الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي تحريم الخمر بهذا الترتيب حكمة بليغة، وذلك أن القوم ألفوا شرب الخمر وأصبحت جزءا من حياتهم، فلو حرمت عليهم دفعة واحدة لشق ذلك على نفوسهم، فإنه من الصعب جدا أن يتركوا شرابا طالما عاقروه وشبوا عليه وشابوا، فلو أمروا بترك الخمر أول مرة لكان ذلك صادا للكثير من المدمنين عليها عن الإسلام، بل عن النظر الصحيح المؤدي إلى الاهتداء به، ولذلك روي أن الأعشى لما توجه إلى المدينة ليسلم لقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له: أين تذهب؟ فأخبرهم بأنه يريد محمدا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لا تصل إليه فإنه يأمرك بالصلاة، فقال: إن خدمة الرب واجبة. فقالوا: إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء، فقال: اصطناع المعروف واجب، فقيل له: إنه ينهى عن الزنا، فقال: هو فحش وقبيح في العقل وقد صرت شيخا فلا أحتاج إليه، فقيل له: إنه ينهي عن شرب الخمر، فقال: أما هذا فإني لا أصبر عليه فرجع وقال: أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه. فلم يصل إلى منزله حتى سقط عن البعير فانكسرت عنقه فمات.
الوقت الذي حرمت فيه الخمر
اختلف في بيان الوقت الذي حرمت فيه الخمر، فقال الدمياطي في سيرته بأنه كان عام الحديبية، والحديبية كانت سنة ست من الهجرة. وذكر ابن إسحاق أنه كان في وقعة بني النضير وهي بعد أحد، وذلك سنة أربع على الراجح.
قال صاحب الفتح وفيه نظر، لأن أنسا كان الساقي يوم حرمت، وأنه لما سمع المنادي بتحريمها بادر بإراقتها، فلو كان ذلك سنة أربع لكان يصغر عن ذلك، وأضاف قائلا: والذي يظهر أن تحريمها كان عام الفتح سنة ثمان، لما روى أحمد من طريق عبد الرحمن بن وعلة قال: سألت ابن عباس عن بيع الخمر فقال: «كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف أو دوس؟ فلقيه يوم الفتح بروية يهديها إليه، فقال: يا فلان أما علمت أن الله حرمها؟ فأقبل الرجل على غلامه فقال: اذهب فبعها، فقال إن الذي حرم شربها حرم بيعها (1)» .
ولا مانع من صحة الأقوال المذكورة كلها حيث يمكن الجمع بينها، وذلك بأن يحمل ما ذكره الدمياطي على تحريم المسكر في الأوقات القريبة من القيام إلى الصلاة
(1) صحيح مسلم المساقاة (1579)، سنن النسائي البيوع (4664)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 230)، موطأ مالك الأشربة (1598)، سنن الدارمي البيوع (2571).
بآية النساء، وما ذكره ابن إسحاق يحمل على الذم والتنفير من شربها، ويحمل ما أيده صاحب الفتح على التحريم القطعي في جميع الأوقات وكان ذلك عام الفتح.
في تعليل حرمة الخمر
اختلف الفقهاء في تعليل حرمة الخمر بالإسكار:
فقال الحنفية: إن الخمر محرمة لعينها، بمعنى أنه يحرم قليلها وكثيرها لا بسبب الإسكار بل أن عينها حرمة، وإلا لو كان علة التحريم هو الإسكار لم يثبت التحريم حتى يثبت العلة وهي الإسكار أو مظنته من الكثير. وعلة التحريم في الخمر أنه ماء رقيق ملذ مطرب يدعو قليله إلى كثيره، وذهب الجمهور إلى أن حرمة الخمر معللة بالإسكار.
الأدلة: استدلال الجمهور بالقرآن والسنة والمعقول. أما الكتاب فقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1){إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2) وجه الدلالة: أنه سبحانه وتعالى بين أن الخمر توقع في العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ولا شك أن هذه الأفعال معلقة بالسكر، فعلى هذا تكون الآية الكريمة نصا في أن حرمة الخمر معللة بالإسكار.
واستدلوا من السنة بما يلي:
(1)
(2)
ما رواه ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام (4)»
(3)
ما روته عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع وهو نبيذ
(1) سورة المائدة الآية 90
(2)
سورة المائدة الآية 91
(3)
صحيح مسلم الأشربة (2002)، سنن النسائي الأشربة (5709)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 361).
(4)
صحيح مسلم الأشربة (2003)، سنن الترمذي الأشربة (1861)، سنن أبو داود الأشربة (3679)، سنن ابن ماجه الأشربة (3390)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 98).
العسل وكان أهل اليمن يشربونه فقال: كل شراب أسكر فهو حرام (1)»
(4)
وما روته عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام (2)» .
وجه الدلالة: تظهر بوضوح في تلك النصوص الصريحة؛ حيث علق عليه الصلاة والسلام التحريم على وجود الإسكار، فدل ذلك على أن العلة هي الإسكار في تلك الأشربة، والخمر شراب من الأشربة المحرمة فكانت حرمتها معللة به.
ورد على الجمهور في الأحاديث السالفة بأنه علق التحريم فيها على الإسكار في الأنبذة وهي تخالف الخمر.
وأجاب الجمهور بأن الجميع خمر كما سبق تحقيق ذلك.
أما استدلالهم بالمعقول فأورده الإمام النووي حيث قال: " إذا شرب الشخص سلافة العنب عند اعتصارها وهي حلوة لم تسكر فهي حلال بالإجماع، وإن اشتدت وأسكرت حرمت بالإجماع، فإن تخللت من غير تخليل آدمي حلت، فنظرنا إلى مستبدل هذه الأحكام وتجددها عند تجدد الصفات وتبدلها، فأشعرنا ذلك بارتباط هذه الأحكام بهذه الصفة، وقام ذلك مقام التصريح بالنطق فوجب جعل الجميع سواء في الحكم وأن الإسكار هو علة التحريم ".
وقال المارزي: " أجمعوا على أن عصير العنب قبل أن يشتد حلال على أنه إذا اشتد وغلا وقذف بالزبد حرم قليله وكثيره، ثم لو حصل له تخلل بنفسه حل بالإجماع أيضا، فوقع التطرف بتبدل هذه الأحكام عند هذه المتخذات ".
فأشعر ذلك بارتباط بعضها ببعض ودل على أن علة التحريم الإسكار، فاقتضى ذلك أن كل شراب وجد فيه الإسكار حرم تناول قليله وكثيره.
واستدل الحنفية بالسنة
ذلك بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بين الصفا والمروة أسبوعا ثم استند إلى حائط من حيطان مكة فقال هل من شربة؟ فأتي بقعب من نبيذ فذاقه فقطب ورده، فقام إليه رجل من أهل حاطب فقال يا رسول الله هذا شراب أهل مكة. قال فصب
(1) صحيح البخاري الأشربة (5586)، صحيح مسلم الأشربة (2001)، سنن الترمذي الأشربة (1863)، سنن النسائي الأشربة (5594)، سنن أبو داود الأشربة (3682)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 97)، موطأ مالك الأشربة (1595)، سنن الدارمي الأشربة (2097).
(2)
صحيح البخاري المغازي (4343)، صحيح مسلم الأشربة (1733)، سنن ابن ماجه الأشربة (3391)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 417)، سنن الدارمي الأشربة (2098).
عليه الماء ثم شرب ثم قال: «حرمت الخمر بعينها والسكر من كل شراب (1)»
وجه الدلالة: واضح من الحديث حيث بين عليه الصلاة والسلام أن الخمر محرمة لعينها لا لإسكارها على خلاف غيرها من الأشربة المسكرة، فإنه لا يحرم منها إلا القدر المسكر، وعليه فتكون حرمة الخمر غير معللة بالإسكار بدليل إجماع العلماء على تحريم القليل منها مع أنه غير مسكر.
ورد عليهم الجمهور: بأن الحديث الذي استدلوا به لا يقوم على مدعاهم لضعفه، حيث إن في سنده محمد بن الفرات، وقد نقل عن يحيى بن معين أنه قال عنه بأنه ليس بشيء، ونقل عن البخاري أنه قال: منكر الحديث، وقال العقيلي: لا يتابع عليه، ومنه يظهر أنه لا يقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة المتقدمة في تعليل حرمة الخمر بالإسكار. وعلى فرض أن الحديث خال من الضعف وأنه غير معارض بالأحاديث الصحيحة فلا يدل أيضا على نفي تعليل تحريمها بالإسكار بحسب الشأن وهو ما تشهد له الآية الكريمة؛ حيث علل سبحانه حرمتها بإيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، والقليل لا يحدث معه شيء مما تحدثت عنه الآية ومع ذلك فإنه سبحانه سوى بين القليل والكثير في التعليل، وعليه فيترجح مذهب الجمهور لسلامة أدلتهم وقوتها.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الشيخ مساعد المعتق
(1) سنن النسائي الأشربة (5684).
صفحة فارغة
صلاحية التشريع الإسلامي للبشر كافة
بقلم الدكتور عبد الله بن محمد العجلان
- من مواليد مدينة البرة عام 1355 هـ، تخرج من كلية الشريعة بالرياض، ثم حصل على درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء، ومن ثم نال درجة الدكتوراه عام 1395 هـ في أصول الفقه من جامعة الأزهر.
- عمل مديرا لتعليم البنات، ثم أمينا عاما لكليات البنات، ويعمل وكيلا للرئيس العام لتعليم البنات لشئون الكليات.
- له مشاركات في مجال المحاضرات والندوات والأحاديث الإذاعية والتليفزيونية.