الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإنسان اجتماعي بفطرته
الحمد لله رب العالمين وبعد:
فإن الإنسان - وهو من أكرم المخلوقات على الله - يأتي للحياة لغاية محددة وهدف معلوم، وله رسالة واضحة، وهو يولد بين أبوين في ظل أسرة ومحيط جماعة، وهو مفطور على حب الاجتماع والعيش مع لداته وأترابه وأقربائه وجيرانه، وهو في هذا الاجتماع له حاجات ومطالب، وعليه واجبات وله حقوق، وتتطلب الحياة في أخذها وعطائها تفاعل الأفراد مع المجتمع، وقيام أواصر المحبة والأخوة، ومد جسور التعامل على كل المستويات. وتنمو هذه المعاني مع امتداد حياة الإنسان، وتتوثق الصلات أو تسوء حسب ظروف العيش ومستوى التعامل، ولهذا يقول علماء الاجتماع: إن الإنسان اجتماعي بطبعه، أي أنه مفطور على العيش في ظل جماعة وفي كنف أمة لا يستغنى عن غيره، والآخرون في حاجة إليه، ولا تتصور حياة سوية مستقيمة ومستقرة إلا على هذا النحو وفي ذلك الإطار، والإنسان في اجتماعه مع غيره وتعامله في حياته فتنشأ له صلات وعلاقات قد تسودها محبة الإخاء والتعاون، وقد يتعورها الخلل والاختلاف والتخاصم، وتختلف روابط الأفراد في المجتمعات في كل فترة، قوة وضعفا ووئاما أو اختلافا وتعاونا أو تصادما تبعا للثقافة التي ينتمي إليها الفرد وتلتقي عليها الجماعة ومدى سلطان هذه الثقافة على النفوس، والاختلاف والتخاصم والنزاع تكاد تكون من لوازم الاجتماع، ولكن التفاوت إنما يكون في درجة الاختلاف.
حاجة الإنسان إلى ما ينظم حياته
وما دام أن من لوازم الاجتماع تآلف الأفراد تارة واختلاف بعضهم على بعض تارة أخرى؛ فإن الجماعة محتاجة إلى قواعد تنظم حياتها، وترجع إليها عند الاختلاف، وتحكمها فيما يشجر بينها. وقد عرفت البشرية عبر تاريخها الطويل وفي
مختلف مراحل تطور المجتمعات ألوانا من هذه القواعد المنظمة للحياة التي تكون على شكل عادات أو تقاليد أو أعراف ومواصفات، وقد تكون زعامة قاهرة تأمر وتطاع أو هيئات، أو جماعات أو تنظيمات شعبية، أو دساتير تصدرها فئة أو جماعة أو حكومة، إلى غير ذلك من ألوان القواعد والنظم التي يصدر فيها البشر عن اجتهاد يتلاءم مع حاجات المجتمع، في فترة زمنية معينة وفي ظروف خاصة، وتنفيذ هذه القواعد وتنظيم القوانين من فترة إلى أخرى، ولكنها في كل ذلك تصدر عن نشاط عقلي بشري يعتوره القصور والضعف والجهل والهوى، وتؤثر فيه المطالب والحاجات والمصالح للفئة الغالبة على الأفراد والهيئات المغلوبة، ولذلك فإن هذه القواعد والنظم تأتي صورة عن الإنسان في قصوره وعجزه وجهله وأهوائه وتأثراته، وبالتالي فهو لا يحقق العدل ولا الأمن والاطمئنان للإنسان في الحياة، وقد تجرعت الإنسانية في كثير من فترات تاريخها مرارة هذا الظلم وجور البشر.
وكانت الرسالات السماوية ضرورة اجتماعية، تتوق إليها البشرية في مختلف العصور، إذ هي رحمة الله بخلقه، ومعالم الطريق المستقيم إليه، وعدله الذي تتنسم البشرية في ظلها عبير الحرية، وتتفيأ ظلال الأمن والعدل والسلام، ولذا جرت سنة الله في خلقه أن يبعث في كل أمة رسولا يدعوهم إلى توحيده وطاعته ومخافته في التعامل مع خلقه ويقيم لهم شريعة عادلة كما قال تعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) والطاغوت هو كل ما تجاوز به العبد حده في عقيدته مع ربه أو جوره في حكمه أو ظلمه للخلق، والله هو خالق الخلق ومدبر الأمر ومربي البشر بألوان النعم وصنوف الفضل، تأبى حكمته أن يخلق خلقا دون أن يهيئ له ما تتطلبه حياته الآمنة المستقرة ويوائم فطرته السليمة ويصلح شأنه ويحقق سعادته وأمنه، والإنسان محتاج إلى هداية الله ورعايته وتعريفه بربه وبنفسه، والغاية من وجوده وعلاقته بالكون والإنسان والحياة، وتحديد مركزه في الوجود ودوره في الاجتماع، وما يجوز له فعله وما لا يجوز، وبالتالي فهو مربوب موجه مأمور
(1) سورة النحل الآية 36