الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تدوين السنة
في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم
- -.
رأينا كيف أن للسنة النبوية - باعتبارها أصلا من أصول الإسلام - مكانتها الكبرى التالية مباشرة لمكانة القرآن: فهي - كما أسلفنا القول - تبين القرآن، فمن أنكرها فقد أنكر - على الحقيقة - القرآن نفسه، ومن خالفها فقد خالفه.
وقد جرى على هذا - عقيدة وعملا، منذ فجر الإسلام - كبار الصحابة ثم كبار التابعين، ثم تابعوا تابعيهم إلى اليوم والغد وإلى يوم الدين (1).
وقد حذرت السنة نفسها من الكذب فيها أو عدم التثبت في روايتها:
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (2)» ، وقال:«من حدث بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين (3)» (روي على صيغة التثنية والجمع).
ولكن الثابت عند أغلب علماء السنة أن الأحاديث النبوية لم تكتب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وذلك امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن، ومن كتب شيئا فليمحه (4)» وقد ذكر العلماء أن هذا النهي كان لمنع الناس من أن يلتبس على بعضهم الحديث النبوي بالقرآن الذي كان الوحي يتنزل به على الرسول تباعا، وأن النهي كان أيضا لمنع الناس من أن تشغلهم السنة عن الكتاب.
وقد ذكر ابن حجر العسقلاني وغيره سببين آخرين لتأخر تدوين السنة عن
(1) انظر: محمد مصطفى الأعظمي: دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه ج1 ص12 - 20.
(2)
صحيح البخاري الجنائز (1291)، صحيح مسلم مقدمة (4)، سنن الترمذي الجنائز (1000)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 252).
(3)
صحيح مسلم مقدمة (1)، سنن الترمذي العلم (2662)، سنن ابن ماجه المقدمة (41).
(4)
رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري.
العهد النبوي هما: (الأول): أن أكثر المسلمين وقتئذ لم يكونوا يعرفون الكتابة، (والثاني): أن الذاكرة الخارقة التي كانوا يتمتعون بها أغنتهم عن التدوين الكتابي.
وقد ناقش الأسباب كلها - في موضوعية ودقة - الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في رسالته: دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه (1).
على أن هناك أحاديث كتبها - فعلا - بعض الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإذن منه:
في الصحيحين: «أن أبا شاه اليمني التمس من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب له شيئا سمعه من خطبته عام الفتح، فقال: اكتبوا لأبي شاه (2)» .
وفي صحيح البخاري: أن أبا هريرة كان يقول: " لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص، فإنه كان يكتب وأنا لا أكتب "(4).
وفي سنن الدارمي (5): روى يحيى بن أيوب عن أبي قبيل، عن عبد الله بن عمرو، قال:" كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب ما يقول ". قال الذهبي: هذا حديث حسن غريب رواه سعد بن عفير عنه.
(1) ج1 ص73 وما بعدها.
(2)
صحيح البخاري الديات (6880)، صحيح مسلم الحج (1355)، سنن أبو داود العلم (3649)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 238).
(3)
سنن الترمذي العلم (2666).
(4)
باب العلم 39.
(5)
ج1 ص126.
وقد كتب أيضا الشيخ محمد الحافظ التيجاني كتابة نافعة وكاملة في موضوع تدوين السنة وإبطال احتجاج من ادعى أن الحديث لم يكتب في عصر النبوة والصحابة (1).
ولما لحق النبي صلى الله عليه وسلم بربه، وانقطع نزول القرآن، وكان المسلمون قد حفظوه في الصدور، ثم في السطور، وأصبح من المستحيل خلطه بحرف واحد أو حركة واحدة من عند غير الله، انتفى بالضرورة كل خوف من أن تلتبس أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بالنص القرآني فزاد عدد من يسجلون بالكتابة هذه الأحاديث:
روي عن سعيد بن جبير: أنه كان يجلس مع ابن عباس، فيسمع منه الحديث، فيكتبه في واسطة الرحل، فإذا نزل نسخه (2).
وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: " كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما يسمع، فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس (3).
وعن هشام بن عروة، عن أبيه، أنه احترقت كتبه يوم الحرة، في خلافة يزيد، وكان يقول:" لو أن عندي كتبي بأهلي ومالي "(4).
وصحيح أن الصحابة والتابعين كان بين بعضهم وبعض تفاوت في درجات العلم بالنسبة القولية والفعلية والتقريرية، وهو أمر طبيعي؛ لأن الصحابة لم يكونوا سواء في الصحبة والقرب من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأن التابعين أيضا لم يكونوا متماثلين أو متعادلين، ولكن هذا الاختلاف لم يفض غالبا إلى خطأ أو اضطراب يستحق الذكر، سواء في المتون أو في الشروح، فهم جميعا لم يألوا جهدا في تعهد السنة حفظا بألفاظها ومعانيها، وتطبيقا بحروفها وبروحها، وإعلاما بإبلاغها لمن لم يشهدها أو لم يشهد من شهدها، وبنقلها للأخلاف وتعليمهم إياها.
(1) انظر: كتابه: سنة الرسول الله صلى الله عليه وسلم ص29 - 71 ط، مجمع البحوث الإسلامية.
(2)
أبو شهبة: الكتب الصحاح الستة ص20.
(3)
أبو شهبة: الكتب الصحاح الستة ص20.
(4)
أبو شهبة: الكتب الصحاح الستة ص20.
هكذا حرص الصحابة والتابعون على السنة الحرص الذي ينبغي لها بوصفها أحد الشطرين الرئيسين والأصلين الأساسيين لشريعتهم ولميراثهم.
غير أنه جاء على المسلمين - في أعقاب عهد هؤلاء - حين من الدهر خافوا فيه على هذه السنة - وهي ما هي جوهر دين وارتفاع شأن - أن يضيع منها شيء إما لموت حفاظها وعلمائها - وإن الموت لواقع ماله من دافع - وإما لكيد الكفار والمنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام، ويبطنون خصومته ومناوأته، فكانوا يحاولون تمزيقه وتشويهه عن طريق تحريف الأحاديث وتبديلها أو اختلاقها أصلا، ونسبتها للرسول صلى الله عليه وسلم.
هناك عم الإحساس بشدة الحاجة إلى إجراء عام حاسم يمنع أسباب الضياع والفساد، ويتمثل هذا الإجراء في جمع السنة وتدوينها.
وقد تصدى لهذه المهمة التاريخية التي كان المسلمون يرقبونها خليفة المسلمين الراشد: عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:
كتب عمر إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الفقيه التابعي الذي كان أميرا على المدينة والذي ولي قضاءها: أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سننه، أو حديث عمرة، أو نحو هذا فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء (1) فكتبه له (2).
وكتب عمر نفسه إلى أبي بكر بن حزم نفسه أيضا أن افحص لي عن أسماء خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرجال والنساء ومواليه، فكتب إليه (3).
ويلخص ابن حجر العسقلاني ذلك الموقف فيقول: " قال العلماء: كره
(1) ابن سعد: الطبقات الكبرى ج8 ص353.
(2)
الرازي: الجرح والتعديل.
(3)
ابن سعد: الطبقات الكبرى ج8 ص353.
جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث، واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظا، لكن لما قصرت الهمم، وخشي الأئمة ضياع العلم دونه، وأول من دون الحديث: ابن شهاب الزهري، على رأس المائة، بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين، ثم كثر التصنيف، وحصل بذلك خير كثير، فلله الحمد " (1).
وقد اختلفت مناهج جمع السنة وتدوينها:
فمن الجامعين - في أول عهد الجمع - من كان يخلط بالأحاديث النبوية أقوال الصحابة وفتاوي التابعين.
ومنهم من ألف المسانيد التي تجمع أحاديث كل صحابي على حدة بصرف النظر عن الموضوع، والمثل في هذه الطريقة: مسند الإمام أحمد.
ومنهم من أقاموا جمعهم على أساس الأبواب الفقهية، فيبدأ مثلا بذكر الأحاديث النبوية في موضوع الصلاة، ثم في موضوع الصوم، ثم في الحج، وهكذا.
ومن هؤلاء وأولئك من لم يختر مادة لجمعه سوى الأحاديث الصحاح، مثلما فعل الشيخان: البخاري ومسلم، ومنهم من أورد الأحاديث بمختلف مراتبها مكتفيا بذكر أسانيدها للقراء يرون فيها رأيهم.
والمهم أن الإخلاص في نقل السنة والتشدد في روايتها ودراستها متونا وأسانيد، والتزام شروطها وقواعدها كان ديدن هؤلاء الجامعين الدارسين، وكم منهم من ركب الظلام، وخاض القفار، وصبر على اللأواء، وحرارة القيظ وصبارة القر، من أجل التماس حديث، أو فحص حال محدث، أو تصحيح خبر، أو تمحيص مروية.
وقد دعاهم إلى هذه الرحلات الشاقة ما هو معلوم من أن الصحابة والتابعين، لما فتح الله عليهم الأمصار شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، ارتحلوا إليها وسكنوها، وقد كانوا - بالضرورة - يحملون أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، مما يمكن أن لا يكون من محفوظات غيرهم، فقصد إليهم الحديثيون ليأخذوا عنهم.
(1) فتح الباري ج1 ص208.