الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 ــ أسلوب التحذير والإغراء والاختصاص:
من الأساليب التي لا يمكن تحديديها إلا في ضوء سياق الحال أسلوب التحذير والإغراء. فالأسلوبان يعتمدان على السِّياق ويتصلان به، فأسلوب التحذير عند النُّحَاة هو:«تنبيه المخاطب على أمر مكروه؛ ليجتنبه» ) (1). وهذا التعريف يقتضي عدة أطراف: «أولها: المحذِّر، وهو المُتَكَلِّم الذي يوجه التنبيه لغيره. ثانيها: المحذَّر، وهو الذي يتَّجه إليه التنبيه. ثالثها: المحذور، أو المحذَّر منه، وهو: الأمر المكروه الذي يصدر بسببه التنبيه» ) (2). ولا بد من مسرح لحدث لغوي يجمع هذه الأطرف الثلاثة. يقول سيبويه: «وأَمَّا النَّهْى فإِنَّهُ التحذيرُ، كقولك: الأَسَدَ الأَسَدَ، والجِدارَ الجِدارَ والصبىَّ الصبىَّ» ) (3).
وحصر سيبويه النهي في التحذير يتضمن إشارة للسياق، فالنهي لا بدَّ له من ناهٍ) المحذِّر (، ومنهي) المحذَّر (، ومنهي عنه) المحذور (. ومسرح يشمل هذه الأطراف. وسيبويه وإن لم يشر إلى السِّياق إلا أَنَّهُ يفهم ضمنا من قوله «وأَمَّا النَّهْى فإِنَّهُ التحذير» .
ومن الأمثلة اللافتة للنظر التي يذكرها سيبويه لهذا الأسلوب قوله: «إيّاىَ والشَّر
…
كأَنَّه
قال: إيّاىَ لأَتّقِيَنَّ والشَّر. فإِيَّاكَ مُتَّقىً والأسدُ والشرُ مُتَّقَيانِ، فكلاهما مفعول ومفعول منه») (4). إِنَّنَا نعلم من منهج سيبويه أَنَّ الأمثلة التي يُقَدِّمها إِنَّمَا تمثل تراكيب شائعة في الكلام، وقام بتتَبُّعها في سياقات مختلفة، أي أَنَّ الجملة التي يستشهد بها تمثل نمطا موجودا في الكلام. وقد يفهم المرء أَنَّ شخصا يحذر شخصا آخر في موقف وسياق ما، ولكن تحذير المرء نفسه أمر غريب، فلا يحذر الإنسان نفسه إلا:
»
في حالة وجود صراع داخلي بين المخاطب ونفسه، وهذا يتطلب لا محالة خلفية اجتماعِيَّة أو ثقافيَّة لهذا الصراع؛
» أو أَنَّ القائل يبدأ بنفسه ليقتدي به الآخرون ويكون التحذير أقوى وأبلغ. وهذا ما يفسر استخدام الضمير «إياي» في التحذير. وقد يكون قريبا من هذا المعنى قول د. فاضل السامرائي إذ يقول في هذه المسألة: «
…
إمَّا أنْ يكون المقصود به المخاطب، مع وروده بأسلوب تحذير النفس، وهو نحو قول عمر ــ رضي الله عنه ــ:«وإيّاي وأن يحذف أحدكم الأرنب» : وهو إنْ كان أخرجه
(1) عباس حسن: النحو الوافي، 4/ 126
(2)
السابق: 4/ 126
(3)
سيبويه: الكتاب، 1/ 253
(4)
سيبويه: الكتاب، 1/ 273 ــ 274
مخرج التحذير للنفس، فإنَّ المقصود به المخاطب، وهو نظير قولك:«لا أرينَّك هنا بعد اليوم» فهو وإن كان بأسلوب النهي للمتكلم إلا أنَّ المقصود المخاطب») (1).
ومما يتصل بأسلوب التحذير ويرتبط بالسياق بوجه ما ــ ما أشار إليه سيبويه من تقدير الفعل الذي يأتي مع الضمير «إيّاك» . يقول سيبويه:
فسيبويه لم يقدِّر فعلا محددًا مع الضمير «إيّاك» في أسلوب التحذير، بل قدَّر معه: «نَحِّ، باعِد، اتَّقِ، أَعِظُ
…
»، فـ «كل ما يؤدي المعنى صحَّ تقديره» ) (4)؛ ولا شك أن تقدير الفعل المناسب يتوقف على الحال والمقام.
ويشير سيبويه إلى تأثير السِّياق على هذا الأسلوب عند حديثه عن سبب حذف الفعل العامل فيه؛ فيقول: «مثل ذلك: أَهْلَكَ والليلَ، كأَنّه قال: بادِرْ أهلَك قبل الليل، وإنَّما المعنى أَنْ يحذَّره أَنْ يُدرِكه الليلُ. والليلُ محذَّرٌ منه، كما كان الأسدُ محتفَظا منه. ومن ذلك قولهم: مازِ رأسَك والسيفَ كما تقول: رأسَك والحائطَ وهو يحذَّره، كأَنّه قال: اتقِ رأسَك والحائطَ. وإنّما حذفوا الفعلَ فى هذه الأشياءِ حين ثَنَّوْا لكثرتها فى كلامهم، واستغناءً بما يرون من الحال، ولما جرى من الذكر» ) (5).
أي أَنَّ الحال والمقام الذي يرد فيه الأسلوب هما ما يبرران حذف هذا الفعل العامل.
ويفسر بعض النحاة حذف الفعل العامل في أسلوب التحذير تفسيرًا سياقيا ذكيا، فيذكر أنَّ السبب الذي يمنع المتكلم من ذكر العامل هو «ضيق الوقت» ؛ فالمتكلم قد يستغرق وقتا في النطق بالعامل، وقد يترتب على هذا عدم إمكانية التحذير، قال الرَّضِيّ: «وحكمةُ اختصاص وجوب الحذف بالمحذر منه المكرَّر كونُ تكريره دالا على مقاربة المحذَّر منه للمحذَّر، بحيث يضيق الوقت إلا عن ذكر المحذَّر منه على أبلغ ما يمكن، وذلك بتكريره، ولا يتسعُ لذكر العامل مع هذا
(1) معاني النحو: 2/ 104
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 273
(3)
سيبويه: الكتاب، 1/ 279
(4)
د. فاضل السامرائي: معاني النحو، 2/ 107
(5)
سيبويه: الكتاب، 1/ 275
المكرر») (1). وقال: «وإنَّما وجب الحذف في الأول والثاني لأنَّ القصد ــ كما قلنا في النداء ــ أن يفرُغَ المتكلمُ سريعًا من لفظ التحذير؛ حتى يأخذ المخاطبُ حِذْرَه من ذلك المحذوف؛ وذلك لأنَّه لا يَستَعمِل هذه الألفاظَ إلا إذا شارفَ المكروه أن يرهَقَ» ) (2). ويؤكد الإمام السيوطي نفس هذا المعنى فيقول: «ومنها التنبيه على أن الزمان يتقاصر عن الإتيان بالمحذوف وأن الاشتغال بذكره يفضي إلى تفويت المهم وهذه هي فائدة باب التحذير والإغراء» ) (3).
وبقي أنْ نشير أن التركيب:
«فعل محذوف) يُقدَّر حسب المقام (+ مفعول به + و) عاطفة أو للمعية (+ مفعول به لفعل محذوف»
الذي تمثله في نص سيبويه السابق الجمل: «أهلَك والليلَ، رأسك والحائط، رأسك والسيف» ــ لا يكون دوما دالا على التحذير، بل إنَّه قد يأتي في سياق آخر على عكس ذلك، يقول سيبويه:
فالجمل التي وردت في هذا النص: «رأسَه والحائطَ، شأنَكَ والحجَّ، امرأً ونفسَه» والمُوافِقة للتركيب السابق ليست من التحذير في شيء، بل هي بعيدة كل البعد عن التحذير، وهذا يشي بأهمية المقام في تحديد دلالة هذا التركيب، كما يشي بما أثبتناه عن منهج سيبويه، وكيف أنَّه يقوم بتتبع التركيب المعيَّن في السياقات المختلفة.
أما أسلوب الاختصاص ففيه يختص الاسم؛ «ليُعْرف بما حمل على الكلام الأوَّل» ) (5). ويتجلى تأثير السِّياق على أسلوب الاختصاص في أَنَّه إذا وجد السِّياق الدال على الافتخار والتعظيم أو السِّياق الذي يرغب فيه المُتَكَلِّم في التأكيد؛ فإن هذا يستدعي هذا الأسلوب ويكون سببا في وجوده
(1) شرح الرَّضِيّ لكافية ابن الحاجب: القسم الأول ص 572
(2)
السابق، ص 573
(3)
الإتقان في علوم القرآن: ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ) 1970 م (، 3/ 190
(4)
سيبويه: الكتاب، 1/ 274
(5)
سيبويه: الكتاب، 2/ 234
يقول سيبويه عن هذا الأسلوب: «وفيه معنى الافتخار» ) (1)، ويقول:«وإذا صغّرتَ الأمر فهو بمنزلة تعظيم الأمر في هذا الباب، وذلك قولك: إِنَّا معشرَ الصعاليك لا قوةَ بنا على المُروّة» ) (2).
ولطبيعة السِّياق الذي يأتي فيه الاختصاص فإِنَّهُ «لا يجوز لك أَنْ تُبهم في هذا الباب؛
فتقول: إني هذا أفعلُ كذا وكذا، ولكن تقول: إني زيدا أفعلُ. ولا يجوز أَنْ تذكر إلا اسما معروفا؛ لأَنَّ الأسماء إِنَّمَا تذكرها توكيدًا وتوضيحا هنا للمضمَر وتذكيرا، وإذا أبهمتَ فقد جئت بما هو أشكلُ من المضمَر
…
، ولكن هذا موضعُ بيان كما كانت الندبةُ موضعَ بيان، فقبُح إذ ذكروا الأمر توكيدًا لما يعظمون أمرَه أَنْ يذكروا مبهما») (3).
إن الإبهام مع الاسم المختص لا يجوز بأيِّ شكل من الأشكال؛ إذ كيف سيخُصُّ من يقوم بالاختصاص اسما غير معروف، وكيف يكون محل «افتخار أو تعظيم» ما هو في عداد النكرة غير المعروفة، وبمن سيناط الفخر والتعظيم إذا كان المختص نكرة أو غير معروف. إِنَّ هذا لايجوِّزُه عقل ولا منطق ولا سياق؛ لذلك منع النحاة في أسلوب الاختصاص أن يكون الاسم المختص اسم إشارة أو اسم موصول؛ لأنَّها «كنايات أيضا وليست تصريحًا، وإذا جئت بها فقد جئت بما هو أشكل» ) (4).
وقد أشار سيبويه إلى معنى دلاليٍّ دقيق مع أسلوب الاختصاص هو «أنَّهم لا يريدون أن يَحملوا الكلامَ على أوَّله، ولكنَّ ما بعده محمولٌ على أوله. وذلك نحو قوله، وهو عمرو بن الأهتَم:
إنَّا بنى مِنْقَرٍ قَوْمٌ ذَوُو حَسَبٍ
…
فينا سَراةُ بنى سَعْدٍ ونادِيَها [بحر البسيط]») (5).
فقد أوضح سيبويه أن العرب في الاختصاص لا يريدون أن يحملوا الكلام على أوله، ولكن على أنَّ ما بعده محمول على أوله، «وذلك نحو قول [الشاعر]:«إنَّا بنى مِنْقَرٍ قَوْمٌ ذَوُو حَسَبٍ» ؛ فإنَّه لم يرد أنْ يخبر بأنَّهم بنو مِنْقَر، وإنما أراد أنْ يخبر بأنهم قوم ذوو حسب، وأوضح المقصود بالضمير
فقال: «إنَّا بنى مِنْقَرٍ» ؛ أي: أعني بني منقر، ولو رفع فقال:«إنَّا بنو منقر» لكان المعنى أنَّه أراد أن يخبر عن نفسه وجماعته بأنَّهم بنو منقر») (6).
(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 234
(2)
سيبويه: الكتاب، 2/ 235
(3)
سيبويه: الكتاب، 2/ 236
(4)
د. فاضل السامرائي: معاني النحو، 2/ 117
(5)
سيبويه: الكتاب، 2/ 233
(6)
د. فاضل السامرائي: معاني النحو، 2/ 118