الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دليل هذا ما ناقشه سيبويه في باب «هذا باب الأفعال التي تستعمل وتلغى» ، حيث أورد في هذه الباب مجموعة الأفعال:«ظنّ، حسب، خال، رأى، زعم» ، وأشار إلى أَنَّ إعمال هذه الأفعال وتقديم معمولها عليها يتوقَّف على ما في نفس المُتَكَلِّم من شك أو يقين، فيقول:
«
…
وتقول: زيدٌ أظنّه ذاهبا. ومن قال: عبدَ الله ضربتُه نصَبَ؛ فقال: عبدَ الله أظنّه ذاهبا. وتقول: أظنّ عمرًا منطلقا وبكرا أظنّه خارجا، كما قلت: ضربت زيدًا وعمرًا كلمته، وإن شئتَ رفعتَ على الرفع فى هذا. فإِن ألغيتَ قلت: عبدُ الله أظنُّ ذاهبٌ، وهذا إخالُ أخوك، وفيها أُرَى أبوك. وكلَّما أردتَ الإِلغاء فالتأخيرُ أقوى. وكلٌّ عربىٌّ جَيِّد. وقال اللعين يهجو العجاج:
بِالأراجيزِ يا ابنَ اللُّؤْمِ توعدُني وفى الأراجيز خِلْتُ اللُّؤْمُ والخَوَرُ [بحر البسيط]
أنشدَنَاه يُونُس مرفوعا عنهم. وإِنَّمَا كان التأخير أقوى لأنَّهُ إِنَّمَا يجيء بالشكّ بعدما يَمْضِى كلامُه على اليقين، أو بعدما ما يَتبدئُ وهو يريد اليقينَ ثُمَّ يُدْرِكُه الشكُّ، كما تقول: عبدُ الله صاحبُ ذاك بلغَنى، وكما قال: من يقول ذاك تَدرِى، فأَخّرَ ما لم يَعمَلْ في أوله كلام. وإِنَّمَا جعل ذلك فيما بلغه بعدما مَضى كلامُه على اليقين، وفيما يَدرى فإذا ابتدأ كلامَه على ما فى نيّته من الشكَ أَعْملَ الفعلَ قدّم أوْ أخَّر، كما قال: زيدًا رأيتُ، ورأَيتُ زيدا») (1).
إن جملة «عبد الله أظنّ ذاهبٌ» تدل على أَنَّ حالة اليقين كانت مسيطرة على المُتَكَلِّم في بداية الكلام، ثُمَّ طرأت حالة الشك عليه، أَمَّا جملة «أظنّ عبدَ الله ذاهبا» تعني أَنَّ حالة الشك مسيطرة على المُتَكَلِّم قبل بداية الجملة وفي أثنائها.
إن كلام سيبويه هنا يدل دلالة قاطعة لا تقبل الشك أو المماراة على أَنَّ لسياق الحال دورا مهما على الجملة إعرابا ودِلالةً.
وفي هذا النَّصّ نلاحظ أنَّ العلامة الإعرابِيّة بالتعاون مع تقديم المعمولات وتأخيرها عبرت عن حالة الشك واليقين التي عليها المُتَكَلِّم.
ـ
المخاطب ودوره في التوجيه الإعرابِيّ وإثرائه:
لا نريد بعد حديثنا عن دور المُتَكَلِّم في التوجيه الإعرابِيّ أَنْ نغفل دور المخاطب في هذه العَمَلِيَّة، وهو دور أيضا مُهِمّ، وله خطورته، فقسم كبير من قواعد اللُّغَة يقع تحت سيطرته، ويتَأَثَّر به.
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 120
يتمثل دور المخاطَب أو المُحَدَّث أو المخبَر في التوجيه الإعرابِيّ في «إمكانيَّة فهمه للكلام أم لا» ؛ بمعنى: هل هذا الكلام يمكن أَنْ يفهمه المخاطب أم لا. ففي بعض الأحيان يُعرِضُ سيبويه عن توجيه إعربي ما ويقبل آخر، والسبب أَنَّ الأول لا فائدة فيه للمخاطب، وفي الثاني تكمن الفائدة له. ونضرب مثالا على ذلك.
في باب البدل أورد سيبويه مجموعة الجمل التالية:
• بعت متاعك أسفلَه قبل أعلاه.
• واشتريت متاعك أسفلَه أسرع من اشترائي أعلاه.
• واشتريت متاعك بعضَه أعجل من بعض.
• وسقيت إبلك صغارَها أحسن من سقيي كبارها.
• وضربت الناس بعضَهم قائما وبعضهم قاعدًا.
الكلمات «أسفله، بعضه، صغارها، بعضهم» لا يجوز فيها إلا النصب، ولا يصِحُّ الرفع؛
«لأَنَّ ما ذكرت بعده ليس مبنيا عليه؛ فيكون مبتدأ» ) (1). يعني أَنَّنا لا نقول في المثال «اشتريت متاعك بعضَه أعجل من بعض» : اشتريت متاعك بعضُه أعجلُ من بعض؛ فنجعله ابتداء وخبرًا في موضع الحال من «متاعك» ؛ لأَنَّكَ ــ كما يقول السيرافي ــ «لم ترد اشتريت متاعك وبعضه أعجلُ من بعض، لأنَّهُ لا فائدة فيه» ) (2). أي لا فائدة فيه للمخاطب.
وفي بعض الأحيان يكون الإثراء التوجيهي عَمَلِيَّة مشتركة بين المُتَكَلِّم والمخاطب، فعندما يقول سيبويه:«ومنه [؛ أي: النعت] أيضا: مررتُ برجلين مسلمٍ وكافرٍ، جمعت الاسم وفرقت النعت. وإن شئت كان المسلم والكافر بدلا، كَأَنَّه أجاب مَن قال: بأي ضرب مررت؟ ، وإن شاء رفع كَأَنَّه أجاب من قال: فما هما؟ فالكلام على هذا، وإن لم يلفظ به المخاطب؛ لأنَّهُ إِنَّمَا يجري كلامه على قدر مسألتك عنده لو سألته» ) (3).
فالكلمتان «مسلم وكافر» يجوز في توجيههما النَّحْوِيّ أَنْ تعربا نعتا أو بدلا. ولكن إِنْ تَخَيَّلْنا حوارا بين متكلم ومخاطب، فقال المُتَكَلِّم: مررت برجلين؛ فقال المخاطب: «فما هما؟ » ؛ فرد المُتَكَلِّم: مسلمٌ وكافرٌ؛ فرفع على اعتبار أنهما خبران لمبتدأ محذوف يفهم من المقام.
(1) سيبويه: الكتاب، 1/ 152
(2)
شرح كتاب سيبويه: 2/ 13
(3)
سيبويه: الكتاب، 1/ 431