المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الخامس: سياق الحال والأدوات النحوية: - قرينة السياق ودورها في التقعيد النحوي والتوجيه الإعرابي في كتاب سيبويه

[إيهاب سلامة]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌ الدراسات السابقة:

- ‌ منهج البحث في أثناء الدراسة:

- ‌ خطة البحث

- ‌تمهيد

- ‌ ترجمة سيبويه

- ‌ الاسم والنشأة والوفاة:

- ‌ أسفاره العلميَّة:

- ‌ شيوخه:

- ‌ منزلة سيبويه العلميَّة:

- ‌ كتاب سيبويه:

- ‌ وقت تأليفه:

- ‌ القيمة العلميَّة للكتاب:

- ‌ منهج الكتاب:

- ‌ أهم المصطلحات المستخدمة في البحث:

- ‌ المصطلح الأول ((…السِّياق)):

- ‌ المصطلح الثاني ((…التَّقْعِيدالنَّحْوِيّ)):

- ‌ المصطلح الثالث ((…التوجيه الإعرابِيّ)):

- ‌ المصطلح الرابع ((…الأصل)):

- ‌ المصطلحات ((…الغالب، الكثير، القليل، الضعيف، الشاذ، الردئ

- ‌الفصل الأول: السياق والمنهج عند سيبويه

- ‌مقدمة:

- ‌المبحث الأول: سيبويه والسِّياق:

- ‌ سيبويه يقوم بالتَّقْعِيدالنَّحْوِيّ والتوجيه الإعرابِيّ من خلال النصوص الحَيَّة المنطوقة:

- ‌اعتبار سيبويه للسياق:

- ‌المخاطب والمُتَكَلِّم أبرز عناصر سياق الحال التي اهتَمَّ بها سيبويه:

- ‌ المبحث الثاني: خطوات إجرائِيَّة ومنهجِيَّة قبل التقيعد النَّحْوِيّ والتوجيه الإعرابِيّ عند سيبويه:

- ‌1 ــ تصنيف اللُّغَة إلى تراكيب نمطِيَّة مُجَرَّدة:

- ‌2 ــ الإحصاء العددي للتراكيب النَّمَطِيَّة:

- ‌3 ــ تتَبُّع التركيب اللغويّ المُعَيَّن قيد البحث في السِّياقات المختلفة وربطه بدلالة السِّياق إِنْ وجدت:

- ‌4 ــ معايشة التراكيب اللُّغَوِيَّة في نصوصها المنطوقة:

- ‌الفصل الثاني: دور سياق الحال في التوجيه الإعرابِيّ عند سيبويه

- ‌1 ــ المبحث الأول: أهمِيَّة سياق الحال في التوجيهات الإعرابِيّة عند سيبويه:

- ‌أوجود تراكيب نحوِيَّة لا يصِحُّ تركيبُها ولا تصِحُّ كينونتُها وبالتالي لا يصِحُّ توجيهها نحويا إلا إذا قامت قرينة من سياق الحال تُصَحِّحُها:

- ‌ب وجود تراكيب نحوِيَّة توجَّه في إطار معرفة قرينة السِّياق:

- ‌ت يستعين به أحيانا في شرح توجيهه:

- ‌ث يفسِّرُ بالسِّياق مَرْجِعِيَّة الضمير:

- ‌ج خطورة عدم الاعتداد بقرينة السِّياق وأثره في التوجيه:

- ‌2 ــ المبحث الثاني: إثراء السِّياق للتوجيهات الإعرابِيّة والدِّلالِيَّة:

- ‌ حال المُتَكَلِّم ودوره في التوجيه الإعرابِيّ وإثرائه:

- ‌ المخاطب ودوره في التوجيه الإعرابِيّ وإثرائه:

- ‌3 ــ المبحث الثالث: تَحَرُّك سيبويه بحُرِّيَّة في توجيهاته النحوِيَّة في حالة عدم اللَّبس:

- ‌الفصل الثالث: دور السِّياق في التَّقْعِيد النَّحْوِيّ عند سيبويه

- ‌المبحث الأول: سياق الحال والجملة الاسمِيَّة:

- ‌ السِّياق والابتداء بالمعرفة:

- ‌ الحذف في الجملة الاسمِيَّة وسياق الحال:

- ‌ قرينة السِّياق والحال النَّحْوِيّ:

- ‌المبحث الثاني: سياق الحال والجملة الفعلِيَّة وما يتعلق بها:

- ‌ سياق الحال يُؤَثِّر في كينونة الجملة الفعلِيَّة أيضا:

- ‌ الترتيب بين العناصر المكوِّنة للجملة الفعلِيَّة:

- ‌ السِّياق وإعمال اسم الفاعل عمل الفعل:

- ‌ نواصب الفعل المضارع:

- ‌ المفعول المطلق:

- ‌ دور قرينة السِّياق في إعمال ظن وأخواتها أو إلغاء عملها:

- ‌ الحذف في الجملة الفعلِيَّة:

- ‌المبحث الثالث: سياق الحال والتوابع:

- ‌ أولا البدل:

- ‌ ثانيا التوكيد:

- ‌ ثالثا النعت:

- ‌ رابعا العطف:

- ‌المبحث الرابع: سياق الحال والأساليب النحوِيَّة:

- ‌1 ــ أسلوب الاستفهام:

- ‌2 ــ أسلوب النفي:

- ‌3 ــ أسلوب التفضيل:

- ‌4 ــ أسلوب النداء:

- ‌5 ــ أسلوب التحذير والإغراء والاختصاص:

- ‌6 ــ أسلوب الاستثناء:

- ‌7 ــ أسلوب القسم:

- ‌8 ــ النصب على التعظيم أو الذم:

- ‌المبحث الخامس: سياق الحال والأدوات النحوِيَّة:

- ‌ المبحث السادس: سياق الحال والتنوين والتنكير والتعريف:

- ‌الفصل الرابع: سياق الحال والقواعد الصَّرْفِيَّة

- ‌ المبحث الأول: سياق الحال ودلالة الفعل الزَّمَنِيَّة والمصادر والمشتقات

- ‌أ - سياق الحال والدِّلَالَة الزَّمَنِيَّة للفعل:

- ‌ج - سياق الحال ودلالة أوزان المصدر:

- ‌ح - سياق الحال ودلالة المشتقات:

- ‌ المبحث الثاني: سياق الحال ومعاني الأوزان الصَّرْفِيَّة:

- ‌الفصل الخامسالسِّياق وسيبويه والنظَرِيَّةالنحوِيَّة

- ‌ المبحث الأول:‌‌ تعريف مصطلح النظَرِيَّة، وأهم خصائص النظَرِيَّةالعلميَّة:

- ‌ تعريف مصطلح النظَرِيَّة

- ‌ أهم خصائص النظَرِيَّة العلميَّة:

- ‌ المبحث الثاني:‌‌ النظَرِيَّة النحوِيَّة السِّياقِيَّة:

- ‌ النظَرِيَّة النحوِيَّة السِّياقِيَّة:

- ‌ نقد نظَرِيَّة العامل:

- ‌الخاتمة

- ‌قائمة المصادر والمراجع

- ‌أولا ـ المصادر والمراجع العربِيَّة

- ‌ثانيا المراجع الأجنبية

- ‌ثالثا: المجلات والدوريات

- ‌ملخص الرسالة

الفصل: ‌المبحث الخامس: سياق الحال والأدوات النحوية:

ومن خلال السِّياق أيضا نُفَرِّق بين ما هو «للتعظيم» ، وما هو «للترحُّم» ، فـ «مذهب الترحم على غير منهاج التعظيم والشتم

[فـ] الترحم إِنَّمَا هو رقة وتحنن، يلحق الذاكر على المذكور في حال ذكره إياه رقة عليه وتحننا») (1). يقول سيبويه:«ومن هذا الترحم، والترحم يكون بالمسكين والبائس ونحوه، ولا يكون كل صفة ولا كل اسم، ولكن ترحم بما ترحم به العرب» ) (2).

‌المبحث الخامس: سياق الحال والأدوات النحوِيَّة:

قبل أَنْ نشرع في إيضاح علاقة بعض الأدوات النحوِيَّة بالسِّياق من خلال نصوص سيبويه نُصَدِّرُ كلامنا بقولٍ مُهِمّ لأستاذنا تَمَّام حسان عن «الأدوات» يقول فيه: «إِنَّ المعاني التي تؤدِّيها الأدواتُ جميعا هي من نوع التعبير عن علاقات في السِّياق، وواضح أَنَّ التعبير عن العلاقة معنى وظيفي لا معجمي؛ فلا بيئة للأدوات خارج السِّياق؛ لأَنَّ الأدوات كما ذكرنا ذات افتقار إلى الضمائم أو بعبارة أخرى: ذات افتقار متأصل إلى السِّياق» ) (3). أي أَنَّ الأدوات النحوِيَّة هي من أهم ما يبرز دور السِّياق ويوضح أهميته.

وفيما يلي مجموعة من الحروف والأدوات النحوِيَّة التي لاحظنا تدخُّلَ سياق الحال في تحديدها وفي خصائصها، وهي كما يلي:

1 ــ أمَّا الشرطيِّة:

من الأدوات التي نظنُّ أَنَّ سياق الحال له دور في تحديد معناها النَّحْوِيّ عند سيبويه الأداة «أَمَّا» فقد ذكر لها معني نحويا لا يُتَأَتَّى إليه إلا من خلال نصوص لها سياقاتها. يقول: «أَمَّا وإذا يُقطَعُ بهما الكلامُ، وهما من حروف الابتداء يَصرفانِ الكلامَ إلى الابتداء» ) (4). والقطع مصطلح نحوي يراد به في النحو: «عدم ربط الكلمة بما قبلها في الإعراب، وتُعد جزءا من جملة جديدة» ) (5).

وجملة سيبويه التي وردت في الجملة السابقة «يُقطَعُ بهما الكلامُ» تقتضي أمرين:

» وجود ذات واعية) متكلم (تقوم بقطع الكلام.

(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 75 الحاشية ذات الرَّقْم 1، والكلام هنا للسيرافي.

(2)

سيبويه: الكتاب، 2/ 74 ــ 75

(3)

اللُّغَة العَرَبِيَّة معناها ومبناها، ص 127

(4)

سيبويه: الكتاب، 1/ 95

(5)

د. محمد عبادة: معجم المصطلحات النَّحْوِيَّة، ص 250

ص: 282

» وجود كلام يُقطَع، والكلام الجديد يجب أَنْ يرتبط بسياق سابق معلوم بين المُتَكَلِّم والمخاطب؛ حتى يكون الكلام مفهوما ومقبولا.

بناء على ما سبق يمكن أَنْ نقول إِنَّ «أَمَّا» من استخداماتها قطع الكلام، وتحويله إلى سياق جديد. والسِّياق الجديد يتطلب ((مبتدأ، أو مسندا إليه)) جديدا يدور حوله الكلام؛ لأَنَّ سيبويه في آخر المقولة السابقة «يصرفان الكلام إلى الابتداء» .

وقد علمنا من سابق كلامنا أَنَّ المُتَكَلِّم لا يبدأ الكلام في الغالب إلا بجملة اسمية، وهي تقتضي مبتدأ معروفًا سلفا بين المُتَكَلِّم والمخاطب.

ويؤكد السيرافي هذا المعنى بألفاظ واضحة؛ فيقول: «و ((أمَّا)) يُبْتَدأ بها، وإن وردت بعد كلام صرفت ما بعدها إلى الابتداء وقطعته عن الأول» ) (1).

ومما يسترعي الانتباه أَنَّ السيوطي في الإتقان خصَّ «أَمَّا» بحديثٍ ذكر فيه أَنَّ من معاني

«أَمَّا» أنَّها: «حرف شرط وتفصيل وتوكيد» ) (2)، ولم يشر إلى ما قد تتضمنه «أَمَّا» من ابتداء، وتبعه في ذلك الأستاذ عباس حسن، فذكر نفس الكلام عند حديثه عن معنى «أَمَّا» الشرطيِّة) (3)، ولم يشر إلى أنَّها تأتي قاطعة للكلام، ويُبدَأ بها سياقٌ جديد) (4).

ويمكن أَنْ نستغل عدم إشارة النحاة ــ حسبما وقف الباحث ــ للمعنى الذي أشار إليه سيبويه هنا فنقول: إِنَّ هذا قد يُستشْهَد به على أَنَّ عدم استقراء الكلام في سياقاته المختلفة ــ كما يفعل سيبويه ــ قد يؤدِّي إلى أَنَّ القاعدة النحوِيَّة قد تأتي ناقصة مضطربة، أو غير جامعة مانعة) (5).

2 ــ ألف التَّرَنُّم وياؤه وواوه:

تتبَّع الباحث مصطلح «التَّرَنُّم» عند العلماء ووقف على الحقائق الآتية:

- أنَّ التَّرَنُّم هو: «مدُّ الصوت بمدة تجانس حركة الروِي» ) (6).

(1) شرح كتاب سيبويه: 1/ 400

(2)

الإتقان: ص 225، وجاء في تاج العروس: التفصيل التبيين.

(3)

النحو الوافي، 4/ 504

(4)

وكذلك الأداة ((إذا)) التي وردت في نصّ سيبويه، لا تذكر المصادر التي وقفنا عليها معنى الابتداء فيها، ويحصرون معناها في أنَّها: ظرف لما يستقبل من الزمان، ظرفية لا تتضمن معنى الشرط، الفجائية. يراجع: المعجم الوافي في أدوات النحو العربي، ص 35

(5)

يراجع التمهيد الذي قدمنا به البحث.

(6)

محمد بن عبد الله الطائي: شرح الكافية الشافية، ت: عبد المنعم أحمد هريدي، جامعة أم القرى، ط 1، ) بدون تاريخ للطبعة (، 3/ 1427

ص: 283

- وأنَّه: «التطريب والتغني وتحسين الصوت» ) (1)، و «ترديد الصوت بضرب من

التلحين») (2).

- وأنَّه: «يحصل بأحرف الإطلاق لقبولها لمد الصوت فيها» ) (3).

- وأنَّ «الشعر وضع للغناء والتَّرَنُّم» ) (4)، وأَنَّه «الشعر موضع التَّرَنُّم والغناء وترجيع الصوت ولا سيما في أواخر الأبيات، وحروفُ الإطلاق: أي الألف والواو والياء هي المتعينة من بين الحروف للترديد والترجيع الصالحة لها؛ فمن ثم تلحق في الشعر لقصد الإطلاق كلماتٍ لا تلحقها في غير الشعر» ) (5).

- وأَنَّه اختياري للمتكلم، وأَنَّ «ناسا كثيرين من بني تميم يبدلون مكان المدة النون؛ لما لم يريدوا التَّرَنُّم؛ أبدلوا مكان المدة نونا، ولفظوا بتمام البناء» ) (6).

ونص سيبويه الذي يشير فيه إلى هذا التَّرَنُّم هو: «أَمَّا إذا ترنموا فإِنَّهُم يلحقون الألف والياء والواو ما ينون وما لا ينون، لأنهم أرادوا مد الصوت، وذلك قولهم ــ وهو لامرئ القيس:

قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ

[بحر الطويل]

وقال في النصب ليزيد بن الطثرية:

فَبِتنا تحيد الوَحشُ عَنّا كَأَنَّنا

قَتيلانِ لَم يَعلَم لَنا الناسُ مَصرَعا [بحر الطويل]

وقال في الرفع، للأعشى:

هُرَيرَةَ وَدَّعها وَإِن لامَ لائِمُ

غَداةَ غَدٍ أَم أَنتَ لِلبَينِ واجِمُ [بحر الطويل]

هذا ما ينون فيه؛ وما لا ينون فيه قولهم، لجرير:

أَقِلّي اللَومَ عاذِلَ وَالعِتابا

وَقولي إِن أَصَبتُ لَقَد أَصابا [بحر الوافر]») (7).

(1) ابن منظور: لسان العرب، 12/ 254، والنهاية في غريب الحديث والأثر، 2/ 271

(2)

الزوزني: شرح المعلقات السبع، دار إحياء التراث العربي، القاهرة، ط 1، ) 2002 م (، ص 250

(3)

ابن هشام: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ت: د. مازن المبارك، محمد على حمد، دار الفكر، دمشق، ط 6، ) 1985 م (، ص 447

(4)

سيبويه: الكتاب، 4/ 206

(5)

محمد بن الحسن الإستراباذي: شرح شافية ابن الحاجب، ت: محمد نور الحسن ومحمد الزفزاف ومحمد محيي الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمِيَّة، لبنان، ) 1975 م (، 2/ 316

(6)

محمد بن عبد الله الطائي: شرح الكافية الشافية، 3/ 1428

(7)

سيبويه: الكتاب، 4/ 204

ص: 284

إن التَّرَنُّم يُأتَى به لـ «التطريب والتغني وتحسين الصوت وتلحينه» ، وأنَّ موضعه الشعر، وأَنَّه اختياري، ويتم من خلال أحرف الإطلاق: الواو والألف والياء.

وهنا يُثار سؤال: لمن يقوم الشاعر بهذا التطريب والتغني وتحسين الصوت؟ ولماذا يلجأ الشاعر إليه طالما أَنَّهُ اختياري؟

إن الشاعر لن يترنَّم ويرغب في تحسين الصوت وتلحينه إلا لمن يسمعه، أي لا بدَّ من وجود سياق حال يجمع بين المُتَكَلِّم الشاعر المنشد، والمخاطب المستمع الذي يستمتع بإلقاء الشاعر

لشعره، إِنَّ الشاعر في ترنُّمه مقصدُه المستمع، فما أتي بهذا التَّرَنُّم إلا إليه؛ ودليل هذه القصدية أَنَّ التَّرَنُّم اختياري من الشاعر، يمكنه أَنْ يستغني عنه.

إذن فسياق الحال يتحكم في التَّرَنُّم وهو سبب وجوده؛ فرغبة المُتَكَلِّم الذي هو أحد أهم عناصر سياق الحال هي المسئولة عن هذا التَّرَنُّم وجودا وعدما. ومصداق هذا قول سيبويه في نصه السابق: «لأنَّهم أرادوا مد الصوت» .

ويمكننا القول أيضا ــ استنتاجا واستنباطا ــ إِنَّ القافية وحركة روِيِّها تتَأَثَّران بالحالة النفسِيَّة للمتكلم المنشد.

ومما يمكن أَنْ يلحق بألف التَّرَنُّم في كونها تأتي للترنم أيضا وإن كان هذا التَّرَنُّم فيه نوع حزن وتفجع ــ «ألف الندبة» . يقول: «اعلم أَنَّ المندوب مدعوٌّ ولَكِنَّه متفجع عليه، فإنْ شئت ألحقتَ في آخر الاسم الألف، لأَنَّ الندبة كأَنَّهم يترنمون فيها؛ وإن شئت لم تُلحق كما لم تلحق في النداء» ) (1).

وإلحاق ألف الندبة كما يقول سيبويه اختياري يتوقَّف على إرادة المُتَكَلِّم إذا أراد أَنْ يبرز مزيدا من الأسى والحزن على المُتَفَجَّع عليه من خلال ألف الندبة، وكَأَنَّ اللُّغَة تساعد المُتَكَلِّم على التنفيس عن مشاعره بكل الأوجه الممكنة، وتهيِّئ له ذلك بكل السبل.

***

3 ــ الأداة ((أل)):

هذه الأداة نالت عناية النُّحَاة وانتباههم؛ فبينوا أقسامها ومعانيها، فذكروا أنَّها:

((أل)) الموصولة: وذلك إذا اتصلت بها صفة صريحة.

((أل)) التعريفية، وهي تنقسم إلى:

- الجنسية، وهي تنقسم إلى:

» مطلق، يعرف بها الجنس مع إيهام كل فرد من أفراده، فهي في قوة ((أي))، نحو الرجل أقوى من المرأة. ومعناها: أي رجل أقوى من أي امرأة.

(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 220

ص: 285

» نسبيٌّ، يعرف بها الجنس والمقصود إما عام للجنس كله أو خاص لأحد أفراده، فهي في قوة الضمير عموما، [مثل]:{وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} النازعات: 40: نهى نفسه عن هواها.

- العهدية، وهي تنقسم إلى:

» العهد الذكري، تعرف مذكورا سابقا، وتكون في قوة ضمير الغائب، مثل قوله تعالى:{مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} .

» العهد الذهني، تعرف مفهوما مشتركا بين المُتَكَلِّم والسامع إذا ذكر انصرف الذهن إليه، فهي في قوة ضمير الإشارة، مثل قوله تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} = هذا النبي الذي تعرفونه.

» العهد الحضوري: يعرف بها حاضر يراه المُتَكَلِّم والسامع، فهي أيضا في قوة ضمير الإشارة، نحو: من الرجل؟ = من هذا الرجل) (1).

يتضح من التقسيم السابق مدى ارتباط هذه الأداة بالسِّياق، فلا يمكن الوقوف على كلِّ هذه المعاني السِّياقِيَّة لتلك الأداة إلا بمعونته. ويقرر د. تَمَّام حسان أَنَّ «أل» التي تأتي موصولة أو للجنس النسبي أو للعهد الذكرى يربط بها السِّياق، وأَنَّها جميعها «في قوة الضمير الغائب» ) (2). ويُعلَم أَنَّ الضمائر تلعب دورا أساسيا في تماسك النَّصّ.

وإذا كانت «أل» مثل الضمير، والضمير لا يُأْتَى به، ولا يحل محل اسم إلا إذا عرف المُتَكَلِّم مرجع هذا الضمير وما المقصود به؛ فَإِنَّ هذا الكلام ينسحب أيضا على «أل» ؛ أي أَنَّ السِّياق في نهاية الأمر يتحكم في أل كما يتحكم في الضمير.

ويشير سيبويه إلى دور السِّياق في تحديد دلالة تلك الأداة بقوله: «وأما الألف واللام فنحو الرجل والفرس والبعير وما أشبه ذلك. وإِنَّمَا صار معرفة لأَنَّكَ أردت بالألف واللام الشيء بعينه دون سائر أمته، لأَنَّكَ قلت: مررتُ برجلٍ، فَإِنَّك إِنَّمَا زعمت أَنَّكَ إِنَّمَا مررت بواحدٍ ممن يقع عليه هذا الاسمُ، لا تريد رجلا بعينه يعرفه المخاطَب. وإذا أدخلتَ الألف واللام فَإِنَّما تُذكّره رجلا قد عرَفه، فتقول: الرجل الذي من أمره كذا وكذا؛ ليتوهم الذى كان عهدَه ما تذكر من أمره» ) (3).

(1) هذا التقسيم نقلتُه عن أستاذنا الدكتور تَمَّام حسان: البيان في روائع القرآن، مكتبة الأسرة ــ الهيئة المصريَّة العامة للكتاب، القاهرة، ) 2002 م (، 1/ 147

(2)

السابق: 1/ 148

(3)

سيبويه: الكتاب، 2/ 5

ص: 286

يشير هنا إلى أل التي تأتي للعهد الذهني، التي تكون لشيء معهود بين المُتَكَلِّم والسامع، والوحيد الذي يستطيع تحديد دلالة الكلمة المحلاة بأل العهدية الذهنية هو المخاطب الذي يعرف من خلال سياق سابق مدلول هذه الكلمة، وعلى من تنطبق. أي أَنَّنا في تحديدنا لدلالة الكلمة المحلاة بأل نحتاج إلى السِّياق أيّما احتياج للوقوف على هذه الدِّلَالَة. لذلك نجد سيبويه يشير إلى هذا السياق في قوله:«وإذا أدخلتَ الألف واللام فَإِنَّما تُذكّره رجلا قد عرَفه، فتقول: الرجل الذي من أمره كذا وكذا؛ ليتوهم الذى كان عهدَه ما تذكر من أمره» .

ويؤكد سيبويه على أهمِيَّة السِّياق في تحديد دلالة أل في نصّ ثان، فيقول:«وإِنَّمَا يُدخلون الألف واللام ليعرفوك شيئا بعينه قد رأيتَه أو سمعت به، فإذا قصدوا قصد الشيء بعينه دون غيره وعنوه، ولم يجعلوه واحدا من أمة، فقد استغنوا عن الألف واللام. فمن ثم لم يُدخلوهما في هذا ولا في النداء» ) (1).

إنَّ «أل» العهدية لكي يصح استعمالها فَإِنَّها يجب أنْ «تُربَطَ» بأمر «رآه المُتَكَلِّم وسمع به من قبل» إما في بداية موقف الكلام نفسه) أل العهدية (، وإما في موقف سابق على موقف الكلام) أل العهد الذهني (.

ويُستغنَى عن «أل» كلية إذا هيَّأ السِّياق والموقفُ الكلامَ ووجهه مباشرة إلى «فرد مُعَيَّن من أفراد أمة ما» ــ بحسب تعبير سيبويه ــ؛ أي أَنَّنا استغنينا عن «أل» لتعبِّرَ عن المُتَحَدَّثِ عنه عندما انتقل من حالة «الغياب عن السِّياق» إلى حالة «الحضور في السِّياق» ، وبعد أنْ كان المُتَحَدَّثُ عنه غائبا أصبح حاضرا، وأقدرنا هذا على الانتقال والاستغناء عن «أل» .

ومن نصّ سيبويه نقف أيضا على أهمِيَّة الأداة «أل» في «الربط» ، ربط ما هو غائب عن السِّياق بما هو حاضر فيه. وقد سمَّى علماء نحو النَّصّ هذا الربط بـ «الإحالة الخارِجِيَّة» ، وهي ــ أي الإحالة الخارِجِيَّة ــ مع «الإحالة الداخلية» من أهم وسائل «السبك Coheision» . وهي «من المعايير المُهِمَّة التي تسهم بشكل فعَّال في الكفاءة النصية، تلك الوسيلة من أهم الوسائل المتعددة والمتنوعة لسبك العبارات» ) (2).

***

(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 198

(2)

أحمد عفيفي: الإحالة في نحو النص، ضمن الكتاب التذكاري: العَرَبِيَّة من نحو الجملة إلى نحو النص، 2/ 524

ص: 287

4 ــ كسر همزة إِنَّ وفتحها:

قبل أَنْ نناقش علاقة سياق الحال بـ «أَنَّ» نثبت أولا أَنَّ النُّحَاة اقتصروا في هذه المسالة على أنْ قالوا: «يجب كسر همزة: إِنَّ فى كل موضع لا يصح أَنْ تُسبَكَ فيه مع معموليها بمصدر» ) (1)، ويجب فتحها «فى موضع واحد، هو: أَنْ تقع مع معموليها جزءا من جملة مفتقرة إلى اسم مرفوع، أومنصوب، أو مجرور، ولا سبيل للحصول على ذلك الاسم إلا من طريق مصدر منسبك من أنّ مع معموليها. ففى مثل: شاع أَنَّ المعادنَ كثيرةٌ فى بلادنا. سرنى أَنَّكَ بارٌّ بأهلك، لا نجد فاعلا للفعل: شاع، ولا للفعل: سَرَّ؛ مع حاجة كل فعل للفاعل، ولا وسيلة للوصول إليه إلا بسبك مصدر مؤول من: أنّ مع معموليها» ) (2).

لقد اكتفى معظم أئمتنا النُّحَاة بتقرير هذه القواعد عن إنَّ وأنَّ بدون إشارة ملحوظة وواضحة لعلاقتها بالسِّياق، على الرغم من الإشارات المبكرة لسيبويه لهذا الربط السِّياقي.

ومن العبارات اللافتة للنظر التي عثرنا عليها في الكتاب التي تدل على هذا الربط السِّياقي عبارة سيبويه التي يقول فيها عن الحرف «أنَّ» : «وأنَّما وأنَّ إِنَّمَا يصيِّران الكلام شأنًا وحديثًا، فلا يكون الخبر ولا الحديث الرجل ولا زيدًا، ولا أشباه ذلك من الأسماء» ) (3).

ويقول في موضع ثان عن أَنَّ: «أَنَّ تجعل الكلام شأنا» ) (4). ويخصص بابا يعنونه بـ «باب تكون فيه أَنَّ بدلا من شيء هو الأول» يذكر فيه: «وذلك قولك: بلغتني قصَّتك أَنَّكَ فاعلٌ، وقد بلغني الحديثُ أنَّهم منطلقون، وكذلك القصة وما أشبهها» ) (5).

وقد حار الباحث فيما يقصده صاحب الكتاب بهذه الجملة «أَنَّ تجعل الكلام شأنا» ، إلى أنْ عثر على تفسير لها عند ابن السرّاج؛ يقول فيه: «أَنَّ المفتوحة الألف مع ما بعدها بتأويل المصدر وهي تجعل الكلام: شأنًا وقصة وحديثًا، ألا ترى أَنَّكَ إذا قلت: علمت أَنَّكَ منطلق، فَإِنَّما هو: علمت

(1) عباس حسن: النحو الوافي، 1/ 649

(2)

السابق، 1/ 642

(3)

سيبويه: الكتاب، 3/ 131

(4)

سيبويه: الكتاب، 3/ 142

(5)

سيبويه: الكتاب، 3/ 132

ص: 288

انطلاقك، فكَأَنَّك قلت: علمت الحديث، ويقول القائل: ما الخبر؟ فيقول المجيب: الخبر أَنَّ الأمير قادم») (1).

إن تفسير ابن السرّاج لفتح همزة «أَنَّ» يربطها بالسِّياق ربطا، فجملة «علمت أَنَّكَ منطلق» يسبقها سياق ومقام، فالمُتَكَلِّم علم أَنَّ المخاطب من خلال قصة أو حديث وقع أمامه أَنَّهُ منطلق؛ فأتى بالجملة على هذا الوجه. فبفتح همزتها يُعْلَم أنَّها تعبر عن شأن وقصة وحديث سابق، أي أنَّها تأتي بعد مرحلة تالية من الكلام، ولا تأتي في بدايته.

ألا ما أجمل إشارة سيبويه عن «أَنَّ» من حيث إنَّها تجعل الكلام شأنا؛ أي شأنا وقصة وحديثا سابقا على ذكرها. إنَّها إشارة عميقة تدلُّ على ربطه الأداة بالسِّياق، وتدُلُّ على اعتباره للسياق عند التَّقْعِيد، كما تدلُّ على دقة الملاحظة، ولم نقف على هذه الفائدة السِّياقِيَّة القيمة

لـ «أَنَّ» إلا في كتاب سيبويه.

ومن مواضع كسر همزة إِنَّ أَنْ تقع بعد «القول مباشرة، وتكون مع معموليها محكية بالقول، نحو قوله تعالى {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}؛ فإنْ لم تُحكَ بالقول وأجري القول مُجرى الظن؛ فتحت الهمزة، نحو: أتقول أَنَّ العدل معدوم، أي: أتظن» ) (2).

والذي يحدِّد هل القول للحكاية أم يفيد الظن السِّياقُ، فإليه المرجع في هذا التحديد؛ وهذا يعني أَنَّ السِّياق المعتبر يتحكم في كسر همزة إِنَّ أو فتحها. يقول سيبويه: «وسألت يُونُس عن

قوله: متى تقول أَنَّهُ منطلقٌ؟ فقال: إذا لم ترد الحكاية وجعلت تقول مثل تظنُّ») (3).

وهنا نؤكد على أَنَّ كسر همزة إِنَّ أو فتحها له دلالة؛ فعندما نقول: «أتقول أَنَّ العدل

معدوم» ــ بفتح همزة إِنَّ ــ فالمُتَكَلِّم قد يكون في حالة ظن أو قد لا يكون، وإن قلت:«أتقول إِنَّ العدل معدوم» ؛ فالمُتَكَلِّم يحكي وينقل ما سمعه عن غيره كما هو؛ فالفعل «قال» في هذه الحال ــ كما يقول سيبويه ــ «لا يغّيَّر الكلام عن حاله قبل أَنْ تكونَ فيه قال» ) (4).

(1) الأصول في النحو، ت: عبد الحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ) بدون تاريخ للطبعة (، 1/ 265 وينظر أيضا: عبد القادر بن عمر البغدادِيّ: خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، ت: عبد السلام محمد هارون مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 4، ) 1997 م (، 10/ 304

(2)

د. على توفيق الحمد: المعجم الوافي في أدوات النحو العربي، ص 84 ــ 854

(3)

سيبويه: الكتاب، 3/ 142

(4)

سيبويه: الكتاب، 3/ 143

ص: 289

ويوجِّهُ قراءة الكسر في قوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} على الحكاية، يقول:

«كان عيسى يقرأ هذا الحرف: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}؛ أراد أَنْ يحكي» (1).

ومن نصوص سيبويه التي خصصها للحديث عن «إِنَّ» ــ بكسر الهمزة ــ قوله: «وإِنَّ توكيدٌ لقوله: زيدٌ منطلقٌ. وإذا خفَّفْتَ فهي كذلك تؤكِّد ما يتكلم به ولَيثبت الكلام، غير أَنَّ لام التوكيد تلزمها عوضًا مما ذهب منها» ) (2).

ويستوقفنا عند تحليل هذا النَّصّ قوله: «وإِنَّ توكيدٌ لقوله: زيدٌ منطلقٌ» ؛ فماذا يقصد بهذه العبارة؟

إن الهاء في كلمة «لقوله» في هذه العبارة ضمير يعود على المُتَكَلِّم المفترض، والجملة الاسمِيَّة:«زيدٌ منطلقٌ» تعني أَنَّ «زيدًا» معروف بين المُتَكَلِّم والمخاطب، وأنَّ «الانطلاق» معروف لدى المُتَكَلِّم فقط مجهول لدى المخاطب، وأنَّ المُتَكَلِّم يريد أَنْ ينقل معرفته بهذا الانطلاق للمخاطب. ولا معنى لجملة سيبويه:«وإِنَّ توكيدٌ لقوله: زيدٌ منطلقٌ» هنا إلا أَنَّ المخاطب شك في نسبة الانطلاق إلى زيد؛ فأتى المُتَكَلِّم بـ «إِنَّ» لتأكيد هذه النسبة.

وإحساس المُتَكَلِّم بهذا الشك من قبل المخاطب لا بدَّ أَنْ يتولد من خلال ملابسات سياق مُعَيَّن فليست كل جملة اسمية يقولها المُتَكَلِّم محل شك من المخاطب.

ومجئ «إِنَّ» لتأكيد نسبة الخبر إلى المبتدأ حقيقة أقرها النُّحَاة من بعد سيبويه؛ فقالوا عن التوكيد الذي تفيده «إِنَّ، أَنَّ» : «المراد: توكيد النسبة؛ أي: توكيد نسبة الخبر للمبتدأ، وإزالة الشك عنها أو الإنكار، فكلا الحرفين في تحقيق هذا الغرض بمنزلة تكرار الجملة، ويفيد ما يفيده التكرار؛ ففي مثل: إِنَّ المال عماد العمران؛ تغني كلمة «إِنَّ» عن تكرار جملة: المال عماد العمران») (3).

ومن الملحوظات القيمة للأستاذ عباس حسن على «إِنَّ، أَنَّ» قوله: «ومن الخطأ البلاغي استخدامهما إلا حيث يكون الخبر موضع الشك أو الإنكار. والتأكيد بهما يدلُّ على أَنَّ خبرهما محقق عند المُتَكَلِّم، وليس موضع شك. ولا يستعملان إلا في تأكيد الإثبات» ) (4).

(1) سيبويه: الكتاب، 3/ 143

(2)

سيبويه: الكتاب، 4/ 233

(3)

عباس حسن: النحو الوافي، 1/ 631 الحاشية ذات الرَّقْم 3

(4)

النحو الوافي، 1/ 631 الحاشية ذات الرَّقْم 3

ص: 290

إِنَّنَا بعد مناقشتنا لـ «أَنَّ، إِنَّ» هنا يمكن أَنْ نعبر عن كسرها أو فتحها من خلال اعتبار السِّياق وبفهم سيبويه نقول: تكسر إِنَّ إذا أتت بداية الكلام وفي مراحله الأولى، وتفتح إذا أتت بعد قصة أو حديث أو شأن سابق.

5 ــ الضمائر:

أورد الجرجاني عدة تعريفات للضمير منها: «ما وضع لمتكلم، أو مخاطب، أو غائب تقدم ذكره، لفظا، نحو: زيد ضربتُ غلامه، أو معنى، بأن ذكر مشتقه، كقوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} المائدة: 8)؛ أي: العدل أقرب لدلالة «اعدلوا» عليه (، أو حكمًا؛ أي ثابتًا في الذهن، كما في ضمير الشأن، نحو: هو زيد قائم»)(1). ومنها أيضا: «عبارة عن اسم يتضمن الإشارة إلى المتكلم أو المخاطب أو غيرهما، بعدما سبق ذكره، إما تحقيقا أو

تقديرا») (2).

ومن الواضح ــ كما في التعريفين السابقين ــ أَنَّهُ لا يجوز أَنْ يحل الضمير محل الاسم إلا إذا عرف المخاطب من المقصود بالضمير، وإلا ضاع منه الكلام وتعذَّر فهمه له. فإذا دخل شخص في حوار يدور بين اثنين يتكلمان عن شخص غير موجود بضمير الغائب؛ فَإِنَّ الشخص الداخل في الحوار لن يفهم الكلام، ولن يتفاعل مع الحوار حتى يعرف مرجع الضمير الذي يدور حوله الحديث يؤكد هذا سيبويه قائلا:

«وإِنَّمَا صار الإضمار معرفة لأَنَّكَ إِنَّمَا تضمِر اسما بعد ما تعلم أَنَّ مَنْ يحدَّث قد عرف مَن تعنى وما تعنى، وأَنَّك تريد شيئا يعلمه» ) (3).

• ويقول: «وإِنَّمَا يضمِر إذا علم أَنَّكَ عرفت من يعنى» ) (4).

• وهذا ما يفهم أيضا من قوله تعليقا على قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا} : «كَأَنَّه قال: ولا يحسبنَّ الذين يبخلون البُخل هو خيرا

لهم. ولم يذكر البخل اجتزاء بعلم المخاطَب بأنَّه البخل، لذكره يبخلون») (5).

(1) التعريفات، ص 279

(2)

السابق، ص 279

(3)

سيبويه: الكتاب، 2/ 6

(4)

سيبويه: الكتاب، 2/ 81

(5)

سيبويه: الكتاب، 2/ 391

ص: 291

ولأَنَّ الضمير لا يجوز أَنْ يحل محل الاسم حتى يعرف المخاطب من المقصود بالضمير فقد قرَّر سيبويه أَنَّ الضمير لا يوصف. يقول: «من قبل أَنَّ هو اسم مضمَر والمضمر لا يوصَف بالمظهر أبدا» ) (1). وهذا أمر منطقي؛ فقد سبق أَنْ قلنا إِنَّ النعت يأتي متمِّما «لما يطلبه المتبوع بحسب المقام» ، وهذا يعنى أَنَّ النعت قد يأتي: للتوضيح والتخصيص والمدح والذم والترحم والإبهام والتوكيد والتفصيل، وكل هذا لا يحتاجه الضمير، لأَنَّنا لا نستخدم الضمير إلا إذا علمنا تماما وبصورة واضحة الاسم الذي يمثل مرجع هذا الضمير.

وقد يلعب السِّياق أحيانا دورا مهما مع الضمير، يتمثل في إسهامه في تحديده لـ «مرجعيته» وعدم تحديد مَرْجِعِيَّة للضمير بسبب عدم وضوح السِّياق قد يتسبب في تعَدُّد المعاني للجملة. فمثلا في أحد الشواهد النحوِيَّة، يقول الشاعر) (2):

وَمَا أُصاحِبُ مِن قومٍ فأذكُرَهُم

إلا يزيدهم حبًّا إليَّ هُمُ [بحر البسيط]

يقول الشيخ محيي الدين عبد الحميد في معناه: «يحتمل هذا البيتُ معنيين، بناء على اختلاف مرجع ضميري الغائبين في الشطر الثاني منه

») (3).

وكثيرا ما نجد مثلا الإمام الزَّمَخْشَرِيّ في تفسيره يحدد ــ في غياب القرينة ــ أكثر من مَرْجِعِيَّة للضمير في بعض الآيات، وكم من مرة استغل ذلك في الإثراء الدِّلَالِيّ للآيات القُرْآنِيَّة) (4).

ويلعب السِّياق دورا في تحديد دلالة بعض الضمائر، مثل الضمير نحن الذي قد يدلُّ على اثنين أو أكثر. يقول سيبويه:«وإن حدث عن نفسه وعن آخر قال: نحنُ، وإن حدث عن نفسه وعن آخرين قال: نحنُ» ) (5). وكذلك الضمير أنتما؛ فدلالة الضمير العَدَدِيَّة تتوقف على السِّياق.

(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 88

(2)

هو: زياد بن منقذ العدوي التميمي، وقد أورد ابن هشام هذا البيت في كتابه ((أوضح المسالك))

1/ 92، مستشهدا به في قوله ((إلا يزيدهم حبا هم)) على ((فصل الضمير المرفوع وهو: هم، في آخر البيت، وكان قياس الكلام أن يجيء به ضميرا متصلا بالعامل الذي هو يزيد)).

(3)

عدة السالك إلى تحقيق أوضح المسالك: 1/ 91

(4)

ينظر مثلا تفسيره لقوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} البقرة: 25، 1/ 102 ــ 103، وقوله:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} البقرة: 28، 1/ 117، وتفسيره لقوله تعالى:{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}

البقرة: 73، 1/ 143

(5)

سيبويه: الكتاب، 2/ 350

ص: 292

وضمير واو الجماعة «ضمير متصل لجماعة الذكور العقلاء» ) (1). لَكِنَّه قد يُنزَّل في بعض الأحيان منزلة غير العقلاء، فعندما سأل سيبويه الخليل عن قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} زعم «أَنَّهُ بمنزلة ما يعقل ويسمع، لما ذكرهم بالسجود، وصار النمل بتلك المنزلة حين حدّثتَ عنه كما تحدث عن الأناسى. وكذلك {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}؛ لأَنَّها جُعلت ــ في طاعتها وفى أَنَّهُ لا ينبغى لأحد أَنْ يقول: مُطرنا بنَوْء كذا، ولا ينبغي لأحد أَنْ يعبد شيئا منها ــ بمنزلة من يَعقل من المخلوقين ويُبصر الأمور» ) (2).

ويؤثِّر السِّياق أيضا على الضمير في بعض الأحيان استعمالا، فالضمير «هم» لا يستعمل مع ما يُعَبِّر عن جماعة غير عاقلة، ويستخدم فقط فيما يدل على العاقل، كما أشار سيبويه قائلا:«ولا تقول: جمالُك ذاهبون، ولا تقول: هم في الدار وأنت تعنى الجِمال، ولكنك تقول: هي وهن ذاهبة وذاهبات» ) (3).

ويردد النُّحَاة مصطلحا يرتبط بما نحن فيه هنا، ألا وهو مصطلح «ضمير الفصل». وهو:

«ضمير يتوسط بين المبتدأ والخبر، أو ما أصله مبتدأ وخبر؛ ليؤذَنَ من أوَّل الأمر بأنَّ ما بعدَه خبرٌ لا نعتٌ. وهو يُفيدُ الكلام ضربًا من التوكيد» ) (4).

إن ضمير الفصل «يفصل في الأمر حين الشك؛ فيرفع الإبهام، ويزيل اللَّبس؛ بسبب دلالته على أَنَّ الاسم بعده خبر لما قبله؛ من مبتدأ، أو ما أصله المبتدأ، وليس صفة، ولا بدلا، ولا غيرهما من التوابع والمكملات التي ليست أصيلة في المعنى الأساسي، كما يدلُّ على أَنَّ الاسم السابق مستغن عنها، لا عن الخبر. وفوق ذلك كله يفيد في الكلام معنى الحصر والتخصيص

أي: القصر المعروف في البلاغة. تلك هي مُهِمَّة ضمير الفصل؛ لَكِنَّه قد يقع أحيانًا بين مالا يحتمل شكًّا ولا لَبسًا؛ فيكون الغرض منه مجرد تقوية الاسم السابق، وتأكيد معناه بالحصر. والغالب أَنْ يكون ذلك الاسم السابق ضميرًا؛ كقوله تعالى:{وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} ») (5).

ويتطرق سيبويه إلى الحديث عن هذا الضمير، ويؤكد أَنَّ وجوده «إعلاما بأنَّه)؛ أي

المُتَكَلِّم (قد فصل الاسم، وأنَّه فيما ينتظر المحدَّث ويتوقعه منه، مما لابدَّ له من أَنْ يذكره

(1) د. على توفيق حمد: المعجم الوافي في أدوات النحو العربي، ص 360

(2)

سيبويه: الكتاب، 2/ 47

(3)

سيبويه: الكتاب، 2/ 39

(4)

مصطفى محمد الغلاييني: جامع الدروس العَرَبِيَّة، المكتبة العصرية، بيروت، ط 28، ) 1993 م (، ص 126

(5)

عباس حسن: النحو الوافي، 1/ 244

ص: 293

للمحدَّث؛ لأَنَّكَ إذا ابتدأت الاسم فَإِنَّما تبتدئه لما بعده، فإذا ابتدأت فقد وجب عليك مذكور بعد المبتدأ لابدّ منه، وإلا فسد الكلام ولم يسغ لك، فكأَنَّه ذكر «هو» ليستدل المحدَّث أَنَّ ما بعد الاسم ما يُخرجه مما وجب عليه، وأَنَّ ما بعد الاسم ليس منه») (1).

ويقول في نصّ آخر: «وإِنَّما فصل لأَنَّكَ إذا قلت كان زيدٌ الظريفُ، فقد يجوز أَنْ تريد بالظريف نعتا لزيد، فإذا جئت بهو أعلمت أنها متضمنة للخبر» ) (2).

إن سيبويه يريد أَنْ يؤكد هنا في هذا النَّصّ على ما رصده هو من وظيفة لضمير الفصل، وهي وظيفة «تأكيد الخبرِيِّة» لما يأتي بعده، وأَنْ ينبِّه المُتَحَدَّث ليزدادَ انتباها وتركيزا لما بعد هذا الضمير، ولا شك أَنَّ هذه وظيفة تتَأَثَّر بالسِّياق، فالمُتَكَلِّم لن يلجأ إليه إلا إذا استدعى السِّياق هذا.

ويحتاج الضمير إلى مرجع، أيًّا كان شكل هذا المرجع، فقد «يكون له مرجع صريح، وقد يكون له مرجع متصيَّد من الفعل، وقد تدلُّ عليه قرينة السِّياق العام للكلام» ) (3). وقد يكون المرجع متقدم على الضمير كما هو المعتاد والمألوف، وقد يكون متأخرا عنه، كما يشير سيبويه:

«ومما يضمر لأنَّهُ يفسره ما بعده ولا يكون في موضعه مظهرٌ قول العرب: إِنَّه كِرامٌ قومُك، وإِنَّه ذاهبةٌ أمتُك. فالهاء إضمارُ الحديث الذي ذكرتَ بعد الهاء، كَأَنَّه في التقدير ــ وإِنْ كان لا يُتكلم به ــ قال: إِنَّ الأمر ذاهبةٌ أمتُك وفاعلةٌ فلانة، فصار هذا الكلام كلُّه خبرا للأمر، فكذلك ما بعد هذا في موضع خبره» ) (4).

إن تأكيد سيبويه وغيره من النُّحَاة على مَرْجِعِيَّة الضمير هو تأكيد نابع من أهمِيَّة هذه المَرْجِعِيَّة في «تلاحم النَّصّ وتماسكه» ، فالضمير يلعب دورا مهمّا في النَّصّ اللغويّ؛ إذ يسهم في

«الخفة» ودفع «الإلباس» (5) من ناحية، ومن ناحية ثانية «يعمل على تلاحم الناتج الدِّلَالِيّ عندما يتردد الدال مشيرا إلى شيء سابق في السِّياق، سواء أكانت الإشارة إلى سابق ملفوظ أومفهوم، أوقائم على التضمين أوالالتزام» (6). فبالضمائر «تتحول الصياغة إلى سبيكة متلاحمة العناصر

(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 389

(2)

سيبويه: الكتاب، 2/ 388

(3)

د. تَمَّام حسان: البيان في روائع القرآن، 1/ 150

(4)

سيبويه: الكتاب، 2/ 176

(5)

الخصائص: 2/ 193

(6)

د. محمد عبد المطلب: قراءات أسلوبية في الشعر الحديث: الهيئة المصريَّة العامة للكتاب، القاهرة، ط 1، ) 1995 م (، ص 143

ص: 294

نتيجة لعوامل الربط الظاهرة والمستترة، المنفصلة والمتصلة، التي تعمل على تعليق ذهن المتلقي وشغله بما يواجهه من ضمائر» (1).

وعندما تحدث علماء نحو النَّصّ عن عناصر السبك التي هي من المعايير المُهِمَّة التي تسهم بشكل فعَّال في الكفاءة النصية ــ قسَّموا هذه العناصر إلى قسمين:

» الأول: عناصر السبك النحوِيَّة Grammatical Cohesion، وتشمل: الإحالة، الاستبدال، الحذف، الربط.

» الثاني: عناصر السبك المعجمي Lexical Cohesion، وتشمل: التكرار، والمصاحبة اللُّغَوِيَّة «التضام» .

وفي الإحالة تحدثوا عن الإحالة بالضمير، وقالوا إِنَّهُ وغيره من وسائل الإحالة «تقوم بدور الرابط بينها وبين ما تحيل إليه متقدما كان أو متأخرا» ) (2).

6 ــ الأداة «بل» :

يحدِّثنا النُّحَاةُ عن الأداة «بل» فيقررون أنَّها قد تأتي «حرف عطف تشرك الثاني مع الأول في إعرابه لا في حكمه إذا تلاها مفرد» ) (3)، وقد تأتي «حرف ابتداء يفيد الإضراب؛ إذا تلتها جملة، وتسمى حرف استئناف» ) (4).

و«بل» الابتدائية التي تليها جملةٌ تفيد «الإضراب» . ويقسم العلماء هذا الإضراب إلى نوعين:

• الأول: «الإضراب الإبطالي» ، و «هو الذي يقتضي نفي الحكم السابق، في الكلام قبل

«بل» ، والقطع بأنَّه غير واقع، ومدعيه كاذب، والانصراف عنه واجب إلى حكم آخر يجيء بعدها») (5).

• الثاني: «الإضراب الانتقالي» ، وهو «الذي يقتضي الانتقال من غرض قبل الحرف «بل» إلى غرض جديد بعده، مع إبقاء الحكم السابق على حاله، وعدم إلغاء مايقتضيه») (6).

(1) د. محمد عبد المطلب: قراءات أسلوبية في الشعر الحديث، ص 144

(2)

د. نادية رمضان محمد: عناصر السبك بين القدماء والمحدثين، بحث ضمن الكتاب التذكاري: العَرَبِيَّة من نحو الجملة إلى نحو النص، 2/ 571 و 578

(3)

د. علي توفيق الحمد: المعجم الوافي في أدوات النحو العربي، ص 115

(4)

السابق: 115

(5)

عباس حسن: النحو الوافي، 3/ 623

(6)

السابق، 3/ 623

ص: 295

ومن نصوص سيبويه عن «بل» نصه: «وأما بل فلترك شيءٍ من الكلام وأخذٍ في غيره. قال الشاعر حيث ترك أول الحديث، وهو أبو ذؤيبٍ:

بَلْ هَلْ أُرِيكَ حُمُولَ الحيّ غاديةً

كالنّخْلِ زَيَّنَها ينعٌ وإِفْضَاحُ [بحر البسيط]») (1).

ونلحظ في هذا النَّصّ إبانة سيبويه عن معنى «بل» الابتدائية التي تفيد الإضراب الانتقالي بقوله

«وأما بل فلترك شيءٍ من الكلام وأخذٍ في غيره» ، ونلحظ أَنَّه استشهد على هذا المعنى ببيت من الشعر، وصدر هذا البيت بقوله «قال الشاعر حيث ترك أول الحديث» . ومقولته هذه تدلُّ على أَنَّه وقف على القصيدة كاملة، وتتَبُّع معانيها وسياقها وعايش ملابساتها، ثُمَّ تبيَّن له أَنَّ الشاعر عند البيت المذكور قد ترك السِّياق الأوَّل أو المعنى الأول الذي بدأ به قصيدته وانتقل إلى معنى آخر. وأنَّه وجد هذه الظاهرة متكررة الحدوث؛ فقال بهذا المعنى مع «بل» .

إن مقولة سيبويه «وأما بل فلترك شيءٍ من الكلام وأخذٍ في غيره» تتضمن إشارة للجانب السِّياقي لهذه الأداة، وهي وإن كانت إشارة بسيطة إلا أنَّها أوضح من التعريف الاصطلاحي الذي ذكرناه قبل للنحاة الذين أتوا من بعده.

ومن نصوص سيبويه أيضا عن هذه الأداة قوله: «والمبدل يشرك المبدل منه فى الجر وذلك قولك: مررتُ برجلٍ حِمارٍ. فهو على وجهٍ محالٌ، وعلى وجهٍ حَسَنٌ. فأَمَّا المحُالُ فأَنْ تَعنَى أنَّ الرجلَ حِمارٌ. وأَما الذى يَحسُن فهو أَنْ تقول: مررتُ برجلٍ، ثُمَّ تُبْدِلَ الحِمارَ مَكَانَ الرجل فتقولَ: حِمارٍ، إمَّا أَنْ تكونَ غلِطتَ أو نَسِيتَ فاستَدركتَ، وإمّا أَنْ يَبْدُوَ لك أَن تُضربَ عن مرورك بالرجل وتَجعلَ مكانه مرورَك بالحمار بعد ما كنتَ أردتَ غيْرَ ذلك .... ومن ذلك قولك: مررتُ برجلٍ بَلْ حمار، وهو على تفسير: مررتُ برجلٍ حِمارٍ» ) (2).

في هذا النَّصّ نلاحظ أَنَّ تفسير الجملة «مررتُ برجلٍ حِمارٍ» لا يمكن بدون تدخل السِّياق، فلا يمكن أَنْ نعني بها «أَنَّ الرجل حمار» ، بل لا بد من وجود «غلط أو نسيان» من المُتَكَلِّم يستتبعه استدراك لهذا النسيان أو الغلط. أو أنَّ المتكلم قال:«مررت برجل» ثم أضرب وعدل عن هذا الكلام وقال: «مررت بحمار» . وأنَّ هذا التفسير هو نفسه الذي يمكن أَنْ يطلق على قولنا:

«مررتُ برجلٍ بَلْ حمار» .

(1) سيبويه: الكتاب، 4/ 223

(2)

سيبويه: الكتاب، 1/ 349

ص: 296

على هذا نقول إِنَّ بل قد يأتي بها المُتَكَلِّم لتفادي الخطأ والنسيان الذي قد يقع فيه. ونلاحظ هنا في هذا النَّصّ ارتباط الأداة «بل» ــ في بعض استعمالاتها ــ بما أسماه النُّحَاة بدل الغلط، وبدل النسيان) (1).

وقد تأتي «بل» في بعض استعمالاتها الأخرى مرتبطة بالنعت، ففي نصّ لسيبويه يربط فيه بين الأداة «بل» وبين شكل من أشكال النعت، ونمط من أنماطه فيقول:«ومنه أيضًا)؛ أي من أشكال النعت (: مررتُ برجل صالحٍ بل طالحٍ، وما مررتُ برجلٍ كَريمٍ بل لئيمٍ، أَبدلتَ الصفةَ الآخِرَةَ من الصفة الأولى، وأُشركَتْ بينهما بَلْ فى الإِجراءِ على المنعوت. وكذلك: مررتُ برجل صالحٍ بل طالحٍ، ولَكِنَّه يجيءُ على النَّسيان أو الغَلطِ، فيَتداركُ كلامَه؛ لأَنَّه ابتدأ بواجب» ) (2).

من خلال النصين الأخيرين نخرج بالآتي:

• أن الأداة «بل» فى حال كونها ابتدائية تفيد الإضراب قد تأتي لتحل «مشكلة نُطْقِية ذهنية» في الجملة ناتجة عن «نسيان أو غلط المُتَكَلِّم» : أي أَنَّ الذي تسبب في وجود هذه الأداة في الأساس في الجملة هو المُتَكَلِّم نسيانا أو خطأ.

• ونلاحظ أَنَّ هذه الأداة مرتبطة بالمُتَكَلِّم «فقط» ، فهو ــ فيما أظن وأعتقد ــ الذي استخدم هذه الأداة منعزلا عن السِّياق المحيط به، فهي أداة أتت لإصلاح «خطأ مفاجئ» ــ إِنْ جاز هذا

التعبير ــ وقع فيه المُتَكَلِّم. وقد يؤَيِّد هذا قول أحد النُّحَاة عن بل حينما تأتي مع بدل النسيان أو الغلط يقول: «والبَدَلُ المُباينُ بأقسامهِ لا يقعُ في كلامِ البُلغَاءِ. والبليغُ إِنْ وقع في شيءٍ منها أتى بين البدل والمبدَل منه بكلمةِ «بل» دلالةً على غلطهِ أو نسيانهِ أو إِضرابه») (3).

***

(1) يحدثنا النُّحَاة عن نوع من البدل يسمى بدل المباينة، ويقسم النُّحَاة هذا النوع من البدل إلى ثلاثة أنواع: بدل الغلط، بدل النسيان، بدل الإضراب. فقالوا في تعريف بدل الغلط:((وهو الذي يذكر فيه المبدل منه غلطا لسانيا، ويجيء البدل بعده لتصحيح الغلط. وذلك بأن يجري اللسان بالمتبوع من غير قصد، ثم ينكشف هذا الغلط والخطأ للمتكلم سريعا؛ فيذكر البدل، ليتدارك به الخطأ اللساني ويصححه. فالغلط إِنَّمَا هو في ذكر المبدل منه، لا في البدل)) وبدل النسيان: ((هو الذي يذكر فيه المبدل منه قصدا، ويتبين للمتكلم فساد قصده؛ فيعدل عنه ويذكر البدل الذي هو الصواب؛ نحو: ((صليت أمس العصر، الظهر، في الحقل))، فقد قصد المُتَكَلِّم النص على صلاة العصر، ثم تبين له أنه نسي حقيقة الوقت الذي صلاه، وأنه ليس العصر؛ فبادر إلى ذكر الحقيقة التي تذكرها؛ وهي:

((الظهر))، فكلمة:((الظهر)) بدل مقصود من كلمة: ((العصر)) بدل نسيان. والفرق بين هذا البدل وسابقه أن الغلط يكون من اللسان. إما النسيان فمن العقل)). ينظر: النحو الوافي، 3/ 670 ــ 671

(2)

سيبويه: الكتاب، 1/ 434

(3)

مصطفى بن محمد سليم الغلايينى: جامع الدروس العَرَبِيَّة، 3/ 238

ص: 297

7 ــ الأداة «قَدْ» :

قال سيبويه عن هذه الأداة ما يلي:

«فمن تلك الحروف قد، لا يُفصَل بينها وبين الفعل بغيره، وهو جوابٌ لقوله أفعل؛ كما كانت «ما فعل» جوابًا لـ «هل فعل؟ » ؛ إذا أخبرت أَنَّه لم يقع. ولما يَفْعَلْ وقد فَعَلَ، إنَّما هما لقومٍ ينتظرون شيئًا. فمن ثم أشبهت قد لما، في أنَّها لا يُفصَل بينها وبين الفعل») (1).

تستوقفنا هنا عبارة سيبويه «ولما يَفْعَلْ وقد فَعَلَ، إنَّما هما لقومٍ ينتظرون شيئًا» ، وهي عبارة مثيرة للانتباه، يفسرها السيرافي بقوله: «منزلة قد من الفعل كمنزلة الألف واللام من الاسم؛ لأَنَّ دخولها على فعل متوقع أو مسئول عنه؛ لأَنَّه إذا قال: قد قام زيد؛ فَإِنَّما يقوله لمن يتوقع قيامه أو لمن سأل عنه؛ فقال: هل قام زيد؟ وإذا قال: قام زيد؛ فَإِنَّما يبتدئ إخبارا بقيامه لمن لا ينتظره ولا يتوقعه؛ فأشبهت قد العهدَ في قولك: ((جاءني الرجل))؛ لمن عهده المخاطب أو جرى ذكره

عنده

») (2).

وقال ابن منظور في لسان العرب عن الحرف «قد» : «وقد تخفف داله. وقد، مخفف: كلمة معناها التوقع. قال الجوهري: قد حرف لا يدخل إلا على الأفعال، قال الخليل: هي جواب لقوم ينتظرون الخبر أو لقوم ينتظرون شيئا، تقول: قد مات فلان، ولو أخبره وهو لا ينتظره لم يقل: قد مات ولكن يقول: مات فلان» ) (3).

من خلال نصّ سيبويه وشرح السيرافي وابن منظور نفهم أَنَّ: التركيب: «قَدْ + فعل ماض متصرف خبري مثبت + فاعل» يدل على «قوم ينتظرون شيئا؛ أي يتوقعون فعلا أو يسألون عنه» ، أي أَنَّ:

- قولنا «قد قام زيد» نقوله: «لمن يتوقع القيام من زيد أو لمن سأل عنه فقال: هل قام

زيد؟ ».

- وقولنا «قام زيد» نقوله: «عندما نبتدئ ونخبر عن قيام زيد لمن لا ينتظر هذا القيام

ولا يتوقعه».

(1) سيبويه: الكتاب، 3/ 114 ــ 115

(2)

سيبويه: الكتاب، 3/ 115، الحاشية ذات الرَّقْم 1

(3)

3/ 346

ص: 298

وهنا نقول إِنَّ توقع القيام بالفعل هو أمر سِياقِيّ، ولا بد أنْ يُسبَقَ هذا التوقع بمجموعة من الأحداث السِّياقِيَّة الاجتِماعِيَّة النفسِيَّة التي تهيئ لهذا التوقع، وتجعل المخاطب أو السامع في حالة التوقع هذه؛ أي أَنَّ السِّياق هنا هو الذي يحدد استخدام أحد هذين التركيبين:«قَدْ + فعل ماض متصرف خبري مثبت + فاعل» أو «فعل ماض متصرف خبري مثبت + فاعل» إذا أردنا اختيار أحدهما. ويلعب المُتَكَلِّم دورا في اختيار التركيب المناسب إذ ينبغي أَنْ يأخذ بعين الاعتبار السِّياق وحالة المخاطب والسامع.

وهذا النَّصّ هنا لسيبويه يمكن أَنْ يُضاف إلى الأدِلَّة التي تثبت أَنَّه كان يُنَمِّطُ اللُّغَة إلى تراكيب لغوية مُجَرَّدة ثُمَّ يتَتَبَّعها دِلالِيًّا في السِّياقات التي تأتي فيها.

***

8 ــ الأداة «أَلَا» :

قال النُّحَاة عن ألا: «وترد «ألا» للتنبيه فتدخل على الجملتين نحو: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} يُونُس: 62، {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} هود: 8 وعرضية وتحضيضية؛

فتختصان بالفعلِيَّة، نحو:{أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} النور: 22 {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} التوبة: 13») (1). أي أَنَّه من خلال التتَبُّع السِّياقي لهذة الأداة تمخَّض هذا التتَبُّع عن ثلاث دلالات: التنبيه والعرض والتحضيض.

- والتنبيه هو «بيان الشيء قصدا بعد سبقه ضمنا، على وجه لو توجّه إليه السامع الفطن بكليته لعرفه، لكن لكونه ضمنيا ربما يغفل عنه» ) (2).

- والعرض: «هو الطلب برفق ولين. ويظهران ــ غالبا ــ في صوت المُتَكَلِّم، وفي اختيار كلماته رقيقة دالة على الرفق» ) (3).

- والتحضيض: «هو الطلب بشِدَّة وعنف. ويظهران ــ غالبا ــ في صوت المُتَكَلِّم، وفي اختيار كلماته جزلة قوية» ) (4).

وواضح من التعريفات الثلاث أنها تتطلب سياقا للتفرقة بينها، وأنَّ «سياق الكلام ونبرة صوت المُتَكَلِّم واختياره لكلماته» أهم ما يميِّز بين العرض والتحضيض.

(1) ابن هشام: أوضح المسالك إلى ألفِيَّة ابن مالك، 2/ 25

(2)

التهانوي: موسوعة كشاف اصطلاحات العلوم والفنون، 1/ 516

(3)

عباس حسن: النحو الوافي، 4/ 369

(4)

السابق: 4/ 369

ص: 299

وقد عبَّر سيبويه عن وظيفة التنبيه لـ «أَلَا» قائلا: «وأمَّا ألا فتنبيه، تقول: ألا إِنَّه ذاهبٌ. ألا: بلى» ) (1).

ولابد لكي تخلص ألا للتنبيه أَنْ تقوم قرينة السِّياق ونبرات صوت المُتَكَلِّم وكلماته لتدل على ذلك. والتنبيه يقتضي عقلا: مُنَبِّه ومُنَبَّه، ومنبه عليه؛ لذلك قال عبد القاهر:«التنبيه لا يكون إلا على معلوم» ) (2).

1 ــ الأداة «إِمَّا» :

الأداة «إِمَّا» ــ بكسر الهمزة وتشديد الميم ــ هي «حرف تفصيل غير عامل واجب التكرار» ) (3). وتفيد عدة معاني: التخيير، الإباحة، الإبهام، الشك) (4).

وقد تحدَّث سيبويه عن هذه الأداة قائلا: «ومن النعت أيضا: مررت برجلٍ إمّا قائمٍ وإمّا

قاعدٍ، فقد أَعلمهم أَنَّهُ ليس بمُضْطَجِعٍ ولَكِنَّه شكّ فى القيام والقعودِ، وأَعلمهم أَنَّهُ على أحدهما») (5).

ونلاحظ في نصّ سيبويه هذا أَنَّ «إِمَّا» تدلُّ على ثلاثة معان: «معنيين محصورين» ، ومعنى «مستبعد» ، ففي مثَل سيبويه في نصه السابق:«مررت برجلٍ إمّا قائمٍ وإمّا قاعدٍ، فقد أَعلمهم أَنَّهُ ليس بمُضْطَجِعٍ» معنيان محصوران: «القيام والقعود» ، ومعنى مستبعد «الاضطجاع» وأعتقد أَنَّ هذا المعنى الثالث المعنى المستبعَد لابد من اعتباره مع هذه الأداة؛ أي أَنَّ هذه الأداة إذا دَلَّت على الشك ارتبط بها معنيان محصوران ومعنى مستبعد، ودليلي على اعتبار هذا المعنى الثالث لهذه الأداة إضافة سيبويه التي أضافها بعد المثل:«فقد أَعلمهم أَنَّهُ ليس بمُضْطَجِعٍ» . فقد كان في مُكنته أَنْ يقول: «مررت برجلٍ إمّا قائمٍ وإمّا قاعدٍ، لكن القائل شكّ فى القيام والقعودِ» ؛ فلو لم تكن لعبارة سيبويه «فقد أَعلمهم أَنَّهُ ليس بمُضْطَجِعٍ» فائدة في الكلام لما ذكرها، ولكانت عبارة لا قيمة لها، ونعلم أَنَّ لكلِّ لفظة في الكتاب لها قيمتها وخطرها. أي أَنَّنا يمكن أَنْ نقعد للإداة «إِمَّا» ــ من خلال كلام سيبويه ــ بقولنا: إِنَّ هذه الأداة تدلُّ إذا أتت لمعنى الشك على ثلاثة معان: معنيين محصورين ومعنى مستبعد.

(1) سيبويه: الكتاب، 4/ 235

(2)

دلائل الإعجاز، 145

(3)

د. على توفيق الحمد: معجم أدوات النحو العربي، ص 71

(4)

السابق: ص 71 ــ 72

(5)

سيبويه: الكتاب، 1/ 429

ص: 300

واستخدام المُتَكَلِّم هذه الأداة بمعنى الشك يستلزم سياقا يضم طرفين: متكلم، ومخاطب أو مخاطبين، يجمعهم حديثٌ حول موضوع ما وقعوا في شكٍّ حول نسبة ثلاثة معان له، وحاروا في أيٍّ منها ينسب أو يوصف أو يناط بهذا الموضوع؛ فدفع هذا المُتَكَلِّم أَنْ يحصر الشك في معنيين فقط؛ وهذا يعني أَنَّ الأداة «إِمَّا» تأتي في الكلام وحالة الشك قائمة؛ وأنَّها قد أُتِيَ بها لتضييق دائرة الشك.

ومن الأدوات التي تفيد الشك الأداة «أو» ، والفرق بينها وبين «إِمَّا» أَنَّ «أو» يُأْتَى بها بعد أَنْ يكون الكلام قد بُدِئ به على سبيل اليقين ثُمَّ اعتراه الشك، أَمَّا «إِمَّا» فيُأْتَى بها وحالة الشك قائمة أصلا، قال المبرد:«وَزعم الْخَلِيل أَن الْفَصْل بَين «إِمَّا» و «أو» أَنَّك إِذا قلت: ضربت زيدا أَو عمرا فقد مضى صدر كلامك وَأَنت مُتَيَقن عِنْد السَّامع، ثُمَّ حدث الشَّك بِـ «أو» فَإِذا قلت: ضربت إِمَّا زيدا [وإما عمرو]؛ فقد بنيت كلامك على الشَّك») (1)، وقال ابن جني:«ومعنى «إِمَّا» كمعنى «أو» في الخبر والإباحة والتخيير، تقول: قام إِمَّا زيد وإِمَّا عمرو، وكُلْ إِمَّا تمرا وإِمَّا سمكا؛ إلا أنَّها أقعد في لفظ الشك من أو؛ ألا تراك تبتدئها شاكًّا وتقول: قام إما زيد وإما عمرو. و «أو» يمضي صدر كلامك على لفظ اليقين ثُمَّ تأتي بـ «أو» فيما بعد؛ فيعود الشك ساريا من آخر الكلام إلى أوله») (2).

****

2 ــ الأداة «ذاكَ» : من الأدوات التي تعرض لها سيبويه بالشرح والإيضاح الأداة «ذاكَ» ، فقال عنها:«ذاك اسمٌ مبهَم، وإِنَّمَا يذكر حين يُظن أَنَّهُ قد عَرفت ما يَعنى» ) (3). ونقف عند هذا النَّصّ محلِّلين ونخرج منه بالآتي:

• أنَّ اسم الإشارة «ذاكَ» اسم «مبهم» .

• أن هذا الاسم ــ كما نفهم من عبارة سيبويه ــ يذكره «متكلمٌ» للإشارة إلى «مسمّى محسوس» معروف لدى «المخاطب أو المستمع» ؛ لأَنَّه عُرِف من قبل. ولا نستطيع من كلام سيبويه هنا أَنْ نحدد ما إذا كان هذا «المسمّى المحسوس» لابد أَنْ يذكر في نفس الكلام أم من الممكن أَنْ تكون الإشارة في موقف سِياقِيّ سابق.

(1) المقتضب: ت: محمد عبد الخالق عظيمة، عالم الكتب، بيروت، 3/ 28

(2)

اللمع في العَرَبِيَّة: ص 95

(3)

سيبويه: الكتاب، 2/ 383 ــ 384 وقد أورد الأستاذ هارون في الحاشية ذات الرَّقْم 1 في ص 384 رواية أخرى للعبارة الأخيرة في النص هي ((قد عُرِف ما يعني)).

ص: 301

وصفة الإبهام التي وصف بها سيبويه اسم الإشارة «ذاكَ» ليست مقصورة قطعا على هذا الاسم بعينه، بل هي تنسحب على بقية الأسماء التي تذكر تحت مصطلح اسم الإشارة) (1)، وهي:«تا، وتي، وذي، وته، وذه، وتهي، وذهي، وذان، وذين، وتان، وتين، وأولاء مدّا وقصرا» .

وعند البحث عن معنى «الإبهام» الذي يقصده سيبويه في نصه مع اسم الإشارة «ذاكَ» وجدنا ابن يعيش يقول: «ويقال لهذه الأسماء) أسماء الإشارة (: مبهماتٌ؛ لأنها تشير بها إلى كل ما بحضرتك، وقد يكون بحضرتك أشياء، فتُلْبِس على المخاطب، فلم يدر إلى أيِّها تشير، فكانت مبهمة لذلك؛ ولذلك لزمها البيانُ بالصفة عند الإلباس. ومعنى الإشارة الإيماء إلى حاضر بجارحةٍ أو ما يقوم مقامَ الجارحة؛ فيتعرفُ بذلك؛ فتعريفُ الإشارة أَنْ تخصِّص للمخاطب شخصًا يعرفه بحاسَّةِ البَصَرِ، وسائرِ المعارف هو أَنْ تختصّ شخصًا يعرفه المخاطبُ بقلبه؛ فلذلك قال

النَّحْوِيّون: إِن أسماء الإشارة تتعرّف بشيئَيْن: بالعين وبالقلب») (2).

إن هذا التحديد لكلمة «المبهم» في نصّ سيبويه والذي أوضحه ابن يعيش يدلُّ على أَنَّ أسماء الإشارة تتطلب سياق حال لكي يستطيع «المُتَكَلِّم» تحديد الدِّلَالَة السِّياقِيَّة لهذا الاسم.

ومن الدلالات السياقية التي استنبطها النحاة لأسماء الإشارة الدلالات الآتية) (3):

1 ــ تمييز الشيء المقصود أكمل تمييز بالإشارة المحسوسة إليه.

2 ــ تنزيل الأشياء المعقولة، أو غير المشاهدة منزلة الأشياء المحسوسة المشاهدة.

3 ــ بيان حال المشار إليه في القرب والبعد.

4 ــ التعظيم.

5 ــ التحقير.

6 ــ التعريض بغباوة المخاطب.

وإشارة أسماء الإشارة ــ كما يفهم من نص سيبويه ــ إلى «مسمّى معروف بين المُتَكَلِّم والمخاطب» يسهم في «ترابط النَّصّ وتماسكه» ؛ لذلك اهتَمَّ بها علماء «نحو النَّصّ» ودرسوها تحت ما أسموه «وسائل الاتساق الإحالِيَّة» ، وقالوا في تعريفها: «هي تلك الألفاظ التي نعتمد عليها لتحديد المُحال إليه داخل النَّصّ أو خارجه، [أو هي ــ كما قال هاليدي ــ] الأدوات التي نعتمد في فهمنا لها

(1) قال ابن يعيش: ((فالمعرفة ما دَلَّ على شيء بعينه؛ وهو على خمسة أضرب: العلم الخاص، والمضمر، والمبهم وهو شيئان: أسماء الإشارة، والموصولات، والداخل عليه حرف التعريف والمضاف إلى أحد هؤلاء إضافة حقيقة))، ينظر: شرح المُفَصّل: 3/ 347

(2)

ابن يعيش: شرح المُفَصّل، 2/ 352

(3)

د. فاضل السامرائي: معاني النحو، 1/ 88

ص: 302

لا على معناه الخاص، بل على إسنادها إلى شيء آخر») (1). وأشاروا إلى أنَّها «من عناصر الإحالة Reference التي تعمل على تماسك النَّصّ وترابطه؛ وذلك لكونه يحدد دور المشاركين في الزمان والمكان داخل المقام الإشاري، وهو من العناصر المبهمة التي تحتاج إلى ما يفسرها متقدما كان أو متأخرا. وينقسم عند القدماء إلى إشارات تدلُّ على القرب، وأخرى تدلُّ على البعد حسب موقع المُتَكَلِّم أو الزمان، هذا بالإضافة إلى أَنَّه ضمير قوي وعنصر فاعل، إذ يمكن استخدامه

مكثفا؛ أي مشيرا إلى عدد كبير من الأحداث السابقة له؛ رغبة في الاختصار أو اجتنابا للتكرار» (2)

****

3 ــ الأدوات «الزائدة» :

آثرنا هنا أَنْ نجمع كل الأدوات التي يمكن أَنْ تأتي زائدة في الكلام، وأَنْ يكون كلامنا عنها جملة واحدة منعا للتكرار. وسنقوم فيما يلي بذكر هذه الأدوات «الزائدة» التي وقفنا عليها في الكتاب وبجوار كل منها كلام سيبويه.

وهذه الأدوات هي:

أالأداة «أنْ الزائدة» : ويقول سيبويه فيها: «وأما أنْ فتكون بمنزلة لام القسم في قوله: أَمَّا والله أَنْ لو فعلتَ لفعلتُ. وقد بينا ذلك في موضعه. وتكون توكيدًا أيضًا في قولك: لمَّا أَنْ فَعَلَ، كما كانت توكيدًا في القسم وكما كانت إِنْ مع مَا» ) (3).

ب الأداة «باء الجر الزائدة» : ويقول سيبويه فيها: «وقد تكون باء الإضافة بمنزلتها) مِن الجارة (في التوكيد، وذلك قولك: ما زيد بمنطلقٍ، ولستُ بذاهبٍ، أراد أَنْ يكون مؤكِّدًا حيث نفي الانطلاق والذهاب» ) (4).

ت الأداة «ما الزائدة» : ويقول سيبويه فيها: «وأما قوله عز وجل: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ}؛ فإِنَّما جاء لأنَّهُ ليس لـ ((مَا)) معنىً سِوى ما كان قبل أَنْ تجيء إلا التوكيد» ) (5)، وقال: «وتكون توكيدًا لغوًا، وذلك قولك: متى ما تأتِني آتِك، وقولك: غضِبْتَ من غير ما

(1) بحث للأستاذ الدكتور أحمد عفيفي، بعنوان:((الإحالة في النص دراسة في الدِّلَالَة والوظيفة)) ضمن الكتاب التذكاري للمؤتمر الثالث للعربية والدراسات النَّحْوِيَّة الذي عنوانه ((العَرَبِيَّة بين نحو الجملة ونحو النص))، 2/ 532

(2)

السابق، بحث الأستاذة الدكتورة: نادية رمضان، بعنوان:((عناصر السبك بين القدماء والمحدثين)) 2/ 576

(3)

سيبويه: الكتاب، 4/ 222

(4)

سيبويه: الكتاب، 4/ 225

(5)

سيبويه: الكتاب، 1/ 180

ص: 303

جُرْمٍ. وقال الله عز وجل: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} وهي لغوٌ في أَنَّها لم تُحْدِث إذ جاءت شيئًا لم يكن قبل أَنْ تجيء من العمل، وهي توكيدٌ للكلام») (1).

ث الأداة «مِنْ» : ويقول سيبويه فيها: «وقد تدخل [مِن] في موضعٍ لو لم تدخل فيه كان الكلام مستقيما ولَكِنَّها توكيد بمنزلة ما، إلا أنها تَجُر لأَنَّها حرف إضافة، وذلك قولك: ما أتاني من رجلٍ وما رأيت من أحدٍ. ولو أُخرجت من كان الكلام حسنًا، ولَكِنَّه أَكَّدَ بمن لأَنَّ هذا موضع تبعيضٍ، فأراد أَنَّهُ لم يأته بعضُ الرجال والناس. وكذلك: ويحه من رجلٍ، إِنَّمَا أراد أَنْ يجعل التعجب من بعض الرجال. وكذلك: لي مِلْؤُه من عسلٍ، وكذلك: هو أفضل من زيدٍ، إِنَّمَا أراد أَنْ يفضله على بعضٍ ولا يعم» ) (2).

ج الأداة «لا الزائدة» : ويقول سيبويه فيها: ((وأَمَّا لا فتكون كما في التوكيد واللغو. قال الله عز وجل: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} الحديد: 29؛ أي لأَنَّ يعلم»)(3).

ومن خلال تأمُّلنا لهذه النصوص وتحليلها مجتمعة نخرج بالملحوظات الآتية:

• الملحوظة الأولى: في النَّصّ الذي أورده سيبويه مع «مِنْ» الزائدة نقف على قوله: «وقد تدخل [مِن] في موضعٍ لو لم تدخل فيه كان الكلام مستقيما

ولو أُخرجت مِنْ كان الكلام حسنًا» ونفهم منه: أَنَّه يصح الاستغناء عن «مِنْ» في قولنا: «ما أتاني من رجلٍ» ونقول: «ما أتاني رجلٌ» . والذي يُبَرِّرُ هذا الاستغناء ــ كما في عبارة سيبويه ــ أَنَّ الكلام بعد الحذف ظل مستقيما حسنا.

والجملة «المستقيمة» عند سيبويه هي «الكلام المستقيم استقامة نحوِيَّة ودلالية» ) (4)، والكلام المستقيم نحويا عنده تتوزع استقامته على ثلاثة أنواع، هي: «المستقيم الحسن، والمستقيم الكذب، والمستقيم القبيح، فكل جملة صحيحة نحويا تُعَدُّ مستقيمة، ولكن الحكم على هذه الاستقامة بالحسن

(1) سيبويه: الكتاب، 4/ 221

(2)

سيبويه: الكتاب، 4/ 225

(3)

سيبويه: الكتاب، 4/ 222

(4)

د. محمد حماسة عبد اللطيف: النحو والدِّلَالَة، دار الشروق، القاهرة، ط 2، ) 2000 م (، ص 66، ويقول أستاذنا د. حماسة في الحاشية ذات الرَّقْم امن نفس الصفحة: ((لمصطلح الكلام في كتاب سيبويه معاني كثيرة، من بينها وأكثرها دورانا الجملة)). وينظر أيضا لسيادته: بناء الجملة العَرَبِيَّة، دار غريب، القاهرة، 2003 م، ص 21 وما بعدها.

ص: 304

أو بالكذب يتعلق بالمعنى الذي تفيده عناصر الجملة عندما تترابط نحويا») (1). فمثلا الجملة:

«أتيتك أمس» هي من المستقيم الحسن عند سيبويه وذلك لـ «توافق الاختيار بين عناصر بناء الجملة ــ وهي الصورة الصَّوْتِيَّة المنطوقة ــ في أمور كثيرة؛ فالفعل الماضي ((أتى)) يصحُّ وقوعه من الفاعل وهو في الجملة ((المُتَكَلِّم)) وتعبِّر عنه تاء الفاعل. ويمكن تحقق المفعوليّة مع المفعول به ــ وتعبِّر عنه في الجملة كاف المخاطب ــ والدِّلَالَة الأوَّلية لظرف الزمان ((أمس)) هي المضي، فلا تناقض بين وقوع الفعل وفاعله مع مفعوله وبين المفعول فيه» ) (2).

أي أَنَّ الذي برَّر الاستغناء عن «مِنْ» في جملة «ما أتاني من رجلٍ» أَنَّ الجملة بقيت صحيحة نحويا ودِلالِيًّا، ولم يصبها خلل في التركيب النَّحْوِيّ أو فسادٌ في الدِّلَالَة.

وبمفهوم المخالفة يمكن أَنْ نقول إِنَّ كلَّ ما يسبِّب خللا في التركيب النَّحْوِيّ للجملة أو فسادا دِلالِيًّا لا يصحُّ الاستغناء عنه.

إذا كان استنتاجنا هنا صحيحا فهل يصحُّ لنا أَنْ نضع تعريفا لـ «للكلمة الزائدة» ونقول إِنَّ:

«الكلمة الزائدة هي التي يصح حذفها من الجملة وتبقى بعد الحذف صحيحة نحويا ودِلالِيًّا» ؟

إذا أخذنا بهذا كتعريف للكلمة الزائدة فلن يسلم من الاعتراض عليه، ويمكن نقضه بسهولة، ويُؤْخَذ علينا السبيل به، وذلك بأن نقول مثلا: هل الحرف «إِنَّ» في قولنا «إِنَّ زيدًا منطلق» حرف زائد؟ فبناء على التعريف السابق يمكن الاستغناء عن الحرف «إِنَّ» ويبقى تركيب الجملة صحيحا نحويا ودِلالِيًّا. والواقع يقول إِنَّه لا أحدَ من النُّحَاة ــ حسبما أعلم ــ قال إِنَّ «إِنَّ مكسورة الهمزة ومشددة النون» تأتي زائدة. وعقلا لا يمكن أَنْ نقول إِنَّ «إِنَّ» تأتي زائدة؛ لأنَّها تأتي لحاجة سِيَاقِيَّة مُهِمَّة من قِبَل المُتَكَلِّم، وهذه الحاجة السِّياقِيَّة هي تأكيد نسبة الخبر لاسم إِنَّ كما ذكرنا ذلك عند الحديث عن إن.

إذن فإِنَّنَا لا يمكن أَنْ نعتمد على الاستنتاج السابق في تحديد «الكلمة الزائدة» ، ولا يمكن أَنْ نأخذ بالقول الذي يقول إِنَّ معنى زيادة «الحرف» هو «تركه مهملا لا يؤثِّر في غيره ولا يتَأَثَّر بغيره، سواء كان في أصله مهملا مثل:((لا النافية الزائدة))، أم كان في أصله عاملا، مثل:((كان))

الزائدة») (3)؛ لأَنَّ هذا يصطدم بما قرَّره سيبويه مثلا مع الأداة «مِنْ» حيث قرر «أنَّها تَجُر لأَنَّها حرف إضافة» .

(1) د. محمد حماسة عبد اللطيف: النحو والدِّلَالَة، ص 66

(2)

السابق: 68

(3)

عباس حسن: النحو الوافي، 1/ 66 الحاشية ذات الرَّقْم 1

ص: 305

إذن ما هو تعريف الكلمة الزائدة؟

سنحاول أَنْ نجتهد ونضع تعريفا للكلمة الزائدة في الجملة، ولكن قبل هذه المحاولة نوجَّه النظر إلى:

o أنَّ القاسم المشترك بين كل الحروف الزائدة هو أنَّها تأتي للتوكيد.

o أنَّ التوكيد درجات، فليس كل التوكيد على درجة واحدة من القوة، فمثلا التوكيد بالنون

«الثقيلة أشد من الخفيفة» ) (1)، قال السيوطي:«نون التوكيد نوعان خفيفة وثقيلة، والتأكيد بها ــ أي الثقيلة ــ أشد من التأكيد بالخفيفة نصّ عليه الخليل» ) (2). وطالما أَنَّ التوكيد على درجات فيمكن أَنْ نقول إِنَّ من التوكيد ما هو ضروري لمصلحة الجملة والسِّياق ومنها ما هو ثانوي. والذي يتحكم في درجة هذه الأهمِيَّة هو بلا شك سياق الحال الذي أبرز مكوناته المُتَكَلِّم وإرادته والمخاطب. فقد نصّ العلماء على أَنَّ هناك «ضروبا من التوكيد لا ينظر فيها إلى حال المخاطب، وإِنَّمَا ينظر فيها المُتَكَلِّم إلى حال نفسه، ومدى انفعاله بهذه الحقائق، وحرصه على إذاعتها، وتقريرها في النفوس كما أحسها مقررة أكيدة في نفسه، وهذا اللون كثير جدا وله مذاقات حسنة» ) (3)؛ وفي قوله تعالى {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} يوسف: 32 يقول النُّحَاة معللين لاستخدام الآية لنوني التوكيد الثقيلة والخفيفة: «فَإِنَّ امرأة العزيز كانت أشد حرصًا على سجنه من كونه صاغرًا؛ لأنها كانت تتوقع حبسه في بيتها؛ فتقرب منه وتراه كلما أرادت» ) (4).

ونشير إلى أَنَّ التوكيد بـ «إِنَّ» ضرروي لمصلحة السِّياق، والتوكيد بـ «من الزائدة، باء الجر الزائدة، ما الزائدة، لا الزائدة» ثانوي. بناء على هاتين النقطتين وما سبقهما يمكن أَنْ نعرف الكلمة الزائدة بأنَّها «الكلمة التي لو حذفت لم يحدث خللٌ في التركيب النَّحْوِيّ أو الدِّلَالِيّ والتي تأتي لتضيف توكيدًا ثانويا للجملة» ، ولا شك أَنَّ هذا التعريف يلعب فيه سياق الحال دورا مهما، فهو الذي يُعَوَّلُ عليه تحديد ضرورية السِّياق للتوكيد أو ثانويته.

(1) الحسن بن قاسم المرادي: الجنى الداني في حروف المعاني، ص 141

(2)

همع الهوامع، 2/ 611

(3)

د. محمد محمد أبو موسى: خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني، مكتبة وهبة، القاهرة ط 7) بدون تاريخ للطبعة (، ص 91

(4)

حاشية الصبان على شرح الأشموني لألفِيَّة ابن مالك، 3/ 314

ص: 306

• الملحوظة الثانية: قال بعض النُّحَاة إِنَّ التوكيد) الثانوي (الذي تأتي به أحرف الزيادة يأتي «لتوكيد معنى موجود

[و] لإفادة توكيد المعنى القائم») (1). وهذا الكلام يجده الباحث غامضا قليلا بناء على ما يفهمه من كلام سيبويه، فهو يقول مثلا مع الأداة «مِن»:

«ويحه من رجل؛ إِنَّمَا أراد أَنْ يجعل التعجب من بعض الرجال» ، أي أَنَّ «مِن الزائدة» أفادت في هذه الجملة «التبعيض» ، ولا يفهم هذا التبعض من الجملة بدون «مِن» ، بل يفهم من الجملة

«ويحه رجلا» أَنَّ المُتَكَلِّم يتعجب من سلوك شخص ما بناء على ملابسات سِيَاقِيَّة ما دفعته لهذا التعجب، وهذا ما قاله سيبويه نفسه عن الأداة «ويح» إذ يقول:«إذا قلت ويحه فقد تعجبت وأبهمتَ» ) (2). ولا يفهم من جملة: «ما أتاني أحد» إلا معنى العموم؛ لأَنَّ «أحد» كلمة نكرة في سياق نفي، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم حسبما تقرر القاعدة الأصولية، ولم يُحصَّل من الجملة معنى التبعيض.

ما أرمي إليه هنا أَنَّ معنى التبعيض لم يكن قائما في الجملة ثُمَّ أتت «مِن» لتأكيده، بل إِنَّ المعنى القائم أصلا هو التعجب في الجملة الأولى والعموم في الثانية.

• الملحوظة الثالثة: استخدم سيبويه كلمة «لغو» في وصف بعض الحروف الزائدة، فقال عن

«لا الزائدة» : «وأما لا فتكون كما في التوكيد واللغو، قال الله عز وجل {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ}» ، والجمع بين كلمتي «التوكيد واللغو» بحرف العطف «الواو» في وصف الأداة «لا الزائدة» يدل على أنهما متغايران، وأنَّ «التوكيد + اللغو» يحدادن كون الكلمة زائدة، وحسب التعريف الذي اقترحناه فَإِنَّ «التوكيد» المقصود هو التوكيد الثانوي، ولا بد أَنْ تكون كلمة «اللغو» تعني «الاستقامة الحسنة للجملة بعد حذف الكلمة التي جيء بها لإضافة هذا التوكيد الثانوي» . أي أَنَّ كلمة «اللغو» لا تعني عند سيبويه «الكلام العبثي» الخالي من الصحة النحوِيَّة والدِّلالِيَّة، بل تعني الكلام الصحيح نحويا ودِلالِيًّا حتى بعد الاستغناء عن عنصر منه. ويؤكد هذا اسشهاده بالآية القُرْآنِيَّة {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} .

وعندما وصف سيبويه «ما الزائدة» قال: «وتكون توكيدًا لغوا» ؛ أي تكون ما الزائدة توكيدًا وتكون لغوا؛ أي: يصح الاستغناء عنها وتبقى الجملة مستقيمة حسنة؛ أي صحيحة نحويا ودِلالِيًّا؛ أي أَنَّ اللغو مرادف لما قاله سيبويه في موضع آخر من كتابه عن الكلام «المستقيم الحسن» .

***

(1) عباس حسن: النحو الوافي، الحاشية ذات الرَّقْم 1، 1/ 66

(2)

سيبويه: الكتاب، 2/ 174

ص: 307

4 ــ أدوات «العرض والحض هَلَّا، ألا، لولا» :

عرض سيبويه للوظيفة السِّياقِيَّة للأدوات «هَلَّا، ألا، لولا» ، وأشار إلى أَنَّ هذه الأدوات قد تفيد العَرْضَ، فقال:«وزعم يُونُس أَنَّكَ تقول: هَلَاّ تقولَنَّ، وألَاّ تقولنَّ. وهذا أقرب لأَنَّكَ تعرِض، فكأنَّك قلت: افعلْ؛ لأنَّهُ استفهام فيه معنى العرض. ومثل ذلك: لولا تقولنَّ، لأَنَّكَ تَعرض» ) (1).

ولم يبين لنا سيبويه المقصود بـ «العرض» ، وقد تكفَّل النُّحَاة من بعده بتوضيح هذا

«المصطلح» ، وإبراز أهم خصائصه النحوِيَّة والدِّلالِيَّة والصَّوْتِيَّة، كما اهتموا بتوضيح الفرق بين العرض وبين «التحضيض» ، والأدوات التي تأتي لأحدهما أو لكليهما، فقالوا:

• العرض هو «طلب الشيء بلين وتأدب، وهذا ما يميِّزه عن التحضيض الذي يعني طلب الشيء بحثٍّ وإزعاج» ) (2).

• وأوضح أبو حيان الفرق بين العرض والتحضيض، فقال:«العرض والتحضيض متقاربان والجامع بينهما التنبيه على الفعل، إلا أَنَّ التحضيض فيه زيادة تأكيد وحث على الفعل، فكل تحضيض عرض؛ لأنّك إذا حضضته على فعل فقد عرضته عليه» ) (3).

• ومن النُّحَاة من اهتَمَّ بإبراز الجانب الصوتي بين العرض والتحضيض كـ «سمة» للتفريق بينهما، فقال:«التحضيض هو: الحث وطلب الشيء بقوة وشدة، تظهر في نبرات الصوت وكلماته، والعرض: طلب الشيء برفق وملاينة، تعرف من نبرات الصوت، وصياغة كلماته أيضًا» ) (4).

• واهتم النُّحَاة بالأدوات التي تأتي للعرض والتحضيض، وحددوها بالأدوات «ألَا، هلَّا، لولا» وتلك هي الأدوات التي ذكرها سيبويه، وربطها في نصه هنا بالعرض فقط، وزادوا عليها «أَلَّا ــ بالتشديد ــ ولوما» وقالوا: «إذا كانت الأداة للتحضيض أو للعرض وجب أَنْ يليها المضارع إما ظاهرا، وإما مقدرا، يفسره ما بعده؛ بشرط استقبال زمنه في حالتي ظهوره وتقديره؛ لأَنَّ أداة الحض والعرض تخلص زمن المضارع للمستقبل؛ إذ معناها لا

(1) سيبويه: الكتاب، 3/ 514

(2)

د. محمد سمير نجيب اللبدي: معجم المصطلحات النَّحْوِيَّة والصَّرْفِيَّة، ص 152

(3)

السيوطي: همع الهوامع 2/ 390 وكرر ابن هشام 761 هـ نفس الكلام في ((شرح شذور الذهب))، ص 399

(4)

عباس حسن: النحو الوافي، 2/ 131 الحاشية ذات الرَّقْم 1، وكرر الأستاذ عباس حسن نفس هذا الكلام في المواضع 4/ 173، 4/ 369

ص: 308

يتحقق إلا فيه») (1)، وإذا «دخلت على ماض خلصت زمنه للمستقبل، بشرط أَنْ تكون للمعنى الذي ذكرناه؛ كقوله تعالى {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} التوبة: 122؛ أي: فلولا ينفر» ) (2).

• وعللوا اختصاص هذه الحروف بـ «الفعلِيَّة» ؛ فقالوا: «مضمون الجملة الفعلِيَّة حادث متجدِّد فيتعلق به الطلب بقوة وحث، أو برفق وهو ما يفيده التحضيض والعرض

، وإن دخلا على الماضي لفظًا أو تأويلا، كانا للزجر وللتوبيخ على ترك الفعل في الماضي نحو قوله ــ تعالى ــ {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} النور: 13») (3).

• وقرنوا بعض الأدوات بالعرض بناء على التتَبُّع الاستعمالي لها، فقالوا عن الأداة «أَلَا» أنَّها «للعرض، وتكاد تنفرد به «أَلَا» ، وهو الأكثر في استعمالها») (4).

بعد كل هذه الأقوال نقول:

• إنَّ «البعد السِّياقي» واضح في كلِّ ما قيل عن هذه الأدوات، فهو لا بدَّ أَنْ يتدخل في تجلية الفرق بين العرض والتحضيض، فالسِّياق هو الذي يحدد قصد المُتَكَلِّم ــ مع نبرات صوته ــ إذا كان كلامه عرضا أم حضا.

• والبعد السِّياقي هو الذي يفسر ملازمة هذة الأدوات للفعلية.

• والبعد السِّياقي هو الذي مكَّن النُّحَاة ــ بما فيهم إمامهم سيبويه ــ من الوقوف على هذه الأدوات في حد ذاتها وتحديد وظيفتها الاستعمالية بالعرض أوالتحضيض، وإلا كيف يمكننا التفرقة مثلا بين «ألا» التي تفيد التنبيه و «ألا» التي تفيد العرض.

• والبعد السِّياقي هو الذي يفسر انتقال هذه الأدوات من «العرض والحض» إلى

«التوبيخ والزجر والتنديم» ) (5).

(1) السابق: 4/ 513

(2)

السابق: 4/ 514

(3)

محمد عبد العزيز النجار: ضياء السالك لأوضح المسالك، 4/ 77

(4)

عباس حسن: النحو الوافي، 4/ 513

(5)

جاء في ((جامع الدروس العَرَبِيَّة)) لمصطفى بن محمد سليم الغلايينى: ((والفرقُ بينَ التحضيضِ والتّنديمِ أنَّ هذه الأحرفَ إِنْ دخلت على المضارع فهيَ للحضِّ على العملِ وتركِ التهاوُنِ به، نحو: ((هَلاّ يرتدعُ فلانٌ عن غيِّه)

((أَلَاّ تَتُوبُ من ذنبِك)((لولا تستغفرونَ اللهَ))، {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} الحجر: 7، {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} النور: 22 وإن دخلت على الماضي كانت لجعلِ الفاعلِ يندَمُ على فواتِ الأمر وعلى التّهاون به، نحو:((هلاّ = اجتهدتَ))، تُقرِّعهُ على إهمالهِ، وتُوبِّخهُ على عدَم الاجتهاد؛ فتجعلُهُ يندَمُ على ما فَرَّطَ وضيَّع. ومنهُ قوله تعالى:{فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} الأحقاف: 28))، 3/ 260

ص: 309

5 ــ الأداة «كَلَّا» :

قال سيبويه: «وأما كلا فردعٌ وزجرٌ» ) (1). والمعاني المعجمية للردع والزجر تقود إلى أَنَّ هذه الكلمة تحتاج متكلما «رادعا» ومخاطبا «مردوعا» ، وأمرا «مردوعا عنه» ، قال ابن منظور:

((الرَّدع: الكفُّ عن الشيء. ردعه يردعه ردعا فارتدع: كفه فكف؛

وترادع القوم: ردع بعضهم بعضا») (2)؛ أي أَنَّ هذه الأداة تتطلب سياقا وقع فيه أمر لا يقبله العُرْفُ أو الشرع، وقع فيه المخاطَب المردوع، ودفع المُتَكَلِّم الرادع لنهيه عن هذا الأمر. أي أَنَّ هذه الكلمة من الكلمات التي تتطلب سياقا مُعَيَّنًا ليصحَّ استعمالها.

قال ابن هشام نقلا عن سيبويه وغيره عن هذه الأداة: «وهي عند سيبويه والخليل والمبرد والزجاج وأكثر البصريين حرف معناه الردع والزجر لا معنى لها عندهم إلا ذلك، حتى إِنَّهُم يجيزون أبدا الوقف عليها والابتداء بما بعدها» ) (3).

وعبارة ابن هشام التي نقل فيها إجازة سيبويه الوقف على «كَلَّا» و «الابتداء بما بعدها» عبارة مُهِمَّة. فهي تتضمن إشارة مُهِمَّة إلى أهمِيَّة السِّياق في التحليل الدِّلَالِيّ والنَّحْوِيّ لهذه الكلمة والجملة التي تليها. فسيبويه لن يجيز الوقف عليها إلا بعد دراسة سِيَاقِيَّة لها في النصوص المختلفة كما نعلم من منهجه.

ومما يؤكد أهمِيَّة السِّياق سياق الحال في التحليل الدِّلَالِيّ والنَّحْوِيّ لهذه الأداة ما أثارته هذه الأداة بين قُرّاء القرآن والنُّحَاة من خلاف من حيث الوقف عليها وعدم الوقف، فقد «اختلف النَّحْوِيّون في الوقف على «كَلَّا» والابتداء، فذهبت طائفة إلى أنَّها افتتاح كلام، فلا يوقف عليها البتة، ويوقف على ما قبلها. وذهبت طائفة إلى أنَّها لا يوقف عليها ولا يُبتدَأ بها

، وذهب قوم إلى أنَّها يوقف عليها إذا كانت رأس آية خاصة

، وذهبت طائفة إلى أنَّها يوقف عليها في كل موضع

وذهبت طائفة إلى تفصيلها؛ فيوقف عليها إذا كان ما قبلها يُرد ويُنكر. ويبتدأ بها إذا كان ما قبلها لا يُرد ولا ينكر، وتوصل بما قبلها، وما كان بعدها إذا لم يكن قبلها كلام تام») (4).

(1) سيبويه: الكتاب، 4/ 235

(2)

لسان العرب: 8/ 121

(3)

مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ص 249

(4)

أبو محمد مَكِّيُّ بن أبي طالب القيسي: الوقف على كلَّا وبلى في القرآن، ت: د. حسين نصار، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط 1، ) 2003 م (، ص 50

ص: 310

وقد اختار الإمام مَكِّيُّ بنُ أبي طالب المقرئ) (1) الاختيار الأخير، قائلا «وهذا المذهب أليق بمذاهب القرّاء وحُذاق أهل النظر، وهو الاختيار، وبه آخُذُ، وسنفسر كلَّ حرف في موضعه على هذا المذهب الذي أختاره، خاصة بما يوجبه النظر، وما عليه حذاق النَّحْوِيّين وأهل المعاني» ) (2).

والإمام مكِّيُّ بهذا يخالف سيبويه الذي يرى صحة الوقوف على كل حال، ولكن أيًّا كان اختلافهما فقد وجدنا الإمام مَكِّيًّا يستند في بعض الآيات إلى السِّياق سياق الحال) سبب النزول (لتحديد الوقف مع الأداة «كَلَّا»، فيقول مثلاعند قوله تعالى {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا} المدثر: 15 - 16: «الوقف على «كَلَّا» حسن مختار، على معنى لا أزيد في ماله وولده. وكان نزول الآية في الوليد ابن المغيرة. قال سعيد بن جبير: كان له ثلاثة عشر ولدا، كلهم ذو بيت؛ فلما نزلت {كَلَّا} في قصته لم يزل في إدبار من الدنيا من نفسه وماله وولده حتى هلك؛ فهذا يؤَيِّد حسن الوقف

عليها») (3).

فهذا النَّصّ يشير إلى الاستناد إلى السِّياق عند الإمام مَكِّيُّ ومن قبله سيبويه في تحليل هذه الأداة.

6 ــ الأداة «لَا» :

أشار النُّحَاة إلى «لا» العاطفة فقالوا إنها «تنفي ما وجب للأول» ) (4)، وقالوا:«وهي تقع لإخراج الثاني مما دخل فيه الأول، وذلك قولك: ضربتُ زيدًا لا عمرًا، ومررت برجلٍ لا امرأةٍ» ) (5).

وعندما تعرض سيبوبه لهذه الأداة قال: «مررتُ برجلٍ راكعٍ لا ساجِدٍ، لإِخراجِ الشكَّ أو لتأكيد العِلم فيهما» ) (6)، وقال:«ومن ذلك: مررت برجل لا امرأة، أشركت بينهما «لا» في الباء وأحقَّتِ المرورَ للأوَّل وفصلَتْ بينهما عند من التبسا عليه فلم يدرِ بأيهما مررتَ») (7).

(1) هوالعلامة المقرئ، أبو محمد، مكِّيُّ بن أبي طالب، القيسي القيرواني، ثم القرطبي، صاحب التصانيف. ولد بالقيروان سنة خمس وخمسين وثلاث مائة. وكان من أوعية العلم مع الدين والسكينة والفهم، وأقرأ بجامع قرطبة وعظم اسمه، وبعد صيته. وله ثمانون مصنفا، كان خَيِّرًا متدينا، توفي في المحرم سنة سبع وثلاثين وأربع

مائة. ينظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء، 13/ 232

(2)

الوقف على كلَّا وبلى في القرآن، ص 50

(3)

السابق، 57

(4)

الزمخشري: المُفَصّل في صنعة الإعراب، ص 403

(5)

ابن السراج: الأصول في النحو، 2/ 55

(6)

سيبويه: الكتاب، 1/ 430

(7)

سيبويه: الكتاب، 1/ 439

ص: 311

لقد أبان سيبويه عن هذه الأداة الجانب السياقي الذي تأتي إليه، فهي تأتي لـ:

• لإخراج الشك من ذهن المخاطب الذي قد يلتبس عليه أين وقع الفعل: أعلى المعطوف أم على المعطوف عليه؟

• لتأكيد العلم فيهما.

والفرق بين تحديد سيبويه للأداة «لا» وتحديد بعض النُّحَاة الذين أتوا من بعده ــ أَنَّ سيبويه اهتَمَّ بإضافة البعد السِّياقي لتحديده، وهو ما لا نجده في تحديد ابن السراج ولا الزَّمَخْشَرِيّ السابقين. فـ «لا» ــ في تحديد سيبويه ــ تأتي لـ «إِخراجِ الشكِّ ورفع اللَّبس أو لتأكيد العلم» ، والشك والتأكيد يتطلبان ــ كما سبق أنْ أشرنا ــ «مسرحا لغويا» يشعر فيه «المُتَكَلِّم» من خلال «ملابسات سِيَاقِيَّة

مُعَيَّنَة» أَنَّ «المخاطَب» غير مقتنع بما يُقال أو يسمع، فـ «يَدْفَعُ» هذا المُتَكَلِّم إلى اللجوء إلى

«لا» العاطفة لإزالة الشك ورفع الالتباس أو تأكيد المعنى.

وكلام سيبويه هنا عن «لا» دليل دامغ على اعتبار سيبويه لسياق الحال عند التَّقْعِيد النَّحْوِيّ.

وقد ضم بعض النُّحَاة هذا البعد السِّياقي عند تحديده لـ «لا» فقال: «هي حرف لرد السامع عن الخطأ في الحكم إلى الصواب؛ أي لنفي الحكم عن المعطوف وإثباته للمعطوف عليه» ) (1).

7 ــ الأداة «لَمَّا» :

من الأدوات التي اعتنى سيبويه بدلالتها الأداة «لَمَّا» ، فقال عنها:«ولمايَفْعَلْ وقد فَعَلَ، إنَّما هما لقومٍ ينتظرون شيئًا. فمن ثم أشبهتْ قَدْ لَمَّا، في أنَّها لا يُفصَل بينها وبين الفعل» ) (2).

الأداة «لَمَّا» كما يقول سيبويه إِنَّمَا هي «لقوم ينتظرون شيئا» ، وهذا العبارة على وجازتها ترسم مسرحا لغويا كاملا، يضم «أفرادا» جمعهم «سياق ما» جعلهم «ينتظرون» وقوع «حدث ما» ، والتعبير بالفعل المضارع «ينتظرون» يدل على استمرارية هذا الانتظار؛ أي أَنَّ انتظار الحدث قد بدأ قبل زمن الكلام واستمرَّ إلى الحال ومازال ممتدا بعده. وأكَّد هذا المعنى باستخدامه لأداة التوكيد

«إِنَّما» .

وقد أشار النُّحَاة لهذه الاستمرارية بتأكيدهم على «وجوب امتداد الزمن المنفي بها إلى الزمن الحالي امتدادا

، وذلك بأن كون المعنى منفيا في الزمن الماضي وفي الزمن الحالي أيضا من

(1) د. على توفيق الحمد: المعجم الوافي في أدوات النحو العربي، ص 270

(2)

سيبويه: الكتاب، 3/ 114 ــ 115

ص: 312

غير اقتصار على أحدهما، نحو: بهرني ورد الحديقة، وأغراني بقطفه، ولما أقطفه، أي: ولما أقطفه؛ لا في الزمن الماضي «قبل الكلام» ، ولا في الحال «وقت الكلام» ») (1).

إن توضيح سيبويه للمعنى الدِّلَالِيّ لـ «لَمَّا» بعبارته «إِنَّما هي لقوم ينتظرون شيئا» يدل على صحة ما ذهبنا إليه من معايشة سيبويه للتركيب النَّحْوِيّ الذي يدرسه في النصوص الحَيَّة المنطوقة، تلك المعايشة التي لا تغفل أبدا ملابسات السِّياق التي تقال فيه. كما تدل هذه الجملة أيضا على تتَبُّع سيبويه للتركيب الدِّلَالِيّ في السِّياقات الدِّلالِيَّة المختلفة التي يرد فيها.

8 ــ أدوات النصب «إذن، حتى، فاء السببية» :

يُنْظَر ما كتب عنها في السِّياق والجملة الفعلِيَّة.

9 ــ الأداة «نِعْمَ» :

إن دراستنا للأداة ((نِعم)) وغيرها من الأدوات «السِّياقِيَّة» تؤكد على أَنَّ السِّياق سياق الحال هو المتحكم الأوَّل في استعمال الأداة بوجه عام؛ بمعنى أَنَّ السِّياق إذا اقتضى «شكا» أتينا بالأداة المناسبة التي تزيل هذا الشك، وإذا اقتضى «تأكيدا» أتينا بالأداة المناسبة التي تفيد التوكيد، وإذا اقتضى «ثناء وتعجبا» أتينا بالأداوت التي تفيد الثناء والتعجب.

يقول سيبويه: «وحسبُك به رجلا مثل نِعم رجلا في العمل وفي المعنى؛ وذلك لأَنَّهما ثناء في استيجابهما المنزلة الرفيعة» ) (2).

إن ((نِعم)) تأتي لـ «الثناء» للإشارة إلى «المنزلة الرفيعة» ، ولا بدَّ لهذه المنزلة الرفيعة من صاحب ولا بد من وجود «خلفية اجتماعِيَّة» عند المُتَكَلِّم تجعله يقف على هذه المنزلة الرفيعة لدى الممدوح ويُثني عليه بسببها.

ويؤكد ما ذهبنا إليه من وجود خلفية اجتماعِيَّة موجودة سلفا لتبرير استخدام ((

نِعم للثناء)) أَنَّ الثناء «مدح مكرر» ) (3)، وأنَّه «ذكر ما يشعر بالتعظيم» ) (4)؛ وله المدح المكرر، والإشعار بالتعظيم لا بدَّ من خلفية اجتماعِيَّة. وتحديد ((نِعم)) بـ «الثناء» وليس بالتعجب يدل على اعتباره للسياق والخلفيَّة الاجتِماعِيَّة عند التَّقْعِيد والتوجيه.

10 ــ الأداة «نِيْه» :

يُنظر ما كتب عنها في آخر أسلوب الاستفهام من مبحث السِّياق والأساليب النحوِيَّة.

(1) عباس حسن: النحو الوافي، 4/ 419

(2)

سيبويه: الكتاب، 2/ 176

(3)

أبو هلال العسكري: معجم الفروق اللُّغَوِيَّة، ص 150

(4)

التهانوي: كشاف اصطلاحات الفنون، 1/ 541

ص: 313

11 ــ الأداة «وَيْ» :

قال سيبويه عن هذه الأداة: «وسألت الخليل ــ رحمه الله تعالى ــ عن قوله: {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}، وعن قوله تعالى جدّه: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} القصص: 82؛ فزعم أنَّها «وَيْ» مفصولةٌ من كأنَّ والمعنى وقع على أَنَّ القوم انتبهوا؛ فتكلموا على قدر علمهم، أو نُبّهوا فقيل لهم: أما يشبه أَنْ يكون هذا عندكم هكذا») (1).

ونقل الأستاذ هارون في الحاشية ذات الرقْم 6 من 2/ 154 قول السيرافي تعليقا على نصّ سيبويه السابق فقال: «في ويكأن ثلاثة أقوال: أحدهما قول الخليل الذي ذكرناه، تكون كلمة تَنَدُّم، يقولها المُتَنَدِّمُ لغيره، ومعنى كَأَنَّ التحقيق

».

وتعبير كلمة «وَيْ» عن «التندم» لم تأت في عبارة سيبويه عن الخليل، لكن عبارة السيرافي تدل على أَنَّ إشارة الخليل عن «وَيْ» تضمنت إشارته لمعنى «التندم» ، ويؤكد تضمنَ عبارةِ الخليلِ لمعنى التندم ما أورده الفخر الرازي عند تفسير الأَيَّة {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} القصص: 82، حيث قال:«أَمَّا قوله: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ}، فاعلم أَنَّ «وَيْ» كلمة مفصولة عن كَأَنَّ وهي كلمة مستعملة عند التنبه للخطأ وإظهار التندم، فلما قالوا: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون، ثُمَّ شاهدوا الخسف؛ تنبهوا لخطئهم؛ فقالوا: وي، ثُمَّ قالوا: كَأَنَّ الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده بحسب مشيئته وحكمته لا لكرامته عليه، ويضيق على من يشاء، لا لهوان من يضيق عليه بل لحكمته وقضائه ابتلاء

وفتنة. قال سيبويه: سألت الخليل عن هذا الحرف فقال إِنَّ «وَيْ» مفصولة من كَأَنَّ وإن القوم تنبهوا وقالوا متندمين على ما سلف منهم وي») (2).

على كلٍّ فإِنَّهُ من مجموع أقوال الخليل وسيبويه والسيرافي والرازي وغيرهم يمكن نقرر أَنَّ كلمة «وَيْ» تفيد: «التنبيه على الخطأ وإظهار التندم» ، وقد يكون التنبيه ــ بحسب عبارة الخليل ــ ذاتيا، أو تنبيه متكلم لمخاطب.

وعلى هذا يمكن أَنْ نقول:

• إن كلمة «وَيْ» تستخدم لغويا بعد «قصة وقعت وانتهت» ؛ وهذا ما يفيده معنى كلمة

«تندُّم» ، فالندم والندامة «غم يصحب الإنسان، يتمنى أَنَّ ما وقع منه لم يقع» ) (3)، وأنَّ هذه القصة نبهت صاحبها على خطأه، ودفعته إلى الندم.

(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 154

(2)

مفاتيح الغيب، 25/ 18

(3)

تاج العروس، مادة: ن د م، 33/ 486

ص: 314

• ومقولة الخليل عن اللفظة «وَيْ» بكونها تدل على التندم تدل دلالة قاطعة على اعتبار الخليل لسياق الحال عند التحليل الدِّلَالِيّ للألفاظ أو الأساليب.

• إن كلمة «وَيْ» من الكلمات التي لا يُبتدَأُ بها الكلام، فهي كلمة كما أشرنا تتطلب قصة وحدثا ومسرحا لغويا قبلها لكي يصح استخدامها. ولَعلَّ هذا ما يوحي بفكرة إمكانيَّة تقسيم ألفاظ اللُّغَة وأساليبها إلى مجموعتين كبريين: ألفاظ وأساليب يمكن أَنْ يبدأ بها الكلام، وألفاظ وأساليب تستعمل في مرحلة تالية منه لتطلُّبِها سياقا ومسرحا لغويا قبلها.

• ارتباط معني التنبيه والتندم استعمالا بـ «وَيْ» ، وهذا ما يمكن أَنْ نسميه المصاحبة الدِّلالِيَّة، أو الرصف الدِّلَالِيّ ــ إِنْ جاز التعبير ــ على غرار المصاحبة اللفظِيَّة Collocation أو الرصف اللفظي. وليس هذا للأداة «ويْ» وحدها بل لكل للأدوات التي تعتمد على السِّياق.

***

12 ــ الأداة «وَيْح» :

ربط سيبويه بين هذه الأداة وبين معنى نفسِيّ هو التعجب؛ فقال: «إذا قلت ويحه فقد تعجبت وأبهمتَ، من أي أمور الرجل تعجبت، وأي الأنواع تعجبت منه. فإذا قلت فارسا وحافظا فقد اختصصت ولم تُبهم، وبينت في أي نوع هو)) (1).

يشير سيبويه في هذا النَّصّ أَنَّ «وَيْح» لها دلالتان: التعجب والإبهام في حالة عدم وجود تمييز بعدها، والتعجب فقط في حالة وجود تمييز؛ أي أَنَّ التعجب معنى ملازم لهذه الأداة.

والتعجب ذكره التهانوي في كشافه فقال عنه: «وقال ابن الصائغ: استعظام صفة خرج بها المتعجّب منه عن نظائره. وقال الزَّمَخْشَرِيّ: معنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين؛ لأنّ التعجّب لا يكون إلّا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله. وقال الرماني: المطلوب في التعجب الإبهام؛ لأنّ من شأن الناس أَنْ يتعجّبوا مما لا يعرف سببه، فكلّما استبهم السبب كان التعجب أحسن. قال واصل: التعجب إِنَّمَا هو للمعنى الخفي سببه» ) (2).

فالتعجب أمر نفسِيّ ينتج عن استعظام المُتَكَلِّم لصفة خرج بها المتعجب منه عن نظائره. فالتعجب إذن يتطلب طرفين أساسيين: متكلم متعجب، ومتعجب منه. ولابد للطرفين من ملابسات سِيَاقِيَّة مُعَيَّنَة تضم الطرفين. لذلك يمكن أَنْ نقول إِنَّ الأداة «وَيْح» أداة سِيَاقِيَّة في المقام الأول.

(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 174

(2)

كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، 1/ 474

ص: 315

ومما يسترعي النظر أَنَّ معنى التعجب الذي ربطه سيبويه بـ «وَيْح» لم نجده بوضوح كاف ــ حسبما وقفنا ــ عند النُّحَاة من بعده، بل ذكروا أَنَّ «الْوَيْح: كلمة ترحُّم، تقال لمن وقع في هلكة لا

يستحقها») (1). وقالوا أيضا إنها «كلمة ترحُّم وتوجُّع» ) (2). وزادت بعض المصادر على الترحم والتوجع إظهارَ الشفقة؛ فقالت: «ويح: كلمة استعملتها العرب في معنى الترحم والتوجع وإظهار الشفقة» ) (3). وثمة فرق واضح بين معنى التعجب ومعنى الترحم والتوجع وإظهار الشفقة.

وتعليل هذا الاختلاف يمكن أَنْ يكون بسبب حدوث تطور دلالي في استعمال الكلمة، فانتقلت دِلالِيًّا من التعجب إلى الترحم والتوجع وإظهار الشفقة.

***

13 ــ الأداة «ياء النسب والألف والنون» :

من النصوص التي نقرؤها عند سيبويه نصه التالي: «فمن ذلك قولهم في الطَّويل الجَّمة: جُمَّانيٌّ، وفي الطَّويل اللِّحْية: اللحيانيِّ، وفي الغليظ الرقبة: الرقبانيِّ. فإنْ سميت برقبة أو جُمة أو لحية قلت: رَقَبِيٌّ ولِحْييٌّ وجُمِّيٌّ ولِحَوِيٌّ، وذلك لأَنَّ المعنى قد تحول، إِنَّمَا أردت حيث قلت: جُمَّانيٌّ الطويلَ الجُمَّة، وحيث قلت: اللِّحياني الطَّويل اللِّحية، فلما لم تعن ذلك أجري مجرى نظائره التي ليس فيهاذلك المعنى» ) (4).

وقد فهمنا من كلامه أَنَّ الاسم المنسوب بدون الألف والنون يدل على مجرد دلالة النسب، فكلمة «لِحْييّ» ) (5) مختومة بياء مشددة تدلُّ على نسبة الاسم المتصل بها إلى ((اللحية))؛ أَمَّا كلمة

((لحياني)) فتدل على المعنى السابق مع زيادة الاختصاص والمبالغة و «كمال الصفة في هذا الاسم» ) (6).

وكذلك كلمة «شَعْرَانِيّ» تدلُّ على أنَّ الاسم «خُصَّ بكثرة الشَّعر» و «رقباني» تدل على «غلظ

الرقبة») (7).

(1) الرَّضِيّ الأستراباذي: شرح شافية ابن الحاجب، 4/ 103

(2)

السابق: 4/ 446

(3)

د. علي توفيق الحمد: المعجم الوافي في أدوات النحو العربي، ص 364

(4)

سيبويه: الكتاب، 3/ 380

(5)

على قياس عند الخليل، ولِحَوِيّ على قياس عند يُونُس كما قال السيرافي، 4/ 131

(6)

الرازي: مفاتيح الغيب، 8/ 271، عند تفسير الآيات 79 إلى 80

(7)

النيسابوري: التفسير البسيط، 5/ 381

ص: 316

وقبل ذكر ما يخص السِّياق بهذه المسألة نتساءل: هل زيادة «ان» قبل ياء النسب أمر قياسي أم سماعي؟ إِنَّ الإجابة عن هذا السؤال مُهِمَّة لإبراز دور سياق الحال هنا، فإذا كانت سماعية فلا مجال للاسترسال في الكلام، وإذا كانت قياسية فسيكون لسياق الحال دور فيها.

الذي عليه العلماء المحققون أَنَّ الزيادة هنا «قياسية» ، وقد ناقش أستاذنا الدكتور أحمد مختار عمر هذه المسألة في كتابه «أخطاء اللُّغَة العربِيَّة المعاصرة عند الكتاب والإذاعيين» ، فقال: «يتردد كثيرا في لغة المعاصرين كلمات منسوبة بزيادة الألف والنون، مثل ((طبيب نفساني)) و ((اتجاه علماني)) و ((تفكير عقلاني)). كما يتردد في لغة النقد الأدبي كلمات مثل ((الشكلانية)((الفردانية)) وممن خطَّأَ مثل هذه النسبة محمد العدناني في ((معجم الأغلاط اللُّغَوِيَّة المعاصرة)) بحجة أَنَّ الوارد في اللُّغَة النسبة إلى مثل هذه الكلمات بدون الألف والنون. ولكن بالرجوع إلى المراجع القديمة نجد عشرات الألفاظ التي نسب إليها بزيادة الألف والنون، ومنها: ديراني

رباني

وبهذا يتبين أَنَّه لا حرج إذا أريد المبالغة في الصفة أَنْ يزاد قبل النسب ألف ونون؛ ولا يصح اعتبار هذا من شواذ النسب أو من أخطاء المحدثين») (1).

بهذه النتيجة التي قدَّمها لنا د. عمر وغيره يمكن أَنْ نقول إِنَّ الزيادة ((ان)) قبل ((ياء النسب)) تخضع لإرادة المُتَكَلِّم الذي يمكنه ــ إذا أراد المبالغة كما يقول د. عمر ــ أَنْ يُزيدَ ((ان)) قبل ((ياء النسب))، ولا شك أَنَّ ذلك يرتبط في نهاية المطاف بالسِّياق.

تلك كانت أهم الأدوات النحوِيَّة التي لاحظنا وجود علاقة بينها وبين سياق الحال من خلال نصوص سيبويه في الكتاب.

***

(1) أخطاء اللُّغَة العَرَبِيَّة المعاصرة عند الكتاب والإذاعيين: عالم الكتب، القاهرة، ط 2، ) 1993 م (، ص 73 ــ 74

ص: 317