الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدخول») (1). والتحقير الذي أشار إليه سيبويه في هذه الجملة سببه استخدام الأداة «إنما» التي تجئ لتحقير الخبر، يقول ابن السراج:«والفرق بين إنّ وإنَّما في المعنى أنَّ إنَّما تجيء لتحقير الخبر» ) (2). ويُزيد ابن يعيش معنى هذه الأداة إيضاحا بقوله: «وهي مكفوفة العمل على ما ذكرنا، ومعناها التقليل، فإذا قلت: «إنما زيد بزاز؟ » فأنت تقلل أمره، وذلك أنَّك تسلبه ما يدعى عليه غير البز») (3). ويشير سيبويه أَنَّهُ في الجملة السابقة التي تعبر عن الاحتقار «يقبح الرفع» ) (4)؛ لأَنَّ الرفع لا يتناسب مع سياق الاحتقار، فالرفع يدل على الحالِيَّة؛ أي أَنَّ المُتَكَلِّم قد دخل المدينة بالفعل والإنسان لا يحتقر شيئا بلغه غايته وحققها له.
إن سياق الحال يلعب دورا واضحا مع أداة نصب الفعل المضارع حتى، ويحدد الأوجه الإعرابِيّة للفعل بعدها، فهو الضابط العام لكل هذا، ومن خلاله يتم تحديد الدِّلَالَة الزَّمَنِيَّة والدِّلَالَة المعنوِيَّة.
-
المفعول المطلق:
يتصل المفعول المطلق بالجملة الفعلِيَّة من حيث ارتباطه في معظم حالاته بأحد أركانها الأساسيَّة الفعل، ويعرِّفه العلماء بأنَّه «المصدر الفضلة المؤكِّد لعامله أو المبين لنوعه أو لعدده» ) (5). والعامل «تارة يكون فعلا، وتارة وصفا، وتارة يكون مصدرا» ) (6). وتتمثل علاقة المفعول المطلق بسياق الحال من خلال وظيفته التي يؤدِّيها، وظيفة التوكيد. تلك الوظيفة التي تدخل في تعريفه نفسه، فالعلماء اتخذوا من وظيفته محددًا ليحدوه بها. حتى وإن أتي المفعول المطلق مبينا للنوع أو العدد؛ فلا بد في كل الحالات أَنْ يكون التوكيد حاضرًا، يقول العلماء:
(1) سيبويه: الكتاب، 3/ 22
(2)
الأصول في النحو، 1/ 234
(3)
شرح المفصل، 4/ 522
(4)
سيبويه: الكتاب، 3/ 22 ــ 23
(5)
ابن هشام: شرح شذور الذهب، ص 225
(6)
محمد محيي الدين عبد الحميد: تنقيح الأزهرية، ص 146
(7)
عباس حسن: النحو الوافي، 2/ 209
لذلك اكتفى بعض العلماء في تعريف المفعول المطلق بأنَّه: «المصدر الفضلة المؤكد
لعامله») (1). ولم يوضحوا علاقة هذا المعنى بالسِّياق) (2).
(1) د. محمد إبراهيم عبادة: معجم مصطلحات النحو، ص 243
(2)
ونحب قبل إبراز حديث سيبويه عن التوكيد الذي يعطيه ويُقَدِّمه المفعول المطلق أن نسهب القول بعض الشيء عن التوكيد نفسه، وذلك لاستيضاح علاقة سياق الحال بالتوكيد عامة، وأيضا لاحتياجنا إليه في هذا الموضع، وعند حديثنا ــ إِنْ شاء الله ــ عن التوابع.
درس علماء اللُّغَة التوكيد ووظيفته وأشكاله في الكلام، وبعد دراستهم له قالوا:
»
قال ابن منظور في مادة ((وكد)): ((قال أبو العباس: التوكيد دخل في الكلام لإخراج الشك، وفي الأعداد لإحاطة الأجزاء، زمن ذلك أن تقول: كلمني أخوك؛ فيجوز أن يكون كلمك هو، أو أمر غلامه بأن يكلمك. فإذا قلت كلمني أخوك تكليما؛ لم يجز أن يكون المكلم لك إلا هو)). [لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط 3، ) 1414 هـ (، 3/ 466]
» وقال أيضا: ((التوكيد بالمصدر دخل لإخراج الشك
…
، قال أحمد بن يحيي في قوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]: لو جاءت {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى} مُجَرَّدة لاحتمل ما قلنا وما قالوا؛ يعني المعتزلة؛ فلما جاء {تَكْلِيمًا} خرج الشك الذي كان يدخل الكلام)). [لسان العرب، 12/ 524]
» قال الصاغاني: ((التوكيد دخل في الكلام على وجهين: تكرير صريح وغير صريح، فالصريح نحو قولك: رأيت زيدًا زيدًا. وغير الصريح نحو قولك: فعل زيد نفسه
…
وجدوى التوكيد أنك إذا كررت؛ فقد قررت المؤكد وما علق به في نفس السامع، ومكنته في قلبه، وأمطت شبهة ربما خالجته، أو توهمت غفلة وذهابا عما أنت بصدده؛ فأزلته، فَإِنَّ لظان أن يظن حين قلت: فعل زيد، إِنَّ إسناد الفعل إليه تجوز أو سهو)).
[الزبيدي: تاج العروس، مادة ((وكد))، 9/ 320 ــ 321]
» قال الأزهري: ((والعرب تقول: إذا وكد الكلام لم يجز أن يكون التوكيد لغوا، والتوكيد بالمصدر دخل لإخراج الشك)). [تهذيب اللُّغَة: دار إحياء التراث العربي، ت: محمد عوض، بيروت، ط 1، ) 2001 م (، 10/ 148]
» وقال التهانوي: ((التوكيد في اصطلاح أهل العَرَبِيَّة يطلق على التقرير؛ أي جعل الشيء مقررا ثابتا في ذهن المخاطب)). [موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، ت: د. علي دحروج، نقل النص الفارسي إلى العَرَبِيَّة: د. عبد الله الخالدي، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ط 1، ) 1996 م (، 1/ 373]
من مجموع هذه النصوص نستخلص أن وظيفة التوكيد تتمحور حول الأغراض التالية: إزالة الشك من نفس المخاطب، تقرير المؤكد في نفس السامع أو المخاطب، دفع المُتَكَلِّم توهم غفلة في كلامه.
وتثير هذه الأغراض الثلاثة وخاصة الغرض الأول التساؤلات الآتية: هل الشك في الكلام يتولد في بداية الكلام، أم أن الشك يظهر في مرحلة تالية من بدء الكلام؟ ومتى يشعر المُتَكَلِّم أنه في حالة شك؟ هل تظهر أمارات تدل على الشك على المخاطب؟
إن ارتباط الشك بسياق الحال أمر جلي؛ فليس كل ما يقال للإنسان يشك فيه؛ إلا إذا أدت قرائن الحال في المخاطب إلى هذا الشك، مثل: تعبيرات الوجه وتقطيبه، حركة اليدين وحك الرأس، مط الشفتين. وهذا كله يدخل =
إذن من الطرق التي يلجأ إليها المُتَكَلِّم لإفادة التوكيد استخدام المفعول المطلق. وقد نصَّ سيبويه على هذا قائلا: «إِنَّمَا يجئ ذلك على أَنْ تبين أي فعل فعلت أو توكيدًا» ) (1). وعندما يقول سيبويه إِنَّ المفعول المطلق يفيد التوكيد فهذا يستدعي الأغراض التي يأتي لها التوكيد، وهي: إزالة الشك أو تقرير المؤكَّد، أو دفع المُتَكَلِّم توهم غفلة في كلامه.
ومما يتصل بالمفعول المطلق ويرتبط بشكل أو بآخر بسياق الحال حذف عامله. وقد أشار العلماء إلى أَنَّ عامل المصدر المبين للنوع أو للعدد يجوز حذف عامله بشرط وجود دليل مقالي) مرجعه إلى القول والكلام (أو حالي) مرجعه للمشاهدة أو نحوها مما يحيط بالشخص (2) يدل على المحذوف.
أما المصدر المؤكد لعامله فيُحذف عامله وجوبا في مواضع يوضحها ابن عقيل في شرحه قائلا: «يُحذَفُ عاملُ المصدرِ وُجُوبًا إذا ناب المصدر عن فعلٍ استند لاسمِ عينٍ ــ أي: أُخْبِرَ به عنه ــ وكان المصدرُ مكررًا أو محصورًا» ) (3). ويعلِّق الشيخ محيي الدين عبد الحميد على هذا
بقوله: «يشترط لوجوب حذف العامل من هذا النوع أربعة شروط، الأول: أن يكون العامل فيه خبرا لمبتدأ أو لما أصله المبتدأ، والثاني: أنْ يكون المخبر عنه اسم عين؛ والثالث: أنْ يكون الفعل متصلا إلى وقت التكلم، لا منقطعا، ولا مستقبلا، والرابع أحد أمرين: أولهما أن يكون المصدر مكررا أو محصورا، كما مثل الشارح، أو معطوفا عليه، نحو: أنت أكلا وشربا
…
.») (4).
ويُهمُّنا هنا الشرط الثالث من كلام الشيخ محيي الدين، فهو شرط سِياقِيّ في المقام الأول.
= في إطار ما يسمى بـ ((لغة الجسد Body Language)) . [ينظر أحد المراجع المُهِمَّة في هذا الأمر: آلان وباربارا بييز: لغة الجسد، مكتبة جرير، ط 1، ) 2008 م (]
ولا يقدم المُتَكَلِّم إلى تقرير المؤكد في نفس السامع إلا إذا أحس من خلال ايماءات وإشارات جسدِيَّة مثلا بهذا الشك. وكما أنَّ للشك إيماءات وإشارات جسدِيَّة، فكذلك استيعاب المخاطب لكلام المُتَكَلِّم وفهمه له إشاراته.
بناء على هذا فَإِنَّ حالة الشك التي تتولد في السامع أو المخاطب، التي لابد أنَّها تتولد بعد بداية الكلام هي الأساس التي تجعل المُتَكَلِّم يلجأ إلى أساليب التوكيد المختلفة لإزالة هذا الشك. ولابد أن يكون هذا في وجود سياق الحال. وما نريده هنا هو أن نقرِّر أن سياق الحال هو المسئول ابتداء عن كافة أشكال التوكيد في اللُّغَة، فلولا وجود المُتَكَلِّم والمخاطب وحالة الشك التي ظهرت من خلال السِّياق ما لجأ المُتَكَلِّم إلى أي شكل من أشكال التوكيد.
(1)
سيبويه: الكتاب، 1/ 229
(2)
عباس حسن: النحو الوافي، 2/ 219، وينظر الحاشية ذات الرَّقْم 1
(3)
شرح ابن عقيل: 2/ 181
(4)
السابق، 2/ 181، الحاشية ذات الرَّقْم 1
وما سبق هي الشروط التي ذكر بعضها سيبويه في نصه) (1) التالي بعد مناقشته للأمثال التالية:
» ما أنت إلا سيرًا.
» ما أنت إلا سيرًا سيرًا.
» وما أنت إلا الضرب الضرب.
» وما أنت إلا قتلا قتلا.
» زيدٌ سيرا سيرا.
» أنت الدهر سيرا سيرا.
» كان عبد الله الدهرَ سيرا سيرا.
» أنت مُذُ اليومِ سيرا سيرا.
فالمُتَكَلِّم إذا أراد أَنْ يخبر بأنَّ السير) أو أي مصدر (متصل بعضه ببعض في أيِّ الأحوال كان، وأنَّ هذا السير يحدث في وقت التكلم؛ فله أَنْ يستخدم التركيب الذي تمثِّلُه الجمل السابقة «ما أنت إلا سيرا، وما أنت إلا الضرب الضرب
…
»، وبعبارة أخرى: إذا أراد المُتَكَلِّم أَنْ يبرز أَنَّ هناك مخاطَبا يكثر من ذلك الفعل ويواصله؛ فله أَنْ يلجأ إلى التركيب السابق، الذي فيه يحذف الخبر عامل المصدر، ويقام المصدر مقامه. يقول السيرافي:«إِنَّمَا يقال هذا) أي التركيب السابق (لمن يكثر منه ذلك الفعل ويواصله» ) (3).
أما إذا لم يرد المُتَكَلِّم المعنى السابق، معنى التعبير عن الكثرة والمواصلة؛ فله أَنْ يكتفي بمجرد الإخبار. يقول سيبويه:«وأما قولك: إِنَّمَا أنت سيرٌ؛ فَإِنَّما جعلته خبرًا لـ «أنت» ولم تضمر فعلا») (4).
(1) يرى د. فاضل السامرائي أنَّ شرط حذَف عامل المصدرٍ وُجُوبًا أن ينوب المصدر عن فعلٍ استند لاسمِ عينٍ ــ شرط غير سديد، بل يصح أن يكون غير عين مثل: تقريعًا تقريعا، وما الدهر إلا تقلبا، والامتحان اقترابا اقترابا، والخوف انتشارا انتشارا، وهذه ليست أسماء أعيان. كما يري أن الشرط القائل: أن يكون المصدر مكررا أو محصورا، غير سديد أيضا؛ لأن قولك: محمد سيرا، أصله عند النحاة: محمد سيرا سيرا، حذف فعله جوازا. معاني النحو، 2/ 171، ونلاحظ أنَّ هذين الشرطين لم يردا في نص سيبويه.
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 336
(3)
شرح كتاب سيبويه: 2/ 225
(4)
سيبويه: الكتاب، 1/ 336
وواضح أَنَّ المُتَكَلِّم وهو أحد عناصر سياق الحال، يتحكم في هذه المسألة تحكما، بدليل أَنَّهُ إذا أراد المواصلة والكثرة استخدم التركيب الأول «ما أنت إلا سيرًا» ، وإذا أراد مجرد الإخبار استخدم التركيب الثاني «إِنَّمَا أنت سيرٌ» .
ومن المواضع التي يحذف فيها عامل المصدر أَنْ يكون التركيب في أسلوب إنشائي طلبي. ويراد بالأساليب الإنشائِيِّة الطلبية هنا «ما يكون فيها المصدر المؤكِّد النائب دالا على أمر، أو نهي، أو دعاء، أو توبيخ، والكثير أَنْ يكون التوبيخ مقرونا بالاستفهام» ) (1).
وذكر سيبويه مثالا في حال الاستفهام فقال: «وأما ما ينتصب في الاستفهام من هذا الباب فقولك: أقيامًا يا فلان والناس قعود، وأجلوسا والناس يفرون. لا يريد) المُتَكَلِّم (أَنْ يخبر أَنَّهُ يجلس ولا أَنَّهُ قد جلس وانقضى جلوسه؛ ولَكِنَّه يخبر أَنَّهُ في تلك الحال في جلوس وقيام» ) (2). وذلك على سبيل التوبيخ والإنكار، قال المبرد:«قولك: أقياما وقد قعد الناس لم تقل هذا سائلا، ولكن قلته موبِّخا منكرا لما هو عليه، ولولا دلالة الحال على ذلك لم يجز الإضمار؛ لأنَّ الفعل إنَّما يضمر إذا دلَّ عليه دال؛ كما أنَّ الاسم لا يضمر حتى يذكر، وإنَّما رأيته فى حال قيام فى وقت يجب فيه غيره فقلت له منكرا» ) (3).
والجزء الأخير من كلام سيبويه في نصه السابق يربط فيه هذا التركيب بسياق حال مُعَيَّن هو ما سماه العلماء فيما بعد بـ «الاستفهام التوبيخي» . وسيبويه لم يصرح بوضوح ــ في كلامه هذا ــ الربط بهذا السِّياق المُعَيَّن، ولكن السيرافي ــ أفضل من شرحوا الكتاب ــ ربط هذا التركيب بهذا السِّياق بوضوح قائلا:«وهذا الكلام يقوله الإنسان عند فعل يشاهده مما ينكر عليه من أجل شيء آخر» ) (4).
ومما يشبه المصدر في الاستفهام التوبيخي في هذا التركيب قول سيبويه في اسم الفاعل:
(1) عباس حسن: النحو الوافي، 2/ 221
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 238
(3)
القتضب، 3/ 228
(4)
شرح كتاب سيبويه، 2/ 228، وتنظر الأمثلة التي ذكرها سيبويه فيما بعد: ــ مثل قول العجاج:
أَطَرَبًا وأنتَ قِنَّسْرِىُّ [بحر الرجز]
ــ وقول العرب ((أَغُدّةً كغُدّة البعير ومَوْتًا فى بيتِ سَلُولِيَّةٍ))، وقول جرير:
أَعَبدًا حَلَّ في شُعَبى غَريبًا
…
أَلُؤمًا لا أَبالَكَ وَاِغتِرابا [بحر الوافر]
(5)
سيبويه: الكتاب، 1/ 340