الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأستاذان نايف خرما وعلى حجاج: «أَمَّا الميزة الأخرى [للمدرسة البنيوية]
…
التركيز على اللُّغَة الحَيَّة، لغة الحديث الفعلِيَّة في فترة زمَنِيَّة محددة هي الوقت الحاضر. وبذلك أتت دراساتهم وصفا حقيقيا واقعيا لِلُّغَة ما، كما هي مستخدمة حاليا، لا فرضا لاستخدامات عفاها الزمن، وأصبحت في بطون الكتب، وهذه حسنة كبيرة ولا شك») (1).
وسبق سيبويه بهذا الاهتمام يدلُّ على مدى النضج العقلي والذهني الذي كان عليه هذا الرجل النابغة.
****
اعتبار سيبويه للسياق:
بعد أَنْ أثبتنا أَنَّ سيبويه يتعامل مع نصوص اللُّغَة الحَيَّة المنطوقة، وأَنَّه كان دقيق الملاحظة لما يُسمَع ويُنشَد أمامه ــ يبرزُ هنا سؤال منطقيّ بسيط مُؤَدّاه: ما مدى اعتبار سيبويه لسياق الحال؟ وما مدى تفاعله مع هذا السِّياق؟
إن النصوص المنطوقة التي اعتمد عليها سيبويه تستلزم بالضرورة وجودها في سياق حال ما فهي منطوقة ينطقها صاحبها، وصاحب الكلام أدرى بمعاني كلامه، وكيف يُعَبِّر عن هذه المعاني من خلال إشارات جسدِيَّة أو صوتيَّة. والسؤال الآن: هل كان سيبويه يأخذ سياق الحال بعين الاعتبار في دراسته النحوِيَّة لِلُّغَة؟ أم كان لا يلقي بالا له ويُغْفل أثره؟
من يَتَعَمَّق في أطواء الكتاب، ويُنْعِم النظر في نصوصه وأقواله يجد صاحبه معتبرا لسياق الحال ومعتمدا عليه تقعيدا وتوجيها في كثير من المسائل.
والنصوص التي نجد فيها تأثيرا لسياق الحال يمكن أَنْ نقسِّمَها قسمين:
• نصوص يظهر فيها تأثير سياق الحال بشكل واضح وصريح، ويرسم فيها سيبويه السِّياق بنفسه.
• ونصوص تدلُّ على تَأَثُّرها بسياق الحال، ولكن لا يذكر فيها أَيَّة إشارة إليه، بل يُفْطَنُ إليه من خلال التأَمُّل والتحليل البسيط.
ومن أمثلة النصوص الواضحة التي يرسم فيها سيبويه سياق الحال بنفسه ما يلي:
1.
(1) اللغات الأجنبية تعليمها وتعلمها، ص 29
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 257
2.
«ولو رأيت ناسا ينظرون الهلال وأنت منهم بعيد؛ فكبَّروا؛ لقلت: الهلال ورب الكعبة؛
أي: أبصروا الهلال» (1).
3.
4.
«أو رأيت ضربا؛ فقلت على وجه التفاؤل: عبدَ الله؛ أي: يقع بعبد الله، أو بعبد الله
يكون» (3).
5.
وفي باب من أبواب الكتاب بعنوان «باب ما جرى من الأمر والنهى على إضمار الفِعل المستعمَلِ إظهارُه إذا عَلِمْت أَنَّ الرجل مُسْتَغْن عن لَفْظِكَ بالفِعل» يقول: «وذلك قولك:
زيدًا، وعمرًا، ورأسَه. وذلك أنَّك رأيت رجلا يَضْرِبُ أو يَشْتِمُ أو يَقتل، فاكتفيتَ بما هو فيه من عمله أَنْ تَلفظَ له بعمله؛ فقلت: زيدًا، أى: أَوْقِعْ عملَك بزيدٍ. أو رأيتَ رجلاً يقول: أَضْرِبُ شَّر الناسِ؛ فقلتَ: زيدًا. أو رأيتَ رجلا يحدَّثُ حديثا فقَطَعَهُ؛ فقلتَ: حديثَك. أو قَدِمَ رجلٌ من سفرٍ؛ فقلت: حديثَك. استغنيتَ عن الفعل بعلمه أَنّهُ مستخبرٌ» (4).
6.
وفي أحد مواضع الكتاب يناقش اتصال اسم الفعل «رويد» بالضمير) كاف الخطاب (، ويوضح تأثير سياق الحال على هذا الاتصال فيقول: «واعلم أَنَّ رُوَيْدًا تَلحقها الكافُ وهى في موضع افعلْ، وذلك كقولك: رويدك زيدًا
…
وهذه الكاف التي لحقت رويدًا إنّما لحقت لتُبيِّنَ المخاطَبَ المخصوصَ؛ لأَنَّ رُوَيْدَ تقع للواحد والجميع، والذَّكر والأُنثى، فإِنَّما أَدخل الكافَ حين خاف الْتباسَ مَنْ يَعنى بمن لا يعنى، وإنَّما حذفَها في الأوَّل استغناء بعلم المخاطبَ أَنّهُ لا يَعنى غيرَه. فلَحاقُ الكاف كقولك: يا فلانُ، للرَّجُل حتَّى يُقْبِلَ عليك. وتركُها كقولك للرجل: أنت تَفعلُ، إذا كان مُقْبِلا عليك بوجهه مُنْصِتًا لك. فتركتَ يا فلانُ حين قلت: أنت تَفعَلُ؛ استغناءً بإِقبالِه عليك. وقد تقول أيضًا: رُوَيْدَكَ، لمن لا يُخاف أَنْ يَلتبسَ بسِواه توكيدًا، كما تقول للمقبِلِ عليك المُنْصِت لك: أنتَ تَفعلُ ذاك يا فلانُ، توكيدًا» (5).
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 257
(2)
سيبويه: الكتاب، 1/ 257
(3)
سيبويه: الكتاب، 1/ 257
(4)
سيبويه: الكتاب، 1/ 253
(5)
سيبويه: الكتاب، 1/ 244، وينظر أيضا 1/ 273
ومما هو جدير بالنظر ويستحق التسجيل هنا، أَنَّ هذه الأمثلة وخاصة الأمثلة: 1، 2، 3، ردَّدَها النُّحَاة من بعد سيبويه بنصِّها تقريبا، ومنهم ــ بحسب الترتيب الزمني ــ الأسماء الآتية:
1 ــ المُبَرِّد) ت: 285 هـ (، في كتابه: ((المقتضب))، 2/ 318، 4/ 129
2 ــ ابن السرّاج) ت: 316 هـ (، في كتابه: ((الأصول))، 2/ 247
3 ــ ابن جني) ت: 392 هـ (، في كتابه: ((الخصائص))، 1/ 265، 2/ 362
4 ــ الزَّمَخْشَرِيّ) ت: 538 هـ (، في كتابه: ((المُفَصَّل في صنعة الإعراب))، 1/ 58
5 ــ العُكْبَرِيّ) ت: 616 هـ (، في كتابه: ((اللباب في علل البناء والإعراب))، 1/ 466
6 ــ ابن يعيش) ت: 643 هـ (، في كتابه: ((شرح المُفَصَّل))، 1/ 311
7 ــ ابن مالك) ت: 672 هـ (، في كتابه: ((شرح تسهيل الفوائد))، 1/ 257
8 ــ بدر الدين المُرَادي) ت: 749 هـ (، في كتابه: ((الجنى الداني))، ص 194
9 ــ ابن هشام) ت: 761 هـ (، في كتابه: ((أوضح المسالك إلى ألفِيَّة ابن مالك))، 2/ 156
10 ــ الأشموني) ت: 900 هـ (، في كتابه: ((شرح الأشموني على ألفِيَّة ابن مالك))، 1/ 176
11 ــ خالد الأزهري) ت: 905 هـ (، في كتابه: ((التصريح بمضمون التوضيح))، 1/ 473
12 ــ السيوطي) ت: 911 هـ (، في كتابه: ((همع الهوامع))، 1/ 309
13 ــ الصَّبَّان) ت: 1206 هـ (، في كتابه: ((حاشية الصَّبَّان))، 1/ 261
هذه القائمة التي تضم فحولا من النُّحَاة تدل على أَنَّهم وقفوا على البعد السِّياقي الاجتماعِيّ عند تقعيدهم وتوجيههم النَّحْوِيّين، وأنَّهُم كانوا على دراية به. ولكنْ يبدو أنَّ هذا الجانب لم يتلق مزيد عناية منهم.
ونلاحظ في هذه النصوص أَنَّ سيبويه يرسم ويوضح أركان مسرح الحدث اللغويّ لكي يصل من خلاله للقاعدة التي عقد لها الباب.
ونجد مجموعة أخرى من النصوص يبدو فيها أَثَر لسياق الحال، ولَكِنَّه أَثَر غير واضح يتطلب فضل تأمل للوقوف عليه، مثال ذلك:
1 ــ إذا كرَّرنا اللفظة «أنت» مرتين وقلنا: «أنت أنت» ، فقد تكون هاتان اللفظتان توكيدًا لفْظِيًّا في جملة، وقد يكونان هما بذاتهما جملة، وهذا ما يفهم من نصّ سيبويه التالي: قال سيبويه نقلا عن الخليل «وتقول: قد جربتُك فوجدتك أنت أنت، فأنت الأولى مبتدأة والثانية مبنية عليها؛ كَأَنَّك قلت: فوجدتك وجهك طليق، والمعنى أَنَّكَ أردت أَنْ تقول: فوجدتك أنت الذي أعرف.
ومثل ذلك: أنت أنت، وإن فعلت هذا فأنت أنت؛ أي: فأنت الذي أعرف، أو أنت الجواد
…
كما تقول: الناسُ الناسُ؛ أي: الناس بكل مكان وعلى كل حال تعرف» (1).
إِنَّ التحليل الدِّلَالِيّ لـ «أنت أنت» أو «الناسُ الناسُ» الذي قدَّمه سيبويه، واعتبر فيهما أَنَّ هذين التركيبين جملتان لا يَتَأَتَّى له بدون الأخذ في الاعتبار سياق الحال، إذ بدون السِّياق يحتمل أَنْ تكونَ اللفظتان مجرد توكيد لفظي. ولم يصرح سيبويه بشكل جليّ بأَنَّه استعان بسياق الحال للوقوف على هذه الدِّلَالَة، ولكن هذا ما يفهم ضمنا من الكلام.
2 ــ وفي نصّ ثانٍ ينقل سيبويه عن يُونُس أَنّهُ قال في قول العرب: «هذا أنت تقول كذا وكذا» أَنَّ مقصودهم في هذا القول أَنَّ المُتَكَلِّم «يريد أَنْ يُعْلِمَ [المخاطب] أَنّهُ ليس غيره» . ويردُّ سيبويه هذا المعنى على يُونُس قائلا: «هذا محال، ولَكِنَّه أراد أَنْ يُنَبِّهه، كَأَنَّه قال: الحاضر أنت، والحاضر القائل كذا وكذا أنت» (2).
إِنَّ المعنى الذي قدَّمه يُونُس لجملة «هذا أنت تقول كذا وكذا» : أَنَّ المُتَكَلِّم يريد أَنْ يُعلم المخاطب أَنّهُ هو وليس أحد غيره، وهذا معنى سقيم، ومعنى الجملة عند سيبويه: أَنَّ المُتَكَلِّم أراد تنبيه المخاطب، أَنَّه هو قائل الكلام، ولَعلَّ المُتَكَلِّم يريد أَنْ ينبِّه المخاطب خطورة هذا الكلام ومغبته، وهو المعنى الأقرب للفهم والسِّياق. فسيبويه لجأ لسياق الحال ــ وإِنْ لم يصرح ــ لفهم الجملة، في الوقت الذي أخطأ فيه يُونُس في فهم الجملة لعدم إلمامه به واعتباره.
3 ــ وفي نصّ ثالث يقول: «
…
وكذلك: ما أنت وعبد الله، وكيف أنت وعبد الله، كَأَنَّك قلت: ما أنت وما عبد الله، وأنت تريد أَنْ تحقر أمره أو ترفع أمره» (3). إِنَّ ربط التحقير أو الرفعة بجملة «ما أنت وعبد الله» يرتبط بالسِّياق حتى وإِنْ لم ينص على ذلك.
إن سياق الحال عنصر فعَّال في كثير من المواضع في كتاب سيبويه؛ وإن كان عنصرًا صامتًا ــ إِنْ جاز هذا التعبير ــ أو «مسكوتًا عنه» بتعبيراتنا الحديثة في بعض المواضع التي استخدم فيها. إِنَّ مجموع هذه النصوص وغيرها يثبت أَنَّ سيبويه اعتبر السِّياق في تقعيده وتوجيهه.
***
(1) سيبويه: الكتاب، 2/ 359
(2)
سيبويه: الكتاب، 2/ 355
(3)
سيبويه: الكتاب، 1/ 301