الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هل تستقل السنة بالتشريع
؟
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله " السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه (1):
أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه، فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتضافرها.
وذلك مثل الأحاديث التي تفيد وجوب الصلاة والزكاة والحج والصوم من غير تعرض لشرائطها وأركانها.
الثاني: أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن وتفسيرا له.
وذلك مثل الأحاديث التي فصلت أحكام الصلاة والصيام والزكاة والحج والبيوع والمعاملات التي وردت مجملة في القرآن، وهذا القسم هو أغلب ما في السنة وأكثرها ورودا (2).
الثالث: أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه أو محرمة لما سكت عن تحريمه، كالأحاديث التي أثبتت حرمة الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وأحكام الشفعة.
ولا نزاع بين العلماء في القسمين الأولين.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله (3): فلم أعلم من أهل العلم مخالفا في أن سنن النبي صلى الله عليه وسلم من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا منها على وجهين، والوجهان يجتمعان ويتفرعان:
أحدهما: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فيبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما نص الكتاب.
(1) أعلام الموقعين: 2/ 288.
(2)
السنة ومكانتها ص 380.
(3)
الرسالة ص 91 - 92.
والآخر: مما أنزل الله فيه جملة كتاب، فبين عن الله معنى ما أراد. وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما.
والوجه الثالث: ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ليس فيه نص كتاب.
فمنهم من قال: جعل الله له بما افترض من طاعته، وسبق في علمه، من توفيقه لرضاه أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب.
ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب.
والمراد بالخلاف في القسم الثالث ليس الخلاف في وجوده بل في مخرجه أهو على الاستقلال بالتشريع؟ أم بدخوله ضمن نصوص القرآن ولو بتأويل (1).
فقد ذهب جمهور العلماء إلى أن السنة تستقل بتشريع الأحكام، وأنها كالقرآن الكريم في تحليل الحلال وتحريم الحرام، واستدلوا أولا بمثل قوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (2){إِنْ هُوَ إلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} (3).
وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4) وقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (5) النساء من الآية 65 - والآية نزلت في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير بالسقي قبل الأنصاري من شراج الحرة، (6) وذلك ليس في كتاب الله، ثم جاء في عدم الرضا به من الوعيد والأمر بطاعة الله وطاعة الرسول " وسائر ما قرن فيه طاعة الرسول بطاعة الله فهو دال على أن طاعة الله ما أمر به ونهى عنه في كتابه، وطاعة الرسول ما أمر به ونهى عنه مما جاء به مما ليس في القرآن، إذ لو كان في القرآن لكان من طاعة الله " وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (7) النور 63، فقد اختص الرسول عليه الصلاة والسلام بشيء يطاع فيه، وذلك السنة التي لم تأت في القرآن (8).
(1) السنة ومكانتها ص 380 - 381.
(2)
سورة النجم الآية 3
(3)
سورة النجم الآية 4
(4)
سورة الحشر الآية 7
(5)
سورة النساء الآية 65
(6)
الحديث أخرجه الستة: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي والموطأ.
(7)
سورة النور الآية 63
(8)
راجع: الموافقات 4/ 14 - 15.
والثاني: الأحاديث الدالة على ذم ترك السنة واتباع الكتاب، إذ لو كان ما في السنة موجودا في الكتاب لما كانت السنة متروكة على حال، وذلك مثل حديث «ألا إني أوتيت القرآن، ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئا على أريكته يحدث بحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه: ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي حرم الله (1)» .
والثالث: أن الاستقراء دل على أن في السنة أشياء لا تحصى كثرة لم ينص عليها في القرآن، كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وتحريم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، والعقل وفكاك الأسير. . . وغيرها كثير (2).
رابعا: أنه لا مانع عقلا من ذلك ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوما من الخطأ، ولله أن يأمر رسوله بتبليغ أحكامه إلى الناس من أي طريق، سواء كان بالكتاب أو بغيره وما دام جائزا عقلا، وقد وقع فعلا باتفاق الجميع فلماذا لا نقول به؟
خامسا: أن النصوص الواردة في القرآن الدالة على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته فيما يأمر به وينهى عنه عامة لا تفرق بين السنة المبينة أو المؤكدة أو المستقلة (3).
وذهب الإمام الشاطبي رحمه الله إلى أن السنة راجعة في معناها إلى الكتاب، فهي تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره.
وذلك لأنها بيان له، وهو الذي دل عليه قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (4) فلا تجد في السنة أمرا، إلا القرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية (5).
(1) أخرجه أبو داود والترمذي.
(2)
انظر أدلة الأحكام الشرعية في أصول الشاطبي للباحث ص18.
(3)
السنة ومكانتها ص 381.
(4)
سورة النحل الآية 44
(5)
الموافقات 4 - 12.
وقد بين رحمه الله كيفية رجوع السنة إلى الكتاب، واستقصى مذاهب العلماء في ذلك في ستة طرق (1).
كما أجاب عن ما أورده أصحاب الرأي الأول: بأن الاستقراء دل على أن في السنة أشياء لا تحصى كثرة لم ينص عليها في القرآن الكريم كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها وتحريم الحمر الأهلية. . . فقال: إن أصول هذه القضايا منصوص عليها في القرآن الكريم، لكن تفصيلها يحتاج إلى بيان جاءت به السنة، وذلك أنه يقع في الكتاب النص على طرفين واضحين، وتبقي بينهما أمور تحتاج إلى إلحاقها بأحد الطرفين لأن فيها شبها من كل منهما، فتأتي السنة بهذا الإلحاق، مع وجود أصل القضية في القرآن الكريم.
وأيضا فإن السنة قد تلحق فرعا بأصله الذي خفي إلحاقه به.
ومن ذلك أن الله تعالى أحل الطيبات وحرم الخبائث وبقي بين هذين الأصلين أشياء يمكن إلحاقها بأحدهما، فبين عليه الصلاة والسلام في ذلك ما اتضح به الأمر فنهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، ونهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وقال إنها ركس كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها، لما في لحمها ولبنها من أثر الجلة، فهذا كله راجع إلى معنى الإلحاق بأصل الخبائث - الواردة في القرآن - كما ألحق عليه الصلاة والسلام الضب والحبارى والأرنب وأشباهها بأصل الطيبات - الوارد أيضا في القرآن الكريم (2).
ومن ذلك أيضا أن الله تعالى أحل من المشروبات ما ليس بمسكر كالماء واللبن والعسل، وحرم الخمر لما فيها من إزالة العقل، فوقع فيما بين الأصلين ما ليس بمسكر حقيقة ولكنه يوشك أن يسكر وهو نبيذ الدباء والمزفت والنقير وغيرها، فنهى عنها إلحاقا لها بالمسكرات تحقيقا، سدا للذريعة (3).
(1) انظر الموافقات 4/ 24: 55، وانظر أدلة الأحكام الشرعية في أصول الشاطبي للباحث ص 68:75.
(2)
راجع: الموافقات 40/ 33.
(3)
الموافقات ص 33 - 34.
ومن ذلك " أن الله تعالى حرم الجمع بين الأم وابنتها في النكاح وبين الأختين وجاء في القرآن {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (1) النساء 24، فجاء نهيه عليه الصلاة والسلام عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من باب القياس، لأن المعنى الذي لأجله ذم الجمع بين أولئك موجود هنا "(2).
ثمرة الخلاف:
يرى الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله والدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي أن الخلاف لفظي لأن الفريقين متفقان على وجود أحكام جديدة في السنة لم ترد في القرآن الكريم نصا ولا صراحة (3).
فأصحاب الرأي الأول يقولون: إن هذا هو الاستقلال في التشريع لأنه إثبات أحكام لم ترد في الكتاب.
وأصحاب الرأي الثاني - مع تسليمهم بعدم ورودها بنصها في القرآن الكريم - يرون أنها داخلة تحت نصوصه بوجه ما.
وقد ذم الشاطبي رحمه الله من دعا إلى ترك السنة أو شيء منها، ووصف أولئك بأنهم لا خلاق لهم وبأنهم انخلعوا عن الجماعة، وأولوا القرآن على غير ما أنزل (4).
لأنه وإن وردت أصول كافة القضايا في القرآن الكريم، فإن في السنة بيانا لا غنى عنه من توضيح المجمل وتقييد المطلق وتخصيص العموم (5).
وقد بين الإمام ابن القيم رحمه الله أن ما كان من السنة زائدا على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم: تجب طاعته فيه، ولا تحل معصيته، امتثالا لما
(1) سورة النساء الآية 24
(2)
الموافقات ص 43، وانظر أدلة الأحكام الشرعية في أصول الشاطبي للباحث ص 20 - 21.
(3)
السنة ومكانتها 385، أصول مذهب الإمام أحمد 220.
(4)
الموافقات 4 - 17.
(5)
الموافقات 20 - 21.