الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
السؤال: ما حكم ارتكاب بعض المعاصي لا سيما الكبائر. . وهل يؤثر ذلك في تمسك العبد بالإسلام؟
الجواب: نعم يؤثر ذلك، فإن ارتكاب الكبائر كالزنا وشرب الخمر وقتل النفس بغير حق وأكل الربا والغيبة والنميمة وغير ذلك من المعاصي يؤثر في توحيد الله والإيمان به ويضعفه، ولكن لا يكفر المسلم بشيء من ذلك ما لم يستحله خلافا للخوارج فإنهم يكفرون المسلم بفعل المعصية كالزنا والسرقة وعقوق الوالدين وغير ذلك من كبائر الذنوب ولو لم يستحلها، وهذا غلط عظيم من الخوارج، فأهل السنة والجماعة لا يكفرونه بذلك ولا يخلدونه في النار ولكنهم يقولون: هو ناقص الإيمان والتوحيد لكن لا يكفر كفرا أكبر بل يكون في إيمانه نقص وضعف. ولهذا شرع الله في حق الزاني الحد بالجلد إذا كان بكرا يجلد مائة جلدة ويغرب عاما. وهكذا شارب المسكر يجلد ولا يقتل. وهكذا السارق تقطع يده ولا يقتل. فلو كان الزنا وشرب المسكر والسرقة توجب الكفر الأكبر لقتلوا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه (1)» رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه. فدل ذلك على أن هذه المعاصي ليست ردة ولكنها تضعف الإيمان وتنقصه فلهذا شرع الله تأديبهم بهذه الحدود ليتوبوا ويرجعوا إلى ربهم ويرتدعوا عما حرم عليهم ربهم سبحانه. وقالت المعتزلة: إن العاصي في منزلة بين منزلتين ولكنه يخلد في النار إذا مات عليها فخالفوا أهل السنة ووافقوا الخوارج في ذلك، وكلتا الطائفتين قد ضلت عن السبيل.
والصواب هو القول الأول وهو قول أهل السنة والجماعة وهو أنه يكون عاصيا ضعيف الإيمان وعلى خطر عظيم من غضب الله وعقابه ولكنه
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3017)، سنن الترمذي الحدود (1458)، سنن النسائي تحريم الدم (4060)، سنن أبو داود الحدود (4351)، سنن ابن ماجه الحدود (2535)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 282).
ليس بكافر الكفر الأكبر الذي هو الردة عن الإسلام ولا يخلد في النار أيضا خلود الكفار إذا مات على شيء منها، بل يكون تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه على قدر المعاصي التي مات عليها ثم يخرجه من النار، ولا يخلد فيها أبد الآباد إلا الكفار، ثم بعد مضي ما حكم الله عليه من العذاب يخرجه الله من النار إلى الجنة وهذا قول أهل الحق، وهذا هو الذي تواترت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافا للخوارج والمعتزلة والله يقول:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) فعلق سبحانه ما دون الشرك على مشيئته عز وجل.
أما من مات على الشرك الأكبر فإنه يخلد في النار، والجنة عليه حرام لقول الله سبحانه:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (2) وقال سبحانه: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
أما العاصي إذا دخل النار فيبقى فيها إلى ما يشاء الله ولا يخلد خلود الكفار ولكن قد تطول مدته ويكون هذا خلودا خاصا مؤقتا ليس مثل خلود الكفار كما قال سبحانه في آية الفرقان لما ذكر المشرك والقاتل والزاني قال سبحانه:
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (4){يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (5).
فهو خلود مؤقت له نهاية. أما المشرك فخلوده دائم أبد الآباد ولهذا قال عز وجل في حق المشركين في سورة البقرة {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (6) وقال سبحانه في
(1) سورة النساء الآية 48
(2)
سورة المائدة الآية 72
(3)
سورة التوبة الآية 17
(4)
سورة الفرقان الآية 68
(5)
سورة الفرقان الآية 69
(6)
سورة البقرة الآية 167
سورة المائدة في حق الكفرة: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (1)
(1) سورة المائدة الآية 37
السؤال: النطق بالشهادة لا شك أنه لا بد معه من التصديق فما هو؟
الجواب: أولا لا بد من النطق بالشهادتين، فلو أمكنه النطق ولكن امتنع من النطق لم يدخل في الإسلام حتى ينطق بالشهادتين، وهذا محل إجماع من أهل العلم، ثم مع النطق لا بد من اعتقاد معنى الشهادتين والصدق في ذلك، وذلك بأن يعتقد أنه لا معبود حقا إلا الله ولو قالها كاذبا كالمنافقين يقولونها وهم يعتقدون أن مع الله آلهة أخرى لم تنفعهم هذه الكلمة ولم يدخلوا في الإسلام باطنا كما قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (1) وقال عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (2).
فلا بد من التصديق بالقلب واليقين بأنه لا معبود حقا إلا الله فإن استكبر عن الانقياد لشرع الله كفر ولم ينفعه النطق بالشهادتين.
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (3).
وقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (4) وهكذا لو استكبر عن الشهادة بأن محمدا رسول الله أو قالها كاذبا فإنه يكون كافرا حتى يؤمن بأن محمدا رسول الله وينقاد لشرعه، وهذا أمر مجمع عليه بين أهل العلم والله المستعان.
(1) سورة النساء الآية 145
(2)
سورة البقرة الآية 8
(3)
سورة الحج الآية 62
(4)
سورة غافر الآية 60
حكم من يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس ببشر
السؤال: إذا مات الشخص وهو يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس ببشر وأنه يعلم الغيب وأن التوسل بالأولياء والأموات والأحياء قربة إلى الله عز وجل فهل يدخل النار؟ ويعتبر مشركا. . على أنه لا يعلم غير هذا الاعتقاد وأنه عالق في منطقة علماؤها وأهلها كلهم يقرون بذلك، فما حكمه وما حكم التصدق عنه والإحسان إليه بعد موته؟
الجواب: من مات على هذا الاعتقاد بأن يعتقد أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس ببشر أي ليس من بني آدم أو يعتقد أنه يعلم الغيب فهذا اعتقاد كفري يعتبر صاحبه كافرا كفرا أكبر، وهكذا إذا كان يدعوه ويستغيث به أو ينذر له أو لغيره من الأنبياء والصالحين أو الجن أو الملائكة أو الأصنام، لأن هذا من جنس عمل المشركين الأولين كأبي جهل وأشباهه، وهو شرك أكبر ويسمى بعض الناس هذا النوع من الشرك توسلا وهو غير الشرك الأكبر. وهناك نوع ثان من التوسل ليس من الشرك، بل هو من البدع ووسائل الشرك وهو التوسل بجاه الأنبياء والصالحين أو بحق الأنبياء والصالحين أو بذواتهم. فالواجب الحذر من النوعين جميعا. ومن مات على النوع الأول لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يدعى له ولا يتصدق عنه لقول الله عز وجل:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (1).
وأما التوسل بأسماء الله وصفاته وتوحيده والإيمان به فهو توسل مشروع ومن أسباب الإجابة لقول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (2) الآية، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه سمع من يدعو
(1) سورة التوبة الآية 113
(2)
سورة الأعراف الآية 180
ويقول: "اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد" فقال: لقد سأل الله باسمه الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب (1)».
وهكذا التوسل بالأعمال الصالحة من بر الوالدين وأداء الأمانة والعفة عما حرم الله ونحو ذلك كما ورد ذلك في حديث أصحاب الغار المخرج في الصحيحين وهم «ثلاثة آواهم المبيت والمطر إلى غار فلما دخلوا فيه انحدرت عليهم صخرة من أعلى جبل فسدت الغار عليهم فلم يستطيعوا الخروج. فقالوا فيما بينهم إنه لن ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تسألوا الله بصالح أعمالكم فتوجهوا إلى الله سبحانه فسألوه ببعض أعمالهم الطيبة فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا وإني ذات ليلة نأى بي طلب الشجر فلما رحت عليهما بغبوقهما وجدتهما نائمين فلم أوقظهما وكرهت أن أسقي قبلهما أهلا ومالا فلم أزل على ذلك حتى طلع الفجر فاستيقظا وشربا غبوقهما. اللهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة شيئا لا يستطيعون الخروج منه. أما الثاني فتوسل بعفته عن الزنا حيث كانت له ابنة عم يحبها كثيرا وأرادها في نفسها فأبت عليه ثم ألمت بها حاجة شديدة فجاءت إليه تطلب منه المساعدة فأبى عليها إلا أن تمكنه من نفسها فوافقت على هذا من أجل حاجتها فأعطاها مائة دينار وعشرين دينارا، فلما جلس بين رجليها قالت له: يا عبد الله اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقها فخاف من الله حينئذ وقام عنها وترك لها الذهب خوفا من الله عز وجل. فقال: اللهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة شيئا لا يستطيعون الخروج منه. ثم قال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيت كل واحد أجرته إلا واحدا ترك أجرته فنميتها له حتى بلغت إبلا وبقرا وغنما ورقيقا. فجاء يطلب أجرته فقلت له: كل هذا من أجرتك. . يعنى الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال يا عبد الله اتق الله ولا تستهزئ بي. فقلت له إني لا أستهزئ بك إنه
(1) سنن الترمذي الدعوات (3475)، سنن أبو داود الصلاة (1493).
كله مالك فساقه كله. اللهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا جميعا يمضون (1)».
وهذا يدل على أن التوسل بالأعمال الصالحة الطيبة أمر مشروع وأن الله جل وعلا يفرج به الكربات كما جرى لهؤلاء الثلاثة. أما التوسل بجاه فلان وبحق فلان أو بذات فلان فهذا غير مشروع، بل هو من البدع كما تقدم. والله ولي التوفيق.
(1) صحيح البخاري الإجارة (2272)، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2743)، سنن أبو داود البيوع (3387)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 116).
القبيلي والخضيري
السؤال: ما معنى قولهم قبيلي وخضيري؟
الجواب: هذه مسألة جزئية وهي معروفة بين الناس. القبيلي هو الذي له قبيلة معروفة ينتمي إليها كقحطاني وسبيعي وتميمي وقرشي وهاشمي وما أشبه ذلك، هذا يسمى قبيليا؛ لأنه ينتمي إلى قبيلة، ويقال قبلي على القاعدة مثل أن يقال: حنفي وربعي وما أشبه ذلك نسبة إلى القبيلة التي ينتمي إليها.
والخضيري في عرف الناس في نجد خاصة ولا أعرفها إلا في نجد هو الذي ليس له قبيلة معروفة ينتمي إليها، أي ليس معروفا بأنه قحطاني أو تميمي أو قرشي، لكنه عربي ولسانه عربي ومن العرب وعاش بينهم ولو كانت جماعته معروفة. والمولى في عرف العرب هو الذي أصله عبد مملوك ثم أعتق. والعجم هم الذين لا ينتسبون للعرب يقال: عجمي فهم من أصول عجمية وليسوا من أصول عربية، هؤلاء يقال لهم أعاجم. والحكم في دين الله أنه لا فضل لأحد منهم على أحد إلا بالتقوى سواء سمي قبليا أو خضيريا أو مولى أو أعجميا كلهم على حد سواء. لا فضل لهذا على هذا ولا هذا على هذا إلا بالتقوى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي إلا بالتقوى ولا فضل لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى (1)» . وكما
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/ 411).
قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) لكن من عادة العرب قديما أنهم يزوجون بناتهم للقبائل التي يعرفونها ويقف بعضهم عن تزويج من ليس من قبيلة يعرفها. وهذا باق في الناس. وقد يتسامح بعضهم يزوج الخضيري والمولى والعجمي كما جرى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام زوج أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنه وهو مولاه وعتيقه - زوجه فاطمة بنت قيس رضي الله عنها وهي قرشية، وكذلك أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وهو من قريش زوج مولاه سالما بنت أخيه الوليد بن عتبة ولم يبال لكونه مولى عتيقا. وهذا جاء في الصحابة رضي الله عنهم وبعدهم كثير. ولكن الناس بعد ذلك - خصوصا في نجد وفي بعض الأماكن الأخرى - قد يقفون عن هذا ويتشددون فيه على حسب ما ورثوه عن آباء وأسلاف، وربما خاف بعضهم من إيذاء بعض قبيلته إذا قالوا له: لماذا زوجت فلانا؟ هذا قد يفضي إلى الإخلال بقبيلتنا وتختلط الأنساب وتضيع إلى غير ذلك، قد يعتذرون ببعض الأعذار التي لها وجهها في بعض الأحيان ولا يضر هذا، وأمره سهل.
المهم. . اختيار من يصلح للمصاهرة لدينه وخلقه، فإذا حصل هذا فهو الذي ينبغي سواء كان عربيا أو أعجميا أو مولى أو خضيريا أو غير ذلك هذا هو الأساس وإذا رغب بعض الناس أن لا يزوج إلا من قبيلته فلا نعلم حرجا في ذلك. . والله ولي التوفيق.
(1) سورة الحجرات الآية 13
ينبغي للشباب ألا يتركوا مجالات الإعلام للجهلة والمنحرفين عن الحق (1)
السؤال: فضيلة الشيخ. . ما هو تقييمكم لمستوى الإفتاء في العالم الإسلامي؟ هل هو بخير أم لكم وجهة نظر فيه؟
الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. . أما بعد:
فلا شك أن المسلمين في كل مكان في أشد الحاجة إلى الإفتاء بما يدل عليه كتاب الله الكريم وسنة نبيه الأمين عليه أفضل الصلوات والتسليم وهم في أشد الحاجة للفتاوى الشرعية المستنبطة من كتاب الله وسنة نبيه. . وإن من الواجب على أهل العلم في كل مكان في العالم الإسلامي، وفي كل مكان يقطنه مسلمون الاهتمام بهذا الواجب، والحرص على توضيح أحكام الله، وسنة رسوله التي جاء بها للعباد في مسائل التوحيد، والإخلاص لله، وبيان ما وقع فيه أكثر الناس من الشرك وما وقع فيه كثير منهم من الإلحاد والبدع المضلة حتى يكون المسلمون على بصيرة وحتى يعلم غيرهم حقيقة ما بعث الله به نبيه من الهدى ودين الحق.
والعلماء ورثة الأنبياء، فالواجب عليهم عظيم في بيان شرع الله لعباده وبيان الأحكام والأدلة الشرعية من الكتاب والسنة لا بالآراء المجردة. كما أن على العلماء أن يبينوا محاسن الإسلام وما دعا إليه من مكارم الأخلاق حتى يدخل في الإسلام من عرفه ويشتاق إليه من سمع ما فيه من الخير والأعمال الصالحات، وهذا كله سيعود بالخير على البلاد والعباد. وإن من أحسن ما حبانا الله به في هذه البلاد برنامجا مفيدا تتولاه جماعة من العلماء المسلمين الذين يجيبون عن كثير من الأسئلة التي يسألها المسلمون من الداخل والخارج. ولهذا أنصح
(1) لقاء مع سماحة الشيخ أجرته مجلة "المجتمع الكويتية" نشر في عددها الصادر بتاريخ 17/ 7 / 1410هـ.
بسماعه والاستفادة منه، وأنصح لجميع العلماء بأن يعنوا بمراجعة الكتب الإسلامية المعروفة حتى يستفيدوا منها، وكتب السنة مثل: الصحيحين وبقية الكتب الستة ومسند الإمام أحمد وموطأ الإمام مالك وغيرها من كتب الحديث المعتمدة، وكتب التفسير المعتمدة كتفسير ابن جرير وابن كثير والبغوي ونحوهم من أهل السنة. كما أوصى بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وغيرها من كتب علماء السنة، كما أوصي إخواني قبل ذلك كله بقراءة كتاب الله وتدبره فهو أصدق كتاب وأشرف كتاب، كما قال الله سبحانه وتعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1)، وأوصيهم أيضا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم لما فهيا من الهدى والعلم، وقد صح عن الرسول قوله:«من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2)» . راجيا من الله أن يوفق العلماء في كل مكان لما فيه إظهار الحق وتبيان أحكام الدين.
السؤال: ما رأيكم في المقولة التي تقول: إن أمور العصر تعقدت وأصبحت متشابكة، لذلك لا بد أن تخرج الفتوى من فريق متكامل يضم كافة المختصين بجوانب المشكلة أو الحالة ومن بينهم الفقيه؟
الجواب: إن الفتوى ينبغي أن تتركز على الأدلة الشرعية، وإذا صدرت الفتوى عن جماعة كانت أكمل وأفضل للوصول إلى الحق، لكن هذا لا يمنع العالم أن يفتي بما يعلمه من الشرع المطهر.
السؤال: يقوم الإنتاج الإعلامي الحالي بتوجيه هذا الجيل كيفما يريد المنتجون. . فما يقدمه التليفزيون والإذاعة من تمثيليات ومسرحيات وبرامج مختلفة إنما يعمل على تكريس قيم وأفكار ومبادئ يريدها صانعو هذه المصنفات الفنية، فإن تركنا إنتاج هذه المصنفات لغيرنا أفسدوا أبناءنا وبناتنا، وإن وجهنا أبناءنا وبناتنا لفهم ودراسة هذه الفنون من أجل صياغتها صياغة إسلامية خافوا
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2)
صحيح البخاري العلم (71)، صحيح مسلم الإمارة (1037)، سنن ابن ماجه المقدمة (221)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 93)، موطأ مالك كتاب الجامع (1667)، سنن الدارمي المقدمة (226).
على أنفسهم من الوقوع في الخطأ. . فبم تنصحون؟
الجواب: إن على المسئولين في الدول الإسلامية أن يتقوا الله في المسلمين وأن يولوا هذه الأمور لعلماء الخير والهدى، والحق، كما أن على علمائنا ألا يمتنعوا عن إيضاح الحقائق بالوسائل الإعلامية وألا يدعوا هذه الوسائل للجهلة والمتهمين، وأهل الإلحاد، بل يتولاها أهل الصلاح والإيمان والبصيرة وأن يوجهوها على الطريقة الإسلامية حتى لا يكون فيها ما يضر المسلمين شيبا أو شبانا، رجالا أو نساء، كما وأنه على العلماء أن يقدموا للناس إجابات وافية حول ما يبثه التلفاز ريثما يتولاها الصالحون، وأن على الدول الإسلامية أن تولي الصالحين حتى يبثوا الخير ويزرعوا الفضائل، نسأل الله للجميع التوفيق.
السؤال: هل معنى ذلك أنك تنصح أبناءنا المسلمين بدراسة هذه المجالات حتى يحتلوا الأماكن التي يغزوها هؤلاء المفسدون؟
الجواب: نعم ينبغي للعلماء ألا يتركوا هذه الأمور للجهلة وأن يتولوا بث الخير والفضيلة في كافة المجالات، ولكن هناك مسألة التمثيل فأنا لا أنصح بممارسة التمثيل، وإنما على العلماء أن يبينوا للناس أحكام الله ورسوله. أما أن يتقمص المرء شخصية فلان واسم فلان فيقول أنا عمر أو أنا عثمان أو نحو ذلك فهذا كذب لا يجوز فعله.
السؤال: كان كعب بن زهير رضي الله عنه يقف أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول:
وهو لم ير سعاد، ولم يحدث له أي شيء مما يذكره في القصيدة عن سعاد مما اعتبر ذلك كذبا. والتمثيل ضرب من هذه الضروب. . فما رأيك؟
الجواب: هذا ليس تقمصا للشخصية، وإنما التقمص كقول أحدهم: أنا أبو بكر أنا عمر أنا عائشة فقد كذب. . والله أعلم.
السؤال: هل تعتبر قيام جماعات إسلامية في البلدان الإسلامية لاحتضان الشباب وتربيتهم على الإسلام من إيجابيات هذا العصر؟
الجواب: وجود هذه الجماعات الإسلامية فيه خير للمسلمين ولكن عليها أن تجتهد في إيضاح الحق مع دليله وأن لا تتنافر مع بعضها. وأن تجتهد بالتعاون فيما بينها، وأن تحب إحداهما الأخرى، وتنصح لها وتنشر محاسنها وتحرص على ترك ما يشوش بينها وبين غيرها ولا مانع أن تكون هناك جماعات إذا كانت تدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
السؤال: بم تنصح الشباب داخل هذه الجماعات؟
الجواب: أن يترسموا طريق الحق ويطلبوه، وأن يسألوا أهل العلم فيما أشكل عليهم، وأن يتعاونوا مع الجماعات فيما ينفع المسلمين بالأدلة الشرعية لا بالعنف ولا بالسخرية، ولكن بالكلمة الطيبة والأسلوب الحسن، وأن يكون السلف الصالح قدوتهم، والحق دليلهم، وأن يهتموا بالعقيدة الصحيحة التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم.
السؤال: هل الأولوية في الدعوة الإسلامية للعمل الخيري كبناء المساجد وإغاثة المنكوبين أم لدعوة الحكومات لتطبيق الشريعة الإسلامية ومحاربة كافة أشكال الفساد؟
الجواب: الواجب على العلماء البداءة بما بدأ به الرسل عليهم الصلاة والسلام فيما يتعلق بالمجامع الكافرة والبلدان غير الإسلامية وذلك بالدعوة إلى توحيد الله وترك عبادة ما سواه والإيمان به وبأسمائه وصفاته وإثباتها له على الوجه اللائق به عز وجل مع الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم ومحبته واتباعه. كما أن عليهم دعوة المسلمين في كل مكان إلى التمسك بشريعة الله والاستقامة عليها ونصح ولاة الأمور ومساعدة المحتاجين ومواساتهم. كما أن على العلماء أن يستمروا في الدعوة إلى الله والحرص على الأعمال الخيرية وزيارة ولاة الأمور وتشجيعهم على الأعمال الحسنة وحثهم على تحكيم الشريعة وإلزام الشعوب
بها عملا بقول الله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) وقوله عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
السؤال: يتحمس بعض الشباب أكثر مما ينبغي وينحو إلى التطرف. . فما هي نصيحتكم له؟
الجواب: يجب على الشباب وغيرهم الحذر من العنف والتطرف والغلو لقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (3) وقوله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (4) الآية. وقوله عز وجل لموسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (5) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون قالها ثلاثا (6)» رواه مسلم في صحيحه. وقوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (7)» رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن بإسناد حسن. فلهذا أوصي جميع الدعاة بأن لا يقعوا في الإسراف والغلو وإنما عليهم التوسط. . وهو السير على نهج الله وعلى حكم كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
السؤال: اليوم نعيش ظاهرة سياسية كبيرة هزت العالم وهي انتفاضة الشعب الفلسطيني ضد اليهود. . فهل لكم كلمة توجهونها إلى الشباب المسلم في فلسطين المحتلة؟
الجواب: أنصحهم بتقوى الله والتعاون على الخير والاستقامة في العمل،
(1) سورة النساء الآية 65
(2)
سورة المائدة الآية 50
(3)
سورة النساء الآية 171
(4)
سورة آل عمران الآية 159
(5)
سورة طه الآية 44
(6)
صحيح مسلم العلم (2670)، سنن أبو داود السنة (4608)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 386).
(7)
سنن ابن ماجه المناسك (3029)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 215).
فالله ينصر من ينصره. فقد قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) وقال سبحانه في مكان آخر من كتابه الكريم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (2).
إنني أنصح كل إخواني بالتعاون معهم وأنصح الأغنياء وولاة الأمور بأن يمدوا يد العون لإخوانهم في فلسطين المجاهدة لاسترداد بلادهم والنصر على الأعداء إن شاء الله. أيدهم الله بالحق وجزاهم - عن المسلمين كل خير، وما عليهم إلا أن يصبروا ويصابروا فإن وعد الله حق - وإن الله ناصر من ينصره، وفقهم الله ونصرهم على عدوهم، ووفق المسلمين لمساعدتهم والوقوف بصفهم حتى ينصرهم الله على عدوهم وهو سبحانه خير الناصرين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
(1) سورة محمد الآية 7
(2)
سورة النور الآية 55
صفحة فارغة
بحث في
زكاة أسهم
الشركات المساهمة
إعداد
فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع (1).
عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية
والقاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، محمد وعلى آله وصحبه وبعد. .
فلا شك أن للزكاة مقاما رفيعا في الإسلام، وأنها أحد أركان الإسلام الخمسة، وأن منع أدائها جريمة كبرى، عاقب عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، باستحلال دم مانعها، حيث جهز خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا لقتالهم، وقال مقالته الخالدة: والله لو منعوني عناقا- وفي رواية- عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم عليه.
ومن أحكام منعها أنها تؤخذ من مانعها قهرا أداء للعبادة وشطرا من ماله عقوبة.
ومستند وجوبها من الكتاب والسنة والإجماع من الوضوح بحيث تعتبر معلومة من الدين بالضرورة.
(1) ورد للكاتب ترجمة في العدد السابع صفحة (290)
وحكمة مشروعيتها أنها طهرة للمال وتزكية، قال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (1) وفي الحديث: «ما نقص مال عبد من صدقة (2)» . وفيها مواساة للفقراء وعطف عليهم وتأمين كفايتهم المعيشية ممن أقعدهم العجز عن العمل.
وهي واجبة في كل مال نام بالفعل أو بالقوة، فتجب في أموال بهيمة الأنعام بشروطها، وفي الخارج من الأرض من كل مطعوم يكال ويدخر، وفي عروض التجارة من كل مال مباح للتجارة سواء أكان ثابتا كالعقار، أو منقولا كسائر أنواع وأجناس البضائع والسلع، وهذه الأجناس الثلاثة من الأموال- بهيمة الأنعام، الخارج من الأرض، عروض التجارة- هي في الغالب أموال نامية بالفعل، إذ هي محل النماء والكثرة بحكم تهيئها لذلك، سواء أكان ذلك من حيث تكاثرها ونموها، أم كان ذلك من حيث تهيؤها للزيادة في قيمها السوقية. كما تجب الزكاة في الأموال النامية بالقوة، وهي الأثمان بمختلف أجناسها وأنواعها من ذهب وفضة وأوراق نقدية وغير ذلك مما يعد ويعتبر ثمنا تجتمع فيه خصائص الثمنية.
وهناك أجناس من الأموال موضع خلاف بين العلماء في وجوب الزكاة في أثمانها، كالعقارات المعدة للاستغلال على سبيل الكراء، وكالحلي المعد للاستعمال، أو العارية وغير ذلك مما ذكره الفقهاء رحمهم الله تعالى في كتبهم الفقهية في كتاب الزكاة.
وحيث إن موضوع هذا البحث ليس في استعراض الأموال الواجبة فيها الزكاة وما لأهل العلم فيها من نظر وتأصيل وتفصيل، فقد آثرنا الاكتفاء بذكر الأموال التي هي في الواقع محل إجماع بين أهل العلم في وجوب الزكاة فيها، ذكرت هذه الأموال بصفة إجمالية تمهيدا للدخول في صميم البحث.
(1) سورة التوبة الآية 103
(2)
الجامع الصحيح (سنن الترمذي) ج4 كتاب الزهد ص562 رقم 2325
إن شركات المساهمة أموال تخضع لوجوب الزكاة إذا كانت محلا للاستثمارات المباحة، كشركات الزراعة والصناعة والمضاربات التجارية، كشركات الاستيراد والتصدير والمصارف الإسلامية وغيرها.
والأسهم في هذه الشركات عبارة عن حصص تملك فيها شائعة في عمومها. ولوجوب الزكاة في عمومها فهي واجبة في هذه الأسهم الممثلة لأجزاء هذه الشركات.
وحيث إن شركات المساهمة لكل واحدة منها مجال استثمار اختصت به حسبما نص عليه نظامها الأساسي وصدر الترخيص لها بذلك من الجهة المختصة في الدولة، فإن لهذا المال الاستثماري حكمه من حيث وجوب الزكاة فيها.
وحيث إن المتبع في جميع الشركات الوطنية حسبما نقرؤه من النشرات السنوية لميزانيات تلك الشركات أن الزكاة تستقطع من صافي ربح الشركة بغض النظر عن المجال الاستثماري للشركة، وبغض النظر عن الازدواجية التي تحصل على الشركات الزراعية في جباية الزكاة منها، حيث إن الزكاة تؤخذ منها مرتين، مرة عند تقديم محصولها الزراعي من الحبوب لصوامع الغلال، ومرة عند نشر ميزانيتها السنوية وأخذ الزكاة من صافي أرباحها، هذا فيما يظهر لنا.
لهذا ولأهمية الزكاة وضرورة العناية بمعرفة أحكامها والتحقق عن المال الواجبة فيه ومقدار ما يجب، ولأن شركات المساهمة اليوم تمثل كمية كبيرة من الأموال الوطنية المستثمرة، وهي في الواقع أموال لمجموعة من فئات المسلمين من أيتام وأرامل وأشخاص ذوي تقى وورع وصلاح وحرص بالغ على تطهير أموالهم من الزكاة. وفي نفس الأمر فإن القائمين على إدارة هذه الشركات وإن كانوا ذوي اختصاص إداري واقتصادي فإنهم في الغالب ليسوا على مستوى شرعي من التأهيل لمعرفة أحكام الزكاة وما تجب فيه من أموال ومقدار الواجب فيها، لهذا آثرت إعداد هذا البحث في زكاة أسهم الشركات، يكفيني منه في حال قصوره عن إيفاء البحث حقه من النظر والتحقيق أن يكون هذا البحث
إثارة لمن هو أقدر مني في التأصيل والتفصيل والنظر والتحقيق، فالمسألة من الأهمية بحيث يجب أن تعطى ما تستحقه من النظر، سواء أكان ذلك على مستوى فردي أم كان على مستوى جماعي من هيئات شرعية مختصة، كالمجامع الفقهية ونحوها.
لا شك في أن شركات المساهمة لها مجالات استثمارية متخصصة في الصناعة والزراعة والتجارة، فإن كانت شركة زراعية فهذا يعني أن مجالها الاستثماري في زراعة الحبوب والثمار فتخضع لأحكام الزكاة فيما تخرجه الأرض من الحبوب والثمار مما يكال ويدخر، وتثبت لمنتجات هذه الشركة أحكام الزكاة في الخارجة من الأرض مالا ومقدارا وزمنا.
وحيث إن ناتج الشركات الزراعية في بلادنا من الحبوب يقدم لصوامع الغلال التابعة لوزارة الزراعة، وصوامع الغلال تستقطع مما يقدم إليها من حبوب مقدار الزكاة الواجبة فيها، فإذا قدمت إحدى الشركات الزراعية مثلا لصوامع الغلال ألفي طن من القمح فإن صوامع الغلال تستقطع من هذا المقدار نصف العشر زكاة وقدره مائة طن، وتسجل للشركة ألفا وتسعمائة طن، هذا يعني أن زكاة هذا الخارج من الأرض لهذه الشركة قد تم إخراجها فلا ينبغي لإدارة الشركة أن تخرج من زكاة عن صافي أرباحها، والحال أن الزكاة تؤخذ من كل منتوج زراعي في وقته عند تقديمه لصوامع الغلال التي هي إحدى المؤسسات العامة للدولة، لما في ذلك من الازدواجية في التصرف والمخالفة الشرعية، فإن الشارع الحكيم يراعي مصلحة دافع الزكاة وأخذها وتحقق العدل في ذلك، وليس من العدل أن تؤخذ ممن وجبت عليه مرتين.
هذا إذا كان نشاط الشركة الزراعي منحصرا في إنتاج الحبوب، أما إذا كان لها نشاط آخر كتربية الحيوان على سبيل الإنتاج والتسمين، أو كان لها نقود سائلة فإن الزكاة واجبة في هذين المالين بشروطه.
وإن كانت شركة المساهمة شركة صناعية كشركات الأسمنت والجبس
والكهرباء والأدوية والصناعات الأساسية وغيرها، فإن الزكاة واجبة في صافي أرباحها قياسا على زكاة العقارات المعدة للكراء، حيث إن الأصول الثابتة فيها من أدوات وأجهزة ومكائن ومكاتب ومخازن وغير ذلك من وسائل الإنتاج والتصنيع تعتبر كالعقار المعد للاستغلال على سبيل الكراء وما ينتج من هذه المصانع من عوائد استثمارية بعد حسم المصروفات الإدارية منها تعتبر كأجرة العقار.
فلا زكاة في معدات التصنيع ومستلزماته من مكائن وتجهيزات وأدوات لازمة ومبان مستلزمة، إذ هي مقيسة على العقار المعد للكراء أو على أدوات الصانع والنجار والصائغ والحائك وتجهيزات الورش الصناعية ونحو ذلك.
وقد نص الفقهاء رحمهم الله على أن الزكاة في هذه الوسائل غير واجبة، قال شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في رسائله وفتاواه إجابة عن سؤال سئل عنه فقال: إن ما لم يعد للبيع لا زكاة فيه من العقار والمكائن والآلات والدور والفنادق والمراكب وغيرها. اهـ. الفتوى رقم 1043 ج4 ص106/ 107.
وقال رحمه الله إجابة عن سؤال، هل في ورشة النجارة زكاة:
لا زكاة فيها بحال، وإنما الزكاة في غلتها إذا بلغت نصابا وحال عليها الحول. اهـ. الفتوى رقم 1044 ج4 ص107.
وقال رحمه الله إجابة عن سؤال، حول أدوات شركة الكهرباء وهل فيها زكاة؟
قال: ما سألت عنه من الأموال التي جعلت في شركة الكهرباء ونحوها لاستغلالها بالإيجار، فلا زكاة فيها، أي في الأعيان التي هي المكائن والمعدات التابعة لها؛ لأنها ليست من الأموال الزكوية ولا من العروض الزكوية. اهـ انظر الفتوى رقم 1035ج4 ص100.
وإن كانت شركة المساهمة شركة تجارية اختصاصها تداول السلع بيعا وشراء واستيرادا وتصديرا، كالمصارف الإسلامية التي يعتمد استثمارها على المضاربات التجارية والكسب عن طريق التسهيلات المصرفية البعيدة عن الربا أخذا وإعطاء كالتحويلات المالية وإصدار الضمانات أو الشيكات بمختلف أجناسها وأنواعها والتوكيلات والسمسرة وغير ذلك من مستلزمات الحركة التجارية في الأسواق المصرفية مما لا يتعارض مع المقتضيات الشرعية والقواعد المرعية في الشريعة الإسلامية، فهذا النوع من شركات المساهمة تجب الزكاة فيها وجوب الزكاة في عروض التجارة، وذلك بوجوبها في رءوس أموالها وفي مالها من احتياطيات وأرباح بعد حسم المصاريف الإدارية لإدارة أموالها في التجارة من ذلك، وألا يعتبر من المقدار الواجبة فيه الزكاة التجهيزات الإدارية، سواء أكانت أعيانا قائمة أو منقولة، لأنها ليست محلا للإدارة المالية والحركة التجارية بيعا وشراء، وإنما هي شبيهة بدكان التاجر وما فيه من مستلزمات حركته التجارية من وسائل العرض والحفظ والتخزين.
هذا ما يظهر لي في زكاة هذا الجنس من الشركات، ولكن نظرا إلى أن السهم في غالب الشركات قد تكون قيمته السوقية أكثر من قيمته مما يمثله من حصة شائعة في الشركة باعتبار قيمة كامل أعيانها من أدوات ووسائل إنتاج وسيولة نقدية وبضائع وسلع وغير ذلك مما يعد ويعتبر من مقومات حركتها التجارية، كأن يكون للشركة قيمة اعتبارية مضافة إلى قيمتها المادية، فإذا ملك زيد من الناس مثلا ألف سهم في شركة مصرفية إسلامية قيمة السهم الاسمية- الأصلية وقت الاكتتاب- مائة (100) ريال وقيمته المادية باعتبار واقع الشركة وتقويم موجوداتها وقت وجوب الزكاة فيها خمسمائة (500) ريال وقيمة السهم في سوق الأسهم ألف ريال، فإذا نظرنا إلى هذه القيم الثلاث للسهم- قيمته الاسمية، قيمته المادية، قيمته السوقية- نجدها قيما معتبرة للسهم، في فأي هذه القيم الثلاث تحتسب الزكاة باعتباره؟ هل نعتبر القيمة الاسمية باعتبار أن هذه القيمة للسهم في الشركة هي الأصل، وما طرأ عليه من قيم
أخرى تعتبر طارئة؟ أم تعتبر القيمة المادية للسهم باعتبار هذه القيمة هي القيمة الحقيقية للشركة وقت وجوب الزكاة؟ أم تعتبر القيمة الاعتبارية المتمثلة في قيمة السهم المادية والاعتبارية معا؟.
إن القول بأن الزكاة واجبة في قيمة السهم الاسمية، قول يتجافى مع العدل والإنصاف والحقيقة المتمثلة في وجوب الزكاة في واقع المال، ذلك أن القيمة الاسمية- الأصلية- للسهم في الغالب لا تمثل القيمة الحقيقية لواقع الشركة، فقد تكون الشركة من النماء والازدهار بحال تكون قيمة السهم فيها أكثر من قيمته الاسمية، وقد تكون الشركة في حال من الكساد والخسارة بحيث تكون قيمة السهم فيها أقل من قيمته الاسمية.
وبهذا نستطيع القول بكل طمأنينة وقناعة: إن القيمة الاسمية للسهم في الشركات بعد مزاولتها خصائص أعمالها لا تمثل في الغالب القيمة الحقيقية للسهم في الشركات، حيث إن الشركات بعد حركتها الاختصاصية بين ارتفاع وانخفاض، ولهذا فإن احتساب الزكاة في هذه الشركات على اعتبار قيمة السهم الاسمية غير صحيح لفقده عنصر الأساس في النظر والتقدير.
ويبقى الأمر في وجوب الزكاة في أسهم هذا النوع من الشركات دائرا بين الأخذ باعتبار قيمته المادية المتمثلة في حقيقة وواقع الشركة بما لها من رأسمال وربح واحتياط، وذلك وقت وجوب الزكاة فيها، وبين الأخذ باعتبار قيمة السهم السوقية المتمثلة في قيمته المادية وقيمته الاعتبارية وقت وجوب الزكاة في الشركة.
فإن اتجه بنا النظر إلى أن الزكاة واجبة في الأموال الزكوية المحسوسة من حيوان أو عقار أو أثمان أو خارج من الأرض من حبوب أو ثمار أو سلع وبضائع تنتقل في أيدي الناس بإدارتها بيعا وشراء، وأن السلف الصالح من العلماء والفقهاء لم يذكروا في كتبهم الفقهية أموالا اعتبارية تجب فيها الزكاة كحقوق الارتفاق والاختصاص، وحقوق براءات الاختراع، وحقوق الطبع والتأليف
والنشر والترجمة ونحو ذلك من الحقوق المعنوية، إن اتجه بنا النظر إلى هذا قصرنا وجوب الزكاة على القيمة الحقيقية لواقع الشركة لكونها المال النامي بالفعل أو بالقوة، وهو المال المحسوس المشاهد من الفقراء وغيرهم.
إننا حينما نقصر النظر على هذا وعلى التمسك بما ذكره فقهاؤنا من قصرهم الزكاة على الأموال العينية المحسوسة، نقول: إن الزكاة واجبة في القيمة الفعلية للسهم في الشركة باعتبار صافي ما تملكه من عروض وأثمان وقت وجوب الزكاة فيها، وأنه لا اعتبار للقيمة المعنوية المضافة إلى قيمة السهم الفعلية لأنها ليست قيمة مالية لمال محسوس، وإنما هي قيمة للرغبة النفسية في هذه الشركة.
ولكن قد يرد على هذا الاتجاه بأن التطور الاقتصادي في العصور الحديثة قد أتى بمستجدات من الأموال ومن طرق الاستثمار والتمويل، وأن الزكاة واجبة فيما يملكه المسلم مما هو محل للزكاة، ومن ذلك ما يؤول برغبته وتصرفه إلى مال زكوي عيني.
وهذا الإيراد هو حجة من يقول بوجوب الزكاة في الشركة باعتبار القيمة السوقية للسهم في أسواق الأسهم التجارية سواء أكانت هذه القيمة السوقية متفقة مع القيمة الحقيقية للسهم أم كانت زائدة عنها أو ناقصة، حيث إن السهم في الشركة عبارة عن حصة شائعة في عموم الشركة، يستطيع مالكها أن يبيعها بالسعر السوقي في أي وقت يشاء بالثمن الذي هو قيمته في أسواق الأسهم ليحصل من ذلك على ثمن من النقود يمثل قوة مالية محسوسة هي مال زكوي بإجماع أهل العلم.
ولقوة الاحتجاج لكلا الرأيين الأخيرين فإن ترجيح أحدهما على الآخر يحتاج إلى مزيد من النظر والتأمل، ويمكن أن يكون من النظر في ذلك التفصيل:
فإن كان مالك السهم في الشركة التجارية المساهمة يقصد بتملكه الاستثماري الاستمرار في تملك حصة شائعة في الشركة قدر ما يملكه فيها من
أسهم وأنه لا يقصد بتملكها المتاجرة فيها بيعا وشراء. فهذه الفئة من المساهمين في الشركة لا يستفيدون من القيم السوقية للأسهم، وإنما يحتفظ الواحد منهم بما يملكه من أسهم في الشركة للاستثمار وأخذ العائد الدوري من ذلك.
وحيث إن الحصة الشائعة التي تمثلها الأسهم التي يملكها الفرد من هذه الفئة من المساهمين في هذه الشركات حصة من مجموعة حصص، تمثل كامل محتويات الشركة وهي- أعني هذه الشركة - تقوم بالمتاجرة في موجوداتها القابلة للإدارة التجارية بيعا وشراء، فقد يتجه القول بوجوب الزكاة على مالك هذه الأسهم من هذه الفئة من المساهمين باعتبار القيمة المادية الحقيقية لموجودات هذه الشركة لا باعتبار القيمة السوقية لأسهمها.
أما إذا كان مالك السهم أو الأسهم من هذه الشركات التجارية ممن يتملكها على سبيل المتاجرة فيها بيعا وشراء، يشتريها اليوم ليبيعها غدا، ويبيعها غدا ليشتري غيرها اعتبارا بها عروض تجارة، فإن الزكاة واجبة فيها باعتبار قيمتها السوقية لا باعتبار قيمتها المادية الحقيقية، لأن هذه الفئة من مالكي هذه الأسهم في هذه الشركات لا يقصد واحدهم بتملكه إياها استثمارها بأخذ عائدها الدوري، وإنما يقصد بذلك المتاجرة فيها بيعا وشراء وبسعر قيمتها السوقية، حيث إنه يشتري هذه الأسهم بسعرها في أسواق الأسهم ويبيعها بسعرها في أسواق الأسهم كذلك.
والقول بوجوب الزكاة في أسهم الشركات باعتبار قيمتا السوقية على من يتداولها بيعا وشراء على سبيل المتاجرة فيها، كالمتاجرة في عروض التجارة، هذا القول ليس مقصورا على أسهم شركات المساهمة التجارية، بل هو عام في جميع أسهم الشركات، سواء أكانت شركات تجارية، أم كانت شركات صناعية، أو زراعية، أو شركات خدمات عامة، فمن يملك أسهما من هذه الشركات يقصد بتملكها المتاجرة فيها، فالزكاة واجبة فيها وجوب الزكاة في عروض التجارة من جميع الأموال الزكوية، ثابتة كانت أم منقولة، وباعتبار قيمتها السوقية لأنها أي- القيمة السوقية- هي اعتبار مالكها في البيع والشراء.
وقد يرد على هذا التفصيل إيراد خلاصته أن الشريعة الإسلامية لا تفرق في الحكم بين متماثلين، فكيف يتم لنا وجاهة التفريق في الحكم بين زكاة أسهم يملكها أحد الأفراد، وبين زكاة أسهم أخرى من نفس النوع يملكها فرد آخر، ويكون لهذا التفريق أثر كبير في المقدار الواجب فيها من الزكاة، كأن يملك زيد من الناس ألف سهم في شركة تجارية، قيمة السهم السوقية فيها ألف (1000) ريال غرضه من التملك أن تكون عروض تجارة مهيأة للبيع والشراء، يشتريها اليوم ليبيعها غدا أو بعد غد ليشتري بدلها أسهما أخرى غيرها، فإذا وجبت الزكاة فيها وهي في ملكه أخرج زكاتها ربع العشر من كامل قيمتها السوقية، أي خمسة وعشرين ألف ريال.
وعمرو من الناس يملك ألف سهم من الشركة نفسها، غرضه من التملك الاستمرار فيه وأخذ العائد الدوري، وقيمة السهم الحقيقية من واقع تقويم الشركة خمسمائة (500) ريال، فإذا وجبت الزكاة فيها وهي في ملكه أخرج زكاتها باعتبار قيمتها الحقيقية ربع العشر ومقداره اثنا عشر ألفا وخمسمائة (12500) ريال.
ومن هذا المثال يتضح أن الاثنين- زيدا وعمرا- متفقان في مقدار الأسهم وفي نوعها، ومع ذلك يخرج أحدهما زكاه ما يملكه من هذه الأسهم بمقدار ضعف ما يخرجه الثاني، فهذا تفريق بين متماثلين.
والجواب عن هذا الإيراد أن للنية والتصرف وفق النية أثرا في تميز الحكم، فلو افترضنا أن محمدا من الناس عنده ثلاث قطع من الأراضي متجاورات ومتساوية في المساحة والرغبة والقيمة، باعها على ثلاثة أشخاص أحدهم محمود اشترى منه القطعة الأولى بمائة ألف (000. 100) ريال لغرض بنائها مسكنا يسكنه، والثاني حامد اشترى منه القطعة الثانية بمائة ألف (000. 100) ريال لغرض تأجيرها، والثالث أحمد اشترى منه القطعة الثالثة بمائة ألف (000. 100) ريال لغرض المتاجرة فيها عرضا من عروض التجارة.
فهؤلاء الثلاثة متفقون في التملك وفي قيمة العين المملوكة وفي مساحتها وموقعها، إلا أن لكل واحد منهم نية في التملك تخالف نية أخويه، ولهذه النية ما تستحقه من النظر الشرعي في وجوب الزكاة وفي مقدارها وفي سقوطها.
فالأرض التي اشتراها محمود في هذا المثال لا زكاة فيها، لأنه لم يتملكها بنية التجارة ولا الاستغلال، والأرض التي اشتراها حامد تجب الزكاة في غلتها إذا حال عليها الحول، حيث إنه تملكها بنية الاستغلال على سبيل الكراء، والأرض التي اشتراها أحمد تجب الزكاة في قيمتها وقت وجوب الزكاة فيها، حيث إنه تملكها بنية التجارة، فهؤلاء ثلاثة أفراد تملكوا ثلاث قطع من الأرض بقيم متساوية وفي موقع واحد ومساحة متفقة، وحيث إن لكل واحد منهم نية وغرضا في التملك لا تتفق مع نية أخويه، فقد اختلف الحكم في الزكاة فيها، سقوطا ومقدارا.
وهذا قول عامة أهل العلم، ومنهم سماحة شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية سابقا- رحمه الله فقد جاء في فتاواه ورسائله ما نصه:
الأرض المشتراة المعدة للتجارة هذه عروض تجارة تجب فيها الزكاة في قيمتها إذا حال عليها الحول وبلغت نصابا. اهـ. الفتوى رقم 1034 ج4 ص101.
وقال إجابة عن سؤال رجل يملك بيتا للسكنى ثم بعد ذلك أجره فهل تجب الزكاة في قيمته أو في أجرته، قال ما نصه:
لا تجب الزكاة في قيمته لأنه لم ينو بيعه وشراءه، ولا تجب في أجرته لأنه لم ينو بها الاتجار بطريق الأجرة إلا بعد ما ملكه بمدة، والأصل عدم وجوبها فيه، وهذه النية لا تقوى على رفع الأصل، لكن هذا المال الذي قبضه تجب فيه الزكاة بعد تمام الحول من وقت استحقاقه. اهـ. الفتوى رقم 1036 ج4 صح 103.
وقال أيضا:
فاتضح مما ذكر أعلاه أن ما لم يعد للبيع لا زكاة فيه من العقار والمكائن والآلات والدور والفنادق والمراكب وغيرها. اهـ. الفتوى رقم 1043 ج4 ص107.
ونظرا إلى أن التفريق في الحكم في وجوب الزكاة وفي سقوطها وفي مقدارها تبعا للنية في التملك من الوضوح بحال متميزة، فقد لا نحتاج إلى مزيد نصوص من أقوال أهل العلم في تقرير ذلك، ويبقى من الإيراد الاستشكال في وجاهة التفريق بين وجوب الزكاة في أسهم شركة تجارية يملكها أحد الناس بنية الاستمرار في التملك، وبين وجوبها في أسهم من نفس الشركة يملكها فرد آخر منهم بنية المتاجرة فيها بيعا وشراء، والحال أن الزكاة واجبة في هذه الشركة في كامل قيمتها رأسمالها وأرباحها واحتياطياتها بعد حسم مصاريفها الإدارية وأصولها الثابتة التي ليست محلا للتجارة والتداول، حيث إن الزكاة واجبة في أسهم الأول باعتبار قيمها الحقيقية، وواجبة في أسهم الثاني باعتبار قيمتها السوقية.
وقد يكون هناك فرق كبير بين القيمتين، القيمة الحقيقية، والقيمة السوقية، والحال أن الزكاة في الجميع واجبة في القيمة لا في الغلة، ولا شك أن هذا الإيراد له وجاهة، وقد سبقت الإجابة عنه في معرض توجيه القول باعتبار التفريق بين القيمتين في تقدير الزكاة الواجبة على هذه الأسهم، وقلنا: إن من يملكها على سبيل الاستمرار في تملكها لا ينتفع بالفرق بين القيمة الحقيقية والقيمة السوقية، وقلنا: إن الزكاة في الأصل واجبة في الأموال المحسوسة، والقيمة السوقية تشتمل على قيمة اعتبارية ليس لها مقابل عيني محسوس ينتفع به ويحاسب عليه في زيادة حجم المال الزكوي. أما من يملكها على سبيل المتاجرة فيها بيعا وشراء يشتريها اليوم ليبيعها غدا أو بعد غد، ويبيعها ليشتري غيرها وهكذا، قصده ونيته الحركة في التملك والتداول في البيع والشراء. فإن هذا النوع من الناس لا يستطيع البيع والشراء إلا باعتبار القيمة السوقية لهذه
الأسهم، فلا يشتري أسهما إلا بقيمة سوقية، ولا يبيع إلا بنفس القيمة السوقية، وهو في نفس الأمر مستفيد من القيمة السوقية المشتملة على القيمتين الاعتبارية والحقيقية، بخلاف الأول فإنه لا يستفيد من القيم الاعتبارية للأسهم التي يملكها ما دام قاصدا الاستمرار في التملك غير مستفيد من تقلب أسعارها في أسواق الأسهم.
والشريعة الإسلامية من الحكمة والعدل والإنصاف ومراعاة المصالح المختلفة والجمع بين تحصيلها للجميع في مقام دقيق ورفيع لا يتصور منها في هذا المقام أن تأتي بما يتعارض مع ذلك.
وخلاصة القول في زكاة أسهم الشركات المساهمة أن مالكها لا يخلو قصده في التملك من أمرين: أحدهما أن يقصد بتملكها الاستمرار في التملك على سبيل استثمارها بأخذ عائدها الدوري فإن كانت أسهم تملكه في شركة زراعية فإن زكاتها فيما تخرجه الشركة من حبوب وثمار طبقا لأحكام الزكاة في الخارج من الأرض، وإن كانت هذه الأسهم في شركة صناعية فإن زكاتها هي ما تخرجه الشركة عند كل حول مما يظهر في ميزانيتها عند نشرها في الوسائل الإعلامية وذلك من صافي أرباحها، وإن كانت شركة تجارية كشركات المصارف الإسلامية وشركات الاستيراد والتصدير فإن الزكاة واجبة في قيمة السهم الحقيقية حسبما تقوم به الشركة عند وجوب الزكاة فيها بعد حسم مصاريف الإدارة والأصول الثابتة مما ليس محلا للإدارة التجارية كمباني الشركة ومكاتبها ووسائل تجهيزها الثابتة.
الأمر الثاني أن يكون القصد من تملك الأسهم من مالكها المتاجرة فيها بيعا وشراء يشتريها اليوم ليبيعها غدا أو بعد غد ويبيعها اليوم ليشتري غيرها طلبا للربح في تداولها وتقليبها، فمن كانت هذه نيته في التملك وهذا صنيعه في التصرف فإن الزكاة واجبة في جميع ما يملكه من أسهم من كل شركة مساهمة سواء أكانت شركة زراعة أو شركة صناعة أو شركة تجارية، وذلك عند كل