الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: سياق الحال والتوابع:
ــ
أولا البدل:
يقوم البدل بعدة وظائف دلالية في الجملة، هذه الوظائف ذكرها سيبويه في نصوص عدة ومتفرقة. وهذه الوظائف هي:
1.
التوكيد:
من الوظائف التي يؤديها البدل ـ ونص عليها سيبويه ــ توكيد المعنى. وأبان هذا في قوله:
«فأما نفسه حين قلت: رأيته إياه نفسه، فوصفٌ بمنزلة هو، وإياه بدل، وإِنَّمَا ذكرتهما توكيدًا» ) (1).
2.
التبيين والتوضيح والتفسير:
قد يأتي البدل للتوضيح والتبيين والتفسير، يقول: «ومثلُ ما أتاني إلا زيدٌ إلا أبو عبد الله، إذا أردت أَنْ تبيّن وتُوضحَ قوله:
ما لك من شيخِك إلاّ عملُه إلاّ رسيمُه وإلاّ رَمَلُهْ [بحر المنسرح]») (3).
ويقول الأستاذ هارون معلقا على البيت السابق: «والشاهد فيه أَنَّ: رسيمه ورمله بدل تفصيل من عمله وتبيين له» ) (4).
ويقول سيبويه نقلا عن الخليل عند قول الشاعر:
مَتى تَأتِنا تُلمِم بِنا في دِيارِنا
…
تَجِد حَطبًا جَزلًا وَنارًا تَأَجَّجا [بحر الطويل]
«تلمم بدل من الفعل الأول
…
؛ فأراد أَنْ يفسر الإتيان بالإلمام») (5).
3.
الاستدراك والإضراب:
يقول في أحد النصوص: «قولك: مررتُ برجلٍ حِمارٍ. فهو على وجهٍ محالٌ، وعلى وجهٍ حَسَنٌ. فأَمَّا المحُالُ فأَن تَعنَى أنَّ الرجلَ حِمارٌ. وأَما الذى يَحسُن فهو أَنْ تقول: مررتُ برجلٍ، ثُمَّ
(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 387
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 150، وينظر أيضا الموضع: 3/ 508، 2/ 190
(3)
سيبويه: الكتاب، 2/ 341
(4)
سيبويه: الكتاب، 2/ 342
(5)
سيبويه: الكتاب، 3/ 86
تُبْدِلَ الحِمارَ مَكَانَ الرجل فتقولَ: حِمارٍ، إمَّا أَنْ تكونَ غلِطتَ أو نَسِيتَ فاستَدركتَ، وإمّا أَنْ يَبْدُوَ لك أَن تُضربَ عن مرورك بالرجل وتَجعلَ مكانه مرورَك بالحمار بعد ما كنتَ أردتَ غيْرَ ذلك») (1).
أي أَنَّ من الوظائف التي يؤديها البدل أيضا الاستدراك والإضراب. وهذا البدل الذي يفيد الاستدراك والإضراب لا يأتي في قرآن ولا شعر ولا كلام مستقيم، قال المبرد:«فهذا البدل لا يكون مثله في قرآن ولا شعر ولكن إذا وقع مثله في الكلام غلطا أو نسيانا فهكذا إعرابه» ) (2). وقال السيوطي:
4.
الترحم:
يقول في أحد المواضع: «وزعم الخليل أَنَّهُ يقول: مررت به المسكين، على البدل، وفيه معنى الترحم» ) (4).
تلك هي الوظائف الدِّلالِيَّة التي يؤديها البدل، وهي وظائف في أساسها مرتبطة بالسِّياق وبدافع منه؛ فالمُتَكَلِّم الذي يأتي بالبدل يريد أَنْ يؤكِّد أو يبين أو يفسِّر أو يستدرك أو يترحم.
والسؤال: يريد المُتَكَلِّم أَنْ يؤكد لمن؟ ويبين لمن؟ ويفسر لمن؟ ويستدرك لمن؟ ويترحم على مَن؟ وما الداعي الذي يجعل المُتَكَلِّم يؤكِّد أو يبيِّن أو يفسِّر أو يستدرك أو يترحم؟
إن المُتَكَلِّم يريد أَنْ يبين ويؤكد ويفسر ويستدرك للمخاطب؛ لأنَّهُ في سياق يستدعي ذلك، يستدعي التأكيد والتوضيح والتفسير والاستدراك والترحم. وقد سبق أَنْ أوضحنا علاقة السِّياق بالتوكيد خاصة في موضع سابق.
وإذا أتينا لذكر بعض الجوانب التي يؤثِّر فيها سياق الحال على البدل نقول:
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 439، وينظر أيضا الموضع 1/ 152
(2)
المقتضب، 1/ 166
(3)
همع الهوامع: 3/ 149
(4)
سيبويه: الكتاب، 2/ 75، وأضاف ابن يعيش في شرح المفصل 2/ 259 غرضا دلاليا آخر للبدل هو الإعلام والتنبيه، فقال:((وأما الثاني: وهو بدل الشيء من الشيء، وهو بعضه، كقولك: رأيت زيدا وجهه، ورأيت قومك أكثرهم، وثلثيهم، وناسا منهم، وصرفت وجوهها أولها. فالثاني من هذه الأشياء بعض الأول، وأبدلته منه ليعلم ما قصدت له، وليتنبه السامع، فتثبت بقولك: رأيت زيدا وجهه، موضع الرؤية منه، فصار كقولك: رأيت وجه زيد. وكذلك قولك: رأيت قومك أكثرهم، وثلثيهم، وناسا منهم، بينت من رأيت منهم. فأكثرهم، وثلثاهم بعضهم، وكذلك ناسا منهم)).
• إنه مما يُؤَثِّر في البدل الحال الذهنية للمتكلم ــ وهو من أبرز عناصر سياق الحال كما أوضحنا قبل. فهو أي البدل يتَأَثَّر بمدى انتباه المُتَكَلِّم ومدى تركيزه الذهني.
يوضح سيبويه ذلك بما أسماه «بدل الغلط والنسيان» ، يقول في بعض النصوص:«لو قلت: ما أتاني إلا زيدٌ إلا أبو عبد الله كان جَيِّدا، إذا كان أبو عبد الله زيدا ولم يكن غيره؛ لأَنَّ هذا يكرَّر توكيدًا، كقولك: رأيت زيدا زيدا. وقد يجوز أَنْ يكون غيرَ زيد على الغلط والنسيان، كما يجوز أَنْ تقول: رأيتُ زيدًا عمرًا، لأنَّهُ إِنَّمَا أراد عمرا فنسى فتدارك» ) (1).
وفي نصّ آخر أوضح من سابقه يقول: «ولا يجوز أَنْ تقول: رأيتُ زيدا أباه، والأبُ غيرُ زيد، لأَنَّكَ لا تبينَّه بغيره ولا بشيء ليس منه
…
. وإنّما يجوز رأيتُ زيدًا أباه، ورأيت زيدًا عمرًا، أَنْ يكون أراد أَنْ يقول: رأيتُ عمرا أو رأيتُ أبا زيد، فَغَلِطَ أو نَسِىَ، ثُمَّ استَدرك كلامَه بعدُ؛ وإمّا أَنْ يكون أَضْرَبَ عن ذلك فنَحَّاه وجعل عمرًا مكانَه») (2).
ويخصص السيرافي «بدل الغلط» بنمط مُعَيَّن من الكلام له خصوصية سِيَاقِيَّة، فيقول: «وبدل الغلط لا يجوز أَنْ يقع في شعر ولا قرآن ولا كلام معمول محكم؛ إِنَّمَا يجئ في الكلام الذي يبتدؤه الإنسان على جهة سبق اللسان إلى الشيء الذي يريده فيلغيه، حتى كَأَنَّه لم يذكره بلفظ مما
يريده») (3). وهي الحقيقة التي أكدها غيره من النحاة كما ذكرنا قريبا.
أي أَنَّ النصوص «المعمولة المحكمة» مثل: القرآن والحديث والشعر لا يجوز فيها هذا النوع من البدل، فلا يصح أَنْ يقع في القرآن؛ لأنَّهُ كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا الحديث لعصمة قائله ــ صلى الله عليه وسلم ــ، ولا الشعر لوجود الوزن المنبِّه للشاعر على عدم الاستقامة. ونص السيرافي هنا يقود إلى أَنَّنا يمكن أَنْ نقسم كلامنا إلى قسمين: قسم معمول محكم، وقسم غير معمول ولا محكم. وقطعا فَإِنَّ القسم المعمول المحكم هو الذي ينال رعاية قائله، ولا مجال فيه للأخطاء، ويوافق السِّياق الذي يقال فيه.
• ويؤثِّر سياق الحال في البدل بشكل آخر هو أَنَّ البدل يَرِدُ أحيانا ليكون إجابة أو ردًا من المُتَكَلِّم على سؤال متوقع من المخاطب:
(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 341
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 152
(3)
شرح كتاب سيبويه: 2/ 11
إن حساسية المُتَكَلِّم للموقف وتوقعه وظنه أن المخاطب قد يسأل عن المبدل منه، ومدى استيعاب المخاطب لما يقوله المُتَكَلِّم جعلت المُتَكَلِّم يتَّجه إلى إيضاح ما يريده عن طريق البدل. ونلاحظ هنا في هذا البدل الذي ننتقل فيه من النكرة إلى المعرفة أنَّه لا بد أَنْ يكون معروفا مسبقا لدي المخاطب ومعهودا لديه قبل؛ وإلا لما كان لهذا الانتقال فائدة، ونكون قد شبهنا الماء بعد الجهد بالماء.
• والزمن ــ وهو عنصر من عناصر سياق الحال ــ قد يؤثِّر في بعض الأحيان على البدل:
هل يمكن أَنْ يرتبط البدل بالزمن؟ أو بصيغة أدق: هل يرتبط معنى «البدلية» بالزمن؟ بمعنى: هل يمكن أَنْ تكونَ الكلمة بدلا في جملة لها زمن مُعَيَّن، فإذا تغير الزمن امتنع أَنْ تكونَ بدلا أو امتنعت البدلية؟
في أحد نصوص سيبويه يفهم منه ذلك، أي يُفهم منه أَنَّ «البدلية» تتَأَثَّر بالزمن. يقول في هذا النَّصّ:«قولك: دخلوا الأول فالأول، وجرى على قولك واحدًا فواحدًا، ودخلوا رجُلا رَجُلا. وإن شئت رفعتَ فقلت: دخَلوا الأوّلُ فالأوّلُ، جعله بدلا وحمله على الفعل، كَأَنَّه قال: دخل الأوّلُ فالأوّلُ، وإن شئت قلت: دخلوا رجلٌ فرجلٌ، تجعله بدلا كما قال عز وجل: {بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} فإِن قلتَ: ادْخُلوا، فأمرتَ؛ فالنَّصبُ الوجهُ، ولا يكون بدلاً؛ لأَنَّكَ لو قلت: ادْخُلِ الأوّلُ فالأوّلُ أو رجلٌ رجلٌ، لم يجز، ولا يكون صفةً، لأنَّهُ ليس معنى الأوّلِ فالأوّلِ أَنّك تريد أَنْ تعرفه بشيء تحلِّيه به» ) (2).
ما يفهم من نصّ سيبويه أَنَّ:
• «دَخَلُوا الأولَ فالأولَ» يجوز الرفع على البدل، ويجوز النصب على الحال.
• وأنْ «اُدْخُلُوا الأول فالأول» ، فالوجه النصب على الحال، ولا يجوز البدل) (3).
(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 14، ويجوز في هذا التركيب الرفع، فنقول: مررت برجل عبدُ الله؛ كَأَنَّه قيل لك: من هو؟ 2/ 15
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 398
(3)
قال المبرد في المقتضب 3/ 272: ((فإذا قلت: ادخلوا الأوَّلَ فالأوَّلَ، فلا سبيلَ عند أكثر النحويين إلى الرفع؛ لأنَّ البدلَ لا يكون من المخاطب؛ لأنَّك لو قدَّرته بحذف الضمير لم يجز. فأما عيسى بن عمر فكان يُجيزه، =
ويقول: معناه: ليدخل الأول فالأول، ولا أراه إلا جائزا على المعنى؛ لأنَّ قولك: ادخل، إنما هو: لتدخُلْ فى المعنى وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا)).
والفرق بين الجملتين في الزمن، الأولى في زمن الماضي والثانية في المستقبل؛ إذن الزمن) الماضي (هو الذي أتاح البدلية في الجملة الأولى وزمن المستقبل هو الذي منعه من الجملة الثانية
نص سيبويه الذي أمامنا ينطق بذلك بلسان الحال لا بلسان المقال. وهذا بالطبع يُثير
سؤالا: لماذا سمح زمن الماضي بالبدلية في الجملة الأولى ومنعه في الجملة الثانية عند سيبويه؟
يمكن أَنْ نعلل لهذا بقولنا:
» الجملة الأولى ذات الزمن الماضي تمَّ فيه الدخول وانتهى، ووقعت هيئة الترتيب، وثبتت في ذهن المُتَكَلِّم، وعرف من هو الشخص الأوَّل ومن الذي يليه، أي أَنَّ صفة «الأولويَّة» نِيطت بشخص مُعَيَّن مُحَدَّد قد عُرف. فنحنُ في حال النصب على الحال نخبر عن هيئة قد وقعت وتمَّت، وفي حال الرفع على البدلية نؤكِّد ونبيِّن ونوضح أَنَّ الجماعة التي دخلت قد دخلت بالفعل دخولا مرتبا.
» أما الجملة الثانية فلا تجوز فيها البدلية؛ لأَنَّ صفة «الأولويَّة» غير منوطة بأحد؛ فلا يُعرَف من هو الأوَّل الذي يمكن أَنْ يحلَّ محل واو الجماعة في قوله «ادخلوا» ، فإذا عرف الأول من الآخر جاز الرفع على البدل، قال:«وقال الخليل: ادخلوا الأوَّل فالأول والوسط والآخِرُ. لا يكون فيه غيرُه وقال: يكونُ على جواز كلُّكم، حملَه على البدل» ) (1).
هذا ما استطعتُ رصده عن علاقة السِّياق بالبدل، ونخلص من النصوص السابقة أَنَّ البدل يتَأَثَّر بالسِّياق من خلال:
» الحالة الذهنية للمتكلم.
» توقع المُتَكَلِّم لما يريده المخاطب أو السامع.
» الزمن الذي يقال فيه البدل.
وقبل الانتقال إلى التابع التالي يجب الإجابة عن هذا السؤال: ما الفرق بين التوكيد الذي يفيده البدل والتوكيد الذي يفيده التوكيد اللفظي والمعنوي؟
يختلف توكيد البدل عن توكيد التوكيد اللفظي والمعنوي في أَنَّ توكيد البدل يتَّجه إلى التابع نفسه) البدل (، أَمَّا توكيد التوكيد اللفظي والمعنوي فيتَّجه إلى المتبوع) المؤكد (.
ونختم أيضا بهذه الملحوظة القيَّمة لبعض العلماء يقول فيها: «إِنَّ الفائدة من ذكر المبدل منه في الكلام هو التمهيد والتهيئة لذكر الثانية) البدل (، فكَأَنَّك ذكرت الجملة مرتين، مَرَّة مجملة ومَرَّة
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 400