الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مفهوم الجهاد في الإسلام
بقلم د. محمد بن سعد الشويعر (1).
الحمد لله الذي أعلى مكانة الجهاد، وأعظم أجر المجاهدين، حتى لا يزهد في هذا العمل من يريد الخير من البشر، والحمد لله الذي جعل المجاهد بأفضل المنازل، وأعلى الدرجات: إما الظفر والعز في الدنيا، وإعلاء كلمة الله، وإما الفوز بالشهادة والنعيم المقيم، كما قال سبحانه:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (2){فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) والصلاة والسلام على من كانت حياته جهادا في سبيل الله لنشر الدعوة التي أمر بتبليغها، فكان مجاهدا بلسانه، وكان مجاهدا بجنانه ومشاعره، وكان شجاعا بسيفه وسنانه، في مجاهدة الكفار ليأطرهم على الحق أطرا، حتى أبقى أمته على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وترك فيهم أمرين يرغبانهم في الجهاد، ويوضحان للناس ما خفي عليهم من أموره وأهدافه، ويزيلان ما يثار من شبه تطرأ مع نقص الفقه بأمور الجهاد، ومنازل المجاهدين، لن تضل الأمة ما دامت متمسكة بهما: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحابته الأخيار الذين استنوا بسنته، واقتفوا أثره، فرفعوا راية الجهاد بعدما رفعت روحه الطاهرة إلى بارئها، فكان في صلابة الخليفة الراشد الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه قمعا لبذور الفتنة عندما جهز
(1) وردت ترجمة للباحث في العدد التاسع ص 289.
(2)
سورة آل عمران الآية 169
(3)
سورة آل عمران الآية 170
الجيوش متشجعا في قوله المشهور: " والله لو منعوني عقالا - وفي رواية عناقا - كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لجاهدتهم عليه "(1).
فنشر الله راية الإسلام في الآفاق، وطهر الله قلوبا من النفاق، بسيف الجهاد الذي أشهر، وعزيمة المجاهدين المحتسبين، وتوفيق الله وإعانته، حيث حمت نفوس الرعيل الأول عن مطامع الدنيا، واستجابوا لله ولرسوله، لأنه نداء الحق، وأرخصوا أرواحهم من أجل دينهم، وبذلوا مهجهم وأموالهم، حتى تنتشر عقيدة الوحدانية لله، ويتغلب أمره سبحانه على طغيان الهوى، ونداء الشيطان.
أما بعد:
فمثلما أن كثيرا من الألفاظ العربية قد جد فيها مع نور الإسلام مفاهيم اقترنت به، حيث أخذ بعضها معنيين: دلالة لغوية، ودلالة شرعية. . فكذلك كلمة الجهاد، قد اشتركت مع القتال في الدلالة اللغوية، حسب معناها في لغة العرب، وفي الجهود الظاهرة من حيث العدة والسلاح، والتهيؤ والحماسة، لكنهما تختلفان في المفهوم العميق، والمقاصد التي قام الجهاد من أجلها، كما يتباينان في الهدف ونوعية الدلالة المرتبطة بالنية والإخلاص.
كما يبرز دور الجهاد الذي اقترن بعقيدة الإسلام، من حيث المؤثرات والأسباب والمسببات، والمفهوم القتالي حسبما هو سائد في العرف العربي: يعني الشجاعة والصلابة، وطلب الشهرة، وحب التسلط، لكي يتحصل المقاتل على ذكر حسن ومحمدة في قومه. وقد يدفعه اعتداده بقوته إلى فرض ما يريد بالقوة مهما كانت النتائج، وبأي مظهر من مظاهر الحياة التي يمقتها الإسلام لمنافاة ذلك لعدالته، ولمكانته السامية المفهومة من مشروعيته، لأي عبادة من العبادات فيه، حيث يفهم منها معنى اجتماعيا رفيعا بعد الأساس، وهو الطاعة لله ولرسوله.
أما الجهاد الذي أصبح مسماه ودلالته، من العبارات الجديدة في قاموس المصطلح الشرعي، حسبما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
(1) من كلام الصديق في حروب الردة انظر البداية والنهاية 6: 311.
كغيره من المعاني التي ارتسمت في مخيلة المسلمين، بما تعنيه من مفاهيم جديدة جاءت مع شريعة الإسلام: كالصلاة والصيام والحج والزكاة وغيرها، مما تدل عليه من أوامر ونواه وعبادات، فإن هذا الجهاد يعني عبادة بدنية مخصوصة لها وضعها الخاص، وجزاؤها الوفير، الذي أبانه منبع التشريع في الإسلام: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وما ذلك إلا أن مكانة الجهاد في شريعة الإسلام عالية المنزلة، رفيعة الدرجة عند الله، إذ بالجهاد تقوى النفوس، وتشتد العزائم، وبنتيجة الجهاد ترسخ مكانة الأمة الإسلامية، وتقوى ركائز الإيمان، وينتشر دين الله في الملأ.
والجهاد وسيلة لإخافة الأعداء، وتقوية الجانب الإسلامي، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضمن الأمور الخمسة التي أعطي إياها، ولم تكن لأحد من الأنبياء قبله، فقال:«نصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي (1)» فقد خافت الروم في الشام وفارس في أرض السواد، والأحباش في اليمن، وكل منها يبعد شهرا في المسير عن المدينة، من زحف جيوش الإسلام إليهم.
ومن هذه المكانة عده بعض الفقهاء ركنا سادسا من أركان الإسلام، الذي لا يقوم الدين إلا عليها، كالعمد التي يرتكز عليها البيت، معللين ذلك بأن الجهاد يأتي بعد الأركان الخمسة في الترتيب، وأهمية الحث والترغيب. فقد روى مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من النفاق (2)» .
وكثير من شراح هذا الحديث، يرون أن ترك الجهاد أحد شعب النفاق.
(1) ضمن حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الذي أخرجه البخاري ومسلم والنسائي، وانظر جامع الأصول 8:528.
(2)
انظر جامع الأصول 2: 562.
وإدراك منزلة الجهاد تبرز من الحث عليه، والترغيب فيه، والطواعية في التنفيذ والعمل، سواء في كتاب الله بالدعوة للقتال والحماسة في ذلك، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالاستجابة للنفير، وعدم التولي عند الزحف، والثبات في المعركة مهما تكاثر الأعداء.
والإدراك العميق للدلالة الشرعية للجهاد، مما يجعل القلوب تتعلق به، والنفوس والأموال ترتبط به، والمشورة تبذل رخيصة في ساحاته. ولذا عده الفقهاء رحمهم الله أفضل العبادات البدنية.
قال الإمام أحمد: " لا أعلم شيئا بعد الفرائض أفضل من الجهاد ". وقال غيره: " اتفق العلماء، فيما نعلم، على أنه ليس في التطوعات أفضل من الجهاد "(1).
ويعضد هذا القول ما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها (2)» .
والإسلام لم تبرز مهابته ولم يخافه أعداؤه ولم يكن للمسلمين شوكة إلا بعدما فرض الله الجهاد على أبنائه؛ ليقسروا العرب عليه أولا بآية مدنية من سورة البقرة، حيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالجهاد بعدما نزلت هذه الآية:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (3) فكانت كراهية الموت في القتال مرتبطة بالمكاره التي حفت بها الجنة.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين أن يكفوا شر الأعداء عن حوزة الإسلام، وقال
(1) حاشية الروض لابن قاسم 4: 255.
(2)
جامع الأصول لابن الأثير 10: 504، وحديث أنس 9:471.
(3)
سورة البقرة الآية 216