الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
المبحث الثاني: سياق الحال ومعاني الأوزان الصَّرْفِيَّة:
من خلال المنهج الذي سار عليه سيبويه في الكتاب والذي كان من بينه تتَبُّع التركيب اللغويّ أو البنية الصَّرْفِيَّة في السِّياقات المخالفة وقف على بعض المعاني الدِّلالِيَّة لبعض الأوزان الصَّرْفِيَّة. وقد قمتُ بجمع النصوص التي ذكر فيها سيبويه دلالة لوزن ما.
وفي الجدول التالي هذه المواضع:
م
…
الوزن
…
الدِّلَالَة
…
نص سيبويه وموضعه
1 ــ «تَفَعَّلَ»
أـ يدل على من لم تكتمل عنده الصفة التي يتظاهر بها.
…
ب ــ المطاوعة.
…
ب ــ «فعلته فتَفَعَّل، نحو كسرته فتكسر، وعشيته فتعشى، وغديته فتغدى» ) (2)
…
ج ــ إرادة الاتصاف بصفة حتى يكون صاحبها من أهلها.
ج ــ «وإذا أراد الرجل أَنْ يدخل نفسه في أمرٍ حتى يضاف إليه ويكون من أهله فَإِنَّك تقول: تفعل، وذلك تشجع وتبصر وتحلم وتجلد، وتمرأ،
…
أي صار ذا مروءة») (3).
د ــ الأخذ من الشيء الأول فالأول.
…
د ــ «وأما قوله: تنقصته وتنقصني فكأَنَّه الأخذ من الشيء الأول فالأول» ) (4)
هـ ــ القيام بالفعل على مهل.
…
هـ ـ «وأما يتسمع ويتحفظ فهو يتبصر. وهذه الأشياء نحو يتجرع ويتفوق، لأَنَّها في مهلة. ومثل
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 362
(2)
سيبويه: الكتاب، 4/ 66، وينظر أيضا قوله في نفس الصفحة:((وأما تقيس وتنزر وتتمم، فَإِنَّما يجري على نحو كسرته فتكسر، كأَنَّه قال تمم فتتمم، وقيس فتقيس)).
(3)
سيبويه: الكتاب، 4/ 71
(4)
سيبويه: الكتاب، 4/ 72
ذلك تخيره. وأما التعمج والتعمق فنحوٌ من هذا. والتدخل مثله، لأنَّهُ عملٌ بعد عملٍ في مهلة») (1).
2 ــ
…
«فَعَّال»
…
يدل على من له مهنة يمتهنها ويعالجها
…
«أَمَّا ما يكون صاحب شيء يعالجه فإِنَّهُ مما يكون فعَّالاً، وذلك قولك لصاحب الثياب: ثوَّاب، ولصاحب العاج: عواجٌ؛ ولصاحب الجمال التي ينقل عليها: جمَّال، ولصاحب الحُمُر التي يعمل عليها: حمارٌ، وللذي يعالج الصرف:
…
صرافٌ») (2).
3 ــ «فاعِل»
…
يدل على ما يكون صاحب شيء وليس بصنعة يعالجها
…
4 ــ «فَعَّل»
…
كثرة العمل
…
«تقول: كسرتها وقطعتها، فإذا أردت كثرة العمل قلت: كسَّرْته وقطَّعْتُه ومَزَّقْتُه» ) (4). «كما تقول: قطَّعه وكسَّره حين تكثِّر عمله. ولو قلت: قطعه جاز واكتفيت به» ) (5).
5 ــ «انفَعَل»
…
المطاوعة
…
(1) سيبويه: الكتاب، 4/ 73
(2)
سيبويه: الكتاب، 3/ 381، وينظر أيضا 3/ 382
(3)
سيبويه: الكتاب، 3/ 381
(4)
سيبويه: الكتاب، 4/ 64
(5)
سيبويه: الكتاب، 3/ 623
(6)
سيبويه: الكتاب، 4/ 65
6 ــ «افتعل»
أـ المطاوعة.
…
أـ «فعلته فانفعل وافتعل: أفعلته ففعل، نحو أدخلته فدخل، وأخرجته فخرج» ) (1).
ب ــ المشاركة.
…
ج ــ اتخاذ الاسم الذي يقع عليه الفعل
…
ج ــ «تقول: اشتوى القوم، أي اتخذوا شواءً .... ، وأَمَّا اذَّبَحَ فبمنزلة اتَّخَذَ ذبيحة» ) (3).
د ــ التصرف والطلب.
…
د ــ «وأَمَّا اكتسب فهو التصرف والطلب» ) (4).
7 ــ «تَفاعَل»
أـ المطاوعة.
…
أـ «وفي فاعلته فتفاعل، وذلك نحو ناولته فتناول» ) (5)
ب ــ المشاركة.
…
ج ــ إظهار حال ليس عليها الشخص.
…
ج ــ «وقد يجيئ تفاعلت ليريك أَنَّهُ في حالٍ ليس فيها. من ذلك: تغافلت، وتعاميت، وتعاييت، وتعاشيت وتعارجت، وتجاهلت» ) (7).
8 ــ «تَفَعْلَل»
…
المطاوعة
…
«ونظير ذلك في بنات الأربعة على مثال تفعلل نحو
(1) سيبويه: الكتاب، 4/ 65
(2)
سيبويه: الكتاب، 4/ 69
(3)
سيبويه: الكتاب، 4/ 74 وينظر أيضا قوله في نفس الصفحة:((وأما احتبسته فقولك: اتخذته حبيسا، كأَنَّه مثل شوى واشتوى)).
(4)
سيبويه: الكتاب، 4/ 74
(5)
سيبويه: الكتاب، 4/ 66
(6)
سيبويه: الكتاب، 4/ 69
(7)
سيبويه: الكتاب، 4/ 69
دحرجته فتدحرج، وقلقلته فتقلقل، ومعددته فتمعدد، وصعررته فتصعرر») (1).
9 ــ «فاعل»
…
المشاركة
…
10 ــ «استفعل»
أـ وجود الشيء على حال مُعَيَّنَة.
…
ب ــ الطلب.
…
ب ــ «وتقول: استعطيت أي طلبت العطية» ) (4).
ج ــ التحول من حال إلى حال
…
ج ــ «وقالوا في التحول من حالٍ إلى حال هكذا، وذلك قولك: استنوق الجمل، واستتيست الشاة» ) (5).
11 ــ
…
«افعوعل»
…
المبالغة والتوكيد
…
ولا بد في ختام هذه الجزئيَّة التأكيد على الملحوظات التالية:
• الأولى:
إنّ سيبويه سار على منهجه الذي عهدناه سلفا مع التراكيب النحوِيَّة، فهو من خلال مجموعة من الألفاظ مشتركة الوزن يستخلص هذا الوزن ويتَتَبَّعه في السِّياقات المختلفة لتحديد الدلالات المختلفة
(1) سيبويه: الكتاب، 4/ 66
(2)
سيبويه: الكتاب، 4/ 68
(3)
سيبويه: الكتاب، 4/ 70
(4)
سيبويه: الكتاب، 4/ 70
(5)
سيبويه: الكتاب، 4/ 71
(6)
سيبويه: الكتاب، 4/ 75
لهذا الوزن. فالوزن «استفعل» له من المعاني الصَّرْفِيَّة الدِّلالِيَّة: «وجود الشيء على حال مُعَيَّنَة، الطلب، التحول من حال إلى حال» ، وهي معاني قررها بعد التتَبُّع والاستقصاء.
وسيبويه ــ كما سبق وأَنْ أوضحنا ــ يلتزم بالطريقة الإِحْصَائِيَّة في دراسته لِلُّغَة وقواعدها، ويشمل هذا أيضا البنية الصَّرْفِيَّة بدليل قوله: «وليس في الكلام افْعَنلَلته، وافْعَنْلَيْتُه، ولا افعَالَلْتُه، ولا
افْعلَلتُه») (1). فهذه مقولة دالة لا محالة على منهجه الإِحْصَائِيّ، وسيبويه من الأمانة العلميَّة بحيث لا ينسب لِلُّغَة ما ليس فيها. وإذا كان سيبويه يتَتَبَّع البنى اللفظِيَّة غير المستعملة وغير الموجودة فمن باب أولى أَنْ يكون أشد تتَبُّعا لما هو مستعمل منها.
• الثانية:
دلالات الأوزان الصَّرْفِيَّة التي ذكرها سيبويه ليست «ثابتة» بل هي «متطورة» ، ونحتاج دوما إلى تحليل السِّياقات التي ترد فيها هذه الأوزان للوقوف على هذه الدلالات الجديدة.
ونحن نعلم من علم الدِّلَالَة:
1 ــ أنَّ المفردات لا تستقر على حال، وذلك لأَنَّ «الحياة تشجِّع على تغير المفردات؛ لأَنَّها تضاعف الأسباب التي تؤثر في الكلمات، فالعلاقات الاجتِماعِيَّة والصناعات، والعُدد المتنوعة تعمل على تغير المفردات، وتقصي الكلمات القديمة، أوتحور معناها، وتتطلب خلق كلمات جديدة» (2).
2 ــ أنَّ كل جماعة لغوية تترابط لغويا، وتتحول إلى جماعة ثقافيَّة متميزة تصوغ بين الحين والآخر مدلولات جديدة للكلمات بحكم استخدامها للأشياء ومرورها بتجارب مختلفة، ولهذا كانت المدلولات سابقة لدوالها (3).
3 ــ اللُّغَة ليست هامدة أوساكنة بحال من الأحوال، بالرغم من أَنْ تقدمها قد يبدو بطيئا في بعض الأحايين، فالأصوات والتراكيب والعناصر النحوِيَّة وصيغ الكلمات ومعانيها معرضة كلها للتغير والتطور (4). وتزداد سرعة التطور اللغويّ بازدياد انتشار اللُّغَة بين غير أهليها، وبازدياد عدد الذين يتكلمونها وتنوعهم (5).
(1) سيبويه: الكتاب، 4/ 77
(2)
د. رمضان عبد التواب: التطور اللغويّ، ص 11، 12.
(3)
د. كريم زكي حسام الدين: التحليل الدِّلَالِيّ، إجراءاته ومناهجه، 1/ 11
(4)
د. كمال بشر: دور الكلمة في اللُّغَة، ص 153
(5)
د. رمضان عبد التواب: التطور اللغويّ، ص 12.
4 ــ الدِّلَالَة «ناتجة عن تواضع اجتماعي، وهذا التواضع عرضة للتغيير والتطوير؛ ولذا جاز تغير الدِّلَالَة لتغير المواضعة وفق ما تمليه الظروف المستجدة في حياة الجماعة اللُّغَوِيَّة» (1).
5 ــ «الكلمات التي تتألف منها [اللُّغَة] تتبدل ببطء في غُضُون الأجيال، غير أَنَّ ما تثيره من الصور أو ما يرتبط فيها من المعنى يتغير بلا انقطاع» ، وأنْ «ليس للألفاظ سوى معان متحولة موقتة بين جيل وبين أمة وأمة» ) (2).
ويمكن أَنْ ندلل على ما ذهبنا إليه من أَنَّ الأوزان الصَّرْفِيَّة تتطور دلالتها بمرور الزمن بأنْ نذكر ما قام به أحد الباحثين المعاصرين الأستاذ محمد خليفة التونسي من تتَبُّع دلالة بنية ((تَفَاعَل)) ووقوفه على بعض الدلالات التي لم تذكرها كتب الصرف، ومنها (4):
- أولا التفاعل من واحد:
• تكلف الفعل عن اعتقاد به، مثل: تتباهى الفتاة بجمالها، وتتفاخر بنسبها، وتتواجه بثرائها وتتعاظم بثقافتها، وتتفاصح في كلامها، وتتعالى في معاملتها، وتتمايل في سيرها.
• المشابهة، مثل: تكالب على الشهوات؛ أي أشبه الكلب في الحرص عليها، وتذاءبت الريح أي أشبهت الذئب في إقباله من جهة مَرَّة، ومن غيرها أخرى.
• حدوث الفعل متتابعا، مثل: تماوج صوت أم كلثوم، وتقاطر المطر، وتناقص الماء بالتبخر، وترادف الرزق، ويتهالك على الدروس، ويتحامل على خصمه، وتقادم العهد، وتنامى الطفل، وتهاوى البناء، وتراجع في سعيه، وتراخت الحملة، وتسارعت الحركة، وتواتر الحديث، وترامى إلينا الخبر، وتمادى الضلال.
(1) مقال بعنوان ((مقدمة لدراسة التطور الدِّلَالِيّ في العَرَبِيَّة الفصحى في العصر الحديث))، بقلم: د. أحمد محمد قدور، مجلة عالم الفكر، ص 41، عدد مارس 1986 م
(2)
غوستاف لوبون: روح الجماعات، ترجمة: عادل زعيتر، دار المعارف، القاهرة، ط 1، ) 1955 م (، ص 97، 99
(3)
السابق: 41
(4)
مقال ((وزن تفاعل ودلالته))، بقلم: محمد خليفة التونسي، ص 147، مجلة العربي ع 247، الكويت.
• الدخول في شيء، أو الميل إليه، مثل: تيامن الطريق، وتياسر في سعيه، وتباشر بالصباح، وتفاءل بالوجوه الحسان، وتشاءم بنعيق البوم، وتكاسل في عمله، وتساهل في حقه.
• طلب الفعل، مثل: تقاضاه الدين؛ أي طلب منه قضاءه، تحاكم الشاعر إلى الناقد؛ أي طلب حكمه، ذهب إلى الطبيب ليتداوى؛ أي يطلب الدواء.
• مطاوعة فعل سابق من أي وزن؛ أي التَأَثُّر به، مثل: نثرت الحب فتناثر؛ أي انتثر.
• القيام بالفعل ابتداء؛ أي دون تَأَثُّر بفعل سابق، فهو كالفعل الثلاثي، مثل: تنازل عن حقه؛ أي نزل، وتساءل عن أخيه؛ أي سأل، وتجارأ عليه؛ أي جرأ، وتجاسر عليه؛ أي جسر، وتجاوز الحد؛ أي جاز، وتوانى في العمل؛ أي وني.
• اعتقاد صفة الشيء، مثل: أعطيته في الكتاب دينارا فتقاله؛ أي عده قليلا، وتعاظمت الذنب؛ أي عددته عظيما.
- ثانيا: تفاعل من اثنين أوجمع:
• مجرد التشارك أو الاشتراك في الفعل، مثل: تنادم الرجلان، وتصاحبا، وتجالسا.
• التبادل، مثل: تآمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر؛ أي: تبادلوا ذلك، فأمر بعضهم بعضا بالمعروف ونهاه عن المنكر، وتتجاذب الكواكب والنجوم، وتعامد الخطان، يتقارضان الثناء، تعارفا بعد أنْ كانا متناكرين، تقابض المتبايعان ثُمَّ تفارقا.
• المغالبة في الفعل وهي تشمل التشارك والتبادل بين طرف وآخر مع رغبة كل طرف أَنْ يغلب الآخر، مثل: تفاخر الشاعران، ثُمَّ تهاجيا، تبارى الفريقان في الكرة، تتسابق الخيل، يتساقى المتحاربون الموت) (1).
• الثالثة:
ما زال مجال «دلالة الأوزان الصَّرْفِيَّة والفروق الدِّلالِيَّة فيما بينها» مجالا خصبا للدراسة وأنَّ ما كُتب فيه «يمثل قطرة في بحر، وأنَّ أبواب الولوج إلى هذا الميدان الخصب ما تزال مشرعة» ) (2) وما
(1) ولمزيد من التفاصيل ينظر: إيهاب عبد الحميد، شرحا أبي العلاء والخطيب التبريزي على ديوان أبي تَمَّام دراسة نحوية صرفِيَّة، رسالة ماجستير، دار العلوم، 2012 م، ص 124 وص 343
(2)
د. أحمد مختار عمر: أسماء الله الحسنى دراسة في البنية والدِّلَالَة، الهيئة المصريَّة العامة للكتاب ــ مكتبة الأسرة، القاهرة، ط 1، ) 2000 م (، ص 4
زال الطريق في هذه الدراسات مظلما، ولم يسلط عليه إلا النور القليل، «والباب بعد مفتوح للبحث الجاد الطويل في هذا الأمر العظيم الجليل» ) (1).
ومما يمكن مناقشته في جزئية الأوزان الصَّرْفِيَّة وعلاقتها بسياق الحال ما يتعلق بالأوزان الصَّرْفِيَّة التي تعبر عن جموع القِلَّة والكثرة. فقد أثبت العلماء لجموع القِلَّة أوزانا أربعة، هي:«أَفْعُل، أفعالٌ أَفعِلَة، فِعْلَة» ، وأثبتوا لجموع الكثرة أكثر من ثلاثة وعشرين وزنا، هي:«فُعْلٌ، فُعُلٌ، فُعَلٌ، فِعَلٌ، فُعَلة، فَعَلَة، فَعْلى، فِعَلَة، فُعَّلٌ، فُعّالٌ، فِعالٌ، فُعُولٌ، فِعْلان، فُعْلان، فُعَلاءُ، أفعِلاءُ، فَواعِل، فَعائِل، فَعالِي، فَعَالَى، فَعَالِيُّ، فَعَالِل، وشبه فَعَالِل» .
وقد أشار سيبويه إلى هذه الأوزان في بعض المواضع، فقال:
4 ــ «وما كان مؤنثًا من فَعلٍ من هذا الباب فإِنَّهُ يكسر على أفعُلٍ إذا أردت بناء أدنى العدد،
…
فإذا أردت بناء أكثر العدد قلت في الدار: دُورٌ، وفي الساق: سُوقٌ، وبنوهما على فُعلِ فِرارًا من فُعُولٍ») (5).
5 ــ «فإذا أردت بناء الأكثر قلت: سِدرٌ وقِربٌ وكِسرٌ،
…
وقد يريدون الأَقَلّ فيقولون: كِسرٌ
وفِقرٌ») (6).
ونلاحظ على النصوص السابقة ما يلي:
(1) د. فاضل السامرائي: معاني الأبنية في العَرَبِيَّة، دار عمار، الأردن، ط 2، ) 2007 م (، ص 7
(2)
سيبويه: الكتاب، 3/ 613
(3)
سيبويه: الكتاب، 3/ 582
(4)
سيبويه: الكتاب، 3/ 590
(5)
سيبويه: الكتاب، 3/ 591
(6)
سيبويه: الكتاب، 3/ 581
» الملحوظة الأولى:
يربط سيبويه بين التعبير بجمع القِلَّة أو الكثرة وبين «إرادة المُتَكَلِّم» ؛ فالمُتَكَلِّم إذا أراد التعبير عن القِلَّة استخدم جموع القِلَّة، وإذا أراد التعبير عن الكثرة استخدم أوزان الكثرة. ولا بد أَنَّ هذا سيكون مرتبطا بالسِّياق الذي يكون في المُتَكَلِّم.
ونلاحظ في المثال الخامس أَنَّ الجمع «كِسَر» قد يُعَبِّر عن القِلَّة وقد يُعَبِّر عن الكثرة، وأنَّ هذا الأمر مرهون بإرادة المُتَكَلِّم المرتبطة بدورها بالسِّياق التي توجد فيه.
وهنا سؤال: إِنَّ المُتَكَلِّم البليغ العالم بلغته أمامه مجموعتان من الجموع: مجموعة تعبر عن «القِلَّة» ، ومجموعة تعبر «الكثرة» ، فإذا أراد أَنْ يُعَبِّر عن القِلَّة استخدم أحد أوزانها، وإذا أراد أَنْ يُعَبِّر عن الكثرة استخدم أحد أوزان الكثرة، فلماذا إذن يخلط المُتَكَلِّم بين الاختيارين؟ لماذا يُعَبِّر عن القِلَّة بجمع من جموع الكثرة أو العكس؟
وإجابة هذا السؤال لا تعدو أمرين:
• الأول: أَنَّ ربط النُّحَاة دلالة القِلَّة أو الكثرة بأوزان مُعَيَّنَة أمر غير دقيق، متروك للسياق) (1)، كما أشرنا لقول د. إبراهيم أنيس في بداية بحثنا.
• الثاني: وجود نكتة بلاغية في هذا، وأنَّ الكاتب أو الأديب أراد أَنْ يتخذ هذا الانتقال لـ «تنبيه» قارئه لأمر ما. فالأمر المألوف تعتاد العين عليه ولا تقف عنده، أَمَّا ما خرج عن المألوف فإِنَّهُ يستوقفها) (2).
(1) من الأقوال المُهِمَّة التي تتَعَلَّق بجموع القِلَّة ما نقله البغدادِيّ في كتابه: ((خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب)) عن شيوخه قولهم: ((إذا قرن جمع القِلَّة بأل التي للاستغراق أو أضيف إلى ما يدل على الكثرة انصرف بذلك إلى الكثرة))، ت: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 4، ) 1997 م (8/ 109، وعُلِم من مناقشة للأداة ((أل)) أنَّ دلالتها تتحدد من خلال السِّياق.
(2)
هناك من الباحثين بالفعل من درس هذا الأمر بلاغيا وأشار إليه منهم الأستاذ الدكتور: عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي، في كتابه ((البلاغة العَرَبِيَّة))، حيث اعتبر هذا الانتقال بين جموع القِلَّة والكثرة نوعا من
((المجاز)) بمعنى أنَّه اعتبر أنَّ من أنواع المجاز: ((إطلاق اللّفظ للدلالة به على غير ما وُضع له في ما اصطلح به التخاطب، مع قرينةٍ مانعةٍ من إرادة المعنى الأصلي))، واعتبر هذا المجاز من ((المجاز المرسل))، وجعل من هذا النوع:((وضع جموع القِلَّة بدل جموع الكثرة لغرض بلاغي، كتعظيم العدد القليل، والإِشعار بأنّ ما يشتمل عليه هذا العدد القليل من صفات جليلة وعظيمة يجعله معادلاً للعدد الكثير. ومنها وضع جموع الكثرة بدل جموع القِلَّة، لغرض بلاغيّ، كتحقير العدد الكثير، والإِشعار بأنّ ما يشتمل عليه هذا العدد الكثير من تناقض في صفات كماله يجعله معادلاً للعدد القليل)). ينظر: البلاغة العَرَبِيَّة، دار القلم، دمشق، بيروت ط 1، ) 1996 م (، 2/ 308
ولعل ما يؤَيِّد ما نقول هنا قول سيبويه نفسه: «وليس شيء يضُطَرّون إليه إلا وهمْ يحاوِلون به وجها» ) (1).
» الملحوظة الثانية:
يشير الأستاذ عباس حسن عند حديثه عن الجموع وأوزانها أَنَّ سيبويه يقرر أَنَّ جمع المذكر والمؤنث يدلان «ــ في الغالب ــ على عدد قليل لا ينقص عن ثلاثة، ولا يزيد عن عشرة، فهما كجموع القِلَّة التي للتكسير، ينحصر مدلولها في ثلاثة وعشرة وما بينهما» ) (2).
ويشير إلى أَنَّ بعض علماء آخرين ــ ليس منهم سيبويه ــ يقولون: «إِنَّهُما صالحان للأمرين، ما لم توجد قرينة تعين أحد الأمرين، كالتي تعين القِلَّة في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} فَإِنَّ المراد بهاأيام التشريق، وهي قِلَّة وكالتي تعين الزيادة في قوله تعالى عن الصالحين: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}» ) (3). ويقول في ختام هذه الإشارة إِنَّ هذا هو الرأي الصحيح
ونتفق مع الأستاذ عباس حسن في أَنَّ دلالة صيغ الجموع وأوزانها تتوقف على «القرينة» التي يجب أَنْ يكون من بينها سياق الحال، ولكننا لا نتفق معه ــ رحمه الله ــ في أَنَّ سيبويه قيد جمع المذكر والمؤنث وأوزان جموع القِلَّة بدلالة محددة هي دلالة القِلَّة؛ لأنَّهُ قد أشار إلى عكس ذلك في بعض المواضع، منها قوله:
• «وربَّما عنوا ببناء أكثر العدد أدنى العدد كما فعلوا ذلك بما ذكرنا من بنات الثلاثة، وذلك قولهم: ثلاثةُ جدرٍ وثلاثة كتبٍ» ) (5). وليتأمل قوله «وربَّما عنوا» ، التي تعني ربما قصدوا،
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 32
(2)
عباس حسن: النحو الوافي، 1/ 137 الحاشية ذات الرَّقْم 2
(3)
السابق، 1/ 138
(4)
سيبويه: الكتاب، 3/ 490
(5)
سيبويه: الكتاب، 3/ 601
أي أَنَّ الرجل وقف أمام النصوص التي وردت فيها جموع للقِلَّة أو الكثرة محللا ومدققا من خلال السِّياق الذي وردت فيه. وهذا جزء من منهجه كما علمنا.
ويقول في نصّ ثالث بشكل أكثر صراحة «وقد يجمعون بالتاء وهم يريدون الكثير» ) (1).
» الملحوظة الثالثة:
إذا أردنا تصغير الجموع فإِنَّهُ لا تصغر سوى جموع القِلَّة، وذلك لسبب منطقي وسياقي في نفس الوقت، وهو أَنَّنا نريد «تقليل الجمع، ولا يكون ذلك البناء إلَاّ لأدنى العدد» ) (2). وينقل سيبويه عن الخليل قائلا: «وسألت الخليل عن تحقير الدُّور، فقال: أردُّه إلى بناء أقل العدد؛ لأني إِنَّمَا أريد تقليل العدد، فإذا أردت أَنْ أقلله وأحقره صرت إلى بناء الأقلِّ، وذلك قولك: أُدَيْئِرٌ، فإنْ لم تفعل فحقرها على الواحد وألحق تاء الجمع؛ وذلك لأَنَّكَ ترده إلى الاسم الذي هو لأقل العدد» ) (3).
إِنَّ التصغير ــ أو بعبارة سيبويه التحقير ــ لا يتناسب مع إرادة المُتَكَلِّم للكثرة، إذ كيف يجتمع التحقير مع التكثير، لذلك لم تصغر إلا جموع القِلَّة.
***
(1) سيبويه: الكتاب، 3/ 578
(2)
سيبويه: الكتاب، 3/ 489
(3)
سيبويه: الكتاب، 3/ 490 ــ 491
الفصل الخامس: السِّياق وسيبويه والنظَرِيَّة النحوِيَّة
- المبحث الأول: تعريف مصطلح النظَرِيَّة، وأهم خصائص النظَرِيَّةالعلميَّة:
o تعريف مصطلح النظَرِيَّة.
o أهم خصائص النظَرِيَّة العلميَّة.
- المبحث الثاني: النظَرِيَّةالنحوِيَّةالسِّياقِيَّة:
o النظَرِيَّةالنحوِيَّة السِّياقِيَّة.
o نقد نظَرِيَّة العامل.