الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو في كتب السنة صحيح تلقته الأمة بالقبول يتضمن أن ندعو الرسول صلى الله عليه وسلم ونسأله حوائجنا أو نحلف به دون الله أو فيه أنه أو غيره من الأنبياء والأولياء يعلمون الغيب، أو يتصرفون في الكون أو يملكون الشفاعة بدون إذن الله ونحو ذلك؟ وأكثر ما يتشبث هؤلاء بحديث الأعمى الذي رد الله عليه بصره بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أن أحدا من المكفوفين استعمله بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما فيه دعاء لله أن يتقبل دعاء نبيه وشفاعته في رد بصره، وهكذا حديث توسل الصحابة بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم يتعلق به هؤلاء، ونحن لا ننكر أن نتوسل بالأحياء الصالحين أن يدعوا ربهم ويؤمن الناس على دعائهم، فأما التوسل بالأموات من أنبياء أو غيرهم فلم ينقل عن الصحابة ولا غيرهم، فبهذا العرض الوجيز يتضح مبالغة هذا الكاتب في أن أئمة الدعوة قد أنكروا كل حديث صحيح يعنى في التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم أو طلبه الشفاعة بعد موته أو في وصفه بالملك والتصرف مع الله، فليس هناك أحاديث صحيحة في هذا الموضوع، ولو صحت وثبتت لكان لها وجه تحمل عليه لئلا تخالف أدلة الشريعة والله أعلم.
الصوفية
تعرض هذا الكاتب للمدح والإطراء في حق الصوفية، وكأنه أراد بذلك الرد على أئمة الدعوة في إنكارهم على أهل الطرق والأحوال، أو اعتقد أنهم ينكرون على الصوفية ويمقتونهم، أو أراد بالثناء عليهم أن فيهم الأولياء والأصفياء الذين وصلوا إلى حضرة القدس واتصلوا بالملأ الأعلى، فاستحقوا لذلك أن نتوسل بهم وندعوهم من دون الله كما يفعل المشركون مع الجيلاني والبدوي ونحوهما ونحن نقول: إن الصوفية أصلا هم الزهاد في الدنيا والمشتغلون بالعبادة، وكانوا في الزمن الأول يرتدون الصوف الخشن من باب التقشف فعرفوا بهذا الاسم، كإبراهيم بن أدهم وبشر الحافي وإبراهيم الخواص، والجنيد بن محمد ونحوهم، وكان أولئك يعبدون الله على علم وبصيرة فيحافظون على الجماعات ويبتعدون عن المحرمات ويسارعون في
الخيرات ولم يكن عندهم شيء من البدع ولا الخرافات، ثم جاء بعدهم من تسمى باسم الصوفية وانتحل مذهبا خاصا، وأصبح الصوفية أهل نحلة وطريقة مستقلة، وابتعدوا عن العلم والعلماء واعتمدوا على الأذواق والمواجيد، فدخلت عليهم بدع وخرافات في المعتقد وفي العمل، كالسماع والرقص والتواجد وصحبة الأحداث والزهد في المباحات وتأليم النفس ونحو ذلك، وقد ناقشها ورد عليها فيها الشيخ ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس) وغيره، ثم جاء بعدهم من تسمى بالتصوف أيضا وغلا حتى تدخل في الربوبية، واعتقد أن الوجود واحد بالعين، وأنكر الفرق بين الخلق والخالق، وهم المسمون بالاتحاديين الحلوليين وأهل وحدة الوجود، وقولهم من أشنع الأقوال، وكفرهم أوضح من كفر اليهود والنصارى، فمنهم من أفصح عن ما يكنه وأعلن معتقده كالحلاج فحكم بكفره أهل زمانه وأفتوا بقتله فقتل، ومنهم من يتستر ويخفي معتقده ولكنه يظهر للمتمعن والمتفطن في كلامه، أمثال ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض ونحوهم، وهذا المعتقد الكفري قد تمكن وفشا القول به زمن شيخ الإسلام ابن تيمية، فرد على أهله ضمن رسائل مطبوعة في المجلد الثاني من مجموع فتاوى شيخ الإسلام، وله رسائل كثيرة في حقيقة التصوف والسلوك في المجلدين العاشر والحادي عشر، ومن هذا التقديم الموجز يعرف أنه لا يجوز إطلاق الذم ولا المدح للصوفية، بل يعطى كل منهم حكمه، أما الصوفية في هذا الزمان ومنهم من يعرفون بالتيجانية وغيرهم فإنهم قد انتحلوا طرقا وصارت لهم مقامات وخواص تصادم الأدلة حيث يعتقدون في أوليائهم الأقدمية على الرسل الكرام، ويزعمون أن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة، ويرجعون إلى أقوال مقدميهم، ويحكمونهم في الأنفس والأزواج والأموال، ويعتقدون فيهم العصمة وملكية التصرف ونحو ذلك من الاعتقادات السيئة، فما داموا كذلك فهم مجانبون للصواب ومحادون لله ورسوله فلا نعرف لهم فضلا ولا كرامة.
قال الكاتب: الصوفية هم صفوة الله من خلقه، وقدوتهم أهل الصفة الذين مدحهم الله وأثنى عليهم في محكم كتابه لأنهم عبدوه محبة فيه وشوقا
لرؤيته وإمام الجميع المصطفى صلى الله عليه وسلم بتوجيه من الله عز وجل كان في غار حراء فوجد في الخلوة الجلوة. . الخ.
جوابه أن يقال: يعتقد هذا الكاتب وأمثاله أن اشتقاق اسم الصوفية من الصفاء أي صفاء القلوب، أو من الصفوة أي أنهم صفوة خلق الله أي خيرتهم وأفضلهم، وهذا خطأ فإن الصوفية إنما وجدوا في أثناء القرن الثاني واشتهروا بالزهد والتقشف ولبسوا الصوف المنسوج من صوف الضأن لخشونته، قال الشيخ تقي الدين في الفتاوى 11/ 28: وكذلك في المائة الثانية صاروا يعبرون عن ذلك بلفظ الصوفي، لأن لبس الصوف يكثر في الزهاد، ومن قال: إن الصوفي نسبة إلى الصفة أو إلى الصفا فهي أقوال ضعيفة. . . الخ. وقال أيضا ج11 ص195: واسم الصوفية هو نسبة إلى لباس الصوف، هذا هو الصحيح. وقد قيل إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء، وقيل إلى أهل الصفة، وقيل إلى الصفا، وقيل إلى الصفوة، وقيل إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى، وهذه أقوال ضعيفة، فإنه لو كان كذلك لقيل صفي أو صفائي أو صفوي ولم يقل صوفي اهـ.
وهذا الكاتب جعل الصوفية هم صفوة الله من خلقه، فأما أن يقصد سبب التسمية أو يقصد الميزة والفضيلة، فقد عرفت أن اشتقاق التسمية من الصوف لا من الصفوة، وعرفت مما قدمناه أن الصوفية الأقدمين كانوا من صفوة عباد الله في ذلك الزمان، لكن ليسوا أفضل من أنبياء الله ورسله، ولا من الصحابة والسابقين الأولين، فإطلاق الكاتب بأنهم صفوة الله من خلقه خطأ؛ فإنه يلزم منه تفضيلهم على ملائكة الله ورسله وعلى أكابر الصحابة والخلفاء الراشدين والسابقين إلى الإسلام، وعلى أئمة المسلمين وعلمائهم الذين لم يلبسوا الصوف ولم ينتسبوا إلى الصوفية، ولا شك أن مراد الكاتب بهم صوفية هذا الزمان ومن سبقهم من أئمتهم كابن عربي وابن سبعين والحلاج ونحوهم ممن انتحلوا مذهب الاتحاد الذي هو كفر صريح وخروج عن عقيدة الأنبياء وأتباعهم، فهؤلاء ليسوا من الإسلام في شيء فضلا عن أن يكونوا صفوة الله من خلقه، فأما جعله أهل الصفة هم قدوتهم فهو أيضا خطأ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 11/ 38: أما الصفة
التي ينسب إليها أهل الصفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانت في مؤخر المسجد النبوي في شمالي المسجد بالمدينة النبوية، كان يأوي إليها من فقراء المسلمين من ليس له أهل ولا مكان يأوي إليه حيث يكثر المهاجرون إلى المدينة من الفقراء والأغنياء والآهلين والعزاب، فكان من لم يتيسر له مكان يأوي إليه يأوي إلى تلك الصفة التي في المسجد، ولم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون في وقت واحد، بل منهم من يتأهل أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له، ويجيء ناس بعد ناس فكانوا تارة يقلون وتارة يكثرون، فتارة يكونون عشرة أو أقل، وتارة يكونون عشرين وثلاثين وأكثر، وتارة يكونون ستين وسبعين. . . الخ. فعلم من هذا أن أهل الصفة هم فقراء المهاجرين. ولكن ليسوا قدوة لأهل التصوف ولا لغيرهم، وليسوا أفضل من أكابر الصحابة من المهاجرين الذين لم يأووا إلى تلك الصفة ومن الأنصار الذين هم أهل المدينة، والله تعالى مدح الصحابة والسابقين الأولين عموما ولم يخص أهل الصفة بمدح ولا ثناء يتميزون به عن غيرهم، ولا شك أن جميع الصحابة عبدوا الله محبة له وشوقا لرؤيته وطلبا لثوابه. وأهل الصفة من جملتهم فلا مبرر لتخصيص أهل الصفة بأنهم عبدوه محبة فيه وشوقا لرؤيته ما دام هذا الوصف يدخل فيه معهم غيرهم.
فأما قول هذا الكاتب: وإمام الجميع المعصوم صلى الله عليه وسلم بتوجيه من الله عز وجل، كان في غار حراء فوجد في الخلوة الجلوة الخ. فنقول: صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم إمام جميع أمة الإجابة الذين صدقوه وشهدوا له بالرسالة، ولكنه لم يشرع لأمته هذه الشطحات، ولا نقلت عنه تلك المواجيد والأذواق المزعومة، فأما خلوته في غار حراء فذلك تمهيد من الله لنزول الوحي عليه، ففي تلك الخلوة تصفية لسريرته وتفريغ لقلبه عن الشواغل وإبعاد عن المجتمع المليء بالشرك والمعاصي والمخالفات. لكنه بعد أن نزل عليه الوحي لم يرجع إلى غار حراء وما حفظ أنه بعد النبوة صعد ذلك الجبل ولا حاول الخلوة والتفرد ولا انقطع عن الناس، بل لم يزل مع الناس ثلاث عشرة سنة بمكة يدعو إلى توحيد الله ويخالط الناس ويجالسهم، ويعاشر أهله ويعلم أتباعه ما أوحي إليه ويبلغ الناس رسالة ربه، وهكذا بعد أن هاجر إلى المدينة استمر في الدعوة والتعليم، وكان يجلس مجالس عامة يقرأ فيها القرآن ويبين معانيه ويتلقى
عنه أصحابه علم الشريعة، وتفاصيلها مع ما يقوم به من غزوات بنفسه، وبعث جيوش أو سرايا ودعاة إلى الله وجباة وبعث رسل وكتب لشرح تفاصيل الإسلام، وكل هذه الأعمال ونحوها تنافي أعمال الصوفية التي معظمها يدور على الخلوة والابتعاد عن مجتمع الناس، وعلى ترك الشهوات المباحة من النكاح وتناول الطيبات وإعطاء النفس حظها من المباح الذي يتقوى به على عبادة الله، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني (1)» فأين في سنته فعل الخلوة أو مدح الانقطاع عن الناس، أو التواجد والطرب عن السماع أو نحو ذلك، بل إنه قد نهى عن السماع الذي يستعمله الصوفية وذم أهله، فأما ما يرويه الصوفية من تواجده وطربه في بعض المناسبات فكله كذب لا أصل له والله الموفق.
(1) رواه مسلم 9/ 175 عن أنس.
ثم قال هذا الكاتب: من ذاق حلاوة أنسه رأى من لطفه العجائب، وتمتع بلذيذ الخطاب بعد رفع الحجاب، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} (1) لفظ (أيها) بالذات في لغة العرب لا يقال إلا عند المواجهة، والشاهد لا يكون عن غيبة، بل لا بد من حضور، قال صلى الله عليه وسلم:«وجعلت قرة عيني في الصلاة (2)» (3).
جوابه أن نقول: يعتقد الصوفية أن حلاوة الأنس بالله تعالى لا تحصل إلا بالخلوة الطويلة والانفراد ويسمون تلك الخلوة جمعية القلب، فإن أحدهم ينفرد في زاوية من مكان مظلم ويبدأ في التفكير ويطيل النظر ويتناسى الخلق كلهم ويجمع همه على ربه، فربما ترك عدة صلوات متوالية تمر به حالة انفراده مخافة تفرق همومه وفساد جمعيته. وفي النهاية يزعم أنه يحصل له تلك الخلوة مكاشفات واطلاع على الملأ الأعلى وعلى أمور غيبية وخفية، ويسمي ذلك لذة الأنس أو حلاوة المناجاة ويزعم أنه يتمتع بلذيذ الخطاب ويرفع له الحجاب عن ربه فيطلع بقلبه على ما
(1) سورة الأحزاب الآية 45
(2)
سنن النسائي عشرة النساء (3940)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 285).
(3)
في المسند 3/ 128 عن أنس.
أخفي عن غيره، ويسمي الذين لم يصلوا إلى درجته ومنزلته محجوبين مبعدين عن القرب الذاتي إلى ربهم، وقد يصل أحدهم إلى غاية قصوى تسمى عندهم بالفناء بحيث يفنى أحدهم بموجوده عن وجوده وبمشهوده عن شهوده، بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، وقد تجرهم هذه الأحوال إلى عقيدة سيئة هي اتحاد الخالق بالمخلوق عقيدة أهل الحلول، وقد يزعم بعضهم أن مشائخهم وأكابرهم يصلون إلى درجة تسقط عنهم التكاليف وتباح لهم المحرمات ونحو ذلك من الخرافات التي يمدحهم لأجلها هذا الكاتب وأضرابه، ونحن نقول: إن حلاوة الأنس بالله لا تحصل إلا بالاشتغال بذكره ودوام عبادته، والبعد عن القواطع والشواغل التي تقسي القلب وتحول بينه وبين التفكر في آلائه والتذكر لنعمائه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن للإيمان حلاوة وطعما كما في قوله:«ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار (1)» وقال صلى الله عليه وسلم: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ونبيا (2)» وهكذا أخبر بأن العبادة بها تقر عينه ويرتاح بدنه، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:«وجعلت قرة عيني في الصلاة (3)» ، وقوله:«أرحنا يا بلال بالصلاة (4)» فهذا ونحوه يفيد أنه عليه الصلاة والسلام يجد في الصلاة لذة قلبه وسروره وابتهاجه وغاية فرحه وراحة بدنه. حيث إنه في الصلاة ينقطع عن الغير ويقبل بقلبه على ربه ويلتذ بذكره ومناجاته، ويتقلب من حال إلى حال يجد في كل منها الأنس بالعبادة، وكذا يتنقل من ذكر إلى دعاء إلى تلاوة، وفي الجميع قوة للقلب والبدن. فبهذه الأوصاف تكون الصلاة مفيدة ومؤثرة على العبد وناهية عن الفحشاء والمنكر، فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما يلتذ بالعبادة بأي وصف كانت، ولم يكن يؤثر الخلوة والانفراد، وليس في كون الصلاة قرة عينه ما يدل على أحوال الصوفية وأذواقهم ومواجيدهم ولو من بعيد،
(1) رواه مسلم 2/ 13 عن أنس رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم 2/ 2 عن العباس رضي الله عنه.
(3)
رواه أحمد م 3/ 128 وغيره عن أنس رضي الله عنه.
(4)
رواه أحمد 5/ 365 وغيره.
فنحن نقول: ما نوع الأنس الذي يذوقون حلاوته ثم يرون من لطفه العجائب. فإن كان الأنس بالذكر والصلاة والدعاء والتلاوة والتنقل في العبادة فليس من شرط ذوقه الانفراد والعزلة والبعد عن الناس وترك الجمع والأعياد والجماعات، بل إن حلاوة العبادات يحس بها كل من أحضر قلبه حال أدائها وأعرض عن كل ما يشغل القلب عن الإقبال على التدبر من أوهام ووساوس وحديث نفس، فتفريغ القلب من ذلك سهل ويسير على من يسره الله عليه، فهؤلاء هم الذين يوليهم الله عنايته ويلطف بهم ويكون من آثار لطفه أن يحميهم ويحفظهم عن القواطع والعوائق ويعصمهم من كبائر الإثم والفواحش، ويحميهم أيضا من الشهوات والملذات التي تعوق سيرهم إلى ربهم، ويكون من آثار لطفه توفيقهم وتسديدهم في الأقوال والأعمال والإقبال بقلوبهم على الطاعات والاستكثار من الصالحات، وهذه سيرة الصحابة رضي الله عنهم ومن سار على نهجهم الذين عمروا أوقاتهم بالتعلم والتفهم والعمل والتطبيق، وهم مع ذلك لم ينقطعوا عن الشهوات المباحة أسوة بنبيهم الذي قال:«لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن يرغب عن سنتي فليس مني (1)» فأما قول الكاتب: تمتع بلذيذ الخطاب بعد رفع الحجاب، فنقول: إن أراد التمتع والتلذذ بتدبر القرآن وتعلقه بحيث يعده خطابا من ربه إليه فهذا حق وصواب، فإن الله تعالى أمر بذلك كما في قوله:{لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (2) وقوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} (3) لكن ليس من شرط هذا التمتع خلوة أو انفراد، بل يحصل التلذذ بتدبره في الصلاة وبين الناس فأما إن أراد التمتع بلذيذ خطاب ربه وسماع كلامه منه إليه وأن أهل الأحوال تتصل قلوبهم بالملأ الأعلى ويناجون الله ويكلمهم ويكلمونه ونحو ذلك فكل ما يقولون في هذا الباب هوس ووحي شيطان، فإن الله تعالى خص أنبياءه بوحيه وخص موسى بالتكليم كما قال تعالى:
(1) رواه مسلم 9/ 175 وغيره عن أنس رضي الله عنه.
(2)
سورة ص الآية 29
(3)
سورة المؤمنون الآية 68
{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (1) وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وقد قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَاّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (2) وهذا الكاتب قد ذكر أن الصوفية ترفع عنهم الحجب والأستار ويناجون ربهم ويتلذذون بكلامه، ومعنى هذا أنهم فاقوا كثيرا من الأنبياء والرسل الذين هم الواسطة بين الله وبين العباد، فإن الرسل إنما يوحي الله إليهم وحيا، أو يرسل إليهم رسولا ملكيا، أو يكلمهم من وراء حجاب كما في نص هذه الآية، أما الصوفية في زعم هذا الكاتب فإنها ترفع لهم الحجب وتخترق قلوبهم الأستار، وتتصل بالملأ الأعلى، وتسمع خطاب الرب تعالى مباشرة، وتتمتع بلذيذ ذلك الخطاب، فهل بعد هذا الغلو والرفع لمقامهم من زيادة، سبحان ربنا الأعلى!، فأما استدلاله بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} (3) وقوله: لفظ " أيها " بالذات في لغة العرب لا يقال إلا عند المواجهة، والشاهد لا يكون عن غيبة، بل لا بد من حضور. فالمتبادر أنه يقصد أحد أمرين:
أحدهما: أن الله خاطبه وهو حاضر شاهد عنده بأن كشف له الستار وقربه من حضرة القدس وخاطبه كفاحا بلا واسطة ملك ولا غيره. وهذا ليس على إطلاقه، فإن الآيات التي فيها نداء النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن كثيرة، ومعلوم أنها نزلت كغيرها بواسطة الملك وحيا من الله إليه كما في قوله تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (4){عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (5).
الثاني: أن يقصد أننا متى قرأنا هذه الآية فإنا نخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم كأنا نراه مواجهة ومقابلة، وأنه شاهد عندنا حاضر ليس بغائب، فيفيد ذلك أنه حي لم يمت، وأنه يسمع كل من خاطبه بهذه الآية أو غيرها، وأنه شاهد مع كل أحد في كل مكان متى ناداه وخاطبه سمعه وأجابه، وأن هذا الوصف يعم كل ولي وصالح من أكابر الصوفية ونحوهم، وهذا لا يصح، فلفظ " أيها " ليس خاصا كما قال هذا بالمواجهة، بل إن الله خاطب نبيه بهذه الآيات الكثيرة
(1) سورة النساء الآية 164
(2)
سورة الشورى الآية 51
(3)
سورة الأحزاب الآية 45
(4)
سورة الشعراء الآية 193
(5)
سورة الشعراء الآية 194
آمرا له بما أرسله به وما كلفه به من البشارة والنذارة والتبليغ والبيان، وكل ذلك أنزله بواسطة ملك الوحي فالخطاب بواسطة يناسب فيه لفظ " أيها "، فلا تدل على استلزام مواجهة ومقابلة، أما لفظ الشاهد فالمراد الشهادة على الأمة بأنهم قد بلغوا ودعوا وقامت عليهم الحجة كما في قوله تعالى:{وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1) وقوله: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} (2) قيل شاهدا على أنه قد بلغكم ما أنزل إليه وبينه لكم، وقيل شاهدا على أصحابه بحسن أعمالهم وصلاحهم واستقامتهم فما يوهمه كلام الكاتب لا صحة له.
(1) سورة البقرة الآية 143
(2)
سورة الحج الآية 78
ثم قال الكاتب: (الصوفي) هو من عرف أن التوجه إلى الله والانقطاع إليه مما ينيل القصد ويهيئ النفس للملكية. . الخ.
أقول: قد ذكرنا أول الكلام تعريف الصوفية في أول الأمر، ثم ما آل إليه أمرهم وما دخل عليهم من البدع، ثم من الطرق التي أوقعت الكثير منهم في الخروج عن الإسلام كالحلول والاتحاد، فأما التوجه إلى الله والانقطاع إليه فهو صفة شريفة علية متى قصد منها الإقبال على العبادات والتفرغ لها والإعراض عن كل ما يشغل عن الطاعة ويعوق عن مواصلة السير إلى الله. وهذه طريقة أهل الزهد والعلم والعبادة من الصوفية السلفيين ومن غير الصوفية، ولم يزل في المسلمين قديما وحديثا خلق كثير وجمع غفير يشتغلون جل وقتهم بالعبادة القلبية الروحية، ويتوجهون إلى ربهم بقلوبهم، ويعلقون عليه آمالهم، وينقطعون إليه وحده، ويعرضون عما سواه، ولا ينافي ذلك إعطاء النفوس حظها من راحة ولذة مباحة من مأكل ومشرب ومنكح وملبس، وكذا الاشتغال بالكسب الحلال وجمع المال الذي تمس إليه الحاجة من وجوهه الجائزة كما أمر الله بذلك في قوله:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (1) وكما في قوله تعالى:
(1) سورة الجمعة الآية 10
{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (1) وإذا كان الأنبياء والرسل يلتمسون الرزق ويطلبون المال من وجوهه كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إلَاّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} (2) فكيف بأتباعهم ومن هو دونهم، فإن أراد الكاتب بالانقطاع إلى الله ترك الدنيا وما فيها والزهد في المباحات والرهبنة وترك كل الملذات ومشتبهات النفس التي تتقوى بها على الطاعات، فهذا الوصف والقصد غير صحيح، بل هو خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الرسل وأتباعهم، فأما قول الكاتب: ويهيئ النفس للملكية فهو خطأ من القول، فإن أراد بالملكية الصعود بالنفس إلى مقام الملائكة واتصافها بالروحية والنورانية والاتصال بالملأ الأعلى ونحو ذلك فلا يصح، فإن نفس الإنسان لا تصل إلى صفات الملائكة التي من خصائصها العلو والخفة والنور والمكاشفات والاستغناء عن الدنيا والانكفاف عن الشهوات ونحوها، فإن الله ركب في طباع البشر من الشهوة والالتذاذ بالمطعم والمشرب والميل إلى ذلك والتألم بفقده ما لم يكن من صفات الملائكة، أما إن أراد بالملكية التملك وأن النفس تتهيأ لأن تملك شيئا من أمر الكون لو تدبره أو تتصرف فيه تصرف المالك فهذا أيضا لا يصح، فالنفس البشرية وسائر النفوس المخلوقة ليس لها من الأمر شيء، ولا تقدر على التصرف المستقل ولا الملكية التامة النافذة، بل إن المخلوق نفسه مملوك لربه، ولو ملك الدنيا بأسرها فملكه مؤقت وناقص، وهو وما بيده ملك لربه، فكيف يقال: إن انقطاع الصوفي ينيله القصد ويهيئ نفسه للملكية.
(1) سورة المزمل الآية 20
(2)
سورة الفرقان الآية 20
ثم قال هذا الكاتب: فاتخذ الذكر زادا لروحه والفكر في آياته القرآنية والكونية شرابا لروحه. . الخ.
فأقول: هذا القول حق، فذكر الله دائما هو قوت القلوب وزاد الأرواح، ولكن ليس معناه أنه يغني عن الزاد الحقيقي للبدن، وإنما الذكر والفكر يقوي الروح ويزيدها نشاطا وثباتا واستمرارا في العبادة وحبا ورغبة في مواصلة العمل.
ثم قال الكاتب: حتى أشرقت على قلبه شمس المعارف الربانية، فأصبح القلب ينبوعا من ينابيع الأنوار والأسرار والحكم الربانية. . الخ.
نقول هذا غير صحيح، فإن ذلك يستلزم تفوقه على الرسل والملائكة واستغناءه عن الشريعة وعلومها، فإن الينبوع هو الماء النابع من الأرض، فمعنى ذلك أن شمس المعارف الربانية والعلوم الدينية قد أشرقت على قلوب الصوفية وسطعت فيها فاستنارت بها، فأصبح ينبوعا للأنوار والأسرار، يعني معدنا تنبع منه الأنوار الإلهية، وتنفجر منه عيون الحكمة، وتتوارد عليه الأسرار والحكم الربانية فتغنيه عن العلوم الشرعية، ونحن لا ننكر أن الله تعالى قد يفتح على بعض العباد أفهاما وحكما وأسرارا في كتابه أو شرعه كما في قوله تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (1) حيث جعل التقوى سببا للتعليم، فالله تعالى قد يرزق بعض عباده الأتقياء والصالحين علوما وأفهاما وأسرارا في كتابه أو في شرعه، ولكنها مستنبطة من القرآن والحديث ومن الحكم العامة التي لأجلها شرعت الشرائع وتنوعت الأوامر والأحكام، ولا تصل إلى الوصف الذي يذكره الكاتب من إشراق شمس المعارف. الخ. فإنه مع ما فيه من المبالغة والإطراء غير صحيح؛ فإن القلب البشري لا يتصور أن يصبح ينبوعا من ينابيع الأسرار والأنوار والحكم الربانية، وذلك لقصر الإنسان عن هذا الوصف مهما فتح عليه من العلوم والمعارف، مع أن هذا الوصف ليس خاصا بالمتصوفة، بل هناك علماء الأمة وعبادها الذين قاموا بحقوق ربهم ووقفوا عند حدوده وعبدوه حق عبادته قد فتح الله على قلوبهم من الفهم والإدراك والحفظ والاستنباط الشيء الكثير كما حصل للأئمة الأربعة وللمحدثين والفقهاء من صدر هذه الأمة، وهم مع ذلك لم ينقطعوا عن الشهوات والملذات، ولم يدخلوا في عداد الصوفية ولا توغلوا في إشاراتهم ورموزهم، بل هم متقيدون بنصوص الشريعة وبتعاليم ربهم ومتبعون لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وذلك هو الفضل العظيم.
(1) سورة البقرة الآية 282
ثم قال الكاتب: ومن قال كذلك، وصارت أحواله كلها بالله ولله، أمرنا باتباعه.
جوابه أن يقال: كيف تكون أحوال الصوفي كلها بالله ولله، مع أنه بشر يخطئ ويصيب ويرتكب الذنوب وهو محل النقص والتقصير في أداء حقوق ربه وفي شكر نعمه:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (1) وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومع ذلك فقد علمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول في صلاته:«اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت (2)» الخ.
فإذا كان صديق الأمة رضي الله عنه يعترف بأنه قد ظلم نفسه ظلما كثيرا فكيف يكون المتصوف معصوما وأحواله كلها بالله ولله، ونحن لا ننكر أن الله تعالى قد يوفق بعض أحبابه لتكون حركاته بالله، كما في الحديث القدسي عند البخاري عن أبي هريرة وفيه:«فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به (3)» فإن معنى ذلك تسديده في أقواله وأفعاله، ولكنا لا نستطيع الجزم لشخص بعينه بأن أحواله كلها بالله ولله كما ذكر هذا الكاتب، فأما قوله: أمرنا باتباعه فغير صحيح، فإن أغلب الصوفية سيما المتأخرين لهم شطحات خاطئة لا يجوز شرعا اتباعهم فيها فقد ظهر بعدهم فيها عن الصواب لهم أيضا طرق وأحوال مبتدعة كالسماع والرقص والخلوة الطويلة والبعد عن العلم والعلماء والاستغناء عن الوحي بالأوهام وحديث النفس الذي يخيل أنه وحي إلهام، فكيف يسوغ اتباعهم في هذه البدع ونحوها وبأي نص أمرنا بذلك، مع العلم بأن الاتباع إنما يجب للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه المبلغ عن الله، وقد ورد الأمر بذلك كما في قوله تعالى:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (4) وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (5) وأن يطاع ويتبع المخلوق متى وافق أمر الله ورسوله، فيكون اتباعه
(1) سورة إبراهيم الآية 34
(2)
رواه البخاري برقم 834 عنه رضي الله عنه.
(3)
في البخاري برقم 6502.
(4)
سورة الأعراف الآية 158
(5)
سورة آل عمران الآية 31
خاصا بما بلغه مما تحمله عن الله ورسوله، فالطواعية والاتباع في الحقيقة لله ورسوله، فمتى خالف المخلوق - مهما كانت مرتبته - صريح الكتاب والسنة وجب طرح قوله والرجوع إلى شرع الله، كما في قوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1).
ثم قال الكاتب: قال الإمام الأكبر محيي الدين ابن عربي رضي الله عنه: من لم يأخذ الطريق عن الرجال فهو ينقل من محال إلى محال.
نقول: لا عبرة بالقائل ولا بما قال، فإن ابن عربي هذا مشهور بأنه اتحادي يقول باتحاد الخالق والمخلوق، وهو أعظم الكفر وأشنعه، وقد صرح بذلك في كتابيه (فصوص الحكم) و (الفتوحات المكية) وغيرهما من مخالفة الرسل صريحا ومدح الكفار والمشركين، وتصويب ما هم عليه، وقد نقل عنه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 11/ 240 تعقبه للجنيد بن محمد رحمه الله في قوله: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، فأنكر عليه ابن عربي وقال في مخاطبته الخيالية الشيطانية: يا جنيد وهل يميز بين المحدث والقديم إلا من يكون غيرهما. كذا قال لأن عقيدته أن وجود المحدث هو عين وجود القديم كما قال في فصوصه: ومن أسمائه الحسنى العلي على من؟ وما ثم إلا هو، وعن ماذا؟ وما هو إلا هو. فعلوه لنفسه وهو عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العلية لذاته وليست إلا هو إلى أن قال: هو عين ما بطن وهو عين ما ظهر، وما ثم من يراه غيره، وما ثم من ينطق عنه سواه، وهو المسمى أبو سعيد الخراز وغير ذلك من الأسماء المحدثات، ثم ذكر أن التلمساني لما قرئ عليه الفصوص فقيل له: القرآن يخالف فصوصكم فقال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا.
فقيل له: فإذا كان الوجود واحدا فلم كانت الزوجة حلالا والأخت حراما؟ فقال: الكل عندنا حلال ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم.
ونقل شيخ الإسلام في المجموع 2/ 121 عن صاحب الفصوص وهو ابن عربي المذكور قوله: إن آدم عليه السلام إنما سمى إنسانا لأنه للحق تعالى بمنزلة إنسان العين من العين، وهذا يقتضي أن آدم جزء من الحق تعالى وتقدس، وبعضا منه، وأنه أفضل
(1) سورة النساء الآية 59
أجزائه وأبعاضه، وهكذا قال في الفصوص: إن الحق المنزه هو الحق المشبه، فالأمر الخالق المخلوق والأمر المخلوق الخالق كل ذلك من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة. الخ. وفي كلامه من أمثال هذا الكفر الصريح ما لا يحد ولا يوصف، وقد تعقبه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 2/ 204 - 284 وغيره فكيف يوصف مع ذلك بأنه الإمام الأكبر وبأنه يحي الدين، وقد انخدع بكلامه الجم الغفير واعتقدوا أنه آجر الأولياء وأرقاهم منزلة وأرفعهم قدرا، وإنما تفطن له وعرف ما في كلامه من الكفر والضلال أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية الذي تحقق عقيدته وعرف مواضع أخطائه أو تصريحاته في مؤلفاته وناقشه في كل ذلك وبين تناقضه وتهافته في كلامه، وذلك في مواضع كثيرة من مجموع الفتاوى وغيره، فأما قوله: من لم يأخذ الطريق من الرجال. الخ. فمراده بالطريق مسلك الصوفية وهو العبادات القلبية أو الأسرار الرمزية كنوع من اللباس أو إشارات بينهم يتناقلونها ويتلقاها الصغير عن الكبير بأسانيد كأسانيد الأحاديث والمؤلفات، فيقول أحدهم أخذت الطريق عن فلان وأخذها هو عن فلان، حتى تتصل بأكابرهم كالجيلاني أو الحلاج ونحوهما، ولا يكتفون بما عليه المسلمون من تلقي الشريعة من الكتاب الكريم والسنة المطهرة، فالطريق عندهم مسلك مغاير لمسلك الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وأئمة المسلمين، وقد اشتهروا بتسميتهم أهل الطرق أو الطرقية، ولا أستحضر شيئا عن تفاصيل طرقهم ورموزهم، ولكني أعتقد أنها خيالية لا يصح الركون إليها لكونهم يؤثرونها على الشرع ويستغنون بالعمل بها عما عليه أهل الإسلام، وقد أورد ابن القيم في إغاثة اللهفان قصيدة لامية لبعض العلماء في ذمهم وبيان شيء من أحوالهم ومنها قول ذلك الناظم رحمه الله:
إن قلت قال الله قال رسوله
…
همزوك همز المنكر المتغالي
أو قلت قال صحابه من بعده
…
فالكل عندهم كشبه خيال
ويقول قلبي قال لي عن سره
…
عن سر سرى عن صف أحوالي
عن حضرتي عن فركتي عن خلوتي
…
عن شاهدي عن واردي عن حالي
عن صفو وقتي عن حقيقة مشهدي
…
عن سر ذاتي عن صفات فعالي
دعوى إذا حققتها ألفيتها
…
ألقاب زور لفقت بمحالي
فهذه حقائق الطرق التي يتبجحون بها هم ومريدوهم أمثال هذا الكاتب الذي انتحل هذه المناهج المبتدعة، وتحامل على أهل التوحيد، ورغب في وسائل الشرك في مذكرته هذه ثم قال:
فالواجب عليك وعلى أمثالك من كبار العلماء نشر هذه المذكرة لمن أراد النجاة في الآخرة عن طريق الإذاعة والمجلات الإسلامية رحمة بالمسلمين وخوفا من عذاب الله، لأن كاتم العلم ملعون، نسأله حسن الختام بجاه طه عليه السلام. الخ.
جوابه أن نقول: الواجب والحرام إنما يؤخذ من الأدلة الشرعية، فنحن نقول: إن هذه المذكرة يحرم نشرها، ويجب إتلافها على من رآها، وذلك لما تحتوي عليه من الملاحظات التي ناقشنا بعضها فيما سبق مما يتعلق بالأسماء والصفات، وما يتعلق بالتوسل والاستشفاع، وما فيها من ذم أهل التوحيد ورميهم بما هم منه براء، وكذا الغلو في مدح الصوفية المنحرفة والغالية، فعلى كبار العلماء التحذير لمن أراد النجاة عن الاغترار بمثل هذه البدع، ونشر السنة والعقيدة السلفية، وأدلة التوحيد والإخلاص والنهي عن كتمان ذلك وعدم إيضاحه لمن يخاف وقوعه في أسباب الردى، فمن كتم ذلك فهو كاتم للعلم وقد توعده الله تعالى: بقوله {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (1).
فأما توسل هذا الكاتب بجاه طه عليه السلام، فهو من البدع التي قد توقع في الشرك المحبط للأعمال، وقد تقدم أنه استدل بحديث:«إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي» الخ. وأنه كذب لا أصل له، وبيان أن نبينا صلى الله عليه وسلم له جاه عند الله ولكن لم يرد التوسل بجاهه، فليس جاه المخلوق عند الخالق كجاه المخلوق عند المخلوق، فإنه
(1) سورة البقرة الآية 159
تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وبمراجعة ما تقدم يتضح وجه النهي عن السؤال بجاه المخلوق أو التوسل به وأنه من وسائل تعظيم المخلوق ووصفه بما لا يستحقه إلا الله، وهذا آخر ما أردت تعليقه على هذه المذكرة نصحا للمسلمين وبيانا لما قد يلتبس من كلامه على الجهلة ونحوهم مع أن أهل العقيدة والتوحيد لا يخفى عليهم ما تحتوي عليه تلك المذكرة من التهافت والتناقض ونصر الباطل وإنكار حقيقة التوحيد والله المستعان وعليه التكلان. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
صفحة فارغة
الحدود في الإسلام
بقلم فضيلة الشيخ عبد الله عبد الغنى خياط
عضو هيئة كبار العلماء
- من مواليد مكة المكرمة، تلقى علومه الأولية في مدينة الخياط بمكة المكرمة، ودرس المنهج الثانوي في المدرسة الراقية، تخرج في المعهد السعودي بمكة المكرمة ودرس على المشايخ في المسجد الحرام وغيره.
- عمل مديرا للمدرسة الفيصلية بمكة المكرمة، فمديرا لمدرسة الأمراء أنجال الملك عبد العزيز، فمستشارا لوزارة المعارف بمكة، ثم مشرفا على إدارة التعليم ومديرا لكلية الشريعة بمكة المكرمة.
- يعمل عضوا في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخطيبا في المسجد الحرام، وعضوا في هيئة كبار العلماء وعضوا في اللجنة الثقافية برابطة العالم الإسلامي.
- من مؤلفاته: اعتقاد السلف - دليل المسلم - ما يجب أن يعرفه المسلم عن دينه - الخطب في المسجد الحرام - الرواد الثلاثة - صحائف مطوية - حكم وأحكام من السيرة النبوية - تأملات في دروب الحق والباطل.
الحصن المنيع والدرع الواقي والسياج الذي يحفظ المجتمع الإسلامي من الانهيار هو الحدود.
شرعت الحدود في الإسلام لتبقى إلى الأبد حافظة للتوازن بين المجموع، زائدة عن التحديات والتعديات الآثمة والنزوات الطائشة والفلتات التي تصدر عن المعتدين.
رتب الإسلام الحدود عقوبات زاجرة تجابه بعض المعاصي الموبقة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطط لأسس الإصلاح في المجتمع الإسلامي في حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها» رواه الدارقطني وغيره. وإن لطغيان النفس إذ تنجرف مع تيار الهوى فظائع وجرائم، ولا يحد من سطوتها أو يكسر من حدتها أو يقلل من خطرها إلا إقامة الحدود المقدرة بنسبة ما تحدثه المعصية من خطر وضرر وما ينجم عنها من فساد وخراب، ولقد حفز الله سبحانه لإقامتها والأخذ بها على كل معصية بقوله تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (1).
و (حياة) كلمة شاملة: حياة في الأنفس بحيث ترتدع عن سفك الدم الحرام، وحياة في الأموال تمنع من السطو على حق الغير لئلا يؤخذ عنوة، وحياة في الأعراض تحول دون الجرأة على انتهاك العرض الحرام كما جاء في الحديث «إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم (2)» الحديث. رواه مسلم، أي لا تنتهكوا السياج المنيع الذي وضع عليها، وقد توسعنا في تفسير مدلول لفظة (حياة) لأن معناها في الواقع لا يقتصر على الدم، فلكل من الدم والمال والعرض عقوبة يستوجبها من يجرؤ على الاستهتار والإقدام على انتهاك حرمتها.
أما تفسير الآية الكريمة {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (3) فقد جاء عن أبي العالية قوله: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل. وكذلك روي عن مجاهد وسعيد بن جبير والحسن والربيع بن أنس وغيرهم. وفي
(1) سورة البقرة الآية 179
(2)
صحيح البخاري الأضاحي (5550)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 49)، سنن الدارمي المناسك (1916).
(3)
سورة البقرة الآية 179
كتاب صفوة التفاسير مزيد من البسط من حيث البلاغة في التعبير يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (1) بلاغته أعلى درجات البلاغة. ونقل عن العرب في هذا المعنى قولهم: " القتل أنفى للقتل "، ولكن لورود الحكمة في القرآن فضل من ناحية حسن البيان، وإذا شئت أن تزداد خبرة بفضل بلاغة القرآن وسمو مرتبته على مرتبة ما نطق به بلغاء البشر فانظر إلى العبارتين فإنك تجد من نفحات الإعجاز ما ينبهك لأن تشهد الفرق بين كلام الخالق وكلام المخلوق.
أما الحكمة القرآنية فقد جعلت سبب الحياة القصاص وهو القتل عقوبة على وجه التماثل، والمثل العربي جعل سبب الحياة القتل، ومن القتل ما يكون ظلما فيكون سببا للفناء. وتصحيح العبارة أن يقال: القتل قصاصا أنفى للقتل ظلما. والآية جاءت خالية من التكرار اللفظي، والمثل كرر فيه لفظ القتل فمسه بهذا التكرار من الثقل ما سلمت منه الآية.
ومن الفروق الدقيقة بينهما أن الآية جعلت القصاص سببا للحياة، والمثل جعل القتل سببا لنفي القتل، وهو لا يستلزم الحياة، وقد عد العلماء عشرين وجها من وجوه التفرقة بين الآية القرآنية واللفظة العربية.
(1) سورة البقرة الآية 179
بعد هذا نرجع إلى موضوع المقال (الحدود في الإسلام) ونعني بذلك العقوبات المقدرة بقدر الحجم الذي ارتكبه الجاني المتسلط على العباد؛ بإدخال الرعب في قلوبهم والاضطراب في شئونهم، وإن نعمة الأمن من الخوف من أجل النعم التي من الله بها على العباد، كما قال تعالى {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} (1){الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (2) وقال تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (3) وضمان استمرار هذا الأمن في المجتمع إقامة الحدود وأخذ الجاني بجريرة عمله، عندئذ يستتب الأمن وتزول المخاوف.
ولم يترك الإسلام تقدير العقوبات للناس حسب أمزجتهم، كما أنه لم يجعلها خاصة بأناس تقام عليهم دون آخرين، لأن مقتضى عدل الإسلام تقدير العقوبة بنسبة
(1) سورة قريش الآية 3
(2)
سورة قريش الآية 4
(3)
سورة العنكبوت الآية 67
الجرم وجعل الناس فيها سواسية، تنزل بالأمير والمأمور وصاحب المقام المرموق أو من كان من الدهماء، كما جاء في الحديث «والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها (1)» .
فعقوبة الحرمان من حق الحياة قدرت بالاقتصاص من نفس الجاني، كما قال تعالى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (2) وكما جاء في الحديث «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة (3)» رواه البخاري ومسلم. والمراد (بالثيب الزاني) من تزوج ووطأ في نكاح صحيح ثم زنا بعد ذلك فإنه يرجم، وإن لم يكن متزوجا في حالة الزنى لاتصافه بالإحصان.
والمراد بـ (النفس بالنفس) أي من قتل عمدا قتل قصاصا؛ بشرط التكافؤ فلا يقتل المسلم بالكافر ولا الحر بالعبد. وسيأتي تفسير ذلك. والتارك لدينه المفارق للجماعة وهو المرتد. وقال بعض المعلقين على الحديث - ورجح الحافظ في الفتح تبعا لغيره: أن ترك الجماعة صفة كاشفة أو مؤكدة لا مقيدة، ونقل عن ابن دقيق العيد أن المراد بها مخالفة الإجماع، وقد قال النووي في كلامه على هذا الحديث من شرح صحيح مسلم: وأما قوله صلى الله عليه وسلم «والتارك لدينه المفارق للجماعة (4)» فهو عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت، فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام، ففي هذه الصور الواردة في الحديث يكون القصاص بالقتل جزاء وفاقا؛ ذلك أن الزاني قد اجترأ على تلويث عرض أخيه المسلم وهدم نسبه، وأفسد عليه زوجه وقد لا يصلح أمرها بعد هذا الإفساد مع زوجها.
ومن قتل نفسا عمدا فقد حرمها حق الحياة واجترأ على هتك السياج المنيع الذي وضعه رب العزة تأمينا للناس من مخاوف السطو على أرواحهم.
وأما التارك لدينه المفارق للجماعة فلأنه اختار الضلالة بعد الهدى والعمى بعد البصيرة، وارتد على عقبه وكان قدوة سيئة في مجتمعه، فكان القصاص منه بالقتل درءا لمفسدته.
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3475)، صحيح مسلم الحدود (1688)، سنن الترمذي الحدود (1430)، سنن النسائي قطع السارق (4898)، سنن أبو داود الحدود (4373)، سنن ابن ماجه الحدود (2547)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 162)، سنن الدارمي الحدود (2302).
(2)
سورة المائدة الآية 45
(3)
صحيح البخاري الديات (6878)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1676)، سنن الترمذي الديات (1402)، سنن النسائي تحريم الدم (4016)، سنن أبو داود الحدود (4352)، سنن ابن ماجه الحدود (2534)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 181)، سنن الدارمي الحدود (2298).
(4)
صحيح البخاري الديات (6878)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1676)، سنن الترمذي الديات (1402)، سنن النسائي تحريم الدم (4016)، سنن أبو داود الحدود (4352)، سنن ابن ماجه الحدود (2534)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 444)، سنن الدارمي الحدود (2298).
ثم هناك أمل للقاتل المتعمد في جريمته يدرأ عنه القصاص وهو عفو ولي الدم أو أخذه الدية، ونص العلماء على أن الولي بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية، رضي القاتل أو لم يرض، وهذا رأي الشافعي وأحمد ومالك في رواية أشهب رحمهم الله، وقال مالك في رواية ابن القاسم عنه: ليس للولي إلا أن يقتص أو يعفو من غير دية إلا أن يرضى بإعطاء الدية القاتل. وعند الحنفية للولي القصاص أو الصلح على مال أو العفو. وأولياء الدم الذين لهم حق القصاص أو حق إسقاطه بالعفو هم العصبة عند مالك، وعند غيره كل من يرث، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1){وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) فأوضحت الآية الكريمة التماثل في القصاص بقتل الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى، ونقل ابن كثير رحمه الله في تفسيره هذه الآية رأي الجمهور وأنه قال: لا يقتل الحر بالعبد لأن العبد سلعة لو قتل لم يجب فيه، دية وإنما تجب فيه قيمته، ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى، ثم قال ابن كثير: وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر لما ثبت في البخاري عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل مسلم بكافر (3)» ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل بعموم آية المائدة، ثم قال - أي ابن كثير في مسألة قتل الرجل بالمرأة -: قال الحسن وعطاء: لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية، وخالفهم الجمهور لآية المائدة، ولقوله عليه السلام:«المسلمون تتكافأ دماؤهم (4)» . وقال الليث: إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة، ثم قال - أي ابن كثير رحمه الله: ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد، قال عمر في غلام قتله سبعة فقتلهم:(لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم) ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة. وذلك كالإجماع. وحكى عن
(1) سورة البقرة الآية 178
(2)
سورة البقرة الآية 179
(3)
صحيح البخاري الجهاد والسير (3047)، سنن النسائي القسامة (4744)، سنن ابن ماجه الديات (2658)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 79)، سنن الدارمي الديات (2356).
(4)
سنن أبو داود الجهاد (2751)، سنن ابن ماجه الديات (2685)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 215).
الإمام أحمد رحمه الله رواية أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة، وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير إلى آخره، ثم روي عن ابن المنذر قال: وهذا أصح ولا حجة لمن أباح قتل الجماعة، إلى آخر ما ذكره ابن كثير رحمه الله في هذه المسألة.
ننتقل بعد هذا إلى عقوبة أخرى قررها الشرع على كبيرة من كبائر الذنوب هي السرقة، وحدها القطع - أي قطع اليد كما قال تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1).
ومجمل تفسير الآية أن الله سبحانه أمر بقطع يد السارق رجلا كان أو امرأة؛ مجازاة لهما على فعلهما المنكر وعقوبة رادعة زاجرة، والله سبحانه حكيم في شرعه، فلا يأمر إلا بما فيه مصلحة لعباده بما في ذلك قطع يد السارق.
وفي قوله تعالى {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} (2) أي تاب ورجع عن السرقة فإن الله سبحانه يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة، وهذه المسألة خلافية بين العلماء أكثرهم على أن توبة السارق المشار إليها في الآية لا تسقط عنه الحد في الدنيا وإنما تسقط عنه العذاب في الآخرة، ورأى بعض العلماء إسقاط الحدود بالتوبة في السرقة وغيرها، إذا جاء من استحق إقامة الحد تائبا بنفسه من غير أن يطلب، وسلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مسلكا وسطا بين هذين القولين فقال: إن الإمام مخير إذا جاء تائبا بين أن يتركه كما قال الرسول صلوات الله عليه لصاحب الحد الذي اعترف به: «اذهب فقد غفر الله لك (3)» ، وبين أن يقيمه كما أقامه على ماعز والغامدية وقد اعترفا بالزنى لما اختارا إقامته وأبيا إلا التطهير.
(1) سورة المائدة الآية 38
(2)
سورة المائدة الآية 39
(3)
سنن الترمذي الحدود (1454)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 399).
ولاستيفاء القصاص وإقامة الحد على السارق شروط وقيود أوردها الفقهاء رحمة الله عليهم وهي كالآتي:
1 -
أن يكون المسروق مالا محترما، فلا تقطع بسرقة آلة لهو مثلا ولا بسرقة محرم كالخمر.
2 -
أن يكون المسروق نصابا، والنصاب ثلاثة دراهم أو ربع دينار فلا يقطع فيما دون ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا (1)» رواه أحمد ومسلم وغيرهما، وكان ربع دينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثنا عشر درهما، رواه أحمد.
3 -
أن يكون المسروق من حرز فإن سرق مالا من غير حرز فلا قطع على السارق، والحرز يختلف باختلاف الأموال والبلدان وغير ذلك كما هو مبسوط في هذا الباب.
4 -
أن تنتفي الشبهة عن السارق لحديث «ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم (2)»
5 -
ثبوت السرقة شرعا أي بشهادة شاهدين عدلين أو إقرار السارق مرتين بالسرقة يصفها في كل مرة.
6 -
مطالبة المسروق منه للسارق بما سرق، وفي رواية عن الإمام أحمد رحمه الله: لا تشترط المطالبة، كما هو مذهب الإمام مالك رحمه الله.
(1) صحيح البخاري الحدود (6790)، صحيح مسلم الحدود (1684)، سنن الترمذي الحدود (1445)، سنن النسائي قطع السارق (4921)، سنن أبو داود الحدود (4384)، سنن ابن ماجه الحدود (2585)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 104)، موطأ مالك الحدود (1576)، سنن الدارمي الحدود (2300).
(2)
سنن الترمذي الحدود (1424).
ننتقل بعد ذلك إلى عقوبة الزاني وهي الحد الذي شرعه الإسلام للردع عن هذه المعصية، ويختلف الحد باختلاف الوضع، فتارة يكون مائة جلدة إذا كان الزاني بكرا لم يتزوج كما قال تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (1) مع التغريب عاما كما قرره جمهور العلماء؛ إلا أبا حنيفة فإن التغريب عنده يرجع إلى رأي الإمام، وحجة الجمهور في الجلد مع التغريب ما ثبت في الصحيحين «في الأعرابيين اللذين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما يا رسول الله: إن ابني هذا كان عسيفا - أي: أجيرا - على هذا فزنى بامرأته فافتديت ابني بمائة شاة ووليدة
(1) سورة النور الآية 2
فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني مائة جلدة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى: الوليدة والغنم ردا عليك، وعلى ابنك مائة جلدة وتغريب عام، واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها (1)» أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة وغيره.
وتارة يكون الحد بالرجم، وذلك إذا كان المعترف بالزنى محصنا، لما روى الإمام مالك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:«أما بعد؛ أيها الناس إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: (لا نجد آية الرجم في كتاب الله فيقضوا بترك فريضة قد أنزلها الله، فالرجم حق في كتاب الله، حق على كل من زنى إذا أحصن، من الرجال ومن النساء - إذا قامت البينة أو الحبل والاعتراف (2)» . أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك مطولا. وفي رواية عنه «ولولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم: إن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه لأثبتها كما نزلت (3)» أخرجه الإمام أحمد والنسائي.
ثم علق ابن كثير رحمه الله على ذلك بعد أن أورد جملة أحاديث قائلا: " وهذه طرق متعددة متعاضدة على أن آية الرجم كانت مكتوبة فنسخت تلاوتها وبقي حكمها معمولا به والله أعلم ". ثم عرض ابن كثير رحمه الله لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم ماعز والغامدية، وقال - ردا على من ذهب إلى جمع الجلد إلى الرجم في حق الزاني المحصن -: لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلدهم قبل الرجم، وهذا مذهب جمهور العلماء، وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله، وذهب الإمام أحمد إلى أنه يجب أن يجمع على الزاني المحصن بين الجلد للآية والرجم للسنة؛ لما روى الإمام أحمد وأهل السنن عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم (4)» قلت: ويمكن الجمع بين الحديثين بمعرفة تاريخ المتقدم
(1) صحيح البخاري الشروط (2725)، صحيح مسلم الحدود (1698)، سنن الترمذي الحدود (1433)، سنن النسائي آداب القضاة (5411)، سنن أبو داود الحدود (4445)، سنن ابن ماجه الحدود (2549)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 115)، موطأ مالك الحدود (1556)، سنن الدارمي الحدود (2317).
(2)
صحيح البخاري الحدود (6830)، صحيح مسلم الحدود (1691)، سنن الترمذي الحدود (1432)، سنن أبو داود الحدود (4418)، سنن ابن ماجه الحدود (2553)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56)، سنن الدارمي الحدود (2322).
(3)
سنن أبو داود الحدود (4418)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 29)، موطأ مالك الحدود (1560).
(4)
صحيح مسلم الحدود (1690)، سنن الترمذي الحدود (1434)، سنن أبو داود الحدود (4415)، سنن ابن ماجه الحدود (2550)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 327)، سنن الدارمي الحدود (2327).