الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يتناسب مع أهمية تلك الغزوة، فتسابق الناس للتبرع فأراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذه المرة أن ينافس أبا بكر الصديق فينفق من ماله أكثر منه، فقسم عمر بن الخطاب ماله شطرين، وجاء بشطر وترك لأهله شطرا، وجاء أبو بكر بماله كله فوضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«" ما تركت لأهلك يا أبا بكر " قال: تركت لهم الله ورسوله، وقال: " ما تركت لأهلك يا عمر " فقال تركت لهم شطر مالي وجئت بشطر. . . فلما بلغ عمر ما صنعه أبو بكر رضي الله عنه قال: " ما استبقنا إلى الخير قط إلا سبقني إليه (1)» . . . أما عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وأرضاه فقد قام بتجهيز الجيش وكان يسمى جيش العسرة، وتحمل رضي الله عنه معظم النفقات في تلك الغزوة حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم:«" ما يضر عثمان ما فعل بعد هذا (2)» .
(1) سنن الترمذي المناقب (3675)، سنن أبو داود الزكاة (1678)، سنن الدارمي الزكاة (1660).
(2)
سنن الترمذي المناقب (3700)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 75).
وهناك
أمور لا بد منها عند إرادة الجهاد
في سبيل منها:
1 -
إعداد العدة، والقرآن الكريم صريح في دعوته لهذا إذ يقول تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1).
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم القوة بالرمي كما في صحيح مسلم، والتنكير هنا يفيد العموم لجميع القوى المادية والروحية كالإيمان والصبر والثبات، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«" إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة. . . صانعه يحتسب في صنعته الخير، ومنبله، والرامي به (2)» . . . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه. . . إلخ.
2 -
الثبات، وطاعة القائد وترك النزاع والخلاف مهما كانت النتائج، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3){وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (4).
3 -
حفظ السر: فإن كشف أسرار الجيش جريمة كبرى، وهو من
(1) سورة الأنفال الآية 60
(2)
سنن الترمذي فضائل الجهاد (1637).
(3)
سورة الأنفال الآية 45
(4)
سورة الأنفال الآية 46
أسباب الهزيمة، وقد نهى الله المسلمين عن ذلك لما فيه من موالاة الأعداء والتجسس على المسلمين، ويظهر ذلك من قصة حاطب بن أبي بلتعة عندما بعث بكتاب إلى قريش يخبرهم فيه بخروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة وقد أشار القرآن إلى ذلك في أول سورة الممتحنة فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} (1) إلى قوله {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (2).
ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يغزو جهة ورى بغيرها ثم انطلق إلى الجهة التي يريدها، وقصة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر الكبرى مع «الأعرابي عندما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن خبر قريش ومحمد وأصحابه وما بلغه عنهم فقال الأعرابي: لا أخبركما حتى تخبراني من أنتما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخبرتنا أخبرناك، قال: أوذاك بذاك؟ قال نعم، فأخبرهما بخبر قريش ومحمد وأصحابه، فلما فرغ من خبره قال ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء. ثم انصرف عنه».
4 -
اختيار المكان المناسب: وهو ما يعرف في النظم الحديثة بالاستراتيجية العسكرية وقد تحدث التاريخ عن موقف الحباب بن المنذر في غزوة بدر الكبرى، وقد نزل النبي صلى الله عليه وسلم بمكان «فقال يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله إن هذا المكان ليس لنا بمنزل، وأشار عليه بأرض تصلح للحرب. . . فقال صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي. . . ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من الناس (3)» .
5 -
دعوة الكفار للإسلام قبل الحرب، وعدم الغدرة والمثلة وقتل النساء والصبيان.
فقد «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر على الجيش أو السرية أميرا أوصاه في خاصته بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا ثم قال له " اغزوا باسم الله في سبيل
(1) سورة الممتحنة الآية 1
(2)
سورة الممتحنة الآية 1
(3)
السيرة النبوية لابن كثير ج2 ص402.
الله قاتلوا من كفر بالله ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا (1)». . .
وفي وصية أبي بكر لجنده. . . " ستجدون قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له ولا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما "(2).
6 -
ما يعرف في الحروب الحديثة بالحرب النفسية: وهذا من أخطر الأسلحة التي يمكن أن يستخدمها كل فريق ضد الآخر، والقرآن الكريم أشار إلى أن إعداد العدة المادية والمعنوية فيه إرهاب للأعداء وتمكين للرعب في قلوبهم، وهو هدف من أهداف إزهاق الباطل وإذلاله قال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} (3) الآية.
وقد نصر النبي صلى الله عليه وسلم بالرعب على عدوه، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره (4). وقصة أبي دجانة سماك بن خرشة رضي الله عنه مشهورة حيث كان يختال في مشيته أمام المشركين ويتبختر وفي يده السيف الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم «فقال صلى الله عليه وسلم حين رأى أبا دجانة يتبختر: إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن (5)».
وفي عمرة القضاء في السنة السابعة «قالت قريش: إنه سيقدم عليكم محمد وأصحابه وقد أنهكتهم حمى يثرب فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم مقالة المشركين حسر عن كتفه وعن عضده الأيمن مضطبعا بردائه، ورمل في الأشواط الثلاثة الأولى قال لأصحابه " رحم الله امرءا أراهم اليوم من نفسه قوة (6)» (7). والمواقف والخطط التي ترعب
(1) رواه مسلم.
(2)
انظر أحكام القرآن لابن العربي ج1 ص104، 105.
(3)
سورة الأنفال الآية 60
(4)
صحيح مسلم ج1 ص 372.
(5)
السيرة النبوية لابن كثير ج3 ص30.
(6)
صحيح البخاري الحج (1602)، صحيح مسلم الحج (1266)، سنن الترمذي الحج (863)، سنن النسائي مناسك الحج (2945)، سنن أبو داود المناسك (1886)، سنن ابن ماجه المناسك (2953)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 290).
(7)
السيرة النبوية لابن كثير ج3 ص430.
الأعداء كثيرة جدا، وقصة خالد بن الوليد رضي الله عنه في غزوة مؤتة في منتهى الروعة والدهاء، ولو ذهبنا نستشهد بتلك المواقف الجهادية المثالية في تاريخ المسلمين لخرجنا عن حد الإيجاز.
ويمكن أن نضرب أمثلة رائعة من سلفنا الصالح في الثبات على المبادئ واستعلائهم بالإيمان على أعداء الإسلام ومن هذه المواقف البطولية ما يلي:
1 -
موقف سعد بن معاذ وسعد بن عبادة مع المشركين في غزوة الأحزاب؛ فقد ذكرت الروايات «أن المشركين حاصروا المدينة المنورة قرابة شهر وخشي النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه اشتداد البلاء فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المري وهما قائدا غطفان وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه. . . ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بعث إلى السعدين فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول الله أمرا تحبه فنصنعه أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. . . فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أنت وذاك. . . (1)» وقد سر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الشجاعة النادرة، واطلع الله على صدق العزيمة عند المسلمين فهزم الله الأحزاب، وسلط عليهم ريحا قلعت أطنابهم وكفأت قدورهم، وسفت التراب في وجوههم، وكفى الله المؤمنين القتال. . .
2 -
موقف أبي بكر الصديق من المرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد وقف
(1) انظر السيرة النبوية لابن كثير ج3 ص202.
وقفة خالدة، نصر الله به دينه واعتز بموقفه الإسلام والمسلمون. . . لقد وقف قائلا:" من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت " وأنفذ جيش أسامة بن زيد الذي كان معسكرا خارج المدينة رغم اقتراح بعض الصحابة بإبقاء هذا الجيش للدفاع عن المدينة، قال أبو بكر في صرامة وعزيمة ماضية:" والله لو جرت كلاب المدينة بأرجل أمهات المؤمنين ما حللت راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقاتل أبو بكر أهل الردة ومانعي الزكاة والمتنبئين الكذابين وفي مقدمتهم مسيلمة الكذاب.
فاستقر الأمر وعاد الأمن إلى أنحاء الجزيرة العربية وبدأ بإعداد الجيوش الإسلامية لفتح بلاد فارس والروم ولكن عاجلته المنية قبل إتمام ذلك، ولكن تم معظم ذلك في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أيدي قادة المسلمين العظماء كسعد بن أبي وقاص والمثنى بن حارثة وخالد بن الوليد وأبي عبيدة عامر بن الجراح وعمرو بن العاص وغيرهم من القادة الذين خلدهم التاريخ، وبعد فإن الجهاد في سبيل الله مطلب أساسي، ولا تقوم للمسلمين قائمة إلا به.
فما أفلحت في موكب المجد أمة
…
إذا لم يكن درب الجهاد لها دربا
الدكتور زاهر عواض الألمعي