الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يجب عليه حياله، صلبا فيما يدعو إليه، مدركا ما يدعوه إليه الدور الجهادي من مهمة نحو نفسه، ونحو غيره. فالمعاندون الذين وقفوا من الإسلام موقف التحدي لا يزيحهم من اعتراض الطريق ومحاولة إبعاد الناس عن الدين الحق، ولا يسكت أصواتهم المسلطة للصد عن شرع الله، إلا التصدي لهم بالقوة، التي أمر الله الأخذ بأسبابها، في قوله عز وجل:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (1).
وهذه القوة تتبدى في شعب كثيرة: إذ هناك قوة السلاح وقوة الرجال، وقوة التصنيع وقوة التدريب، وقوة العدد المتطورة، وقوة الإعلام، وهناك قوة المال، وقوة الاقتصاد، وقوة التعليم، وأهمها قوة العقيدة وغيرها من القوى العديدة.
فكل قوة متطورة في أي شأن من شئون الحياة، في كل زمان ومكان، تعتبر جهدا يجب الحرص عليه، والأخذ منه بما يناسب الحالة القتالية، لكي تكون الغلبة للمسلمين، وهذا مما يقوي المفهوم الجهادي للفرد وفي المجتمع، ومما يعين على مغالبة الأعداء عند مجاهدتهم، وليكون من ذلك وسيلة تذعنهم لمنهج القوة الإسلامية حتى يذلهم الله بالهزيمة، ثم القضاء عليهم، وتشتيت شملهم بقوة الإسلام المادية وقوة معنويات أبنائه عقديا.
(1) سورة الأنفال الآية 60
فضل الجهاد:
فالجهاد فضله عظيم، ومكانته رفيعة، لأن حاصلة بذل أعز المحبوبات من المجاهد، وإدخال أعظم المشقات على النفس، ابتغاء مرضات الله، وتقربا إليه سبحانه، ونفع الجهاد لا يخص المجاهد نفسه، بل يعم المسلمين كلهم، وغيره من الأعمال لا تساويه في نفعه وخطره، ومن باب أولى ألا تساويه في فضله، أما الشهادة فيه فإنها تكفر الذنوب غير الدين «لقوله صلى الله عليه وسلم للذي
سأله: أيكفر الله عني خطاياي إن مت صابرا محتسبا في سبيل الله؟ قال: نعم. . إلا الدين (1)».
ومن فحوى الآيات الكثيرة في كتاب الله الكريم التي تدعو للجهاد في سبيل الله، وتجسم أجر من قتل صابرا محتسبا، وترغب في هذا العمل الجليل بصدق نية وإخلاص عمل، ينكشف للمتابع الإصرار الخبيث على الشر، وعلى فتنة الناس عن دينهم، وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة المسلمة. في كل أرض وفي كل جيل، لأن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين، ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين، فالإسلام بذاته يؤذيهم ويخيفهم ويغيظهم، فهو من المكانة والقوة، بحيث يخشاه كل مبطل، ويرهبه كل باغ، ويكرهه كل مفسد. فهو حرب بذاته وبما فيه من حق ومنهج قويم، ونظام سليم، فلا يطيقه البغاة المفسدون. ومن ثم يرصدون لأهله ليردوهم كفارا مهما استطاعوا وبأي صورة كفرية تعجبهم (2) ولا يقف أمام ذلك الطغيان إلا سلاح الجهاد، وعزيمة المجاهدين المخلصين، حيث يتسلح المجاهد من ينبوع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والعملية وإقراراته أسوة بما أدركه الرعيل الأول من هذه الأمة.
فالفرد المسلم لا قوة له إلا بقوة دينه، ولا قوة للدين إلا بفرض سلطانه رغبة أو رهبة، يقول صلى الله عليه وسلم:«ألا أدلكم على أحب عباد الله إلى الله، بعد النبيين والصديقين والشهداء، قال: عبد مؤمن معتقل رمحه على فرسه، يميل به النعاس يمينا وشمالا في سبيل الله، يستغفر الرحمن، ويلعن الشيطان. قال: وتفتح أبواب السماء فيقول الله لملائكته، انظروا إلى عبدي. قال: فيستغفرون له. ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (3)» إلى آخر الآية رواه ابن أبي شيبة
(1) حاشية الروض لابن قاسم 4: 255.
(2)
في ظلال القرآن 2: 157.
(3)
سورة التوبة الآية 111
عن عطاء بن أبي رباح، عن واصل بن عطاء (1).
والسنة النبوية، توجه النفس البشرية للمنهج السليم الذي يجب أن يسلك في الجهاد، حتى يعود عليها هذا العمل بالفهم الجيد، وعلى المجتمع الإسلامي بالنفع العميم، يقول صلى الله عليه وسلم من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، الذي رواه أبو داود والنسائي:«الغزو غزوان، فأما من ابتغى وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسر الشريك، واجتنب الفساد، فإن نومه ونبهه أجر كله، أما من غزا فخرا ورياء وسمعة، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض، فإنه لا يرجع بالكفاف (2)» .
ومن حرص المتفقهين في دين الله من هذه الأمة في التوقي لأنفسهم، حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها، وينحرفوا عن الطريق الذي رسمته شريعة الإسلام في مباعدة مفهوم القتال دفاعا عن الدين، عن معهودهم في القتال الذي يسود بين القبائل، ويتبارى فيه الفرسان لنيل المحمدة الدنيوية، والذكر الحسن، يهتمون بمثل هذا الحديث الذي يوضح فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يجب أن تتحلى به النفس المجاهدة، من نية صادقة، وإخلاص في العمل، لأن الله لا يقبل إلا ما كان خالصا لوجهه، ومرادا به رضاه، فقد روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للذكر، ويقاتل ليحمد، ويقاتل ليغنم، ويقاتل ليرى مكانه. فمن في سبيل الله؟! قال البشير صلى الله عليه وسلم:«من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله (3)» رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود والترمذي.
ومن هذا المفهوم الاعتقادي، كانت حياة المسلمين العارفين بذلا، وأعمالهم جهادا، لأن قلوبهم كانت مشبعة بحب الحروب، لا رغبة في التسلط، أو تعطشا
(1) مصنف ابن أبي شيبة 5: 342.
(2)
انظر جامع الأصول 2: 576.
(3)
انظر جامع الأصول 2: 581 والفظ للنسائي وأبي داود.
للدماء، كما يفعل أصحاب الأهواء، وإنما انطلاقا من الاستجابة، وتطلعا إلى الغاية التي يهدف إليها القتال في سبيل الله وفق النص الشرعي، وأغلاها في حياة المجاهد المحتسب: الموت تحت ظلال السيوف في سبيل الله ومن أجل نشر دينه، حيث أخذ الفقهاء رحمهم الله: حكما من هذا المفهوم الرفيع، الذي انتهجه رسول الله في مكانة الشهيد عموما: بأنه لا يغسل ولا يكفن، بل يصلى عليه، ويدفن في مكانه وفي ثيابه التي قتل فيها بدمه، ليكون شاهدا له عند ربه (1). أما شهيد المعركة فالأصح أنه لا يصلى عليه، فقد روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: " أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ " فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال: " أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة " وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم (2)» .
واهتمام علماء الإسلام بهذه الشعيرة، تعلقا بالقلب، وبذلا بالمال، ودعوة باللسان، ثم مبادرة بالعمل، ومن لم يستطع خلف غيره في أهله بخير: جعل سير حياتهم تحفل بالأدوار الإيجابية، مقرونة بالنية الخالصة، التي هي شرط أساسي في الجهاد، مما يبرهن على الصدق والمحبة كل بحسب مكانه، كما أخبر صلى الله عليه وسلم عن أناس من أمته يحظون بأجر المجاهدين في مثل هذا القول، قال أنس بن مالك:«رجعنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن قوما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا حبسهم العذر (3)» .
وكما كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وهما خليفتان راشدان أمرنا رسول الله بالأخذ بسنتهما، يحرص كل منها أن يودع الجيش الغازي إلى أطراف المدينة، وهو يمشي على قدميه، رغبة في تغبير قدميه في سبيل الله، ليزود القائد بما يجب أن يعمله من توصيات ترفع من مكانة الجيش الإسلامي في عيون
(1) انظر مصنف عبد الرازق 3: 540 - 548.
(2)
رواه البخاري في الجنائز باب الصلاة على الشهيد
(3)
رواه البخاري، وانظر جامع الأصول 2:622.
الأمم المغزوة، فينتج عن ذلك السمعة الحسنة، والاستجابة لداعي دين الله، هذه أخلاق الظافرين من أبنائه تواضعا ورأفة واهتماما بالضعفاء، وعدلا بين الناس. وما ذلك إلا أنهما تلقنا من مدرسة النبوة المفهوم الحقيقي للجهاد، والتواضع المطلوب من القيادة، والأجر العظيم الذي يناله المجاهد الصادق (1). كيف لا وهما ملازمان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمعان منه مثل هذا القول الكريم الذي يحرك المشاعر، ويثبت الوجدان:«والذي نفس محمد بيده ما شحب وجه، ولا اغبرت قدم في عمل تبتغى به درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كالجهاد في سبيل الله عز وجل (2)» . وما ذلك إلا أن الجهاد هو ذروة سنام دين الإسلام.
أما أبو طلحة رضي الله عنه، فإنه لم يمنعه كبر سنه من إدراك مفهوم الدعوة إلى الجهاد، حسبما حوته النصوص الشرعية، بأهمية المبادرة إليه، وعدم التواني عن المشاركة في أقرب فرصة تسنح، لعل الله أن يكتب له الشهادة، فيحظى بما أعد الله للمجاهد من فضل، وتكون خاتمة حياته حسنة، فقد قال عندما سمع بالنفير إلى الجهاد، في إحدى الغزوات التي اتسعت بها رقعة الإسلام، وأزال الله بها غشاوة الوثنية: يقول الله عز وجل: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} (3) أي كهولا وشبابا، ثم قال: ما أرى الله عذر أحدا، فخرج إلى الشام فجاهد حتى قتل (4).
(1) انظر بعضا من وصايا أبي بكر في البداية والنهاية.
(2)
جامع العلوم الحكم لابن رجب ص 259.
(3)
سورة التوبة الآية 41
(4)
مصنف ابن أبي شيبة 5: 341.
الدور الجهادي:
فالصفوة الأولى من هذه الأمة يحرصون على أن يكون المفهوم رابطا قويا بالله مثمرا في العمل، لأن من معرفة حقيقة الجهاد، والدعوة إليه أن يكون المجاهد عارفا بأمر ربه، مستقيما على منهج الإسلام، محافظا على شعائر هذا الدين بالاعتقاد والعمل، نابذا كل مبدأ يخالف الإسلام، مراقبا الله فيما
يأخذ ويذر.
أما أن يأتي من يدعو للجهاد بلسانه، وهو مخالف للإسلام في سلوكه ومبدئه، ظالم لعباد الله، متحمل دماءهم وأموالهم في عنقه، فهذا ادعاء باطل، ولا يعتد بقوله، لأن الجهاد ليس منحة توزع، وجزاؤه ليس بيد الإنسان يعطيه من يشاء ويحرمه ممن يشاء، ومن يؤيد شيئا يخالف شرع الله، فهو من باب إعانة الظالم على ظلمه، والقول على الله بغير علم.
وما جيء الإسلام إلا من المنتسبين إليه، المتجرئين على حرماته تضليلا وادعاء، وما خشي صلى الله عليه وسلم على أمته بمثل ما خشي من العلماء المضللين، الذين يفتون بغير علم. وقديما كان للمنافقين مقالة شبيهة بهذه {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} (1) ويعنون بالأعز هم، والأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نظرة مقلوبة، ومفهوم خاطئ. فالإسلام بشرائعه ليس بمقاييس البشر اعتقادا وجزاء، ولكنه يؤخذ من المقاييس التشريعية التي تحدد الهدف والغاية: بقول حق، ووعد صادق، هو من الله عز وجل، أو تبليغ من رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، والحق لا يتبع الهوى، ولا يخضع للرغبات البشرية:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (2).
أما دور المرأة في الجهاد، فهي وإن عذرت منه بدنيا، حيث كانت كثير من نساء الإسلام يرغبن في الأجر الذي أعده الله للمجاهدين، ويرغبن أن يكون لهن شرف المشاركة في نشر دين الله، فإنها قد أعطيت مداخل أخرى، بجهاد النفس، وجهاد المال، وجهاد المشورة، والمجاهدة في أداء العبادات كما أمر الله. وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جهاد المرأة، لترسخ مفهوم الدور الجهادي للمرأة، «فقالت: يا رسول الله هل على النساء من جهاد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم عليهن جهاد لا قتال
(1) سورة المنافقون الآية 8
(2)
سورة المؤمنون الآية 71
فيه الحج والعمرة (1)» رواه أحمد وابن ماجه وإسناده صحيح.
ومن هنا اشترط الفقهاء في المجاهد أن يكون: ذكرا مسلما حرا، مكلفا صحيحا، واجدا ما يكفيه وأهله في غيبته - بملكه أو ببذل الإمام - ولا تنازع بينهم في عدم وجوبه على الأنثى (2).
ومع هذا، فإن المرأة تحب المشاركة بقدر طاقتها، ووفق شريعة الإسلام بإنزالها مكانها اللائق بها، رغبة في نيل الفضل الجزيل من الجهاد، والمشاركة فيما فيه مصلحة لعقيدة الإسلام، ونشر دين الله كما أمر الله، فقد كان منصور بن عمار الواعظ، يذكر الناس يوما، ويحثهم على الجهاد في سبيل الله، ويبين لهم مكانته في عز الإسلام، وقوة المسلمين وما أعده الله من جزاء، فأثر في الناس، وتسابقوا في البذل، وتسجيل أنفسهم للتهيؤ مشاركة بالنفس ومجاهدة بالمال، وكان يحضر مجلسه بعض النساء في مكان خاص بهن، لرغبتهن في الخير، فسقط بين يديه وهو في مجلسه لفافة، ولما فتحت إذا ورقة مربوطة في جديلة شعر، وهي من امرأة تقول: لقد سمعت كلامك في الجهاد، والحث على المشاركة، وما يعنيه المفهوم الشرعي من مكانة رفيعة للجهاد في سبيل الله. ولما كنت طامعة في الأجر، ولكن المرأة لا جهاد عليها، فإنني لا أستطيع الجهاد بنفسي، ولا مال عندي فأدفعه لتجهيز الغزاة، حتى أنال مثل أجورهم، ولا أملك غير جديلة شعري هذه فقطعتها لتجعلها قيدا لفرس أو عقالا لناقة في سبيل الله.
وما هذا الإحساس الذي تمتلئ به بطون الكتب في فقه الإسلام، وتاريخ مسيرته، إلا نبع من قلوب صافية، وأذهان نيرة، واستجابة يدفعها الفهم الصحيح النابع عن علم ودراية، لما يجب أن يؤدى في سبيل الله، ومباعدة لما
(1) نيل الأوطار للشوكاني.
(2)
حاشية الروض لابن قاسم 4: 256.
يراد إدخاله من زيف وتضليل على منهج الإسلام النقي، وقد كانت القدوة التي يجب أن تحتذى في العمل هي ما سارت عليه القرون الثلاثة الأولى من عصور الإسلام، وما أدوه من جهود مخلصة في نشر الإسلام في أنحاء الأرض، وما بذلوه من جهود في الاهتمام بأن تكون كلمة الله هي العليا، وإبراز صورة الإسلام المشرقة في تأمين النفوس، والمحافظة على الممتلكات والأعراض، ورفع الظلم، ونشر العدالة، كجزء من مهمة الجهاد في سبيل الله، حسبما تعنيه دلالة الكلمة من مقصد كريم هي المقصد الذي اشرأبت إليه أعناقهم.
وقد تأسى بهم من جاء بعدهم في الفهم وحسن التطبيق، فحقق الله على أيديهم النصر والتأييد كما حصل لصلاح الدين الأيوبي مع الصليبيين، ولذا نص بعض العلماء على أن القرون الثلاثة الأولى هي المعنية بالخيرية في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير أمتي القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - والله أعلم: أذكر الثالث أم لا؟ - قال: ثم يخلف قوم يحبون السمانة، يشهدون قبل أن يستشهدوا (1)» ، وهم أكثر من أدرك المغزى الكبير لمفهوم الجهاد نحو النفس، ودوره في أداء الأمانة بنشر دين الله في الآفاق، وما يجب أداؤه نحو أمم الأرض قاطبة، سواء أكانوا قادة أو مقودين، وسواء أكانوا علماء أو متعلمين. . حيث لا يزهد في الجهاد إلا خاسر، ولا يحرص عليه إلا من عرف حقيقة دينه، وأداء واجباته عملا بصدق وإخلاص نية، فاتسعت رقعة الإسلام في المعمورة، وتزايد عدد الداخلين في دين الله عن رغبة ومحبة.
وبهذا المفهوم انتشر دين الله، ودخلت أمم الأرض في الإسلام، وأحبته وجاهدت من أجل نشره لدى غيرهم، لأن من حقائقه أن يكون الراغب في
(1) انظر جامع الأصول 8: 550.
الإسلام، له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، دون تفريق ولا تحيز، فالهدف هداية الناس إلى دين الله، وتحبيبهم فيه، والبعد عن الفوارق.
ومن هذا المنهج، ومن المحبة المتمكنة التي تتأصل في قلب كل مسلم نحو الجهاد، مهما كان موقعه وأصله، لأن الإسلام لا يمايز بين أبنائه:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) سورة الحجرات، آية 13. . «ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى (2)» . من هذا ندرك السر الكبير في اتساع المعرفة، بما بسط في الكتب من دراسات حول مكانة الجهاد، وأن عز الإسلام الذي مكنه الجهاد بفضل الله في مثل هذا النص:«ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا» وما ذلك إلا أن «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة (3)» . ما هو إلا دور يجب ألا يغيب عن المسلمين في أي عصر ومصر.
(1) سورة الحجرات الآية 13
(2)
مسند أحمد بن حنبل (5/ 411).
(3)
صحيح مسلم الإمارة (1873)، سنن الترمذي الجهاد (1694)، سنن النسائي الخيل (3575)، سنن ابن ماجه التجارات (2305)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 376)، سنن الدارمي الجهاد (2427).
شبهات الأعداء:
ولقد كان أعداء الإسلام قد حاولوا الدس بشبهات منها: أن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف، وأن القصد من فرض الجزية الطمع المالي، وما يرددونه من شبهات حول كثير من القادة كخالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من أهمية الحصول على النساء المشهورات في المغنم للاستئثار بهن. وما علق بسيرة هارون الرشيد والمعتصم، وهما من هما في مقارعة الرومان، وكسر شوكتهم، فكل هذه شبهات يريد بها المستشرقون والمنافقون، وأعداء الإسلام في كل زمان ومكان، أن يغيروا الصورة الحقيقية لمفهوم الجهاد، وأن يثيروا البلبلة نحو رسالته ومكانته في قمع الشر، وترد عليهم أحكام الإسلام في أهل الذمة، والوفاء بالعهود وتقسيم الغنائم (1). وأسلوب الدعوة لدين الإسلام، ووصايا رسول الله وخلفائه ثم من بعدهم لقادة الجيوش، ورأفة الإسلام بالأمم المغلوبة، ونظرته نحو الرق والكفارات الكثيرة التي أول جزاء فيها العتق. ومعاملة الأسرى، ومنع قتل المدبر والطفل والمرأة ومن لم يقاتل. وهذا من نظرة الإسلام
(1) انظر كشاف القناع - مثلا - في أحكام أهل الذمة والأسرى وقسم الغنيمة جـ 3 ص 46 - 134.
العادلة، وحكمة الله البالغة في المصالح العظيمة من وراء مشروعية الجهاد، التي ستبقى إلى أن تقوم الساعة، كما روى سلمة بن نفيل الكندي رضي الله عنه قال:«كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: يا رسول الله، أذال الناس الخيل، ووضعوا السلاح، قالوا: لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه، وقال: كذبوا، الآن جاء القتال، ولا تزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام، ويرزقهم منهم، حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وهو يوحى إلي: إني مقبوض غير ملبث، وأنتم تتبعوني، ألا فلا يضرب بعضكم رقاب بعض، وعقر دار المؤمنين الشام (1)» رواه النسائي.
وبعد غزوة تبوك - إن صح ما يروى عنه صلى الله عليه وسلم: «عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر (2)» فلعله يعني به مجاهدة النفس والهوى والشيطان، فإن هذه الأمور تحتاج إلى مغالبة كبيرة حتى لا يتزحزح الثبات عن مبدأ الإسلام وحقيقته.
وبعد: فإن مكانة الجهاد عظيمة، ومنزلته رفيعة، كيف لا وقد ورد في فضله أحاديث كثيرة توجب على كل مسلم أن يهتم به. فقد «سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال الصلاة على وقتها. قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله (3)» ولا يطيق المرء عملا يعدل الجهاد في سبيل الله، لصعوبة ذلك، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:«مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صدقة حتى يرجع المجاهد إلى أهله (4)» .
وبر الوالدين من الجهاد الذي حث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) انظر جامع الأصول 2: 570.
(2)
ضعف هذا القول كثير من أهل العلم منهم ابن القيم رحمه الله.
(3)
مصنف ابن أبي شيبة 5: 286.
(4)
مصنف ابن أبي شيبة: 5: 287.
في أكثر من موضع، والحج والعمرة يعتبران جهادا لعظم نفعهما. وإن من يتابع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدي الصحابة الكرام في توضيح مكانة الجهاد، وأثره على الفرد جزاء وتوجيها، ومكانة عند الله، ليدرك المفهوم الحقيقي الذي أولاه الإسلام لهذه الشعيرة، والأجر العظيم الذي يحظى به المجاهد الذي يبذل أغلى ما يملك وهو روحه، رخيصة في سبيل الله.
والسنة هي التي توضح الترغيبات الكثيرة والمكانة العالية للجهاد في كتاب الله الكريم. . والمرابطة في الثغور لحماية جنبات دولة الإسلام من غدر الأعداء، لا تقل أهمية عن فضل الجهاد في سبيل الله، لأن المرابط قد حبس نفسه دفاعا من أجل دينه، احتسابا لما أعد الله، وحمية على دين الإسلام من أن يؤتى على غرة، روى عبد الرزاق أن سلمان الفارسي مر بشرحبيل بن السمط وهو مرابط على قلعة بأرض فارس، فقال له سلمان: ألا أحدثك حديثا لعله أن يكون عونا لك على ما أنت فيه؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «رباط يوم في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطا في سبيل الله أجير من عذاب القبر، ونمى له صالح عمله إلى يوم القيامة (1)» أخرجه مسلم. فالغبار في سبيل الله ودخان جهنم لا يجتمعان في منخر عبد أبدا.
وقد أوضح خالد بن معدان قولا لأبي أمامة وجبير بن نفير: بأنه يأتي على الناس زمان أفضل الجهاد الرباط، قيل: وما ذلك؟ فقال: إذا انخفض الغزو، وكثرت الغرائم، واستحلت المغانم، فأفضل الجهاد يومئذ الرباط (2).
ومكانة الجهاد لا تقف على المجاهد وحده، ومن يقتل في المعركة شهيدا، بل يتعدى الفضل إلى من يشارك في الجهاد بالبذل من ماله، والتوضيح من لسانه، والفتوى من علمه، والسلاح بصناعته وتجهيزه ورعاية أسرة المجاهد،
(1) رواه عبد الرزاق في مصنفه، انظر مصنف عبد الرزاق 5:281.
(2)
مصنف ابن أبي شيبة 5: 328.
والقيام على أهله بخير. كما يؤجر أهل الشهيد إذا امتثلوا لأمر الله واحتسبوه عنده. وغير هذا من أمور تعين على رفع راية الجهاد، والإعانة عليه، إذا قصد بذلك حسن النية، وصدق العزم مع الله، ففضل الله واسع، ذلك أن «الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى (1)» .
فليحسن العبد ثقته بربه، وليصدق في عمله ونيته، وليحافظ على أوامر ربه، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، فهو سبحانه لا يكلف إلا ويعين، ويعطي الكثير ولا يطلب من عباده إلا القليل، وما تستطيعه نفوسهم. والله الهادي سواء السبيل.
(1) من حديث متفق عليه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
صفحة فارغة
بحث
تلبيس مردود
إعداد
د. صالح بن عبد الله بن حميد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد. .
فقد وصلتني أسئلة من أحد المراكز الإسلامية في بلاد الغرب أثارتها مؤسسة صليبية تنصيرية تسمي نفسها " الآباء البيض ".
وحينما اطلعت عليها ما وسعني إلا القيام بالإجابة عليها.
وطبيعة الأسئلة وما يقرأ فيها مما بين السطور في الظروف التي تعيشها التوجهات الإسلامية في أوساط الشباب وغير الشباب أشعرتني بلزوم الإجابة.
كما أن هذا التوجه الكنسي في إثارة هذه الأسئلة وأمثالها له أبعاد لا تخفى، وحلقة في سلسلة لا تنقطع يدركها القارئ للتاريخ والمعايش للتحركات النصرانية والتطويرات المتسارعة لجهودهم وتنوع أساليب هجومهم على الأصعدة كافة. فاستعنت بالله الكريم، رب العرش العظيم، على ذلك نصرة لدين الله، وغيرة على أهل الإسلام، وجهادا بالقلم واللسان إن شاء الله.
والقضايا المثارة في الأسئلة يمكن تصنيفها حسب المواضيع الرئيسية التالية:
- المساواة.
- الحرية " حرية الدين - الرق ".
- المرأة.
- تطبيق الشريعة.
- الجهاد.
توطئة:
1 -
هذه الأسئلة المثارة لم تكن وليدة الساعة، ولكنها أسئلة وشبه قديمة قدم الهجوم على الإسلام.
وإن المطلع عليها وعلى أمثالها مما هو مبثوث هنا وهناك يدرك أن واضعيها على مختلف أعصارهم وأغراضهم لا يريدون الجواب ولا يقصدون تلمس الحق، ولكنهم يلقونها في وسط ضجيج كبير، يثيرونه في عمق المجتمع وفي ساحاته الفكرية، ثم يفرون بسرعة خاطفة. وقد وضعوا أصابعهم في آذانهم خوفا من أن يسمعوا أو يدركوا جوابا سليما، فكأن مبتغاهم إلقاء متفجرات موقوتة في أشد الساحات ازدحاما، ثم يفرون على عجل قبل أن تنفجر فيصيبهم شيء من شظاياها.
2 -
كم هو جميل أن يتفق على مسلمات بين المتحاورين؛ ليكون منها المنطلق وإليها المرد. ولكن إحساس الباحث أن المقصد من وراء إثارة هذه الأسئلة هو التشكيك وزرع الشبه، بل من أجل استعداء الآخرين باسم الانتصار للمرأة ومحاربة التفرقة العنصرية، والدندنة حول المساواة وحقوق الإنسان وغير ذلك من الدعاوى العريضة، وأنت خبير بأنها مبادئ، بل دعاوى لها بريقها عند المستضعفين والمغلوبين على أمرهم، ولكنها عند التحقيق والتدقيق سراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، بل يجد كبيرا مستكبرا يحتضن صغيرا محقورا يربت على كتفه ليأكله حالا أو يحتفظ به ليسمن فيأكله مآلا.
إنها شريعة الغاب مغلفة بأغلفة رقيقة من القانون والمدنية أفرزتها التقنية المعاصرة في جملة ما أفرزته.
3 -
عند الحوار يجب أن يتقرر النموذج الأمثل الذي ينبغي أن يحتذى ليكون مرجعا في التمثيل وهدفا يسعى إلى بلوغه.
وحيث إن هذه الأسئلة صدرت من مؤسسة تنصيرية اسمها " الآباء البيض " هل تريد أن تكون المبادئ النصرانية هي الأنموذج المحتذى؟ لا أظن ذلك، لأن الجميع من النصارى وغيرهم يعلم واقع النصرانية من خلال كتابها المقدس، ومن خلال ممارسات البابوات والرهبان والراهبات في الماضي والحاضر. وفي ثنايا إجاباتي هذه قد ألمح إلى نموذج من الانحرافات النصرانية والكنسية.
وإن كانت اليهودية هي الأنموذج، فحقيقة النصرانية وبابواتها وأحبارها ومراجعها يرون أن اليهودية محرفة وغير صالحة.
أما إذا كان الأنموذج هو الحضارة الغربية المعاصرة فما شأن البابوات وأتباعهم؟ وإن كانوا معجبين بها وعندهم قناعة بها ليعرضوها على الناس ويدعوهم إليها، فهذه تبعية مخجلة لأن هذه الحضارة - كما يعلم القاصي والداني - من أهم الأسباب المقررة في ازدهارها بعدها عن الكنيسة وبابواتها، وقد شردت هاربة هروبا لا رجوع بعده، إلا إذا أرادت هذه الحضارة أن تنتكس في رجعية القرون الوسطى كما يقولون.
أما الكاتب هنا فلا يرى نموذج هذه الحضارة صالحا ليكون المرجع المحتذى، إذ أن فيه انحرافا ظاهرا وبؤسا على البشرية يحيط العالم بسببه خوف وإرهاب وتوتر وقلق، يوشك أن ينتهي إلى تدمير حقيقي شامل يعم الحضارة وصناعها.
وفيه غير الانحراف مبادئ جوفاء من حقوق الإنسان، والمساواة لا واقع لها، وإن كان لها شيء من الواقعية فهو مختص بالرجل الأبيض، أما من عداه فليس إلا قانون الغاب أو قانون " الغاية تبرر الوسيلة ".
وبهذا يتقرر - مع الأسف - أنه ليس ثمة أرضية مشتركة مقنعة ننطلق
منها لنصل إلى نتيجة مقنعة.
4 -
جميع الأسئلة المثارة لا يوجد لها جواب في الديانة النصرانية والعقيدة المسيحية، فكيف تثيرها مؤسسة تنصيرية؟
فقضايا الرق وقضايا المرأة والحروب المقدسة والتفرقة بين معتنقي النصرانية وغيرهم، كلها مقررة في الديانة النصرانية ومن حق القارئ أن يعرف ما هو جواب المسيحية على ذلك.
وحيث أن الجواب بالسلب فلماذا لا يتركون الدعوة إلى النصرانية؛ لأنها تتبنى كل هذه القضايا المثارة؟
ولكنها أثيرت هذه الأيام باعتبارها معايب ونقائص يقصد منها النيل من الإسلام والمسلمين.
5 -
وأمر أدهى وأمر وهو شعور المطلع على هذه الأسئلة بعدم التجرد من قبل واضعيها.
فاتباع الهوى فيها هو المسيطر على مجريات الأسئلة مع تبني أحكام وتصورات مسبقة لديهم.
6 -
إنه ليحزنني أن تكون هذه هي المقدمة التي أدخل بها إلى هذا الموضوع وأجوبته، ومع هذا فليعلم كل مطلع وليستيقن كل ناظر أني سأبذل قصارى الجهد في قصد الحق والتماسه، خوفا من الله عز وجل، ورجاء فيما عنده، وأداء للأمانة، ونصحا للبشرية كلها.
7 -
وأنبه المطلع الكريم أن هذه الإجابة قصد بها خطاب غير المسلمين ممن لا يدينون بالاستدلال بالنصوص الشرعية - كتابا وسنة - ومن ثم جاءت المناقشة والحوار أقرب لمخاطبة العقل ومحاورة الفكر والنظر من أي شيء آخر.
على أنه قد جرى إيراد حشد من النصوص الشرعية حين اقتضى الأمر ذلك كما يلحظ في موضوع الرق وغيره.