الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة: في بيان حكم ما ذكي بعد قيام سبب الموت
من المنخنقة والموقوذة إلخ مع الاستدلال والترجيح.
الأصل الذي يرجع إليه في أحكام هذه المسألة قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} (1) فقد بين جل شأنه في هذه الآية الحكم في كثير من الأنواع، ومنها المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع. والحديث عن هذه الخمسة يشمل بيان المراد بكل منها، ومناسبة ذكرها بعد ما قبلها من المحرمات، وبيان خلاف العلماء في نوع الاستثناء الوارد في الآية الكريمة، ثم بيان الخلاف بين الفقهاء في ضابط الحياة التي تعمل معها التذكية في هذه المذكورات مع الاستدلال والترجيح:
أولا بيانها: المنخنقة: هي التي تموت خنقا - والخنق: حبس النفس سواء فعل ذلك بها آدمي أو اتفق لها ذلك في حبل أو بين عودين أو غير ذلك. وقد ذكر أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها.
والموقوذة: الوقذ شدة الضرب - والمراد بالموقوذة هنا: التي ترمى أو تضرب بحجر أو عصا أو غير ذلك حتى تموت من غير تذكية - قيل: كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك بالحيوان ويأكلونه.
والمتردية: الردى: الهلاك. والمراد بالمتردية هنا التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت - سواء تردت بنفسها أم رداها غيرها - وكانت الجاهلية تأكل المتردي من الأنعام.
والنطيحة: فعيلة بمعنى مفعولة وهي الشاة ينطحها غيرها فتموت بذلك.
وما أكل السبع: ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان كالأسد والنمر والذئب. وفي الكلام إضمار - أي ما أكل منه السبع - لأن ما أكله السبع فقد فني.
(1) سورة المائدة الآية 3
وكانت الجاهلية لا تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحوه دون سبب يعرف، فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة (1) التي ذكرها الله تعالى في الآية واحتجوا بأمرين:
الأول: أنه قد ذكر في الآية أشياء لا ذكاة لها وهي الميتة والخنزير " قالوا وإنما معنى الآية: حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما سمينا مع ذلك، لكن ما ذكيتم مما أحله الله لكم بالتذكية فإنه لكم حلال "(2) فتكون (إلا) بمعنى (لكن)" أي حرمت عليكم هذه الأشياء لكن ما ذكيتم فهو الذي يحل ولا يحرم "(3).
الثاني: " أن التحريم لم يتعلق بأعيان هذه الأصناف وهي حية وإنما تعلق بها بعد الموت وإذا كان كذلك فالاستثناء منقطع وذلك أن معنى قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (4) إنما هو لحم الميتة وكذلك لحم الموقوذة والمتردية والنطيحة وسائرها. أي لحم الميتة بهذه الأسباب. . . فلما علم أن المقصود لم يكن تعليق التحريم بأعيان هذه وهي حية وإنما علق بها بعد الموت؛ لأن لحم الحيوان محرم في حال الحياة بدليل اشتراط الذكاة فيها، وبدليل قوله عليه الصلاة والسلام: «ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت (5)» وجب أن يكون قوله: {إلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (6) استثناء منقطعا "(7) ويكون المراد بالمنخنقة وما ذكر معها على هذا ما مات بالإصابة أو بلغ حالة يغلب على الظن أنه لا يعيش معها. فلا يعمل فيها الاستثناء. ويكون فائدة ذكر هذه الأشياء بعد الميتة الرد على أهل الجاهلية الذين لا يعدون الميتة من الحيوان إلا ما مات من علة عارضة به غير الانخناق والتردي والانتطاح وفرس السبع، فأعلمهم الله أن حكم ذلك حكم ما مات من العلل العارضة (8).
(1) نقلت تفسير هذه المذكورات وما يتعلق به من تفسير القرطبي ص48 - 49 ج6 باختصار وتصرف.
(2)
تفسير ابن جرير ص505 ج9.
(3)
فتح القدير للشوكاني ص9 ج2.
(4)
سورة المائدة الآية 3
(5)
أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه واللفظ له / بلوغ المرام من أدلة الأحكام ص4.
(6)
سورة المائدة الآية 3
(7)
تفسير ابن جرير ص505 ج9.
(8)
تفسير ابن جرير ص507 ج9.
الترجيح: والراجح أن الاستثناء متصل كما قال الجمهور:
" لأن حق الاستثناء أن يكون مصروفا إلى ما تقدم من الكلام ولا يجعل منقطعا إلا بدليل يجب التسليم به "(1) ولا دليل فيبقى على الأصل.
رابعا: بيان الخلاف في ضابط الحياة التي تعمل معها التذكية في المذكورات وفي ذلك أقوال:
القول الأول: أنه إذا ذكاها وفيها حياة ولو قلت فهي حلال وهذا قول أبي حنيفة (2) ورواية عن أحمد (3) لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (4) إلى قوله تعالى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (5) فاستثنى سبحانه وتعالى المذكى من جملة المحرمات، والاستثناء من التحريم إباحة، وهذه مذكاة لوجود فري الأوداج مع قيام الحياة فدخلت تحت النص (6) وهذا القول عليه الفتوى عند الحنفية (7) فيكفي وجود مطلق الحياة.
القول الثاني: لا يحل شيء من هذه المذكورات إلا إذا أدرك وفيه الحياة مستقرة فذكي وهو قول الحنابلة (8) والشافعية (9) ووجه هذا القول: أنه إذا لم يكن فيه حياة مستقرة كانت في حكم الميتة تلحقها بالذكاة لكن اختلفوا فيما تعرف به الحياة المستقرة. فعند الشافعية أنها تعرف بعلامات وقرائن لا تضبطها العبارة، منها الحركة الشديدة بعد قطع المريء والحلقوم وانفجار الدم وتدفقه (10) وعند الحنابلة: تعرف بالحركة، فإن كانت تزيد حركة المذبوح حلت، وإن صارت حركتها كحركة
(1) تفسير القرطبي ص50 ج6.
(2)
بدائع الصنائع ص50 ج5.
(3)
حاشية المقنع ص 539 - 549 ج3.
(4)
سورة المائدة الآية 3
(5)
سورة المائدة الآية 3
(6)
البدائع.
(7)
حاشية ابن عابدين ص 303 ج5.
(8)
المقنع بحاشيته ص 539 ج3.
(9)
المجموع للنووي ص89 ج9.
(10)
المجموع للنووي ص89 ج9.
المذبوح لم تحل (1) وبعض الحنابلة يقرر ذلك بالزمن فيقول: إن كانت تعيش معظم اليوم حلت بالذكاة، ورد ذلك صاحب المغني ثم قال: والصحيح أنها إذا كانت تعيش زمنا يكون الموت بالذبح أسرع منه (أي من الموت بالإصابة) حلت.
القول الثالث: أن ما يغلب على الظن أنه يموت بالإصابة لا يحل بالذكاة وهذا قول مالك (2) ورواية عن أحمد (3) وذلك بأن تكون منفوذة بعض المقاتل كمقطوعة النخاع والتي انتثر دماغها أو بانت حشوتها أو فري ودجها. ووجه هذا القول: أنها إذا كانت كذلك صارت ميتة حكما فلا تعمل فيها ذكاة (4).
وملخص هذه الأقوال: القول الأول يكتفى بمجرد وجود حياة في الحيوان المصاب بحيث يمكن تذكيته قبل أن يموت، والقول الثاني يقول: لا بد من حياة أكثر من ذلك بحيث تكون حياة مستقرة تتحدد زمنا أوسع وتعرف بالأمارات كالحركة القوية ونحوها على ما مر. والقول الثالث يقول لا بد من حياة مستمرة بحيث لو ترك الحيوان لعاش، فإن كانت الإصابة قاتلة لم تعمل فيه الذكاة.
الترجيح - والراجح من هذه الأقوال هو القول الأول؛ لأنه هو الذي يتمشى مع ظاهر الآية: {إلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (5) فإذا أدرك وفيه حياة فذكي فقد تناوله عموم الآية.
ومما يدل على هذا أيضا واقعة حصلت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم «هي أن جارية لكعب بن مالك رضي الله عنه (7)» فقوله: (فأدركها فذكتها) يدل على أنها بادرتها بالذكاة حين خافت موتها في ساعتها، واشتراط الحياة المستقرة أو اشتراط أن لا تكون الإصابة قاتلة يخالف ظاهر النصوص. وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن
(1) المقنع بحاشيته ص 539 ج3.
(2)
الشرح الكبير للدردير ص 113 ج2.
(3)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ص 237 ج35.
(4)
الشرح الصغير ص 176 ج2.
(5)
سورة المائدة الآية 3
(6)
رواه البخاري في صحيحه ص 632 ج9 من فتح الباري.
(7)
(6) كانت ترعى غنما بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها فذبحتها بحجر، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال كلوها
تيمية رحمه الله في جواب عن سؤال ورد إليه في هذا الموضوع رأينا أن نسوقه بتمامه لفائدته العظيمة.
قال رحمه الله: " الحمد لله رب العالمين - قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (1) وقوله تعالى: {إلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (2) عائد إلى ما تقدم من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع عند عامة العلماء كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم، فما أصابه قبل أن يموت أبيح. لكن تنازع العلماء فيما يذكى من ذلك. فمنهم من قال: ما تيقن موته لا يذكى كقول مالك ورواية عن أحمد. ومنهم من يقول: ما يعيش معظم اليوم ذكي، ومنهم من يقول: ما كانت فيه حياة مستقرة ذكي كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد. ثم من هؤلاء من يقول: الحياة المستقرة ما يزيد على حركة المذبوح. ومنهم من يقول: ما يمكن أن يزيد على حياة المذبوح.
والصحيح: أنه إذا كان حيا فذكي حل أكله ولا يعتبر في ذلك حركة مذبوح. فإن حركات المذبوح لا تنضبط، بل فيها ما يطول زمانه وتعظم حركته. وقد قال صلى الله عليه وسلم:«ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا (3)» فمتى جرى الدم الذي يجري من المذبوح. . . . حل أكله. والناس يفرقون بين دم ما كان حيا ودم ما كان ميتا. فإن الميت يجمد دمه ويسود؛ ولهذا حرم الله الميتة لاحتقان الرطوبات فيها. فإذا جرى منها الدم الذي يخرج من المذبوح الذي ذبح وهو حي حل أكله وإن تيقن أنه يموت (أي بالإصابة). . .
فعمر بن الخطاب رضي الله عنه تيقن أنه يموت وكان حيا وجازت وصيته وصلاته وعهوده. وقد أفتى غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم بأنها إذا مصعت بذنبها أو طرفت بعينها أو ركضت برجلها بعد الذبح حلت، ولم يشرطوا أن تكون حركتها قبل ذلك أكثر من حركة المذبوح. وهذا قاله الصحابة؛ لأن الحركة دليل الحياة
(1) سورة المائدة الآية 3
(2)
سورة المائدة الآية 3
(3)
صحيح البخاري الذبائح والصيد (5498)، سنن النسائي الضحايا (4404)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 463).