الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على الفاعلية راجع إلى ((الروح)) الدالّ عليها سياق الكلام؛ أي: إذا بلغت هي، أي الروح
…
والثاني نحو قولهم ــ أي العرب ــ إذا كان غدًا فأتني») (1).
وينبغي أَنْ نذكر هنا أَنَّ وجود مَرْجِعِيَّة للضمير ــ أيا كانت هذه المَرْجِعِيَّة ــ أمرٌ لازم للحفاظ على تماسك الكلام من التَفَكُّك) (2).
ج خطورة عدم الاعتداد بقرينة السِّياق وأثره في التوجيه:
تتجلى أهمِيَّة سياق الحال أيضا من زاوية أخرى وهي زاوية غيابه وعدم اعتباره، وما يمكن أنْ يسببه هذا من إهدار أوجه إعرابية قيمة، مثال ذلك:
••قد يتعجل البعض ويُعرب مباشرة كلمة ((أنت)) الثانية في قولنا: ((
…
وجدتك أنت أنت)) توكيدًا لفْظِيًّا فقط لا غير. ولكن من يتمهَّل ويتأمل السِّياق الذي وردت فيه الجملة فقد يجد أنَّها من الممكن أَنْ تكونَ خبرا ومبتدؤه ((أنت)) الأولى.
هذا ما نتعلمه من قول سيبويه الذي يقول فيه: «وتقول: قد جرّبتُك فوجدتُك أنتَ أنتَ، فأنتَ الأولى مبتدأة والثانية مبنية عليها، كَأَنَّك قلت فوجدتُك وجهُك طليق. والمعنى: أَنَّكَ أردت أَنْ
تقول: فوجدتك أنت الذي أعرف. ومثل ذلك: أنت أنت، وإن فعلتَ هذا فأنت أنت؛ أي: فأنت الذي أعرف، أو أنت الجواد والجَلْد، كما تقول: الناسُ الناسُ؛ أي: الناس بكل مكان وعلى كل حال كما تعرف» (3)
أي أَنَّ «أنت أنت» في موقفٍ ما قد تكون توكيدًا لفْظِيًّا) (4)، وفي سياق آخر تكون جملة اسمية مكونة من مبتدأ وخبر، ويكون المعنى أن المتكلم وجد المخاطب كما هو لم يتغير وهو على سابق المعرفة به. قال ابن يعيش: «وأما قولهم: ((أنت أنت)) فظاهر اللفظ فاسد؛ لأنه قد أخبر بما هو معلوم، وأنَّه قد اتَّحد الخبرُ والمخبَرُ عنه لفظًا ومعنى. وحكمُ الخبر أن يكون فيه من الفائدة ما ليس في المبتدأ، وإنما جاز ههنا؛ لأنَّ المراد من التكرير بقوله:((أنت أنت))، أي: أنت على ما عرفتُه من الوتيرة والمنزلة، لم تتغير معنى. وتكرير الاسم بمنزلة أنت على ما عرفتُه، وهذا مفيدٌ يتضمَّن ما ليس في الجزء الأول، وعليه قول أبي النجم:
(1) شرح التصريح على التوضيح: ت: محمد باسل، دار الكتب العلمية، لبنان، ط 1، ) 2000 م (، 1/ 398
(2)
عباس حسن: النحو الوافي، 1/ 467
(3)
سيبويه: الكتاب، 2/ 359
(4)
أشار النحاة إلى أنَّ الضمائر البارزة المنفصلة ((تؤكد بضمير بارز منفصل مناسب، فتقول مثلا مشيرا للمجرم: أنت أنت القاتلُ، ومن ذلك ما كان يقوله جماعة الرافضة في شوارع الكوفة مشيرين لعَلِيّ: أنت أنت اللهُ، فأمر بهم فحرقوا بالنار)). ينظر: النحو المصفى، ص 594
أنا أبو النجم وشِعْري شِعْري [بحر الرجز]
معناه: وشعري شعري المعروف الموصوف كما بلغت، وعرفت، وعلى هذا قياس الباب») (1).
وقال الرضي: «والثاني ــ أي الذي لا يغاير المبتدأ لفظا ــ يُذْكَر للدلالة على الشهرة، أو عدم التغير كقوله:
أنا أبو النجم وشِعْري شِعْري
أي: هو المشهور المعروف بنفسه، لا بشيء آخر، كما يقال ــ مثلا ــ شعري مليحٌ، وتقول: أنا أنا أي: ما تغيرت عما كنت») (2).
إن إهمال السِّياق في تفسير جملة «أنتَ أنتَ» أو «الناس الناس» يُهْدِرُ توجيها نحويا قيِّمًا يمكن استغلاله في إثراء المعنى. ومن حقِّنا هنا ــ بناء على نصّ سيبويه السابق ــ أَنْ «نُعَمِّمَ» هذه الدِّلَالَة السِّياقِيَّة الثانية التي يعطيها السِّياق مع أي تكرار لفظي لـ «معرفة» ؛ بمعنى أَنَّنا يمكن أَنْ نقول قياسا على قول سيبويه «أنتَ أنتَ» أو «الناس الناس» :
• الأستاذُ الأستاذُ.) وليكن المعنى السِّياقي الثاني هنا: الأستاذ الأستاذ رأفة وحبًّا، أو علما وانضباطا أو خبرة وسعة أفق ولم يتغير
…
(.
• الإسكندريةُ الإسكندريةُ.) وليكن المعنى السِّياقي الذي يمكن أَنْ يُشحن به التكرار اللفظي هنا الإسكندرية الإسكندرية في طيب هوائها أو كرم أهلها، أو نصرتها للحق كما هي ولم
تتغير
…
(.
• السيفُ السيفُ.
• عمرُ عمرُ.
• الشافعيُّ الشافعي) (3).
••ومن التراكيب التي يؤثِّر عليها سياق الحال إعرابا، ويُمَثِّل إهداره إهمال توجيه إعرابي مهم التركيب التالي:«أ) همزة الاستفهام (+ لا) النافية للجنس (+ اسم لا + خبر لا» ، ويُمَثِّله: ألا غلام لي.
(1) شرح المفصل: 1/ 247
(2)
شرح الرضي على كافية ابن الحاجب، القسم الأول، ص 291
(3)
من جميل مدح العلماء للإمام الشافعي قول الشيخ أحمد شاكر في مقدمة تحقيقه للرسالة: ((هذا كتاب الرسالة للشافعي، وكفى الشافعي مدحا أنَّه الشافعي، وكفى الرسالة تقريظا أنها تأليف الشافعي)) ص 5
مذهب سيبويه في هذا التركيب كما قال السيرافي: «أَنَّ الألف الداخلة على ((لا)) إذا كانت استفهامًا جاز فيما بعد ((لا)) الرفع والنصب
…
، وأما إذا كانت بمعنى التمنِّي فمذهبه وجوب النصب») (1).
أي أَنَّ إعراب اسم ((لا)) في التركيب السابق يتوقَّف على نوع السِّياق الذي ترد فيه الجملة، هل هو سياق استفهام أم سياق تمنِّي. ونص سيبويه في هذا يقول:«واعلم أَنَّ لا إذا كانت مع ألف الاستفهام ودخل فيها معنى التمني عملت فيما بعدها؛ فنصبته» ) (2).
إن اعتبار الهمزة في بداية التركيب «أ) همزة الاستفهام (+ لا) النافية للجنس (+ اسم لا + خبر لا» للاستفهام يضعنا في سياق حال مكوُّن على الأَقَلّ من ثلاثة أطراف: متكلم مستفهِم، ومخاطَب مستفهَم منه، وأمر مستفهم عنه. وإذا رفع المُتَكَلِّم ما بعد لا قائلا:((ألا غلامٌ لي)) فعلى اعتبار أَنَّ ((لا)) لنفي ((الوحدة)) التي ترفع الاسم بعدها عاملة عمل ليس. ولا النافية للوحدة تأتي لـ «النفي القاصر على فرد أو مجموعة واحدة، دون أَنْ يشمل ذلك النفي أفرادًا أخر أو مجموعات
أخر») (3). وإذا نصب المُتَكَلِّم الجملة «ألا غلامًا لى» فعلى أَنَّ لا لنفي الجنس، واسم لا شبيه بالمضاف، والخبر محذوف، والتقدير:«ألا غلاما لي موجود» .
وإذا اعتبرنا أَنَّ «ألا» للتمني؛ فلا يجوز إلا النصب؛ لأَنَّها ستكون «حرف تمنِّي بمعنى أتمنى، مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية للجنس، التي بقي عملها في الاسم فقط، حيث لا خبر لها لفظا أو تقديرا؛ لأَنَّها بمعنى أتمنى، والفعل أتمنى لا خبر له، ولا يجوز مراعاة محلها مع اسمها أو إلغاؤها ولو تكررت؛ لأَنَّها بمنزلة ليت» ) (4). وكَأَنَّ الجملة أصبحت «أتمنى غلاما لي» .
ومن الواضح أَنَّ اعتبار «لا» نافية للوحدة أو نافية للجنس أو للتمني أمر يتوقَّف على السِّياق الذي تقال فيه الجملة، وسيبويه وإن لم يشر لهذا السياق بصورة واضحة إلا أَنَّه يُفْهَمُ ضمنا من كلامه، إذ لا يمكن التحديد بدون السِّياق. وإهدار السِّياق هنا يفوّت الوقوف على هذه التوجيهات ويوقعنا في فوضى إعرابية.
••وعندما تقابلنا الجملة التالية: ((لا آمِرَ يوم الجمعة))، نتساءل: هل يمكن أَنْ يكون لكلمة ((آمر)) توجيها إعرابيا آخر غير كونها اسم لا مبني على الفتح؟ الإجابة بالإثبات؛ وذلك في حالة تفعيل
(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 307 حيث نقل المحقق كلامه في الحاشية ذات الرَّقْم 2
(2)
سيبويه: الكتاب، 2/ 307
(3)
د. محمد عيد: النحو المصفى، ص 183
(4)
د. علي توفيق الحمد: المعجم الوافي في أدوات النحو العربي، ص 54
السِّياق الذي ترد فيه هذه الجملة، ففي حالة تفعيله يمكن أَنْ نقول:((لا آمرًا يوم الجمعة))؛ فتتحول الكلمة من حال البناء) اسم لا النافية للجنس مفرد (إلى حال الإعراب.
ففي حالة إذا قلنا: ((لا آمرًا يوم الجمعة)) بالتنوين (يقول سيبويه في معناها: «نفيت الآمرين يوم الجمعة لا من سواهم من الآمرين»)(1)؛ بمعنى أَنَّ «يوم الجمعة منصوب بـ «آمر» ؛ كَأَنَّك قلت: لا رجل يأمر يوم الجمعة؛ فنفيت من يقع أمره في يوم الجمعة دون سواهم») (2). أي أنَّني هنا نفيت بعض الآمرين وليس كل الآمرين.
وفي حالة ((لا آمرَ يوم الجمعة)) يقول سيبويه: «تنفي الآمرين كلهم، ثُمَّ أعلمت في أي
حين») (3) أي إنْ قلت ــ كما يقول السيرافي في شرحه ــ: «لا آمرَ يوم الجمعة؛ فقد نفيت الآمرين كلهم؛ لأَنَّكَ لم تعلق الأمر بيوم الجمعة؛ فصار كَأَنَّك قلت: «لا آمر» ، كما تقول:«لا رجل» . وتضمر الخبر، وتجعل «يوم الجمعة» ظرفا لذلك الخبر، كَأَنَّك قلت: لا آمر لنا يوم الجمعة؛
أي: نملكه يوم الجمعة») (4). أي أنني هنا نفيت جنس الآمرين جميعهم.
هذا مثال آخر يعلمنا فيه سيبويه أهمِيَّة اعتبار السِّياق في التوجيه الإعرابِيّ.
وهنا أحب أَنْ أؤكد على نتيجة سبق أَنْ أشرت إليها وهي ارتباط العلامة الإعرابِيّة بالسِّياق، فالسِّياق يؤدي إلى علامة إعرابية مُعَيَّنَة، والعلامة الإعرابِيّة تؤدي إلى سياق مُعَيَّن. فالمُتَكَلِّم الأول ــ إِنْ جاز هذا التعبير ــ تحت سيطرة السِّياق وضع علامة إعرابية ما، فارتبطت هذه العلامة بهذا السِّياق المُعَيَّن، وثبت هذا الأمر بدوره في وعي دارس اللُّغَة ومقعِّد قواعدها، فإذا حدث واستخدمنا هذه الجملة بهذه العلامة الإعرابِيّة نكون في هذه الحالة مستصحبين للسياق الأول الذي أوجد هذه العلامة. أي أَنَّ هناك علاقة متبادلة بين السِّياق والعلامة الإعرابِيّة، السِّياق يؤدي إلى علامة إعرابية مُعَيَّنَة، والعلامة الإعرابِيّة تؤدي إلى دلالة سِيَاقِيَّة مُعَيَّنَة؛ لذلك «يستثمر الموجهون من أهل المعاني والتفسير هذه الإمكانات الأسلوبية التي تتيحها أوجه الرفع والنصب بناء على تقدير عاملها من الاسمية والفعلية في إبراز بعض الأحكام الفقهية؛ فيترجح وجه الرفع فيما سبيله الفرض والواجب ويترجح وجه النصب فيما له دلالة على المندوب» ) (5).
(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 288
(2)
السيرافي: شرح كتاب سيبويه، 3/ 27
(3)
سيبويه: الكتاب، 2/ 288
(4)
السيرافي: شرح كتاب سيبويه، 3/ 27
(5)
د. أحمد سعد محمد: التوجيه البلاغي للقراءات القرآنية، مكتبة الآداب، ط 2) 2000 م (، ص 98