة أخرى: ما الذي يترتب على بدء الجملة الاسمِيَّة بـ «نكرة» ؟

الإجابة عن هذا السؤال تقول: إِنَّ البدء بما ليس معروفا أو البدء بنكرة سيؤدي إلى «اللَّبس» وعدم تَحَصُّل الفائدة من الكلام. وهذا ما يبينه سيبويه في نصّ واضح وصريح يقول فيه: «فإنْ قلتَ كان حليم أو رجلٌ فقد بدأْتَ بنكرةٍ، ولا يستقيم أَنْ تُخبِرَ المخاطَبَ عن المنكور، وليس هذا بالذي يَنْزِلُ به المخاطَبُ منزلتَك في المعرفة، فكرهوا أَنْ يَقْرَبوا بابَ لبْسِ» ) (4).

(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 330

(2)

سيبويه: الكتاب، 1/ 330

(3)

ابن المنير الإسكندري: الانتصاف فيما تضمنه الكشاف، بهامش تفسير الكشاف للزمخشري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 3، ) 1407 هـ (، 1/ 9

(4)

سيبويه: الكتاب، 1/ 48، ويقول سيبويه في نصّ ثان: ((ولو قلت: رجلٌ ذاهبٌ، لم يحسن حتى تعرفه

بشيء؛ فتقول: راكبٌ من فلان سائر)) 1/ 329، وينقل في نصّ ثالث عن الخليل قوله:((إِنَّ من أفضلهم كان = رجلا؛ يقبح لأنك لو قلت إِنَّ خيارهم رجلا، ثم سكت؛ كان قبيحا حتى تعرفه بشيء، أو تقول: رجلا من أمره كذا وكذا)) 2/ 153

ص: 190

ويعلق السيرافي بكلام مُهِمّ على هذا النَّصّ قائلا: «إِنَّ ابتداءك بالنكرة لتحدث عنها غير مستقيم؛ لأَنَّ المخاطب ليس ينزل منزلتك في معرفتها. وحكم الخطاب المفهوم أَنْ يساوِي المخاطب المُتَكَلِّم في معرفة ما خبره به، فإذا قال: كان زيدٌ عالمًا؛ فقد كان المخاطب عالمًا بزيد من قبل، وقد عرف علمه الآن؛ لإخبار المُتَكَلِّم إياه، فقد ساواه في الأمرين جميعًا، وإذا قال: كان عالمٌ زيد؛ فعالم منكور لا يعرفه المخاطب، ولم يجعله خبرا فيقيده، وقد قدمنا أَنَّ الأسماء لا

تستفاد، فمعرفة المخاطب بعالم غير واقعة، فلم يساو المخاطبُ المُتَكَلِّم إذن؛ لأَنَّ المنكور في الإخبار ما لا يعرفه المخاطب، وإن كان المُتَكَلِّم قد رآه وعرَّفه») (1).

إن البدء بنكرة يعني عدم تحديد نقطة معرفية تصلح لبناء الكلام عليها، وما يأتي بعد هذه النكرة لغو لا فائدة فيه للمخاطب. إِنَّ الهدف من الجملة الاسمِيَّة وخبرها أَنَّ المُتَكَلِّم يريد أَنْ ينقل

«فائدة» عن «شيء مُحَدَّد ومعروف» للمخاطب، وأنَّ المُتَكَلِّم يريد أَنْ يساوي بينه وبين المخاطب في الفائدة التي يعرفها عن هذا الشيء المُحَدَّد، فإذا بدأ المُتَكَلِّم بنكرة؛ ضاعت هذه الفائدة، ولم يستطع المخاطب أَنْ يضعها في موضعها المناسب ولا أَنْ يستفيد بها. فما الفائدة التي تعود على المخاطب عندما نبدأ بكلمة «رجلٌ» النكرة في قولنا:«رجلٌ يأكل» ، فمن الطبيعي والمنطقي أَنَّ أي رجل يأكل، فهذه الجملة وأشباهها لا تحمل أَيَّة فائدة للمخاطب؛ لأَنَّ الاسم النكرة كلمة تطلق على جنس يشمل أفرادًا كثيرين، فأي منهم ستُناطُ به الفائدة التي سيقولها المُتَكَلِّم.

يقول سيبويه: «ولا يبدأ بما يكون فيه اللَّبس، وهو النكرة. أَلا ترى أنَّك لو قلت: كان إنسانٌ حليمًا أو كان رجل منطلقًا، كنتَ تُلْبسُ؛ لأنَّهُ لا يُستنكَرُ أَنْ يكون في الدنيا إنسانٌ هكذا، فكرهوا أَنْ يَبْدَءوا بما فيه اللَّبس ويَجعلوا المعرفة خبرًا لما يكون فيه هذا اللَّبس» ) (2).

إذن فالأساس الذي عليه تبنى الجملة الاسمِيَّة هو ألا تُبدأ بنكرة بحال من الأحوال، إلا إذا تم «تضييق دائرة التنكير والعمومية» التي تكون في النكرة، و «تقع الفائدة للمخاطب» ) (3). ومن الحالات التي تضيق فيها دائرة التنكير والعمومية، أَنْ تقع النكرة في سياق نفي، كما يشير إلى ذلك سيبويه

(1) شرح كتاب سيبويه: ) طبعة هيئة الكتاب (2/ 373

(2)

سيبويه: الكتاب، 1/ 48

(3)

السيرافي: شرح كتاب سيبويه، 1/ 317، ويقول النُّحَاة في تعريف الإفادة:((الإفادة: مصدر أفاد، والمراد بها إفهام معنى من اللفظ يحسن السكوت عليه: من المُتَكَلِّم، أو من السامع، أو كل منهما)). ينظر: محمد محيي الدين عبد الحميد: تنقيح الأزهرية، ص 5

ص: 191

في باب «تخبر فيه عن النّكرِة بنكرة» قائلا: «وإنّما حَسُنَ الإخبارُ ههنا عن النكرة حيث أردت أَنْ تَنفِىَ أَنْ يكون في مثل حاله شئٌ أو فوقه، ولأَنَّ المخاطَبَ قد يحتاج إلى أَنْ تُعْلِمهَ مثلَ هذا» ) (1).

ومما هو جدير بالذكر هنا أَنَّ النُّحَاة بعد سيبويه أوصلوا مواضع النكرة المفيدة حين تقع مبتدأ إلى نحو أربعين موضعًا. تلك المواضع المتعددة جعلت بعض النحاة يضع ضابطا كليا لها. نقل الصبَّان في حاشيته القول في ذلك فذكر: «لم يعتنوا بتعديد الأماكن التي يسوغ الابتداء فيها بالنكرة، وإنما ذكروا ضابطًا كليًا وهو أنَّه متى حصلت الفائدة جاز الإخبار عن النكرة» ) (2).

ويعلق الأستاذ عباس حسن على هذا العدد الكبير من المواضع بقوله: «ولا حاجة بنا إلى احتمال العناء في سردها، واستقصاء مواضعها، ما دام الأساس الذي تقوم عليه هو «الإفادة» ، فعلى هذا الأساس وحده يرجع الحكم على صحة الابتداء بالنكرة أو عدم صحته، من غير داع لحصر المواضع أو عدها») (3). ثُمَّ أضاف ــ رحمه الله ــ كلاما نفيسا في الحاشية ذات الرقْم 1 من 1/ 486 حيث قال:

«وكذلك فعل سيبويه والمتقدمون؛ ولهذا يرى بعض النُّحَاة ــ بحق ــ أَنَّهُ لا داعي لهذا الشرط) شرط الإفادة (؛ لأنَّهُ مفهوم بداهة؛ إذ لا يتكلم عاقل بغير ما يفيد وإلا عرض نفسه وكلامه للحكم عليه بما لا يرضاه. أَمَّا المتأخرون فتوقعوا أَنْ يخطئ كثيرٌ مواضع الإفادة؛ فحاولوا أَنْ يدلوهم عليها؛ بحصر مواضعها» .

إن كلام الأستاذ عباس حسن هنا يؤكد وجهة النظر التي ذُكِرت سلفا وهي أَنَّ سياق الحال يسيطر على الجملة الاسمِيَّة من أساسها، ويؤثِّر فيها بشِدَّة. فالمُتَكَلِّم العاقل يجب أَنْ يحدد مبتدأ معرفة يُنيط به الفائدة التي يريد أَنْ ينقلها إلى المخاطب.

ولا ننسى ونحن في غمرة حديثنا عن المبتدأ وعلاقة سياق الحال به أَنْ نتحدَّث عن الجزء المتمِّم له ونقصد به الخبر. فمن الأمور التي حرص سيبويه على إيضاحها وتأكيدها علاقة التلازم بينهما، وإشارته إلى أَنَّهُ لا وجود لأحدهما بدون الآخر، وأنَّه لا يستغني أحدهما عن الآخر. قال سيبويه في باب «المسند والمسند إليه»:«وهما ما لا يَغْنَى) أو يستغني (واحد منهما عن الآخر، ولا يجد المُتَكَلِّم منه بدًّا، فمن ذلك الاسم والمبني عليه» ) (4).

(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 54

(2)

حاشية الصبان على شرح الأشموني، 1/ 299

(3)

النحو الوافي: 1/ 485 ــ 486

(4)

سيبويه: الكتاب، 1/ 23

ص: 192

هذا التلازم بينهما ضروري لكليهما؛ فالمبتدأ لا يكون مبتدأ إلا إذا وُجِد ما يبنى عليه، والخبر لا يكون حتى يعتمد على المبتدأ، يقول:

- «إنك إذا ابتدأت الاسم فَإِنَّما تبتدئه لما بعده، فإذا ابتدأت فقد وجب عليك مذكور بعد المبتدأ لا بد منه؛ وإلا فسد الكلام ولم يسغ لك» ) (1).

- «فالمبتدأ كل اسم ابتدئ؛ ليبنى عليه كلامٌ، والمبتدأ والمبني عليه رفع. فالابتداء لا يكون إلا بمبني عليه» ) (2).

- «الابتداء إِنَّمَا هو خبر» ) (3).

- «ألا ترى أَنَّ «مِنْ زيدٍ» لا يكون كلامًا حتى يكون معتمدًا على غيره») (4).

- «وإذا جعلت «هذا زيدٌ» اسم رجل فهو يحتاج في الابتداء وغيره إلى ما يحتاج إليه زيد ويستغني كما يستغني») (5).

ومن أقوال السيرافي التي ذكرها في بعض مواضع شرحه مبينا أهمِيَّة الخبر للمبتدأ قوله:

«فائدة الإفادة من المُتَكَلِّم للمخاطب في الخبر. ولو جُعِلَ الاسم نكرة والخبر معرفة والاسم لا يستفيده المخاطب لم يصر المخاطب بمنزلة المُتَكَلِّم في معرفة ما أفاده» ) (6).

من خلال هذه النصوص يؤكد سيبويه على أَنَّ المبتدأ يستمد شرعية وجوده من وجود الخبر، فلا بدَّ من وجوده لكي يوجد.

ويُغري المقام هنا ببعض الاستطراد المهم والمفيد الذي يُزيد الصورة إيضاحًا وعمقًا قبل الاستمرار في الحديث عن الخبر. في استطرادنا هنا نشير إلى أَنَّ فكرة الابتداء بالمعرفة

و«وجوبيّة» ارتباطه بـ «الخبر» لكي تكتمل «الجملة» ليست فكرة مقصورة على اللُّغَة العربِيَّة وحدها بل نعتقد أنَّها موجودة في كثير من اللغات إِنْ لم تكن جميعها.

(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 389

(2)

سيبويه: الكتاب، 2/ 126

(3)

سيبويه: الكتاب، 1/ 328

(4)

سيبويه: الكتاب، 3/ 330

(5)

سيبويه: الكتاب، 3/ 328

(6)

شرح كتاب سيبويه: 2/ 219

ص: 193

فمثلا تحدِّثنا كتب قواعد اللُّغَة الإنجليزية عن «الجملة Sentence» ومكوناتها، فتذكر أنَّها ــ أي الجملة ــ هي التي تعبِّر عن «فكرة مكتملة A complete thought» ) (1) .

ومن البديهيّ أَنَّ الفكرة المكتملة لكي يفهمها المخاطب أو السامع يجب على المُتَكَلِّم أَنْ يبدأ بـ ((شيء)) معروف بينه وبين السامع أو المخاطب ضربة لازب.

وتضيف كتب قواعد الإنجليزية أَنَّه لكي يتمَّ التعبير عن ((فكرة مكتملة)) فلزاما أَنْ تكون الجملة مكونة من عنصرين: الأول: «Subject) (2) الموضوع أو المسند إليه» مدار الكلام أو الحديث وهو «الذي يخبرنا ما أو لمن يتحدَّث المُتَكَلِّم» . والثاني: «Predicate المحمول أو المسند أو الخبر» ، وهو «جزء الجملة الذي يصنع تعبيرا أو بيانا عن المسند إليه The predicate is the part of the sentence that makes a statement about the subject» ) (3) .

إن التلازم بين المبتدأ والخبر لكي تتكون الجملة موجود في اللغتين على الرغم من اختلاف العائلة اللغوية التي تنتمي إليها كلتا اللغتين، فالعربية تنتمي إلى مجموعة اللغات السامية واللغة الإنجليزية تنتمي إلى مجموعة اللغات الهندية الأوربية INDO- EUROPEAN .

ووجود فكرة الابتداء والخبرِيِّة في كلتا اللغتين العربِيَّة والإنجليزية ــ وهي ولا بدّ موجودة في كثير من اللغات إِنْ لم تكن فيها كلِّها ــ قد تدعم بشكل ما فكرة «النحو العالمي Universal Grammar» التي نادى به العالم اللغويّ تشومسكي.

نعود إلى الخبر في العربِيَّة ونكمل تجلية بقية الحقائق عنه من خلال نصوص عبقري اللُّغَة سيبويه.

نقول إِنَّ سياق الحال يتدخل من خلال أحد عناصره: المخاطب في تحديد الخبر. فمن خلال إمكانيَّة سكوت المخاطب نعلم أَنَّ الخبر قد ظهر في الجملة وأنَّه ارتبط بالمبتدأ وحمل الفائدة التي وصلت إلى المخاطب وفهمها فسكت. فإذا لم يصح سكوت المخاطب كان هذا إيذانًا بعدم ظهور الخبر وهذا يعني عدم وصول الفائدة للمخاطب، ويعني أيضًا أَنَّ المبتدأ لم يكتمل وجوده. يقول:

(1) ينظر: The New Webster's Dictionary Of The English Language، Encyclopedic Supplements، New Websters Practical English Handbook، (Lexicon Publications، INC. ، Danbury،CT 1996)، P. EH-4

(2)

نحب أن نسجل هنا ملحوظة بسيطة وهي أنَّ ترجمة كلمة ((Subject)) بـ ((الفاعل)) هو خطأ محض من وجهة نظر الباحث؛ لأنَّ هذا سيؤدي إلى لبس بين معنى الفاعل كاصطلاح نحوي في العَرَبِيَّة وبين معناه الأصلي الذي هو المسند إليه في اللغة الإنجليزية.

(3)

Ibid، P. EH-4

ص: 194

«ألا ترى أنَّك تقول سبحان الله، من هو وما هو! فهذا استفهام فيه معنى التعجب. ولو كان خبرًا لم يجز ذلك؛ لأنَّهُ لا يجوز في الخبر أَنْ تقول: من هو، وتسكت» ) (1).

وقد يصح سكوت المُتَكَلِّم بدون وجود خبر في الجملة وذلك لأَنَّ سياق الحال يتكفل بتحديد هذا الخبر للمخاطب، أي أَنَّ المُتَكَلِّم لم يذكر الخبر لعلمه أَنَّ سياق الحال سيُمَكِّنُ المخاطبَ من تحديده، يقول سيبويه في:«هذا باب ما يَحسن عليه السكوتُ في هذه الأحرف الخمسة) إِنَّ وأخواتها (» : «

ويقول الرجل للرجل: هل لكم أحدٌ إِنَّ الناس ألْبٌ عليكم، فيقول: إِنَّ زيدا، وإنَّ عمرا؛ أي: إِنَّ لنا») (2).

إن سكوت المُتَكَلِّم دليل على وصول فائدة إليه، فائدة لم تكن معلومة لديه من قبل. ولَعلَّ هذا يرتبط بإشارة سيبويه إلى الجملة الاسمِيَّة بأنَّها «جملة واجبة» ) (3)، التي تعني عنده أنَّها «جملة خبرِيِّة تحتمل الصدق والكذب» ) (4).

وفي بعض الأحيان تتضافر بقية مكونات سياق الحال مع المُتَكَلِّم والمخاطب في تحديد الخبر وتحديد دلالته الخبرِيِّة، وفي أَنَّهُ يحمل فائدة للمخاطب. يقول سيبويه:«وتقول: «قد جربتك؛ فوجدتُك أنت أنت» . فأنت الأولى مبتدأة والثانية مبنية عليها، كَأَنَّك قلت: فوجدتك وجهُك طليقٌ. والمعنى أَنَّكَ أردت أَنْ تقول: فوجدتك أنت الذي أعرف. ومثل ذلك: أنت أنت، وإن فعلت هذا فأنت أنت، أي فأنت الذي أعرف

كما تقول: الناس الناس؛ أي: الناس بكل مكان وعلى كل حال كما تعرف») (5).

إن الكلمتين «أنت أنت» قد تكونان في سياق آخر مجرد توكيد لفظي، ولَكِنَّهما في سياق ما مع حسن سكوت المُتَكَلِّم قد تكونان جملة مفيدة تحمل فائدة للمخاطب.

(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 181، وينظر الموضع: 2/ 176، 1/ 417، وقد استخدم سيبويه حسن السكوت في تصحيح كثير من التراكيب اللُّغَوِيَّة في عدد من الأبواب النَّحْوِيَّة مثل النداء 2/ 188 ومع باب الفاء ووظائفها 3/ 69، وباب المنفي المضاف بلام الإضافة 2/ 281 وسبق أن أشرنا في الفصل السابق أن المُتَكَلِّم وحسن سكوته لعبا دورا في التوجيه النحوي وفي إثرائه.

(2)

سيبويه: الكتاب، 2/ 141

(3)

ينظر: سيبويه: الكتاب، 2/ 146

(4)

د. محمد إبراهيم عبادة: معجم مصطلحات النحو والصرف والعروض والقافية، ص 295

(5)

سيبويه: الكتاب، 2/ 359

ص: 195

في ختام هذه الجزئيَّة نشير إلى أمر مثير للانتباه هنا ويستحق التسجيل وهو أَنَّهُ من الألفاظ أو المصطلحات التي ذكرها سيبويه في وصفه العلاقة بين المبتدأ والخبر مصطلح «البناء» ، فكثيرا ما أشار إلى أَنَّ الخبر «يُبْنَى» أو «مبنيٌّ» على المبتدأ، فقال مثلا في عنوان أحد أبوابه «هذا باب ما يرتفع فيه الخبر لأنَّهُ مبنىٌّ على مبتدأ» ) (1)، وهذا المصطلح الذي تكرر عدة مرَّات له دلالته عند صاحب الكتاب وله مغزاه، ولم يكن اختياره له اعتباطيا ولا خبط عشواء، تلك الدِّلَالَة وهذا المغزى يتمثل في:

- أن البناء لا يكون دفعة واحدة، بل يبدأ بلبنة وبعدها لبنة إلى أَنْ يكتمل البناء، وكذلك الجملة.

- كما أَنَّ البناء لا بد أَنْ يكون ثابتا على أرض محدَّدة وذي شكل مُحَدَّد وكذلك الجملة تتطلَّب قدرا مُحَدَّدا من المعرفة تنطلق منه. فالبناء لا يكون في فراغ، ولا على مساحة لا متناهية من الأرض، بل يحتاج البناء إلى مساحة محدَّدة للبناء عليها، والمبتدأ يحتاج إلى أَنْ يكون محددا وليس مطلقا مبهما حتى يتمكَّن المُتَكَلِّم من البناء عليه.

- ويتطلب البناء أيضا إرادة واعية حتى تضع تصاميمه وتخرجه بشكل منتظم جميل يسرُّ الناظرين، وكذلك الجملة.

- كما أَنَّ الباني لا يبني شيئا بلا هدف ولا غاية وكذلك الجملة يهدف بها المُتَكَلِّم شيئا يبغي تحقيقه) (2).

- والبناء قد يكون طابقا وقد يكون عدة طوابق، ولا يمكن الوصول للطوابق العليا بدون الطوابق السفلى، وكذلك الجملة في معانيها المختلفة؛ فلكي نمر بتلك المعاني العليا السِّياقِيَّة للجملة لابد أَنْ نمرَّ أولا بالمعاني السفلى: معاني الألفاظ المفردة، معاني الأوزان الصَّرْفِيَّة، المعاني النحوِيَّة) (3).

(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 86

(2)

وفكرة البناء هذه كانت من الأدوات التي استخدمها سيبويه في تحديد الوظائف النَّحْوِيَّة لبعض الألفاظ، فمثلا ألفاظ التوكيد لا تكون ((مبتدأ)) أو ((خبر)) في الغالب يبنى عليها و ((لأنها إِنَّمَا توصف بها الأسماء، ولا تبنى على شيء)).2/ 116، كما تتردد كلمة البناء مع بنية الكلمة، فيقال الأبنية الصرفِيَّة.

(3)

ومما هو جدير بالملاحظة أن هذا المصطلح قد استخدمه النُّحَاة من بعد سيبويه، ونجد مثلا الزمخشري يستخدمه في تخريجاته النَّحْوِيَّة في تفسيره الكشاف، فقال مثلا في قوله تعالى:{وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} البقرة: 4: ((وفي تقديم الآخرة وبناء يوقنون على هم تعريض بأهل الكتاب)). الكشاف: 1/ 43

ص: 196