الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثامن: زاد الشيخ أحمد إبراهيم في طرق الإثبات الشرعية: أن يكون الشاهد متذكرا لها على وجهها تماما، فإن فاته شيء مما رأى أو اختلط عليه الأمر فلا يجب عليه أداء الشهادة، فإن أجبر على الأداء فعليه أن يقول ما يعرفه يقينا فقط ويمتنع عن غيره أو يسوقه مساق التردد إذا كان الأمر قد اشتبه عليه ولا سيما لطول الزمن (1).
هذه جملة ما اشترط بعض الفقهاء لوجوب أداء الشهادة على الشاهد، ولكن إذا اجتمعت جميع هذه الشروط في الشاهد وأخرت الشهادة لغير عذر ظاهر ثم شهد فما الحكم؟
قيل: لا تقبل لتمكن الشبهة، وقيل: الأوجه القبول، ويحمل على العذر من نسيان ثم تذكر. ورجح القول بعدم قبولها لفساد الزمان (2).
(1) طرق الإثبات الشرعية لأحمد إبراهيم ص 132.
(2)
الأصول القضائية لعلي قراعة ص 149.
حكم الشهادة فيما كان من حقوق الله:
مما سبق عرفنا حكم الشهادة فيما يتعلق بحقوق الآدميين، وهي ما لهم إسقاطها، أما ما يتعلق بحقوق الله عز وجل، وهي ما ليس للمكلف إسقاطها فإنها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما لا يستدام فيه التحريم كالزنا، وشرب الخمر (1).
(1) مواهب الجليل ج6 ص163، المنتقى شرح الموطأ ج5 ص188، الخرشي على مختصر خليل ج7 ص 187.
فمن كانت عنده شهادة في حد الله تعالى فالمحتسب مخير بين أمرين:
الأمر الأول: الستر على الجاني أو الجناة، وهو شيء فضيل، ومحبوب عند الله وعند المؤمنين من عباده.
وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم عليه في عدة مواضع منها:
1 -
ما روى مسلم بسنده عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله بها كربة من كرب يوم القيامة. ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة (1)» . وفي رواية لأبي هريرة: «لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة (2)» .
يدل هذا الحديث الشريف على فضل إعانة المسلم وتفريج الكرب عنه وستر زلاته، وقيل إن الستر المندوب إليه هنا يراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس معروفا بالأذى والفساد، فأما المعروف بذلك فيستحب عدم الستر عليه، بل ترفع قضيته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة، لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات وجسارة غيره على مثل فعله، هذا في ستر معصية وقعت وانقضت.
أما أن يراه على معصية وهو متلبس بها فإنه تجب عليه المبادرة بإنكارها ومنعه منها، متى كان قادرا على ذلك، ولا يحل تأخيرها، فإن عجز رفعها إلى ولي الأمر، إذا لم تترتب على ذلك مفسدة.
وأما جرح الرواة والشهود والأمناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم فيجب جرحهم عند الحاجة، ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة، وهذا مجمع عليه.
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442)، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580)، سنن الترمذي الحدود (1426)، سنن أبو داود الأدب (4893)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 68).
(2)
صحيح مسلم ج4 ص 1996، 2002، صحيح مسلم بشرح النووي ج16 ص 134، 135، 143.
قال العلماء في القسم الأول الذي يستر فيه: " هذا الستر مندوب فلو رفعه إلى السلطان ونحوه لم يأثم بإجماع ولكن هذا خلاف الأولى، وقد يكون في بعض صوره ما هو مكروه ".
قال في مواهب الجليل: " وأما في أصحاب الحديث وحملة العلم المقلدين فيجب على من عرف أحوالهم السيئة ممن يقلد في ذلك ويلتفت إلى قوله أن يكشف أحوالهم لئلا يغتر بهم الناس ويقلد في دين الله من لا يجب تقليده، وعلى هذا اجتمع رأي الأئمة قديما وحديثا ".
وليس الستر هاهنا بمرغب فيه ولا مباح، وليس في الحديث ما يدل على الإثم في كشفه ورفعه إلى السلطان، وإنما فيه الترغيب على ستره، ولا خلاف أن رفعه للسلطان وكشفه لمعصية الله مباح له في هذه الحالة غير مكروه ولا ممنوع متى كانت نيته من أجل حصول عصيان المكشوف لله دون قصد كشف ستره للانتقام منه، لكنه لو قصد التشفي والانتقام فإنه يحرم منه ذلك لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1).
2 -
وقوله صلى الله عليه وسلم: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة. ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (2)» .
يدل هذا الحديث على فضل الستر على المسلمين وقد سبق إيضاح ذلك عند الكلام على الحديث السابق.
(1) سورة النور الآية 19
(2)
أخرجه مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، انظر: صحيح مسلم ج4 ص2074 صحيح مسلم بشرح النووي ج17 ص21.
3 -
وما روى عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة (1)» .
يدل هذا الحديث أن ستر العورات أمر جليل، وأن من رأى عورة وسترها فإن ثوابه من الله جزيل. وفي هذا حث كبير على ستر العورات.
4 -
وما أخرج أبو داود بسنده عن يزيد بن نعيم بن هزال الأسلمي عن أبيه «أن ماعزا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر عنده أربع مرات، فأمر برجمه، وقال لهزال: لو سترته بثوبك كان خيرا لك (2)» .
يدل هذا الحديث على اتجاه الشارع إلى دفع العقوبات قدر الاستطاعة وحبه للستر على المسلمين، لأنه صلى الله عليه وسلم وهو لا ينطق عن الهوى - حاول إرجاع ماعز عن إقراره، ولقنه ألفاظا تدل على صرف عبارة ماعز عن الجريمة التي يستحق العقاب عليها، فلو ذكر ماعز عبارة القبلة والغمز لسقط عنه الحد لعدم ثبوته بذلك، ولأن هزالا هو الذي أشار على ماعز أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويقر عنده ولم يكن شاهدا، لأن ماعزا إنما حد بإقراره، ومباشرة الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا التلقين بنفسه يدل على العطف
(1) رواه أبو داود بسنده عن عقبة بن عامر وسكت عنه، انظر: سنن أبي داود ج4 ص273.
(2)
انظر: سنن أبي داود ج4 ص134 واللفظ له، نصب الراية ج4 ص74، الموطأ ج2 ص821 ط دار إحياء الكتب العربية لعيسى الحلبي وشركاه، المستدرك ج4 ص363، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، جامع الأصول لأحاديث الرسول ج3 ص605. الدراية في تخريج أحاديث الهداية ج2 ص170.
والرحمة بالجاني ليترك أمره لله ليستغفر الله ويتوب إليه فيغفر له ويتوب عليه إن شاء، إنه هو التواب الرحيم (1).
هذا وقد تكلم الإمام كمال الدين بن الهمام في كتابه: شرح فتح القدير على الهداية عن هذا الحديث وغيره مما ورد في فضل الستر على المسلم وأفاض في ذلك ومما قال: " وتلقين ما يحصل به الدرء من رسول الله صلى الله عليه وسلم دلالة ظاهرة على قصده إلى الستر، والستر يحصل بالكتمان، فكان كتمان الشهادة بالحدود مخصوصا من عموم تحريم الكتمان "(2).
وصفوة القول في هذا أن الستر أفضل من الشهادة على الحدود للحديث السابق: «من ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة (3)» لكن إذا كان المشهود عليه متهتكا لا يبالي، فإن الشهادة عليه أفضل (4).
5 -
(1) انظر: نصب الراية ج4 ص76، نيل الأوطار مع المنتقي ج7 ص108، شرح فتح القدير على الهداية ج7 ص368.
(2)
شرح فتح القدير على الهداية ج7 ص368، بشيء قليل من التصرف.
(3)
صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699)، سنن الترمذي البر والصلة (1930)، سنن أبو داود الأدب (4946)، سنن ابن ماجه المقدمة (225)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 500).
(4)
طرق الإثبات الشرعية لأحمد إبراهيم ص185.
(5)
الموطأ ج2 ص825.
يدل هذا الحديث على كراهية إظهار الإنسان للناس ما ستره أفضل مما يحصل منه من مستقبح من قول أو فعل كالزنا وشرب الخمر والقذف، وأن الستر واجب على المسلم في خاصة نفسه إذا اقترف فاحشة، وكما يجب عليه ذلك في حق نفسه فإنه يجب عليه في حق غيره (1).
وقد أورد ابن القيم في كتابه: إعلام الموقعين عند كلامه عن اكتفاء الشارع بشاهدين في القتل دون الزنا، فقال:" وأما اكتفاؤه في القتل بشاهدين دون الزنا ففي غاية الحكمة والمصلحة، فإن الشارع احتاط للقصاص والدماء واحتاط لحد الزنى، فلو لم يقبل في القتل إلا أربعة لضاعت الدماء وتواثب العادون وتجرئوا على القتل، وأما الزنا فإنه بالغ في ستره كما قدر الله ستره، فاجتمع على ستره شرع الله وقدره، فلم يقبل فيه إلا أربعة يصفون الفعل وصف مشاهدة ينتفي معها الاحتمال، وكذلك في الإقرار، لم يكتف بأقل من أربع مرات حرصا على ستر ما قدر الله ستره، وكره إظهاره، والتكلم به، وتوعد من يحب إشاعته في المؤمنين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة "(2).
الأمر الثاني: أداء الشهادة حسبة لإقامة حد الله تعالى لما في ذلك من إزالة للفساد وتقليل له وهذا حسن، لما فيه من صيانة للمجتمع عن الرذائل التي قد تهبط به إلى درجة الانحطاط. والستر إنما يكون في غير المشتهرين، وأما المتكشفون المشتهرون الذين ستروا غير مرة ولم يجد ذلك فيهم فإن كشف أمرهم وقمع شرهم واجب، لأن كثرة الستر عليهم من المهاودة على معاصي الله ومصانعة أهلها، ولأنه لا إثم في كشف الستر ورفعه إلى الحاكم طالما أنه قصد بذلك إقامة حد الله لا للتشفي والانتقام، وهذا لا يعارض قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) سورة النور آية 19، لأن ظاهرها أنهم يحبون ذلك لأجل إيمانهم وذلك صفة الستر آية النهي عن كتمان الشهادة، لأنها في حقوق العباد
(1) الموطأ ج2 ص825، مواهب الجليل ج6 ص166.
(2)
إعلام الموقعين ص84.
(3)
سورة النور الآية 19
بدليل قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (1) سورة البقرة آية 282، إذ الحدود لا مدعي فيها.
ورد قول من قال: إنها في الديون بأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب (2).
هذا وبالرغم أن ما سبق فيه الكفاية إلا أنني أزيد عليه بما يتراءى لي مناسبته فأقول:
إن الذين يرتكبون الفواحش تجد هوى في نفوسهم، ومتى علموا بأنه سيتم الستر عليهم ولن يحصل لهم عقاب من جراء هذا الستر فإن منهم من يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ويسعى في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين، وما هذا من هؤلاء إلا رغبة في كثرة أمثالهم وعموم البلوى بهم ما يضمن لهم الاستمرار في غيهم، وقد قال الله تعالى في أمة محمد صلى الله عليه وسلم:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (4).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (5)» .
والستر على المعاصي ليس أمرا بالمعروف ولا نهيا عن المنكر بل يجعله يستمر في عمله ويعزم على ألا يتوب لا قدر الله.
وإذا كان الأمر بالشيء نهيا عن ضده فإننا قد أمرنا بالأمر بالمعروف ولذا فإننا منهيون عن السكوت عن الأمر، وإذا كان الأمر بالمعروف درجات بالنسبة لغير القادر فإنه يجب على القادر الراغب في الستر على العاصي أن ينصحه فيما بينهما بادئ
(1) سورة البقرة الآية 282
(2)
انظر: البحر الرائق ج7 ص59، تكملة رد المحتار ج7 ص70، مواهب الجليل ج6 ص163، مطالب أولي النهي ج6 ص594.
(3)
سورة آل عمران الآية 110
(4)
سورة آل عمران الآية 104
(5)
انظر: سنن ابن ماجه ج2 ص1330، صحيح مسلم ج1 ص69، سنن الترمذي ج4 ص470، سنن أبي داود ج4 ص123، سنن النسائي ج8 ص111، 112، ص18 من هذه الرسالة.
الأمر ويشعره بأنه ما لم يتب فإنه سوف يفضح أمره ليكون بذلك نذير خير وساتر شر، لا أن يستره فحسب، ليعرف العصاة أن العيون ترقبهم، وأن العقاب يترقبهم، وأن القلوب تؤنبهم، وأن المجتمع لن يتركهم، فمتى عادوا فسيحاسبهم، لأن المجرم في المجتمع بمثابة العضو المريض في الجسم فما لم يبادر لعلاجه بالنصح المقرون بالإنذار والذي هو بمثابة علاج الإسعاف الأولي فإنه قد يستشري المرض ومن ثم يخشى منه الانتقال لبقية أعضاء وأجزاء الجسم مما يتطلب بتر هذا العضو عند عدم جدوى علاجه قبل فوات الأوان وما خسر من أعان، ولا ربح من استهان واستكان.
القسم الثاني: ما يستدام فيه التحريم من حقوق الله تعالى من عتق، وطلاق، وخلع، وإيلاء، وظهار، ومصاهرة، ووقف ورضاع، وهذه يتعين على الشاهد المبادرة لأداء الشهادة عليها دون طلب من أحد وذلك لحماية حقوق الله تعالى ولمنع انتهاك حرماته، لأن حق الله تعالى يجب القيام بإثباته على كل مسلم، والشاهد من جملة من يجب عليهم ذلك فكان قائما بالخصومة من جهة الوجوب، وشاهدا من جهة تحمل ذلك فلم يحتج إلى خصم آخر. ويرى بعض الفقهاء أن القائم بالخصومة هو القاضي. ويشترط أن يكون المشهود عليه حاضرا في الإيلاء والظهار والمصاهرة.
د. عبد الله بن محمد الزبن