الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فجعل غيرها من الأشربة أخا لها بقوله: رأيت أخاها مغنيا لمكانها، ومعلوم أنه لو كان يسمى خمرا لما سماه أخا لها ثم آكده بقوله فإن لا تكنه أو يكنها فإنه أخوها فأخبر أنها ليست هو.
وباستعراض ما سلف ذكره من نقول عن أهل اللغة يظهر لنا منها أن الأرجح في مسمى الخمر العموم لغة كما صرح بذلك صاحب القاموس بقوله والعموم أصح.
وفي تاج العروس عند قول صاحب القاموس (والعموم أصح) على ما هو عند الجمهور لأنها أي الخمر حرمت وما بالمدينة المشرفة التي نزل التحريم فيها خمر العنب، بل وما كان شرابهم إلا من البر والتمر والبلح والرطب كما في الأحاديث الصحاح التي أخرجها البخاري وغيره كحديث ابن عمر: حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء - وحديث أنس: وما شرابهم يومئذ إلا البر والتمر - أي ونزل تحريم الخمر التي كانت موجودة من هذه الأشياء لا من خمر العنب خاصة، وقد غلط ابن سيدة في اقتصاره على قول صاحب العين - الخمر عصير العنب إذا أسكر. ولعل سبب ذلك أن خمرة العنب كانت كثيرة في زمن تدوين اللغة فظن بعضهم أن الإطلاق ينصرف إليها، لكثرتها وجودتها.
الخمر عند الفقهاء
اختلف الفقهاء في تحديدهم للخمر لاختلاف أهل اللغة في حقيقتها:
فذهب الجمهور منهم إلى ما ذهب إليه الأكثر من أهل اللغة من القول بالعموم وهو أن الخمر كل شيء يستر العقل ويغطيه من الأشربة المسكرة، وذهب الحنفية إلى ما ذهب إليه الأقل من أهل اللغة من القول بالخصوص، وهو أن الخمر هو النيء من ماء العنب إذا اشتد وصار مسكرا.
واستدل كل فريق على ما ادعاه بأدلة أخرى غير ما تقدم تؤيد ما ذهب إليه.
الأدلة:
استدل الجمهور بالسنة:
(1)
ما رواه الجماعة إلا البخاري عن يزيد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم «الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة (1)» .
وجه الدلالة: أنه عليه الصلاة والسلام أخبر أن الشراب المسكر المتخذ من ثمرات النخيل والأعناب يسمى خمرا وليست الخمر خاصة النيء من عصير العنب.
(2)
ما أخرجه أحمد في مسنده عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من الحنطة خمر، ومن الشعير خمر، ومن التمر خمر، ومن الزبيب خمر، ومن العسل خمر (2)» .
(3)
ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من الحنطة خمرا، ومن الشعير خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن العسل خمرا (3)» .
وجه الدلالة: واضح من الحديثين حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أطلق على المتخذ من الأطعمة ومن التمر والشعير والزبيب والعسل اسم الخمر، والرسول أفصح العرب، وهو المبلغ عن ربه فصح أن الشراب المتخذ مما ذكر خمر وليست خاصة بما يتخذ من ثمرات النخيل والأعناب.
(4)
ما روي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل مسكر خمر وكل خمر حرام (4)» .
وجه الدلالة: أن النبي عليه الصلاة والسلام بين أن كل شراب مسكر يسمى خمرا. ولو سماه أحد من أهل اللغة خمرا لكان مستدلا بقوله على إثبات هذا الاسم، فإذا سماه صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام وهو أفصح العرب خمرا فهو أولى.
واستدلوا من الأثر: بما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنه قال: خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أيها الناس إنه قد نزل تحريم الخمر وهي خمسة أشياء: من العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل، والخمر ما خامر العقل).
وجه الدلالة: أن عمر رضي الله عنه من أهل اللغة، وقد فهم أن لفظ الخمر يطلق للمتخذ من العنب كما يطلق اسما على المتخذ من غيره مما ذكره في خطبته
(1) صحيح مسلم الأشربة (1985)، سنن الترمذي الأشربة (1875)، سنن النسائي الأشربة (5572)، سنن أبو داود الأشربة (3678)، سنن ابن ماجه الأشربة (3378)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 526)، سنن الدارمي الأشربة (2096).
(2)
مسند أحمد بن حنبل (2/ 118).
(3)
سنن الترمذي الأشربة (1872)، سنن أبو داود الأشربة (3676)، سنن ابن ماجه الأشربة (3379).
(4)
صحيح مسلم الأشربة (2003)، سنن الترمذي الأشربة (1861)، سنن أبو داود الأشربة (3679)، سنن ابن ماجه الأشربة (3390)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 98).
المذكورة وقد أعلن فهمه هذا بحضرة كبار الصحابة وغيرهم ولم يعترض عليه منهم أحد، فأراد رضي الله عنه التنبيه على أن المراد بالخمر في هذه الآية ليس خاصا بالمتخذ من العنب، بل يتناول المتخذ من غيره وهو حجة في اللغة، ثم بين أن الخمر ليس مقصورا على الأصناف التي ذكرها، بل يشمل كل شراب مسكر من أي مادة اتخذ ولذلك قال: والخمر ما خامر العقل.
كما استدلوا بما رواه أحمد والبخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس قال: " كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب وسهيل بن بيضاء ونفرا من أصحابه عند أبي طلحة حتى كاد الشراب يأخذ منهم، فأتى آت من المسلمين فقال: أما شعرتم أن الخمر قد حرمت؟ فقالوا: حتى ننظر ونسأل فقالوا يا أنس اسكب ما بقي في إنائك، فوالله ما عادوا فيها وما هي إلا التمر والبر وهي خمرهم يومئذ ".
وما رواه البخاري عنه أيضا قال: إني لأسقي أبا طلحة وأبا دجانة وسهيل بن بيضاء خليط بر وتمر إذ حرمت الخمر فقذفتها وأنا ساقيهم وأصغرهم وإنا نعدها يومئذ خمرا.
وجه الدلالة: أن الصحابة رضي الله عنهم بينوا أن غالب خمرهم حين تحريم الخمر كان من غير عصير العنب المسكر وبمجرد نزول آية تحريم الخمر فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر، وامتنعوا عن شرب الأشربة الموجودة عندهم وألقوها، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره، بل سووا بينها فدل تصرفهم هذا على أن الخمر اسم جنس عام لكل شراب مسكر، وإلا لتوقفوا واستفصلوا عن الحكم لما كان قد تقرر عندهم من النهي عن إضاعة المال، فلما لم يفعلوا ذلك بل بادروا إلى إتلاف الجميع وتبادر إلى أذهانهم فهم العموم بدون قرينة كان ذلك دليلا واضحا على العموم، لأن المتبادر أمارة الحقيقة، قال صاحب الفتح عند قوله: وإنا نعدها يومئذ الخمر، وهو أقوى الحجج على أن الخمر اسم جنس لكل ما يسكر سواء كان من العنب أو من نقيع الزبيب أو التمر أو العسل أو غيرها.
قال القرطبي: بعد أن ذكر حديث أنس المتقدم، هذا الحديث في نزول الآية فيه دليل واضح على أن نبيذ التمر إذا أسكر خمر، وهو نص لا يجوز الاعتراض عليه؛ لأن
الصحابة هم أهل اللسان وقد عقلوا أن شرابهم ذلك خمر إذ لم يكن لهم شراب ذلك الوقت بالمدينة غيره. وقد قال الحكمي:
لنا خمر وليست خمر كرم
…
ولكن من نتاج الباسقات
كرام في السماء ذهبن طولا
…
وفات ثمارها أيدي الجناة
ومن الدليل الواضح على ذلك ما رواه النسائي، أخبرنا القاسم ابن زكريا، أخبرنا عبيد الله عن شيبان، عن الأعمى، عن محارب بن دثار، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الزبيب والتمر هو الخمر (1)» . وثبت بالنقل الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحسبك به عالما باللسان والشرع - خطب على منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أيها الناس ألا إنه قد نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي خمسة: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل ".
وإذا ثبت هذا بطل مذهب أبي حنيفة والكوفيين القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب، وما كان غيره لا يسمى خمرا، ولا يتناوله اسم الخمر، وإنما يسمى نبيذا. اهـ.
أدلة الحنفية على مذهبهم:
استدلوا على ما ذهبوا إليه بالقرآن والأثر وإجماع أهل اللغة والمعقول، أما القرآن فاستدلوا بقوله تعالى:{قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} (2) قالوا: فدل على أن الخمر هو ما يعصر لا ما ينبذ.
أما استدلالهم من الأثر فقد استدلوا بما أخرجه عبد الرزاق بسند جيد عن ابن عمر قال: " أما الخمر فحرام لا سبيل إليها، وأما ما عداها من الأشربة فكل مسكر حرام " وبما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر أنه قال: " لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء ".
(1) صحيح البخاري الأشربة (5601)، صحيح مسلم الأشربة (1986)، سنن الترمذي الأشربة (1876)، سنن النسائي الأشربة (5546)، سنن أبو داود الأشربة (3703)، سنن ابن ماجه الأشربة (3395)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 363).
(2)
سورة يوسف الآية 36
وجه الدلالة:
أن ابن عمر رضي الله عنه أخبر أن الخمر حين حرمت لم يكن بالمدينة منها شيء مع ثبوت وجود غيرها بالمدينة من أنبذة التمر. لما ثبت من قول أنس - وما شرابهم يومئذ أي يوم حرمت إلا الفضيخ والبر والتمر، فنفى عن الأنبذة اسم الخمر فدل على أنها لا تسمى خمرا.
أما إجماع أهل اللغة فذكره صاحب الهداية حيث قال: ولنا إطباق أهل اللغة على تخصيص الخمر بالعنب ولهذا اشتهر استعمالها فيه.
أما استدلالهم بالمعقول فمن وجهين:
1 -
قالوا إن حرمة النيء من ماء العنب قطعية لكونها محل إجماع العلماء، وحرمة شرب ما عدا المتخذ من ماء العنب ظنية فلا يسمى ما حرمته ظنية باسم ما حرمته قطعية.
2 -
وقالوا: إنما سمي ما عدا المتخذ من عصير العنب خمرا لتخمره وصيرورته مرا كالخمر لا لمخامرته العقل، فتسميته خمرا من باب المجاز.
المناقشة: ناقش الجمهور أدلة الحنفية بما يلي:
أجاب الجمهور عن استدلالهم بقوله تعالى: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} (1) بأنه لا دليل في هذه الآية على الحصر، وإنما جاءت إخبارا عن قضية رؤيا حصل فيها العصر، ولا يلزم من سياقها أن الخمر لا يكون إلا من عصير العنب، يؤيد ذلك ما ورد في الأحاديث الصحيحة، فقد روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«كل مسكر خمر وكل مسكر حرام (2)» . وما قدمناه عن عمر بن الخطاب في بيان معنى الخمر وإقرار الصحابة له، وأما استدلالهم عن الأثر بما أخرجه عبد الرزاق عن ابن عمر أنه قال " أما الخمر فحرام لا سبيل إليها، وأما ما عداها من الأشربة فكل مسكر حرام " فأجيب عنه بأنه ثبت عن ابن عمر أنه قال: " كل مسكر خمر " فلا يلزم من تسمية المتخذ من العنب خمرا انحصار الخمرية فيه.
(1) سورة يوسف الآية 36
(2)
صحيح مسلم الأشربة (2003)، سنن الترمذي الأشربة (1861)، سنن أبو داود الأشربة (3679)، سنن ابن ماجه الأشربة (3390)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 98).
وأجيب عن استدلالهم بما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر أنه قال: " حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء " بأنه لا يدل على مدعاهم لما يلي:
1 -
يجوز أن ابن عمر أراد تثبيت أن الخمر يطلق على ما لا يتخذ من العنب، وأنه اسم يعم كل شراب مسكر، لأن نزول آية التحريم صادف اتخاذ الخمر من غير عصير العنب، ومع ذلك فهم الصحابة من الأمر باجتنابها تحريم كل ما يسكر، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب ومن غيره، وبادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، ولولا وضع الاسم للعموم لغة لما فعلوا ذلك، ولتوقفوا عن الإراقة حتى يستفصلوا، ومنه يظهر أن دلالته على العموم أظهر منها على الخصوص.
2 -
أن إطلاق ابن عمر على النيء من ماء العنب خمرا لا تمنع من تسمية غيره خمرا من سائر الأنبذة المسكرة بدليل الآثار المروية عن أنس ومنها ما رواه البخاري عنه قال: إني لأسقي أبا طلحة وأبا دجانة وسهيل بن بيضاء خليط بر وتمر. . . إلخ. وبدليل خطبة عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ملإ من كبار الصحابة وغيرهم حيث قال " إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء: العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل، والخمر ما خامر العقل " ولم يعلم له مخالف من الصحابة وهم أهل اللسان، وبلغتهم نزل القرآن فكان كالإجماع فهم على العموم، قال ابن الجوزي في التحقيق: وقول ابن عمر حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء يعني به ماء العنب فإنه مشهور باسم الخمر، ولا يمنع هذا أن يسمى غيره خمرا.
3 -
يجوز أن ابن عمر أراد بقوله - وما بالمدينة منها شيء - أي وما بالمدينة من بعض أنواعها شيء، ولم يرد أن غيرها لا تسمى خمرا بدليل حديثه الآخر " نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة خمسة أشربة كلها تدعى الخمر وما فيها خمر العنب " وما رواه الإمام أحمد عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «من الحنطة ومن الشعير خمر، ومن التمر خمر ومن الزبيب خمر ومن العسل خمر (1)» وما رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم «كل مسكر خمر (2)» وعليه فقد أصبحت نسبة التفرقة إلى ابن عمر غير قائمة.
أما الإجماع اللغوي فالصواب خلاف ما ذكروه، فإن المعروف الثابت عند أهل
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/ 118).
(2)
صحيح مسلم الأشربة (2003)، سنن الترمذي الأشربة (1861)، سنن أبو داود الأشربة (3679)، سنن ابن ماجه الأشربة (3390)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 98).
اللغة هو أن الخمر تطلق على كل مسكر، وقد سبق ذكر بعض النقول عن أشهر أئمة اللغة الدالة على عدم صحة ما ادعوه، وأما اشتهار الخمر فيما اتخذ من العنب فلا يلزم منه أن غيره لا يسمى خمرا، قال الخطابي:" زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب، فيقال لهم: إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمرا عرب فصحاء، فلو لم يكن هذا الاسم صحيحا لما أطلقوه ".
وأما قولهم إن تحريم الخمر قطعي، وتحريم ما عدا المتخذ من العنب ظني، فأجيب عنه بأنه ثبت أن غير المتخذ من العنب من المسكرات خمر في اللغة وفي الشرع، وما دام ثبت ذلك فتحريم كل مسكر إذا قطعي.
وإذا سلمنا أن تحريم ما عدا المتخذ من العنب ظني فلا يقوم على إثبات التفرقة لما تقرر من أن اختلاف مشتركين في الحكم لا يلزم منه افتراقهما في التسمية كالزنا مثلا فإنه يصدق على من وطئ أجنبية وعلى من وطئ امرأة جاره والثاني أغلظ من الأول وعلى من وطئ محرما له وهو أغلظ، واسم الزنا مع ذلك شامل للثلاثة، وأيضا الأحكام الفرعية لا يشترط فيها الأدلة القطعية، فلا يلزم من القطع بتحريم المتخذ من العنب وعدم القطع بتحريم المتخذ من غيره أن لا يكون حراما، بل يحكم بتحريمه إذا ثبت بطريق ظني وكذا تسميته خمرا.
على أننا لو مشينا على هذه القاعدة التي ذكرها صاحب الهداية لأبطلنا كثيرا من أحكام الشريعة؛ حيث إن كثيرا من الواجبات والمحرمات ثبت بطريق ظني.
وأما قولهم إنما سمي خمرا لتخمره لا لمخامرة العقل فيعارضه ثبوت النقل عن أعلم الناس بلسان العرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال: " والخمر ما خامر العقل " فكيف يستجيز صاحب الهداية أن يقول: " لا لمخامرة العقل مع قول عمر رضي الله عنه بمحضر الصحابة: الخمر ما خامر العقل " ويحمل قول عمر على المجاز على ما ادعاه من اتفاق اللغة، وقد سبقت الإشارة إلى أن دعوى اتفاق أهل اللغة دعوى مردودة.
مناقشة الجمهور:
أولا: ناقش الحنفية الجمهور في استدلالهم بحديث النعمان بن بشير وعبد الله بن
عمر أن الخمر تطلق حقيقة على النيء من ماء العنب وغيره من الأشربة المسكرة بأن كل واحد له اسم مثل المثلث - الباذق - والمنصف - ونحوها، وإطلاق الخمر عليها عند إسكارها من باب المجاز وعليه تحمل الأحاديث، وأجاب الجمهور بأن الأصل المتبادر إلى الفهم فيها الحقيقة، ولا يعدل عنها إلا لقرينة صارفة ولا قرينة قائمة هنا. والقول بأن القرينة تخصيص الخمر بالنيء المسكر من عصير العنب لغة قول مردود؛ حيث إن النقل عن أهل اللغة قد اختلف كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فلم يصلح ما ذكر قرينة لصرف اللفظ عن المتبادر منه عند الإطلاق، والمتبادر أمارة الحقيقة، ولذلك لما نزل تحريم الخمر فهم الصحابة من الأمر باجتنابها تحريم كل مسكر، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره، بل سووا بينهما وحرموا كل ما يسكر نوعه، ولم يتوقفوا، ولم يستفصلوا، ولم يشكل عليهم شيء من ذلك، بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب وهم أهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن، قال في فتح الباري: " أما دعوى بعضهم أن الخمر حقيقة في ماء العنب مجاز في غيره فإن سلم في اللغة لزم من قال به جواز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه؛ لأن الصحابة لما بلغهم تحريم الخمر أراقوا كل ما كان يطلق عليه لفظ الخمر حقيقة ومجازا. وإذا لم يجوزوا ذلك صح أن الكل خمر حقيقة، ولا انفكاك عن ذلك وعلى تقدير إرخاء العنان والتسليم أن الخمر حقيقة من ماء العنب خاصة فإنما ذلك من حيث الحقيقة اللغوية، فأما من حيث الحقيقة الشرعية فالكل خمر حقيقة لحديث «كل مسكر خمر (1)» فكل ما اشتد كان خمرا، وكل خمر يحرم قليله وكثيره، وهذا يخالف قولهم.
ثانيا: ناقش الحنفية الجمهور في حديث «كل مسكر خمر (2)» بأنه لا يدل على العموم لعدم صحته، حيث طعن فيه يحيى بن معين، قال صاحب المبسوط ما رواه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال «كل مسكر خمر (3)» لا يكاد يصح، فقد قال يحيى بن معين: ثلاث لا يصح فيهن حديث عن رسول الله وذكر في جملتها كل مسكر خمر.
(1) صحيح مسلم الأشربة (2003)، سنن الترمذي الأشربة (1861)، سنن أبو داود الأشربة (3679)، سنن ابن ماجه الأشربة (3390)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 98).
(2)
صحيح مسلم الأشربة (2003)، سنن الترمذي الأشربة (1861)، سنن أبو داود الأشربة (3679)، سنن ابن ماجه الأشربة (3390)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 98).
(3)
صحيح مسلم الأشربة (2003)، سنن الترمذي الأشربة (1861)، سنن أبو داود الأشربة (3679)، سنن ابن ماجه الأشربة (3390)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 98).
وأجاب الجمهور: بعدم التسليم بطعن يحيى في الحديث كما ذكر الزيلعي في نصب الراية، ولنسمع ما قاله الزيلعي على قول صاحب الهداية وهذا الحديث طعن فيه يحيى بن معين حيث قال: وهذا الكلام لم أجده في شيء من كتب الحديث. وقال في فتح القدير بعد أن أورد الحديث " وأما ما يقال من أن ابن معين طعن في هذا الحديث فلم يوجد في شيء من كتب الحديث. وأجاب الجمهور أيضا: بأننا لو سلمنا طعن يحيى بن معين فيه لكان طعنه لا يؤثر فيه بعد أن رواه الثقة ".
ثالثا: ناقش الحنفية الجمهور فقالوا إن قوله عليه الصلاة والسلام «كل مسكر خمر (1)» لا يفيد المدعي به، فإن غاية ما يفيده أنها مثل الخمر في الحكم ويكون محمولا على التشبيه بحذف أداته - أي كل مسكر كالخمر، كقولنا زيد أسد أي كالأسد ومثله كثير في الاستعمالات اللغوية والعرفية، تقول السلطان فلان إذا كان فلان نافذ الكلمة عند السلطان ويعمل بكلامه.
وأجاب الجمهور عن ذلك بأن الأصل عدم التقدير، ولا يلجأ إليه إلا إذا دعت الحاجة. فإن قيل الحاجة قائمة إلى التقدير لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لبيان الأسماء، قلنا بيان الأسماء من مقدمات الأحكام لمن لا يعلمها ولا سيما ليقطع تعلق القصد بها.
وناقش الحنفية الجمهور في استدلالهم بقول عمر إن إطلاق اسم الخمر على الأشربة المسكرة المتخذة من غير عصير العنب من قبيل مجاز التشبيه.
وأجاب الجمهور بأن الأصل المتبادر إلى الفهم منها الحقيقة، ولا يعدل عنها إلا لقرينة صارفة، ولا قرينة قائمة، ولأن تلك العبارات تأبى أن تكون تشبيها كقول عمر في خطبته " ونزل تحريم الخمر وهي من خمسة: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل ". فهل يمكن أن يقال نزل تحريم خمرة العنب وهي من خمسة أشياء. . . إلخ؟ أم يمكن أن يقال: نزل تحريم ما يشبه الخمر في الإسكار وهو من خمسة أشياء العنب والتمر؟ لأن هذا لا يقوله أحد يفهم العربية، وإن كان يجيز الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو ما لا يجيزه الحنفية.
(1) صحيح مسلم الأشربة (2003)، سنن الترمذي الأشربة (1861)، سنن أبو داود الأشربة (3679)، سنن ابن ماجه الأشربة (3390)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 98).
رابعا: قال الطحاوي من الحنفية إن الأحاديث التي استدل بها الجمهور - سالفة الذكر - متعارضة، ووجه التعارض عنده أن حديث أبي هريرة نص على أن الخمر تتخذ من شيئين فقط بينما نص حديث عمر ومن خالفه على أنها تتخذ من غيرهما، وكذلك حديث ابن عمر لقد حرمت الخمرة وما بالمدينة منها شيء مع حديث أنس حيث ورد في بعض ألفاظه أن الخمر حرمت وشرابهم الفضيخ، وفي لفظ له " وإنا نعدهم يومئذ خمرا " وإليك ما قاله الطحاوي:" وقلما اختلف الصحابة في ذلك ووجدنا اتفاق الأئمة على أن عصير العنب إذا اشتد وغلا وقذف بالزبد فهو خمر وإن مستحلة كافر دل على أنهم لم يعملوا بحديث أبي هريرة، إذ لو عملوا به لكفروا مستحل نبيذ الخمر، فثبت أنه لم يدخل في الخمر غير المتخذ من عصير العنب ".
وأجاب الجمهور: بأنه لا تعارض بين الأحاديث والآثار التي استدلوا بها وأن الجمع بينها ممكن، وذلك بحمل حديث أبي هريرة على الغالب، وخص ما يتخذ من العنب والتمر بالذكر لأن أكثر الخمر منهما، ولأن أغلى الخمر وأنفسه عند أهله ما صنع منهما، وهذا نحو قولهم: المال الإبل، أي أكثره وأنفسه، والحج عرفة، ونحو ذلك، وليس فيه نفي الخمرية عن ما سوى المتخذ منهما، بدليل الأحاديث الصحيحة الدالة على اتخاذ الخمر من غيرها، كحديث ابن عمر عند أحمد، وحديث النعمان بن بشير، وغاية ما هناك أن مفهوم الخمر المدلول عليه باللام معارض بالمنطوقات وهي أرجح بلا خلاف.
ويحمل حديث ابن عمر عند البخاري وحديث النعمان بن بشير ومن وافقهما على إرادة استيعاب ذكر ما عهد حينئذ أنه يتخذ من الخمر.
أما قول ابن عمر: ما بالمدينة منها شيء فيحمل على إرادة تثبيت أن الخمر يطلق على ما لا يتخذ من غير العنب. أو يحمل على إرادة المبالغة، فأطلق نفي وجود ما بالمدينة وإن كانت موجودة بقلة، فإن تلك القلة بالنسبة لكثرة المتخذ مما عداها كالعدم.
ولا يلزم من كونهم لم يكفروا مستحل النبيذ أن يمنعوا تسميته خمرا فقد يشترك الشيئان في التسمية ويفترقان في بعض الأوصاف مع أنه هو يوافق على أن حكم المسكر من نبيذ التمر حكم قليل العنب في التحريم.
ومما تقدم يظهر أنه لا يوجد تعارض بين الأحاديث والآثار، وهذا أولى من حمل بعضها على الحقيقة وبعضها على مجاز التشبيه بدون دليل كما في فتح القدير، حيث إن بعض تلك الآثار ما يأتي أن يكون تشبيها كقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبته " نزل تحريم الخمر وهو من خمسة: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل " فهل يمكن أن تعني نزل تحريم ما يشبه الخمر وهي من خمسة العنب والتمر والشعير. . . إلخ. اللهم إلا أن يكون من قبيل الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو ما لا يجيزه الحنفية.
كما أورد بعضهم على هذه الأحاديث والآثار بأنه يحتمل أن ما فيها بيان للاسم الشرعي لا اللغوي. وهذا التعقيب ضعيف ولا يغني عن الحنفية شيئا؛ لأنهم لا يقولون إن المسكر من غير عصير العنب داخل في عموم الآية شرعا.
والأحاديث الصحيحة في تحريم قليل ما يسكر كثيرة من أي مادة اتخذ، ووجه ضعفه أن لفظ الخمر ليس اسما لعمل شرعي لم يكن معروفا قبل الشرع. فلما جاء به الشرع أطلق عليه كلمة من اللغة تتناوله بطريق المجاز اللغوي، بل هو اسم لنوع من الشراب يمتاز عن سائر الأشربة بالإسكار، وهذه التسمية معروفة عند العرب قبل نزول ما نزل من آيات تحريم الخمر، وقد نزلت آية البقرة جوابا عن سؤال سألوه عن الخمر ولم يقل أحد من مفسري السلف ولا الخلف ولا خطر على بال أحد أنهم سألوه عليه الصلاة والسلام عن خمر عصير العنب خاصة وأنها هي المقصودة بالجواب بأن فيها إثما كبيرا ومنافع للناس، وأن غيرها ألحق بها في التحريم بطريق القياس أو بتفسير النبي والصحابة للخمر الشرعية، وقد ذكر المفسرون في أسباب النزول أنه لم يشق عليهم تحريم شيء كما شق عليهم تحريم الخمر، وأن بعضهم كان يود لو يجد مخرجا من تحريمها بآية المائدة كما وجد المخرج من آية البقرة الدالة على تحريم الخمر بتسميتها إثما مع تصريح القرآن قبل ذلك بتحريم الإثم، ولأجله تركها بعضهم وتنصل منه آخرون بتخصيص الإثم بما كان ضررا محضا لا منفعة فيه، والنص قد أثبت أن في الخمر منافع وقد أهرقوا ما كان عندهم من الخمر عند الجزم بالنهي عنها، وقلما كان يوجد عندهم من خمر العنب شيء، فلو كان مسمى الخمر في لغتهم ما كان مسكرا من عصير العنب لما بادروا إلى إهراق ما كان عندهم.