الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجنس بالمدح») (1). بناء على ذلك إذا قلنا: «قومك نعم صغارهم وكبارهم» ينصرف الذهن إلى أنَّ المتكلم خصَّ جنس «الصغار» فقط بالمدح، وهذا يعني أنَّ «الكبار» لا يدخلون معهم في هذه الصفة؛ لذلك كان صواب الجملة ــ كما قال سيبويه ــ أنْ يُقال:«قومك نعم الصغار ونعم الكبار» حتى يخصّ المدح كلا الجنسين.
في هذا المثال يَصْعُبُ كثيرا «فهم» التوجيه النَّحْوِيّ الذي قاله سيبويه في جملة «قومك نِعْمَ صغارهم وكبارهم» إلا إذا استعنا بالسِّياق الذي سقناه لفهم هذا التوجيه.
ت يستعين به أحيانا في شرح توجيهه:
ومن الخدمات التي يُقَدِّمها السِّياق لسيبويه بالإضافة إلى النقطتين السابقتين أَنَّ سيبويه استغلَّه هو نفسه في شرح بعض التوجيهات النحوِيَّة.
يقول سيبويه: «أَمَّا قولهم: مَن ذا خيرٌ منك، فهو على قوله: من الذي هو خيرٌ منك؛ لأَنَّكَ لم ترد أَنْ تشير أو تومِئ إلى إنسان قد استبان لك فضلُه على المسئول فيُعلِمَكه، ولكنك أردت مَن ذا الذي هو أفضل منك. فإنْ أومأتَ إلى إنسان قد استبان لك فضلُه عليه، فأردتَ أَنْ يُعلِمَكَه نصبتَ خيرًا منك
…
، كأَنَّك قلت: إِنَّمَا أريد أَنْ أسألك عن هذا الذي قد صار في حالٍ قد فَضَلَك بها») (2).
في هذا النَّصّ لدينا جملتان: الأولى «مَنْ ذا خيرٌ منك» ، والثانية «من ذا خيرًا منك». استعان سيبويه في تفسيرهما بسياق «مختزل» يتمثل في ثلاثة أطراف: المُتَكَلِّم، والمخاطب، وشخص ثالث ليس حاضرا معهما، الجملة الأولى ((من ذا خيرٌ منك)) رفعت كلمة «خير» على تقدير أَنَّها خبر لمبتدإ محذوف؛ ويعلل سيبويه هذا التوجيه بأَنَّ المُتَكَلِّم لم يرد أَنْ يشير أو يومئ إلى إنسان قد استبان له فضله على المخاطب على سبيل الاستخبار، بل أراد أمرا آخر ــ قد يكون
بلاغيا ــ وهو إرادة النفي عن طريق سؤال، وذلك على منوال قوله تعالي:{قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} [الأحزاب: 17]، وهذا يقتضي بالطبع سياق حال مُعَيَّن، ونَغْمَة صوتيَّة مُعَيَّنَة، أَمَّا الجملة الثانية فقد نصبت كلمة «خير» على تقدير: من ذا الذي جعله حالُه خيرا منك؟ ، فالمُتَكَلِّم هنا في حالة استخبار، يطلب معلومة من المخاطب، أو على حد تعبير سيبويه ((إِنَّمَا أريد أَنْ أسألك عن هذا الذي قد صار في حالٍ قد فَضَلَك بها))؛ أى أَنَّ المقام هنا مقام استفهام وليس مقام نفي كما في الجملة الأولى.
(1) السابق: 4/ 302
(2)
سيبويه: الكتاب، 2/ 61
لقد استعان سيبويه في توجيه الإعرابِيّ هنا بسياق الحال في قوله: «فإنْ أومأت إلى إنسان قد استبان لك فضله
…
»، وهو وإن كان مختصرا بعض الشيء إلا أَنَّ له نوع حضور.
وأحيانا يستعين سيبويه في توجيهه بسياق حال «حواري» ، يتخَيَّله لكي يقرِّب توجيهه الإعرابِيّ كما في المثالين التاليين:
••عندما يُوَجِّه سيبويه قوله تعالى {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3] يوجِّهُ «الذين» على البدل، ويقول:«وكأَنَّه قال: انطلقوا؛ فقيل له: مَنْ؟ ؛ فقال: بنو فلان. فقوله جل وعز: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} على هذا» ) (1).
في هذا المثل يوجِّهُ سيبويه إعرابيًّا كلمة «الذين» على البدل، ولكي يوضِّح الإعراب لهذه الكلمة يأتي بجملة من عنده تشبه في تركيبها تركيب الآية، وجملته:«انطلقوا، بنو فلان» . ويستعين بسياق حواري متخيَّل بين متكلم ومخاطب، قال المُتَكَلِّم: انطلقوا، فردَّ المخاطب:«مَنْ؟ » فقال المُتَكَلِّم: بنو فلان.
وهذا النَّصّ من كلام سيبويه يتضمن إلماحة خفية في قوله «وكأَنَّه قال: انطلقوا؛ فقيل له: مَنْ؟ » تشير إلى أهمِيَّة سكتات المُتَكَلِّم ووقفاته، وتشير أيضا إلى أهمِيَّة «النسق النَّغَمِي
للجملة» وأهمِيَّة اعتباره في التحليل الدِّلَالِيّ، فالمُتَكَلِّم الذي يقول الجملة الإنشائِيِّة الأمرية «انطلقوا» لا بدَّ أَنْ يقولها بـ «النسق النغمي الخاص بالجملة الأمرية» .
ومصطلح النسق النغمي هو مصطلح صكَّه أستاذنا تَمَّام حسان، حيث أشار سيادته إليه وإلى أهميته الدِّلالِيَّة في قوله التالي:
«الجمل العربِيَّة تقع في صيغ وموازين تنغيمية هي هياكل من الأنساق النَّغَميَّة ذات أشكال محددة، فالهيكل التنغيمي الذي تأتي به الجملة الاستفهامية وجملة العرض غير الهيكل التنغيمي لجملة الإثبات، وهنَّ يختلفن من حيث التنغيم عن الجملة المؤكدة. فلكل جملة من هذه صيغة تنغيمية خاصة فاؤها وعينها ولامها وزوائدها وملحقاتها نغمات مُعَيَّنَة، بعضها مرتفع وبعضها منخفض، وبعضها يتفق مع النبر وبعضها لا يتفق معه، وبعضها صاعد من مستوى أسفل، وبعضها هابط من مستوى أعلى، فالصيغة التنغيمية منحنى نغمي خاصّ بالجملة يعين على الكشف عن معناها النَّحْوِيّ
…
وأنا أتصور أَنَّكَ لو طلبت إلى أحد المُتَكَلِّمين أَنْ يحاول نطق بعض الجمل وهو مقفل الشفتين لاستطعت في هذه الحالة أَنْ تستمع الهيكل
(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 41
التنغيمي للجملة المرادة دون أَنْ تسمع ألفاظ الجملة نفسها، وسيكون في مقدورك في هذه الحالة أَنْ تقول ما إذا كانت الجملة المرادة التي لم تسمع ألفاظها استفهامًا أو إثباتًا أو تأكيدًا. تفعل ذلك دون حاجة إلى تفكير أو استنتاج؛ لأَنَّ سياق النغمات في كل جملة له من الطابع العرفي المشروط المحدَّد ما للكلمة في دلالتها على معناها، وما للحركة أو الرتبة في دلالتها على الباب النَّحْوِيّ الخاص. والتنغيم في الكلام يقوم بوظيفة الترقيم في الكتابة غير أَنَّ التنغيم أوضح من الترقيم في الدِّلَالَة على المعنى الوظيفي للجملة وربما كان ذلك لأَنَّ ما يستعمله التنغيم من نغمات أكثر مما يستعمله الترقيم من علامات») (1).
إن السِّياق الحواري الذي أتى به سيبويه للتوجيه الإعرابِيّ لكلمة «الذين» يشي ويدلُّ من طرف خفي على وعي سيبويه بهذا النسق النغمي، حتى وإنْ لم ينص عليه صراحة.
••ونجد سيبويه في موضع ثان يستغل هذا السِّياق الحواري في توجيهه، ففي مثال آخر يوضح فيه أجزاء أسلوب المدح يقول: «وإذا قال: عبد الله نعم الرجل، فهو بمنزلة: عبد الله ذهب أخوه؛ كَأَنَّه قال: نعم الرجل؛ فقيل له: من هو؟ فقال: عبد الله. وإذا قال: عبد الله، فكأَنَّه قيل
له: ما شأنه؟ فقال: نعم الرجل») (2).
وفي بعض الأحيان يرتبط التوجيه الإعرابِيّ بالسِّياق وجودا وعدما؛ بمعنى إِنْ وجد السِّياق وجد الإعراب المرتبط به وإن انتفى السِّياق انتفى الإعراب المرتبط به، يقول سيبويه:«وتقول: حسبته شتمني فأثبَ عليه، إذا لم يكن الوثوب واقعًا، ومعناه: أَنْ لو شتمني لوثبتُ عليه. وإن كان الوثوب قد وقع فليس إلا الرفعُ؛ لأَنَّ هذا بمنزلة قوله: ألستَ قد فعلتَ فأفعلُ» ) (3).
ما يُفْهَمُ هنا من هذا النَّصّ أَنَّنا يمكن أَنْ نقول:
» «حسبتُهُ شتمني فأثبَ عليه» ــ بنصب الفعل «أثب»
…
في حالة عدم وقوع الشتم بعد.
» «حسبتُهُ شتمني فأثبُ عليه» ــ برفع الفعل «أثب»
…
في حالة وقوع الشتم فعلا.
أي أَنَّ حالة النصب أظهرت السببية الموجودة في سياق الحال، أي أَنَّ الشتم كان سيكون سببا في أَنْ يثب السامع على الشاتم. أَمَّا حالة الرفع فتشير إلى الاستئناف، بمعنى أَنَّ الكلام قد تمَّ ويراد
(1) اللُّغَة العَرَبِيَّة معناها ومبناها: ص 226
(2)
سيبويه: الكتاب، 2/ 176 ــ 177
(3)
سيبويه: الكتاب، 3/ 36