الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مبغضٌ، وأنك مشتهٍ. فإنْ عنيت قلت: ما أفعله، إِنَّمَا تعني به هذا المعنى. وتقول: ما أمقته وما أبغضه إلي، إِنَّمَا تريد أَنَّهُ مقيتٌ، وأنَّه مبغضٌ إليك») (1).
والفرق الدِّلَالِيّ الذي يريد سيبويه أَنْ يثبته في صيغة اسم التفضيل هذه، هو أَنَّ «كلّ ما كان بـ) اللاّم (فهو للفاعل، وما كان بـ) إلى (فهو للمفعول؛ فإذا قلتَ: ما أبغضني له، فأنت المُبْغِضُ الكارهُ، وإذا قلتَ: ما أبغضني إليه، فأنت المَبْغُوضُ المَكْرُوه» ) (2). ولا شكَّ أنَّ اختيار التركيب المناسب يتوقف على ما يدور في نفس المتكلم وسياقه.
***
4 ــ أسلوب النداء:
أسلوب النداء من الأساليب التي تتصل بسياق الحال، وهو من ألصق الأساليب به. وهو أسلوب لا بدَّ أَنْ يكون بين طرفين:«مُنَادَى» ، «مُنادِي» .
وأُوْلَى الملحوظات المُهِمَّة التي يسجلها سيبويه عن النداء، أَنَّهُ الأسلوب الذي يُبْدَأُ به الكلام أبدا. فما من كلام يبدأ إلا بالنداء. يقول في نصّ مُهِمّ وخطير:
هذا النَّصّ من النصوص التي يجب أَنْ تسترعي انتباه الباحثين دراسة وفهمًا. إِنَّ مما يبوح به هذا النَّصّ أَنَّ الاستخدام الأساسي للنداء هو «عطفُ المُكَلَّم للمتكلم» ؛ وهذا يعني أَنَّ أي كلام لا بد أَنْ يكون له طرفان: «مُنَادَى مخاطب» ، «مُنادِي متكلم» . والحوار الذي يدور بين متكلم ومخاطب لا بد أَنْ يسبق بسياق يجمع بين الطرفين؛ إذ لا يعقل أَنْ يتكلم شخص مع شخص آخر بدون سبب سِياقِيّ، لذلك قال الرَّضِيّ:«النداء ليس مقصودا بالذات، بل هو لتنبيه المخاطب ليصغي إلى ما يجئ بعده من الكلام المنادى له» ) (4).
(1) سيبويه: الكتاب، 4/ 99 ــ 100
(2)
ابن الصائغ: اللمحة في شرح الملحة، ت: إبراهيم سالم الساعدي، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط 1، ) 1424 هـ ــ 2004 م (، 1/ 515
(3)
سيبويه: الكتاب، 2/ 208
(4)
شرح الرَّضِيّ على كافية ابن الحاجب، القسم الأول ص 486
وقد قررنا عند الحديث عن الجملة الاسمِيَّة أنَّ المُتَكَلِّم لا بدَّ أَنْ يبدأ بـ «الأعرف» بينه وبين المخاطب لكي ينجح الاتصال بين المُتَكَلِّم والمخاطب ولكي ينمو الكلام ويتطور. أي لا بد أَنْ تكونَ هناك «نقطة لقاء معرفية» تجمع بين الطرفين لبدء الكلام، ولا بدَّ أَنَّ للسياق دورا في تحديد نقطة اللقاء المعرفيَّة هذه.
ومما يؤكده هذا النَّصّ أيضا أَنَّهُ لا يوجد كلام يُلْقَى في الفراغ بدون سياق وإلا كان عبثا.
ويدأب سيبويه في نصوص متعددة ومواضع مختلفة على تأكيد طِدَة العلاقة بين النداء والسِّياق، فهو يقرِّر أَنَّ أسلوب النداء «لا يجوز إلا لحاضر») (1)؛ أي:«لا ينادى إلا الحاضر» ) (2).
ويرصد علاقة السِّياق بأحرف النداء نفسها. فهو يحدد ابتداء أحرف النداء بأنَّها: «يا، أيا، هيا، أي، الألف» ، ويقسمها إلى قسمين: قسم يضم «يا، أيا، هيا، أي» ، وحدد استعمالها في أنَّها تستعمل إذا أراد المُتَكَلِّمون «أَنْ يمدوا أصواتهم للشيء المتراخى عنهم، والإنسان المعرض عنهم، الذي يَرَون أَنَّهُ لا يُقبل عليهم إلا بالاجتهاد، أو النائم المستثقَل. وقد يستعملون هذه التي للمد في موضع الألف ولا يستعملون الألف في هذه المواضع التي يمدون فيها. وقد يجوز لك أَنْ تستعمل هذه الخمسة
…
إذا كان صاحبك قريبا منك، مقبِلاً عليك، توكيدًا. وإن شئت حذفتهن كلهن استغناء
…
، وذلك أَنَّهُ جعلهم بمنزلة مَن هو مقبِلٌ عليه بحضرته يخاطبه») (3).
يحدد سيبويه في هذا النَّصّ استخدام أدوات النداء «يا، أيا، هيا، أي» في الحالات التالية:
• الشيء المتراخي البعيد عن المنادِي.
• الإنسان المعرض عن المنادِي الذي يرى أَنَّهُ لا يقبل عليه إلا باجتهاد.
• النائم المستثَقل.
وهذه كلها أغراض مرتبطة بسياق الحال كما هو واضح، وخاصة الغرض الثاني، فالمُتَكَلِّم المنادِي سيستخدم هذه الأدوات إذا علم مسبقا ومن خلال سياق فائت أَنَّ المخاطب المنادَى معرضا عنه لسبب ما، وأنه يحتاج إلى كثير من الاجتهاد لكي يُقبل على المُتَكَلِّم ويسمع منه؛ أي أَنَّ استخدام هذه الأدوات قد يعكس جانبا نفسِيّا مما عليه المخاطب المنادَى.
وبالطبع فَإِنَّ أداة النداء «أ» تستخدم في عكس ما سبق؛ أي: تستخدم في: القريب من المُتَكَلِّم، المقبل عليه، النشيط المستيقظ.
(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 236
(2)
الحاشية ذات الرَّقْم 6 من تحقيق أ / هارون، 2/ 236
(3)
سيبويه: الكتاب، 2/ 230
ويجوز كما أشار سيبويه استخدام القسم الأول مكان أداة النداء «أ» وذلك لغرض بلاغي هو «التأكيد» . وقد علمنا مسبقا مدى ارتباط التوكيد بالسِّياق) (1).
ونسجل هنا ملحوظة بسيطة تشير إلى أَنَّ بعض العلماء خرجوا على تقسيم سيبويه الثنائي لأدوات النداء) قريب وبعيد (، وقالوا بتقسيم رباعي، فقالوا:
• أيا، هيا: للبعيد.
• الهمزة، للقريب.
• أي، للمتوسط.
• يا، للجميع) (2).
ونعتقد أَنَّ هذه التقسيمات سواء أكانت ثنائية أم ثلاثِيَّة أم رباعِيَّة تخضع في المقام الأول والأخير لسياق الحال الذي يقال فيه الأسلوب، فهو الفيصل الأخير في هذه المسألة.
وترتبط أداة النداء «يا» بنمط مُعَيَّن من السِّياقات، هي السِّياقات الاستغاثية والتعجبية، فهي لازمة لهذا النمط لا تفارقه على حد تعبير سيبويه الذي يقول:«وأما المستغاث به فيا لازمة له؛ لأنَّهُ يجتهد. فكذلك المتعجَّب منه، وذلك: يا لَلناس ويا لَلماء. وإِنَّمَا اجتهد لأَنَّ المستغاث عندهم متراخ أو غافل والتعجب كذلك» ) (3).
وهذا الربط لأداة النداء «يا» من أدوات النداء بـ «أسلوب الاستغاثة أو التعجب» لا بد أَنْ يكون بعد تقصي سيبويه للنصوص في السِّياقات الحَيَّة المنطوقة.
ويظهر سؤال منطقي هنا هو: لماذا تختص «يا» من بين أدوات النداء بـ «أسلوب الاستغاثة أو التعجب» ؟
قد يكون السبب في هذا أَنَّ الأداة «يا» هي الأنسب «صوتيا» للاستغاثة أو التعجب؛ حيث تنتهي هذه الأداة بألف المد التي تسمح بإطلاق الدفقة الصَّوْتِيَّة العفوية التلقائية غير الإرادية التي لا تحتاج إلى مراجعة ذهنية الناتجة عن التعجب أو الاستغاثة دفعة واحدة وبمقطع واحد طويل مفتوح) صامت + حركة طويلة (، وهو ما لا تسمح به الأداة «أَيْ» التي لا تنتهي بحرف مد يسمح
بـ «تنفيس» دفقة التعجب أو الاستغاثة، ولا الأداة «أَ» التي لا تسمح باكتمال هذه الدفقة الاستغاثية
(1) وقال ابن مالك في شرح التسهيل 3/ 386 ((وكون الهمزة للقريب، وما سواها للبعيد هو الصحيح؛ لأنَّ سيويه أخبر بذلك رواية عن العرب)).
(2)
نقل هذا التقسيم الشيخ خالد الأزهر في ((التصريح بمضمون التوضيح)) عن ابن بَرْهَان. ينظر الكتاب بتحقيق د. عبد الفتاح بحيري إبراهيم، ط 1، ) 1997 م (، 4/ 8
(3)
سيبويه: الكتاب، 2/ 231
التعجبية، ولا الأداتان «أيا، هيا» التي ستجعل المُتَكَلِّم ينطق بمقطعين: مقطع قصير مفتوح «أَ، هَ» ) صامت + حركة قصيرة (+ مقطع طويل مفتوح «يا») صامت + حركة طويلة (. وهذا الانتقال المقطعي يعوق الدفقة الصَّوْتِيَّة التلقائية العفوية اللاإرادية المعبِّرة عن التعجب أو الاستغاثة.
هذا بالإضافة إلى ما يقرره علماء اللغة المحدثون من أن «الأصوات الصامتة أقل وضوحا في السمع من أصوات المد واللين، وأن أبرز خاصية من خواص أصوات المد) الحركات الخالصة (هي قوة الوضوح السمعي
…
ولعله لذلك نجد أن المدود ــ بجميع أنواعها ــ لها مكانة خاصة في تجويد تلاوة القرآن، وأنها هي التي تعطي الفرصة للقارئ الذي يريد أن يظهر تفوقه أو قوة صوته بسبب تمكنه من إطلاق النفس مع هذه الأصوات في حرية تامة. ثم إن ألف المد ــ بوجه خاص ــ هي أقوى هذه الأصوات وضوحًا؛ لأن ظاهرة حرية مرور الهواء وانطلاقه أثناء النطق بها تكون أوضح ما تكون») (1). والنفس «أثناء النطق بالفتحة الطويلة) طا ــ ها ــ حا
…
(يبلغ أقصى درجات انطلاقه وحريته؛ مما يعطي الصوت قوة ويسلمه إلى الحرف التالي قويا كذلك»)(2).
وإذا استأنسنا باللُّغَة العامية في هذا نجد أَنَّ هذه الأداة «يا» هي الأداة الطبيعِيَّة التلقائية التي تعبِّر عن الاستغاثة أو التعجب.
ونكمل حديثنا عن النداء فنقول: يتطرق سيبويه في بعض المواضع إلى الأغراض السِّياقِيَّة التي يمكن أَنْ يقوم بها أسلوب النداء، فيشير إلى أَنَّهُ قد يأتي:
1 ــ لتنبيه المنادَى ولفت انتباهه لأمر أو نهي أو إخبار المنادِي:
يقول: «وأما ((يا)) فتنبيه. ألا تراها في النداء وفي الأمر كَأَنَّك تنبِّه المأمور» ) (3). ويقول: «ولا تدخل ((يا)) ها هنا) أي: أسلوب الاختصاص (؛ لأَنَّكَ لست تنبه غيرك» ) (4).
ويشير إلي أَنَّ من وظيفة النداء إيصال أمر أو نهي أو إخبار المُتَكَلِّم المنادِي إلى المنادى. يقول: «
…
كما المنادَى مختص من بين أمته لأمرك ونهيك أو خبرك») (5).
(1) د. السيد عبد المقصود جعفر: الفواتح الهجائية وإعجاز القرآن، دار الطباعة والنشر الإسلامي، ط 1) 1992 م (، ص 128 ــ 129
(2)
السابق: ص 157
(3)
سيبويه: الكتاب، 4/ 224
(4)
سيبويه: الكتاب، 2/ 232
(5)
سيبويه: الكتاب، 2/ 231 ــ 232
ومن الطريف واللافت للنظر أَنَّ سيبويه لم يسم أدوات النداء بأدوات النداء، بل سماها بـ «هذا باب الحروف التي يُنَبَّه بها المدعوُّ» ) (1). وكونه يجعل التنبيه في العنوان المحدِّدَ لهذه الحروف، فَإِنَّ هذا يشير إلى أهمِيَّة هذه الحروف في هذا الغرض، وأنَّ جُلَّ استعمالها له.
2 ــ التوكيد: وقد يأتي أسلوب النداء للتوكيد. يقول: «كما تقول للذي هو مقبلٌ [عليك] بوجهه مستمعٌ منصِتٌ لك: كذا كان الأمر يا أبا فلان، توكيدًا» ) (2).
وعند مناقشته لعدم كون الكاف من الأسماء) الضمائر (مع لفظة ((رويد)) أشار في معرض الحديث عن غرض التوكيد للنداء. يقول: «وممّا يدلّك على أَنَّهُ ليس باسمٍ قولُ العرب: أَرَأَيْتَكَ فلانًا ما حالُه، فالتاءُ علامة المضمر المخاطَب المرفوع، ولو لم تُلحِق الكافَ كنتَ مستغنيًا كاستغنائك حين كان المخاطَبُ مقبِلاً عليك عن قولك: يا زيدُ، ولحَاقُ الكاف كقولك: يا زيدُ، لمَنْ لو لم تَقُلْ له يا زيدُ استغنيتَ. فإِنَّما جاءت الكاف فى أَرأيتَ والندَّاءُ فى هذا الموضع توكيدًا» ) (3).
نفهم من هذا الكلام أَنَّهُ إذا أتى أسلوب النداء وكان المخاطب مقبلا على المُتَكَلِّم؛ فَإِنَّ الوظيفة التي يقوم بها النداء في هذه الحالة هي تأكيد الكلام. إذن من المعاني التي يؤديها أسلوب النداء التوكيد بشرط قرينة سياق الحال، وأنَّ من علامة أسلوب النداء الذي يأتي للتوكيد صحة الاستغناء عنه من الكلام. كما نفهم من النَّصّ أَنَّهُ لا داعي لاستعمال أسلوب النداء إذا كان المخاطب مقبلا على المُتَكَلِّم.
3 ــ التعجب والاستغاثة:
أيضا من الوظائف والأغراض التي يمكن أَنْ يؤدِّيها أسلوب النداء التي يمكن أَنْ تُضَمَّ إليه «التعجب والاستغاثة» . يقول: «وقالوا: يا لَلعجب، ويا لَلفليقة؛ كَأَنَّهم رأوا أمرا عجبا
…
، وقالوا: يا لَلعجب ويا لَلماء، لما رأوا عجبا أو رأوا ماء كثيرا، كَأَنَّه يقول: تعالَ يا عجبُ») (4).
ومن اللافت للنظر أَنَّ التركيب: «يا + اللام المفتوحة + اسم محلى بأل» يصح في سياق ولا يصح في سياق آخر، فهو يصح في سياق التعجب ولا يصح في غير هذا. يقول:«كل هذا في معنى التعجب والاستغاثة، وإلا لم يجز. ألا ترى أَنَّكَ لو قلت يا لَزيد وأنت تحدثه لم يجز» ) (5).
(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 229
(2)
سيبويه: الكتاب، 2/ 232
(3)
سيبويه: الكتاب، 1/ 245
(4)
سيبويه: الكتاب، 2/ 217
(5)
سيبويه: الكتاب، 2/ 218 ويشير في موضع ثان إلى أن المنادَى الذي يأتي مع بدله مثل ((تيمُ تيم عدي)) لا يجوز استعمال مثل هذا الكلام إلا في أسلوب نداء، يقول: ((وإن شئت قلت: لا غلامين ولا جاريتين لك، إذا جعلت لك خبرا لهما،
…
، وكذلك إذا قلت: لا غلامين لك وجعلت لك خبرا، لأنَّهُ لا يكون إضافة وهو خبرٌ لأنَّ المضاف يحتاج إلى الخبر مضمَرًا أو مظهَرًا. ألا ترى أنه لو جاز تيمُ تَيمُ عدى في غير النداء لم يستقم لك إلا أن تقول ذاهبون))، 2/ 282
وإشارة سيبويه «وأنت تحدثه» مثيرة للاهتمام، ويفهم منها أَنَّ التركيب «يا + اللام المفتوحة + اسم محلى بأل» لكي يكون للتعجب والاستغاثة لا يجوز إذا كان المتعجب منه أو المستغاث به شخصا موجودا أمام من يقوم بالتعجب والاستغاثة. فكَأَنَّ سيبويه يضع شرطا سياقيا إضافيا ضمنيا لهذا التركيب وهو: أَنَّ هذا الأسلوب أو التركيب لا يصح، إذا كان المستغاث أو المتعجب منه موجودا أمام من يستغيث.
وفي هذا النَّصّ دليل على أهمِيَّة السِّياق في تحديد صحة التركيب النَّحْوِيّ وعدم صحته.
تلك كانت أهم الأغراض الدِّلالِيَّة السِّياقِيَّة التي يمكن أَنْ يؤديها أسلوب النداء.
ومن الأمور المتصلة بالنداء وسياق الحال ــ «النكرة» التي تأتي في أسلوب النداء كمنادَى. فهذه الكلمة النكرة تتحول من التنكير إلى التعريف فتصبح معرفة بمجرد دخولها في أسلوب النداء. فالسِّياق الذي يأتي فيه النداء وتكون فيه النكرة منادَى كفيل بـ ((تحديد)) دائرة هذه النكرة وتضييقها، ونقلها من العمومية إلى هذا التحديد. يقول: «وزعم الخليل ــ رحمه الله ــ أَنَّ الألف واللام إِنَّمَا منعهما أَنْ يدخلا في النداء من قبل أَنَّ كل اسم في النداء مرفوع معرفة. وذلك أَنَّهُ إذا قال: يا رجل ويا فاسقُ، فمعناه كمعنى يا أيُّها الفاسقُ، ويا أيها الرجل، وصار معرفة لأَنَّكَ أشرت إليه وقصدت قصدَه، واكتفيت بهذا عن الألف واللام، وصار كالأسماء التي هي للإشارة نحو لهذا وما أشبه
ذلك وصار معرفة بغير ألف ولام لأَنَّكَ إِنَّمَا قصدت قصدَ شيء بعينه») (1).
من خلال هذا الكلام وما سبقه نستطيع أنْ نقول إِنَّ تحديد كون الكلمة نكرة أو معرفة ــ بوجه عام ــ يتوقَّف على السِّياق؛ فالسِّياق هو الذي «يُنكِّر» وهو الذي «يُعَرِّف» .
ويتصل سياق الحال بالنداء من جهة أخرى، وهي جهة حذف الفعل العامل في المنادى، هذا الفعل الذي حُذِف «لكثرة استعمالهم هذا في الكلام، وصار ((يا)) بدلا من اللفظ بالفعل؛ كَأَنَّه
قال: يا، أريد عبد الله، فحذف أريد، وصارت ((يا)) بدلا منها؛ لأَنَّكَ إذا قلت: يا فلانُ؛ علم أَنَّكَ تريده») (2)؛ أي أَنَّ الحذف دلَّ عليه دليل من السِّياق الحالي الذي يقال فيه الجملة. وقد أشرنا عند الحديث عن الحذف أَنَّهُ لكثرة الاستعمال مرتبط بالسِّياق بوجه من الوجوه.
ويلعب السِّياق أيضا دورا في تحديد طبيعة المنادى هل هو ــ كما قال النُّحَاة اللاحقون ــ
«نكرة مقصودة» أم «نكرة غير مقصودة» . ففي قول الشاعر:
(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 197
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 291
أَدارًا بِحُزوى هِجتِ لِلعَينِ عَبرَةً
…
فَماءُ الهَوى يَرفَضُّ أَو يَتَرَقرَقُ [بحر الطويل]
يبرِّرُ سيبويه النصب في المنادَى النكرة «دارا» ؛ لأَنَّها «طالت بما بعدها من الصفة، وهي الجار والمجرور» ) (1). ونصب المنادى النكرة هنا يدل على أَنَّهُ «نكرة غير مقصودة» .
وفي بيت مشابه للبيت السابق هو:
يا دارُ أَقوَت بَعدَ أَصرامِها
…
عامًا وَما يُبكيكَ مِن عامِها [بحر السريع]
نجد المنادَى «دار» مبني على ما يرفع به؛ أي أَنَّهُ هنا «نكرة مقصودة» ، ولا فارق بين المنادي في البيتين، فكلاهما نكرة، وكلاهما متبوع بما يمكن اعتباره نعتا؛ ولكن يمكن لسياق الحال أَنْ يتدخل هنا ويترك التنوين في المنادي في البيت الثاني؛ لأَنَّ الشاعر «لم يجعل ((أقوَتْ)) من صفة الدار ولَكِنَّه قال: يا دارُ، ثُمَّ أقبل بعدُ يحدث عن شأنها، فكَأَنَّه لما قال: يا دارُ، أقبل على إنسان فقال: أقوتْ وتغيّرتْ، وكَأَنَّه لما ناداها قال: إنها أقوتْ يا فلان») (2).
لقد تخيل هنا سيبويه مسرحا لغويا: شاعرا ينادي الدار الماثلة أمامه؛ فلما لم يُجِبْهُ إلا السكوت، أقبل على صديق له يَبُثُّهُ شكواه ويَخُصُّهُ بنجواه.
وتوجيه سيبويه هنا يؤكِّدُ فكرةً سبق أَنْ أشرنا إليها وهي فكرة «التكييف السِّياقي» ، فإِنَّنَا نستطيع أَنْ نُخَرِّجَ إعرابا ما إذا نجحنا في تخيل سياق ما يستوعب هذا التوجيه.
ومما هو قريب من النداء ويتصل بسياق الحال ما يسميه العلماء بـ «الندبة» . ويعرِّفُها العلماء بـ «إعلان المتفجع باسم من فَقده لمَوْت أَو غيبَة» ) (3)، أو هي:«نداء المتفجع عليه لفقده حقيقة أو حكما، أو المتوجع منه لكونه محل ألم، أو سببا له؛ مثل: واعمراه، وارأساه» ) (4).
ويشير بعض العلماء إلى ارتباط الندبة أكثر بالنساء، يقول ابن جني:«اعْلَم أَن الندبة إِنَّمَا وَقعت فِي الْكَلَام تفجعًا على الْمَنْدُوب وإعلامًا من النادب أَنَّهُ قد وَقع فِي أَمر عَظِيم وخطب جسيم وَأكْثر من يتَكَلَّم بهَا النِّسَاء» ) (5).
(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 199، الحاشية ذات الرَّقْم 2 من كلام المحقق.
(2)
سيبويه: الكتاب، 2/ 201
(3)
السيوطي: همع الهوامع، ت: عبد الحميد هنداوي، المكتبة التوفيقية، القاهرة، ) بدون تاريخ للطبعة (، 2/ 65
(4)
د. محمد عبادة: معجم مصطلحات النحو والصرف، 277 ــ 278
(5)
اللمع في العَرَبِيَّة، ت: فائز فارس، دار الكتب الثقافيَّة، الكويت، ) بدون تاريخ للطبعة (، ص 120، وتابع ابن جني في هذا أبو البركات الأنباري في أسرار العَرَبِيَّة، فقال: ((إِنَّ قال قائل: ما النُّدبة؟ قيل: تفجُّع يلحق النَّادبَ عند فقد المندوب، وأكثر ما يلحق ذلك النساء لضعفهن عن تحمل المصائب)). ص 183، وربط ابن جني والأنباري هذا الأسلوب في غالب استعمالاته بالنساء يدل على أن علماءنا القدامي ــ وليس سيبويه فقط ــ كانوا يتتبعون التراكيب النَّحْوِيَّة في سياقاتها المختلفة، ويحددون الدلالات السِّياقيَّة العامة المرتبطة بهذا التركيب، وليس هذا فقط بل أنهم يحددون أي الجنسين من النساء والرجال يختص بهذا الأسلوب أو التركيب. ويشير هذا الكلام أيضا أن طبيعة المُتَكَلِّم من حيث كونه ذكرا أو أنثى قد يؤثِّر على الكلام.
ويظهر من كلام العلماء السابق، وكلام سيبويه اللاحق عن هذا الأسلوب أَنَّهُ واقع لا محالة تحت سيطرة سياق الحال، ودليل هذه السيطرة أَنَّنا لا نندب باسم «مبهم» ، مثل: رجل أو هذا؛ ففي الندبة يجب أَنْ «يُخَص» الاسم المندوب؛ لأَنَّها بيان؛ ولأَنَّ التبيين في الندبة عذر للتفجع، فالندبة تقتضي موقفا فيه تفجُّع وألم من شيء مُحَدَّد وقع للنادب. يقول سيبويه «وذلك قولك: وارَجُلاه ويا رُجلاه. وزعم الخليل رحمه الله ويُونُس أَنَّهُ قبيح، وأنَّه لا يقال. وقال الخليل رحمه الله: إِنَّمَا قبح لأَنَّكَ أبهمت. ألا ترى أَنَّكَ لو قلت واهذاه، كان قبيحا، لأَنَّكَ إذا ندبت فَإِنَّما ينبغي لك أَنْ تفجع بأعرف الأسماء، وأنْ تخص ولا تُبهم؛ لأَنَّ الندبة على البيان
…
، وإِنَّمَا كرهوا ذلك أَنَّهُ تفاحَش عندهم أَنْ يختلطوا وان يتفجعوا على غير معروف. فكذلك تفاحش عندهم في المبهَم لإبهامه؛ لأَنَّكَ إذا ندبت تُخبر أَنَّكَ قد وقعت في عظيم، وأصابك جسيمٌ من الأمر، فلا ينبغي لك أَنْ تُبهم») (1).
وقال أيضا: «وزعم أَنَّهُ لا يستقبح وامَن حفر بئر زَمزماه؛ لأَنَّ هذا معروف بعينه، وكَأَنَّ التبيين في الندبة عذر للتفجع. فعلى هذا جرت الندبة في كلام العرب، ولو قلت هذا لقلت وامن لا
يعنيني أمرُهوه. فإذا كان ذا تُرك لأنَّهُ لا يُعذر على أَنْ يُتفجّع عليه، فهو لا يُعذر بأن يتفجع ويُبهم، كما لا يُعذر على أَنْ يتفجع على من لا يعنيه أمره») (2).
إن تأكيد سيبويه على تحديد المندوب أمر في منتهي المنطقية؛ إذ كيف يندب النادب مندوبا لم يكن بينه وبين هذا المندوب أَيَّة علاقة بل ليست أَيَّة علاقة، إنَّها علاقة في غاية الحميمية والارتباط، تجعل القلب ينتفض، والعين تدمع لفراق من أحبَّهم.
وإن شرط عدم الإبهام أيضا فيه مراعاة لجانب المخاطب؛ إذ إِنَّ إبهام المندوب سيوقع المخاطب في لبس، وستتأخر مشاركته الوجدانية التي يحتاجها النادب.
(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 227
(2)
سيبويه: الكتاب، 2/ 228
ومن الحروف التي خصصتها اللُّغَة للندبة «وا» ، وهو حرف لا يندب به «إلا المعرفة، أو المضاف إلى معرفة، أو الموصول المشهور بصلته الخالي من ((أل))» ) (1). وهذا يتسق مع كون الندبة لا تكون إلا معرفة مخصصة بالنسبة للنادب.
ومما يقرره النُّحَاة عن هذا الحرف أَنَّهُ لا يصح حذفه) (2)؛ لأنَّهُ أصبح كالعلم على معنى الندبة أو الاستغاثة) (3)؛ أي أَنَّ هذا الحرف «وا» مرتبط في ذهن متكلم اللُّغَة بهذا المعنى، معنى الاستغاثة والندبة، فبمجرد ذكره يستصحب ويُستحضَر هذا المعنى. ونلاحظ مدى المناسبة الصَّوْتِيَّة بين هذه الأداة التي تنتهي بألف المد وبين حالة الندب أو الاستغاثة.
وللمندوب استعمالات ثلاثة: «أَنْ يعامل معاملة المنادى
…
، أَنْ تزاد ألف على آخر المندوب تسمى ألف الندبة
…
، أَنْ تزاد هاء السكت بعد ألف الندبة عند الوقف، نحو: واخالداه، واصلاح الدنياه، وامن فتح الأندلساه») (4). وقد تزاد أيضا بعد الاسم المندوب بالإضافة للألف الواوُ والياء، مثل:«وواغلامَهُوه، ووا ذهاب غلامهيه» ) (5).
ومن الواضح إِنَّ الزيادات التي تزاد على آخر المندوب مرتبطة بإرادة المُتَكَلِّم الموجود حتما في سياق ما. وهذا ما يبرزه سيبويه في قوله: ((وقد يلحقون في الوقف هذه الهاء الألف التي في النداء؛ والألف والياء والواو في الندبة؛ لأنَّهُ موضع تصويت وتبيين، فأرادوا أَنْ يمدوا فألزموها الهاء في الوقف لذلك، وتركوها في الوصل؛ لأنَّهُ يستغنى عنها كما يستغنى عنها في المتَحَرُّك في الوصل لأنَّهُ يجيء ما يقوم مقامها. وذلك قولك: يا غلامان، ووازيداه، وواغلامهوه، وواذهاب غلامهيه»)(6).
إن زيادة الواو والياء مع الاسم المندوب مرتبطة برغبة المُتَكَلِّم في «التصويت والتبيين» ؛ فقام لذلك بـ «مد الصوت» . ولا شك أَنَّ النادب لا يريد أَنْ يصوت أو يبين إلا للتنفيس عن حالته النفسِيَّة الواقعة تحت ألم الموقف أو الحال.
***
(1) د. علي توفيق الحمد: معجم أدوات النحو العربي، ص 361، ويشير المؤلف أن الحرف ((وا)) قد يفيد الاستغاثة والندبة في آن واحد، يعرف ذلك من السِّياق والقرائن، كما تقول المرأة العَرَبِيَّة: وامعتصماه.
(2)
السابق، ص 361
(3)
سيبويه: الكتاب، 2/ 420
(4)
د. علي توفيق الحمد: معجم أدوات النحو العربي، ص 361
(5)
سيبويه: الكتاب، 4/ 166
(6)
سيبويه: الكتاب، 4/ 165 ــ 166