الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: سيبويه والسِّياق:
في هذا المبحث سيدور الكلام حول ثلاث نقاط:
أـ إثبات أَنَّ سيبويه كان يضع قواعده من خلال النصوص الحَيَّة المنطوقة.
ب ــ توجيه النظر إلى أَنَّ سيبويه كان يعتبر سياق الحال عند تقعيده للقواعد.
ج ـ إيضاح أَنَّ المخاطب والمُتَكَلِّم كانا أبرز عناصر سياق الحال التي اهتَمَّ بها سيبويه.
ومن خلال الحديث في هذه النقاط الثلاث وإبرازها نُثبت علاقة سيبويه بالسِّياق وخاصة سياق الحال، ونظهر مكنون هذه العلاقة. وأعتقد أَنَّ إثبات هذه العلاقة أمر مُهِمّ لموضوع البحث، إذ كيف نتحدث عن دور سياق الحال في التَّقْعِيد النَّحْوِيّ والتوجيه الإعرابِيّ في كتاب سيبويه دون أَنْ نثبت ابتداء وجود ثَمَّة علاقة بين سيبويه وسياق الحال؟ وكيف نخطو خطوات في بحثنا دون أَنْ نبيِّنَ مدى تَلبُّس سيبويه بهذه العلاقة؟
وأول ما يساعدنا على إثبات هذه العلاقة إظهار أَنَّ سيبويه كان يعتمد في تقعيده النَّحْوِيّ على اللُّغَة الحَيَّة المنطوقة، وثانيا أَنَّ هذه اللُّغَة الحَيَّة المنطوقة قادته إلى اعتبار سياق الحال في دراسته وتقعيده لِلُّغَة؛ لما لاحظه من وجود تأثير له عليها، وثالثا أَنَّ وعيه بأهمِيَّة سياق الحال في دراسة اللُّغَة تقعيدا وتوجيها وتفاعله معه أوقفه على أَنّهُ ليست كلُّ العناصر المُكوِّنة لسياق الحال على درجة واحدة من الأهمِيَّة، وأنَّ أبرز هذه العناصر أهمِيَّةً المخاطبُ والمُتَكَلِّم.
-
سيبويه يقوم بالتَّقْعِيدالنَّحْوِيّ والتوجيه الإعرابِيّ من خلال النصوص الحَيَّة المنطوقة:
من المبادئ اللُّغَوِيَّة التي يُقرُّها اللغويّون أَنَّ اللُّغَة المنطوقة «تتسم بسمات معيَّنة حُرِمَتْ منها اللُّغَة المكتوبة، ففي النطق والأداء الصوتي لِلُّغَة خواصّ لا يمكن أَنْ تُفصح عنها النصوص المكتوبة فهذه النصوص في صورتها العامَّة جامدة ساكنة، خالية من الخواص النطقيَّة البالغة الأهمِيَّة في عَمَلِيَّة الإيصال والتوصيل، كالنبر، وموسيقى الكلام) التنغيم (، والفصل والوصل، وما يَلُفُّ كلَّ ذلك من ظروف ومناسبات في مقامات الكلام وسياقه الاجتماعِيّ» (1).
وما هذا المبدأ مبدأ الاعتماد على اللُّغَة الحَيَّة المنطوقة عن سيبويه ببعيد؛ فمن يدرس الكتاب ويسبر غوره، يجد أَنّهُ يعتمد في تقعيده وتوجيهه النَّحْوِيّين على اللُّغَة الحَيَّة المنطوقة. والشواهد على ذلك كثيرة ومتنوعة، منها:
(1) د. كمال بشر: التفكير اللغويّ بين القديم والحديث، دار غريب، القاهرة، ، ) 2005 م (، ص 57
ــ تكرار سيبويه لكلمة «سمعنا» وتصريفاتها، التي تسبق النصوص والاستشهادات التي يوردها للتدليل على القاعدة التي يشرحها ويقرِّرها، فقد دأب على مدار الكتاب على تأكيده لهذا «السماع» ، وبلغ عدد المواضع التي ذكر فيها «سماعه» للنص من أفواه العرب ومن نقل عنهم أكثر من مِئتَين وست وأربعين مَرَّة) 246 مَرَّة (. ومن أقواله في هذا:
- «وسمعنا من العرب من يقول ممن يوثق به
…
» (1).
- «وسمعنا عربيًّا موثوقا بعربِيَّته
…
» (2).
- «فكلّ هذه البيوت سمعناها من أهل الثقة هكذا» (3).
- «سمعنا أكثر العرب يقولون في بيت امرئ القيس
…
» (4).
وفي بعض الأحيان لا ينص فقط على سماعه، بل ينص على عدالة وفصاحة ومن تُرْضى عربِيَّته ويُوثَق بهم ممن أخذ منهم، يقول:
- «وسمعنا ممن تُرْضى عربِيَّته
…
» (5).
- «وقد قال قومٌ من العرب تُرضىَ عربيَّتُهم
…
» (6). وهذه العبارة وسابقتها توحيان بأَنَّه يقسم القبائل العربِيَّة قسمين: قسم تُرْضَى عربِيَّته؛ يؤخذ منه، وقسم لا تُرضى عربِيَّته؛ يحاول قدر الإمكان تجنُّبه، وإن ذكره يذكره على سبيل الشذوذ.
- «وسمعنا فصحاء العرب
…
» (7).
- «وحدَّثني من لا أتَّهم عن رجل من أهل المدينة موثوق به أَنّهُ سمع عربيًّا يتكلَّم
…
» (8).
فليس الأمر مجرد سماع، بل سماع من ثقة عَدْل، وأعتقد أَنَّ سيبويه تَاَثَّرَ بمنهج المحدِّثين وطريقتهم في التثبُّت من الأخبار؛ إذ طلب في بداية حياته الحديث والفقه.
ويُعَبِّر سيبويه عن هذا السماع بطريق غير مباشر بأنْ يقول إِنَّ هذا النَّصّ أو ذاك تكلَّمت أو لم تتكلَّم به العرب، يقول مثلا:
(1) سيبويه: الكتاب، ت: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 4، ) 1425 هـ ــ 2004 م (، 1/ 53
(2)
سيبويه: الكتاب، 3/ 98
(3)
سيبويه: الكتاب، 3/ 137
(4)
سيبويه: الكتاب، 3/ 223
(5)
سيبويه: الكتاب، 3/ 533
(6)
سيبويه: الكتاب، 1/ 182
(7)
سيبويه: الكتاب، 3/ 157
(8)
سيبويه: الكتاب، 3/ 152
- «
…
وكلُّ ذلك تَكَلَّم به عامَّة العرب» (1).
- «ولا تكاد العرب تَكَلَّم به
…
» (2).
- «وليس في كل شيء يقال إلا أَنْ تقيس شيئا وتعلم أَنَّ العرب لم تَكَلَّم به» (3).
وإذا اضطره التفسير والشرح إلى اللجوء لجملة مصنوعة ليس لها نموذج حيّ وواقعيّ في اللُّغَة نبَّه على ذلك بجملة تكررت كثيرا في كتابه يقول فيها: «وهذا تمثيل لم يتكلَّم به» (4).
ويحرص بعد تقديمه لعدة توجيهات نحوِيَّة أَنْ يوضح أَنَّها مستعملة. ففي حديث له عن نصب الاسم المشغول عنه أو رفعه، وأيُّهما أجود، يقول:«وكلُّ هذا من كلامهم» ) (5).
وسيبويه في حرصه على السماع يتحرك ميدانيًّا للسماع المباشر من أصحاب اللُّغَة، لكي يقف على اللُّغَة غضة كما ينطقها أصحابها، يقول:«وسألنا العرب فوجدناهم يوافقونه) أي: الخليل (» (6). وهو في تَحَرُّكه الميداني يسأل من ينتمون إلى القبائل العربِيَّة؛ فيقف على ما هو مشترك بينها، وما تَتَمَيَّز به قبيلةٌ معيَّنة من تركيب نحوي معيَّن أو بناء صرفي ما، يقول:
• «وسألنا العُلْويين والتميميِّين فرأيناهم يقولون
…
» (7).
• «وإِنَّمَا يقولها من العرب بنو العَنْبَر
…
» (8).
وينصُّ سيبويه عند ذكره لكثير من أبيات شواهده الشعرِيَّة على أَنّهُ سمعها وهي في حالة
«إنشاد» . يقول في بعض هذه المواضع:
- «وزعم أبو الخَطَّاب أَنّهُ سمع بعض العرب الموثوق بهم ينشد هذا البيت
…
» (9).
(1) سيبويه: الكتاب، 3/ 158
(2)
سيبويه: الكتاب، 3/ 561
(3)
سيبويه: الكتاب، 4/ 94
(4)
سيبويه: الكتاب، 1/ 72
(5)
سيبويه: الكتاب، 1/ 83
(6)
سيبويه: الكتاب، 3/ 290
(7)
سيبويه: الكتاب، 3/ 291 والعُلْويين: أهل العالية، وهي ما فوق أرض نجد إلى أرض تهامة وإلى ما وراء مكة.) الحاشية ذات الرقْم 1 (.
(8)
سيبويه: الكتاب، 4/ 480، وبنو العنبر ــ ويقال: بَلْعنبر، بفتح الباء وسكون اللام ــ حي من تميم، من العدنانية وهم بنو العنبر بن عمرو بن تميم، ينظر: القلقشندي: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، ت: إبراهيم الإبياري، دار الكتاب اللبناني، بيروت ط 2، (1980 م)، ص 68
(9)
سيبويه: الكتاب، 1/ 304
- «وسمعناهم ينشدون هذا البيت
…
» (1).
- «وأنشدناه هكذا أعرابي من أفصح الناس، وزعم أَنّهُ شعر أبيه» (2).
وقد عقد سيبويه بابا من أبواب كتابه سماه «باب وجوه القوافي في الإنشاد» قال فيه: «الشعر وضع للغناء والتَّرَنُّم» (3).
وقد أشار سيبويه لهذا الإنشاد في أكثر من 45 موضعا.
ولا شك أَنَّ حالة الإنشاد هذه التي يقوم بها الشاعر أو من ينوب عنه يصاحبها رفع الصوت، وكثير من الإشارات الجسدِيَّة والهيئة والإيقاع والتقطيع والتشدُّق وكل ما يُعين مُلْقِي القصيدة على التعبير عن قصيدته وما بها من معان (4).
ومن إشارات البغدادي لهذا الأمر قوله: «العرب كان بعضهم يُنشد شعره للآخر؛ فيرويه على مقتضى لغته التي فطره الله عليها وبسببه تكثر الروايات في بعض الأبيات» ) (5).
من إشارة البغدادي نعلم أنَّ تناشُد الشعر كان أمرا مألوفا بين العرب، وأن العرب كانت تُنشد شعرها لبعضها البعض، وهذا يعني ــ من وجهة نظر الباحث ــ أنَّ الملابسات السياقيَّة للنصِّ الشعريّ المُنشَد ستكون حاضرة مع كل قصيدة. كل الملابسات السياقية بما فيها النواحي الصوتية للمنشِد وتعبيرات الوجه والجسد وغيرها.
ومما قرأه الباحث ــ ويجِدُهُ قريبا مما نتحدِّث عنه هنا ــ كلامًا عن «الثقافة الشفاهيَّة» في كتاب
«الشفاهيَّة والكتابيَّة Orality and Literacy» ) (6) لمؤلفه والتر ج. أونج. وهو كتاب يبرز الفرق بين الثقافة الشفاهيَّة ــ أي التي تقوم على المشافهة ــ، والثقافة الكتابيَّة ــ أي التي يقوم على الكتابة ــ ومن المبادئ التي أرساها والتر ج. أونج في هذا الكتاب:
أ «
…
أَمَّا في الكلام الشفاهيّ، فلا بدَّ أَنْ تشمل الكلمة هذا التنغيم أو ذاك كأنْ تكون الكلمة حيوية أو مثيرة أو هادئة أو ساخطة أو مذعنة، أو أيًّا ما كانت، فمن المحال نطق كلمة ما شفاهة دون أي تنغيم
…
والممثلون ينفقون الساعات لتقرير كيف ينطقون الكلمات في النَّصّ
(1) سيبويه: الكتاب، 4/ 471
(2)
سيبويه: الكتاب، 3/ 300، وقد ورد التصريح بالإنشاد في أكثر من ثلاثة وأربعين موضعا.
(3)
سيبويه: الكتاب، 4/ 204
(4)
د. علي الجندي: الشعراء وإنشاد الشعر، دار المعارف، القاهرة، ) بدون تاريخ للطبعة ولا ترتيبها (، ص 44 وما بعدها
(5)
خزانة الأدب: 1/ 17
(6)
يقول د. حسن البنا عز الدين مترجم هذا الكتاب عنه أن الكتاب منذ صدوره عام 1982 م أعيد طبعه بالإنجليزية عشر مرَّات حتى عام 1992 م، وترجم لأكثر من خمس عشرة لغة منها الكورية والصينية، ص 12
الذي أمامهم. فمن الممكن أَنْ يلقي أحد الممثِّلين فقرة ما بصوت جهير ويلقيها آخر همسا. ولا يكون السِّياق خارج النَّصّ غائبا لدى القراء فحسب، بل لدى الكاتب كذلك، وافتقاد السِّياق الذي يمكن التحقق منه هو عادة ما يجعل الكتابة نشاطا متعبا إلى حد يفوق الإلقاء الشفاهي على جمهور حقيقي») (1).
من خلال الاقتباسات السابقة يضع والتر ج. أونج أيدينا على مجموعة الحقائق المُهِمَّة التالية:
» الكلام الشفاهي مرتبط لا محالة بالتنغيم.
» الكلام الشفاهي يرتبط بأداءات لسانية مليئة بالقوة والجمال ذات قيمة إنسانية وفنية عالية، لا يمكن أَنْ توجد في الكتابة.
» الكلام الشفاهي يرتبط بشخص حي في لحظة زمَنِيَّة بعينها في موقف حقيقي.
(1) الشفاهية والكتابية: ترجمة: د. حسن البنا عز الدين، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ع 182، ط 1، ) 1994 م (، ص 193
(2)
السابق، ص 65
(3)
السابق، ص 192
(4)
السابق، 147
» الكلام الشفاهي يرتبط بالصوت الذي يرتبط بدوره بدخيلة الإنسان.
وإذا ضممنا إلى مجموعة الحقائق السابقة مجموعة الحقائق التالية التي تقول:
أ ((الإنشاد: رفع الصوت، ومنه إنشاد الشعر)) (1). و ((أنشد القصيدة إنشادا: إذا رفع صوته في إلقائها)) (2).
ب ويتضح من تَتَبُّع مصطلح الإنشاد في المعاجم أَنَّه مرتبط بالشعر.
ت وأَنَّ حُسْنَ إنشاد الشعر كان مثار تفاضل بين الرواة، يُعَدُّ حسنُ الإنشاد منقبةً لأحدهم يفتخر بها وقد يُذَمُّ المنشد بسوء الإنشاد أيضا، ونقرأ أحيانا في كتب التراجم أَنَّ فلانا «من أحسن الناس إنشادا للشعر» ) (3).
ث ويحدِّثُنا المؤرخون أَنَّه قبل انقضاء القرن الثاني الهجري امَّحت أسواق الجاهلية، «ولكن سوقا واحدة نشأت في الإسلام احتفظت بكثير من خصائص أسواق الجاهلية، وزادت عليها بميزات واسعة
…
تلك هي سوق المِرْبَد في البصرة، السوق التي استطاعت أَنْ تكون مرآة تعكس حياة العرب في الجاهلية كما تصور حضارتهم في الإسلام») (4). صارت هذه السوق على عهد الأمويين سوقا «تتَّخذ فيها المجالس، يخرج إليها الناس كُلَّ يوم، كُلٌّ إلى فريقه وحلقته وشاعره، وتتعدد فيه الحلقات يتوسطها الشعراء والرجاز، ويؤمُّها الأشراف وسائر الناس يتناشدون ويتفاخرون» ) (5). فالمربد «معرض لكل قبيلة، تُعرض فيه شعرها ومفاخرها، وهو مجتمع العرب ومُتَحدَّثهم ومتنزه البصريين
…
وما زال يعلو شأنه وتستجيب له أسباب الكمال حتى اشتد ولوع الناس به وارتيادهم له») (6)، وبه «كانت مفاخرات الشعراء والخطباء» ) (7)، وكان «يعج بأعلام اللُّغَة والأدب والشعر والنحو، معهم محابرهم ودفاترهم يكتبون عن فصحاء الأعراب فيه» ، وكان
«لكل شاعر حلقة، ولكل متهاجيين مجلس، ولكل قبيلة ناد وشاعر يذود عنها ويردّ عدوان قريعه من القبيلة الثانية: فللعجاج ولرؤبة حلقة، ولأبي النجم العجلي حلقة، ولجرير حلقة،
(1) الزبيدي: تاج العروس، 9/ 222
(2)
الحريري: درة الغواص في أوهام الخواص، مؤسسة الكتب الثقافيَّة، بيروت، ط 1، ) 1998 م (، ص 285
(3)
ينظر على سبيل المثال ترجمة: أبو النجم الراجر، الأعلام للزركلي، 5/ 151
(4)
سعيد الأفغاني: أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، دار الفكر، القاهرة ــ بيروت، ط 3، ) 1974 م (، ص 394
(5)
السابق، ص 408
(6)
السابق، ص 408
(7)
السابق، ص 409
والفرزدق وراعي الإبل وذي الرمة حلقة») (1). ويتفرد المربد بأمر علمي محض «لم يكن له في عكاظ من أَثر، وهو أَنَّه أرفد اللُّغَة بمادة كثيرة، عليها أسس النُّحَاة قواعدهم وأصلحوها، وذلك بما كانوا يقصدون له فصحاء العرب يسألونهم فيما فيه يختلفون
…
[و] تجد أَنَّ أكثر مادتها فيما يتعلق بالعصر الأول والثاني للهجرة») (2). ولا يمكن أَنْ يكون سيبويه الذي نشأ وتربى في البصرة أَنْ يكون بمعزل عن هذه السوق وهذه البيئة العلميَّة التي يُنْشَدُ فيها الشعر من رواة متقنين.
ج قال البغدادِيّ: «وعمل سيبويه كتابه على لغة العرب وخطبها وبلاغتها» (3).
إذا وضعنا هاتين المجموعتين من الحقائق إزاء بعضهما نخرج بحقيقة علمِيَّة مُؤَدّاها أَنَّ سيبويه ــ لا محالة ــ وضع قواعده من خلال لغة مُنشَدة منطوقة حية تتفاعل مع الواقع تفاعلا، وأَنَّه قد أسس قواعده على ثقافة شفاهيَّة تتمتع بكل ما نقلناه عن والتر ج. أونج. وقد علمنا في التمهيد من قبل أن سيبويه كان جل اعتماده على الشعر في تقعيده.
ومما يثير الدهشة والعجب لدى المتأمِّل لنصوص الكتاب انتباه سيبويه لتفاصيل دقيقة جدا أثناء عَمَلِيَّة السماع للنصوص الشعرِيَّة والنثرِيَّة، تفاصيل لا تحتاج فقط إلى تركيز سمعي بل أيضا إلى تركيز بصري فائق.
• من هذه التفاصيل الدقيقة مثلا انتباهه للاختلافات الصَّوْتِيَّة الدقيقة التي تحتاج إلى سمع مرهف خبير بالأصوات، فنجده مثلا يلاحظ الاختلافات الصَّوْتِيَّة لحرف «الزاي» وأنَّ له اختلافات في النطق، فيقول:«وسمعنا العرب الفصحاء يجعلونها زايا خالصة» (4). ونجده يرصد صوتيًّا ما يحدث لحرف العين من تغير صوتي إذا أتي مع حرف الهاء؛ فيقول:
• وفي الحقيقة إِنَّ باب الإدغام في كتاب سيبويه يدلُّ على براعته الفائقة ودِقَّتِه في ملاحظة الفروق الصَّوْتِيَّة بين الحروف.
(1) السابق، ص 411
(2)
السابق، ص 412
(3)
خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، ت: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 4، 1/ 372
(4)
سيبويه: الكتاب، 4/ 478 وينظرما قاله السيوطي في همع الهوامع في باب مخارج الحروف عن علاقة حرف الصاد بحرف الزاي. 3/ 492 (طبعة مكتبة التوفيقية، ت: د. عبد الحميد هنداوي)
(5)
سيبويه: الكتاب، 4/ 450
• ومن هذه التفاصيل أيضا ما لاحظه من قيام بعض رواة الشعر من «إشمام» للأبيات التي يروونها، يقول:
«وقد يُسكِّن بعضُهم في الشعر ويُشمُّ، وذلك قول الشاعر امرئ القيس:
فاليومَ أَشْرَبْ غيرَ مُسْتَحِقبٍ
…
إثمًا من الله ولا واغل [بحر السريع]» (1).
وقال عند قول الشاعر:
متى أَنَامُ لا يُؤَرِّقْني الكَرَى
…
ليلًا ولا أسمعُ أجراسَ المَطِي [بحر الرجز]
«وقد سمعنا من العرب مَن يُشِمُّه الرَّفْعَ، كَأَنَّه يقول: متى أنام غير مُؤَرَّق» (2).
والإشمام مصطلح عند النُّحَاة يراد به «تهيئة الشفتين للتلفظ بالضم ولكن لا يتلفظ به
…
[و] يراد به أيضا تصوير الفم عند حذف الحركة بالصورة التي تعرض عند التلفظ بتلك الحركة بلا حركة ظاهرة ولا خفية، وعلامته في الكتابة نقطة بين يدي الحرف» (3). أو هو بعبارة أخرى:«نوع من أنواع الوقف على المتحرك، وهو قسيم الإسكان والروم والتضعيف والنقل. والوقف بالإشمام هو ضم الشفتين بعد تسكين الحرف الأخير، ولا يكون إلا فيما حركته ضمة» ) (4)؛ أي أَنَّ الإشمام يُدْرَكُ عن طريق البصر، وهذا يتطلب أَنْ يكون المستمع والرائي قريبين من المنشِد أو المتحدِّث ليتمكنا من رؤية حركة الشفتين. كما أَنَّ الأذن هنا لعبت دورا دقيقا؛ إذ أدركت عدم النطق بالضم.
ما سبق يجعلنا نُقَرِّر أَنَّه إذا كان سيبويه ينتبه إلى هذه الفروق الدقيقة جدا التي تتطلب انتباها وتركيزا فائقين من صاحبها فمن باب أولى أَنْ ينتبه لما هو أكثر قابلية للملاحظة من عناصر سياق الحال المختلفة التي سبق أَنْ سردناها في التمهيد السابق، التي تؤثر لا محالة في اللُّغَة.
إن اهتمام سيبويه بالسماع وقيامه بالتَّقْعِيد لمعظم القواعد التي سطَّرها في كتابه على الشعر الذي سمعه في حالة «إنشاد» يدلان على أَنَّه اعتمد على اللُّغَة الحَيَّة المنطوقة في وقته؛ وهذا يضمن أَنَّ قواعده التي استخلصها تمثل اللُّغَة تمثيلا صادقا.
وقد كانت إحدى الميزات التي تميزت بها المدرسة البنيوية في بدايتها اعتمادها على اللُّغَة الحَيَّة المنطوقة لغة الحديث الفعلِيَّة، وقد كانت تلك مِيزةٌ احتفى بها اللغويّون أيما احتفاء. يقول
(1) سيبويه: الكتاب، 4/ 204
(2)
سيبويه: الكتاب، 3/ 95 وينظر أيضا موضع يدل على دقته السمعية 4/ 438 ــ 439
(3)
د. محمد إبراهيم عبادة: معجم مصطلحات النحو والصرف والعروض والقافية، مكتبة الآداب، القاهرة، ط 1، ) 2011 م (، ص 177
(4)
د. محمد سمير نجيب اللبدي: معجم المصطلحات النَّحْوِيَّة والصَّرْفِيَّة، ص 119