الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْهُمْ: " اشْهَدُوا عَلَيَّ أَنِّي أَمُوتُ وَمَا عَرَفْتُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّ الْمُمْكِنَ مُفْتَقِرٌ إِلَى وَاجِبٍ "، ثُمَّ قَالَ:" الِافْتِقَارُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ فَلَمْ أَعْرِفْ شَيْئًا "، وَقَالَ آخَرُ وَقَدْ نَزَلَتْ بِهِ نَازِلَةٌ مِنْ سُلْطَانِهِ فَاسْتَغَاثَ بِرَبِّ الْفَلَاسِفَةِ فَلَمْ يُغِثْ، قَالَ: فَاسْتَغَثْتُ بِرَبِّ الْجَهْمِيَّةِ فَلَمْ يُغِثْنِي، ثُمَّ اسْتَغَثْتُ بِرَبِّ الْقَدَرِيَّةِ فَلَمْ يُغِثْنِي، ثُمَّ اسْتَغَثْتُ بِرَبِّ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَمْ يُغِثْنِي، قَالَ: فَاسْتَغَثْتُ بِرَبِّ الْعَامَّةِ فَأَغَاثَنِي.
[فصل فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ التَّأْوِيلِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا]
فَصْلٌ
فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ التَّأْوِيلِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا
هُوَ تَفْعِيلٌ مِنْ آلَ يَئُولُ إِلَى كَذَا إِذَا صَارَ إِلَيْهِ، فَالتَّأْوِيلُ التَّصْيِيرُ، وَأَوَّلْتُهُ تَأْوِيلًا إِذَا صَيَّرْتُهُ إِلَيْهِ، قَالَ: وَتَأَوَّلَ وَهُوَ مُطَاوعُ أَوَّلْتُهُ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: التَّأْوِيلُ تَفْسِيرُ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ الشَّيْءُ، وَقَدْ أَوَّلْتُهُ وَتَأَوَّلْتُهُ بِمَعْنًى، قَالَ الْأَعْشَى:
عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَأَوَّلُ حُبَّهَا
…
تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَأَوُّلُ حُبِّهَا أَيْ: تَفْسِيرُهُ وَمَرْجِعُهُ، أَيْ إِنَّ حُبَّهَا كَانَ صَغِيرًا فِي قَلْبِهِ فَلَمْ يَزَلْ يَشِبُّ حَتَّى أَصْحَبَ فَصَارَ قَدِيمًا، كَهَذَا السَّقْبِ الصَّغِيرِ لَمْ يَزَلْ يَشِبُّ حَتَّى صَارَ كَبِيرًا مِثْلَ أُمِّهِ وَصَارَ لَهُ ابْنٌ يَصْحَبُهُ، وَالسَّقْبِ (بِفَتْحِ السِّينِ) وَلَدُ النَّاقَةِ أَوْ سَاعَةَ يُولَدُ أَوْ خَاصٌّ بِالذَّكَرِ.
ثُمَّ تُسَمَّى الْعَاقِبَةُ تَأْوِيلًا لِأَنَّ الْأَمْرَ يَصِيرُ إِلَيْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] ، وَتُسَمَّى حَقِيقَةُ الشَّيْءِ الْمُخْبَرِ بِهِ تَأْوِيلًا لِأَنَّ الْأَمْرَ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53] فَمَجِيءُ تَأْوِيلِهِ مَجِيءُ نَفْسِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْيَوْمِ الْآخِرِ
وَالْمَعَادِ وَتَفَاصِيلِهِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَيُسَمَّى تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا تَأْوِيلَهَا بِالِاعْتِبَارَيْنِ، فَإِنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهَا وَهُوَ عَاقِبَتُهَا وَمَا تَئُولُ إِلَيْهِ، وَقَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ:{يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100] . أَيْ حَقِيقَتُهَا وَمَصِيرُهَا إِلَى هَاهُنَا. انْتَهَى.
وَتُسَمَّى الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ وَالْحِكْمَةُ الْمَطْلُوبَةُ بِالْفِعْلِ تَأْوِيلًا لِأَنَّهَا بَيَانٌ لِمَقْصُودِ الْفَاعِلِ وَغَرَضِهِ مِنَ الْفِعْلِ الَّذِي لَمْ يَعْرِفِ الرَّائِي لَهُ غَرَضَهُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَضِرِ لِمُوسَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ لَهُ الْحِكْمَةَ الْمَقْصُودَةَ بِمَا فَعَلَهُ مِنْ تَخْرِيقِ السَّفِينَةِ وَقَتْلِ الْغُلَامِ وَإِقَامَةِ الْجِدَارِ بِلَا عِوَضٍ:{سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 78] فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِالْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ الَّتِي انْتَهَى إِلَيْهَا فِعْلُهُ قَالَ: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82] ، فَالتَّأْوِيلُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُرَادُ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْمَعْنَى الَّذِي يَئُولُ اللَّفْظُ إِلَيْهِ، وَهِيَ الْحَقِيقَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ نَوْعَانِ: خَبَرٌ وَطَلَبٌ، فَتَأْوِيلُ الْخَبَرِ هُوَ الْحَقِيقَةُ، وَتَأْوِيلُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ هُوَ نَفْسُ الْمَوْعُودِ وَالْمُتَوَعَّدِ بِهِ، وَتَأْوِيلُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ الْعُلَى وَأَفْعَالِهِ نَفْسُ مَا هُوَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَمَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْعُلَى، وَتَأْوِيلُ الْأَمْرِ هُوَ نَفْسُ الْأَفْعَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا، قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها:" «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ» " يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ. فَهَذَا التَّأْوِيلُ هُوَ فِعْلُ نَفْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ.
فَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالسَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ فَمُرَادُهُمْ بِهِ مَعْنَى التَّفْسِيرِ وَالْبَيَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ: الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى كَذَا وَكَذَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ " فِيمَا تَأَوَّلَتْهُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ " فَأَبْطَلَ تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا وَهُوَ تَفْسِيرُهَا الْمُرَادُ بِهَا وَهُوَ تَأْوِيلُهَا عِنْدَهُ، فَهَذَا التَّأْوِيلُ يَرْجِعُ إِلَى فَهْمِ الْمُؤْمِنِ وَيَحْصُلُ فِي الذِّهْنِ وَالْأَوَّلُ يَعُودُ إِلَى وُقُوعِ حَقِيقَتِهِ فِي الْخَارِجِ.
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فَمُرَادُهُمْ بِالتَّأْوِيلِ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَهَذَا هُوَ الشَّائِعُ فِي عُرْفِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْفِقْهِ.
وَلِهَذَا يَقُولُونَ: التَّأْوِيلُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. وَالتَّأْوِيلُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ هُوَ الَّذِي صَنَّفَ فِي تَسْوِيغِهِ وَإِبْطَالِهِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَمَنْ صَنَّفَ فِي إِبْطَالِ التَّأْوِيلِ عَلَى رَأْيِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَالشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ ابْنُ قُدَامَةَ، وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ إِجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى عَدَمِ الْقَوْلِ بِهِ.
وَمِنَ التَّأْوِيلِ الْبَاطِلِ تَأْوِيلُ أَهْلِ الشَّامِ «قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم لِعَمَّارٍ: " تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» "، فَقَالُوا: نَحْنُ لَمْ نَقْتُلْهُ إِنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَعَهُ بَيْنَ رِمَاحِنَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُخَالِفٌ لِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ وَظَاهِرِهِ فَإِنَّ الَّذِي قَتَلَهُ هُوَ الَّذِي بَاشَرَ قَتْلَهُ لَا مَنِ اسْتَنْصَرَ بِهِ، وَلِهَذَا رَدَّ عَلَيْهِمْ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ مِنْهُمْ فَقَالُوا: أَفَيَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ هُمُ الَّذِينَ قَتَلُوا حَمْزَةَ وَالشُّهَدَاءَ مَعَهُ لِأَنَّهُمْ أَتَوْا بِهِمْ حَتَّى أَوْقَعُوهُمْ تَحْتَ سُيُوفِ الْمُشْرِكِينَ؟
وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ لَمَّا رَوَى حَدِيثَ عَائِشَةَ: " «فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ " فَقِيلَ لَهُ: فَمَا بَالُ عَائِشَةَ أَتَمَّتْ فِي السَّفَرِ؟ قَالَ: تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ» ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ عَائِشَةَ وَعُثْمَانَ تَأَوَّلَا آيَةَ الْقَصْرِ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهَا وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُمَا تَأَوَّلَا دَلِيلًا قَامَ عِنْدَهُمَا اقْتَضَى جَوَازَ الْإِتْمَامِ فَعَمِلَا بِهِ، فَكَانَ عَمَلُهُمَا بِهِ هُوَ تَأْوِيلُهُ، فَإِنَّ الْعَمَلَ بِدَلِيلِ الْأَمْرِ هُوَ تَأْوِيلُهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ تَعَالَى:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3] بِامْتِثَالِهِ بِقَوْلِهِ " «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» "، فَكَأَنَّ عَائِشَةَ وَعُثْمَانَ تَأَوَّلَا
قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 103] فَإِنَّ إِتْمَامَهَا مِنْ إِقَامَتِهَا، وَقِيلَ: تَأَوَّلَتْ عَائِشَةُ أَنَّهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّ أُمَّهُمْ حَيْثُ كَانَتْ فَكَأَنَّهَا مُقِيمَةٌ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّ عُثْمَانَ كَانَ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ فَحَيْثُ كَانَ فَهُوَ مَنْزِلُهُ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى الِاسْتِيطَانِ بِمِنًى أَوْ أَنَّهُ كَانَ قَدْ تَأَهَّلَ بِهَا، وَمَنْ تَأَهَّلَ بِبَلَدٍ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْمُسَافِرِ، أَوْ أَنَّ الْأَعْرَابَ كَانُوا قَدْ كَثُرُوا فِي ذَلِكَ الْمَوْسِمِ فَأَحَبَّ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ فَرْضَ الصَّلَاةِ وَأَنَّهَا أَرْبَعُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي ظَنَّاهَا أَدِلَّةً مُقَيِّدَةً لِمُطْلِقِ الْقَصْرِ أَوْ مُخَصِّصَةً لِعُمُومِهِ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا ضَعِيفَةً، وَالصَّوَابُ هَدْيُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ كَانَ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ وَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَيَاتِهِ وَمَمَاتِهِ، وَقَدْ قَصَرَتْ مَعَهُ وَلَمْ يَكُنْ عُثْمَانُ لِيُقِيمَ بِمَكَّةَ وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا رَخَّصَ فِي الْإِقَامَةِ بِهِ لِلْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِمْ ثَلَاثًا، وَالْمُسَافِرُ إِذَا تَزَوَّجَ فِي طَرِيقِهِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ حُكْمُ الْإِقَامَةِ بِمُجَرَّدِ التَّزَوُّجِ مَا لَمْ يُزْمِعِ الْإِقَامَةَ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالتَّأْوِيلُ الَّذِي يُوَافِقُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَجَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ هُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ وَغَيْرُهُ هُوَ الْفَاسِدُ.
وَالتَّأْوِيلُ الْبَاطِلُ أَنْوَاعٌ:
أَحَدُهَا: مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ اللَّفْظُ بِوَضْعِهِ الْأَوَّلِ مِثْلَ تَأْوِيلٍ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا رِجْلَهُ» " بِأَنَّ الرِّجْلَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّ هَذَا الشَّيْءَ لَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ الْبَتَّةَ.
الثَّانِي: مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ اللَّفْظُ بِبِنْيَتِهِ الْخَاصَّةِ مِنْ تَثْنِيَةٍ أَوْ جَمْعٍ، وَإِنِ احْتَمَلَهُ مُفْرَدًا كَتَأْوِيلِ قَوْلِهِ:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] بِالْقُدْرَةِ.
الثَّالِثُ: مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ سِيَاقُهُ وَتَرْكِيبُهُ وَإِنِ احْتَمَلَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ السِّيَاقِ كَتَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] بِأَنَّ إِتْيَانَ الرَّبِّ إِتْيَانُ بَعْضِ آيَاتِهِ الَّتِي هِيَ أَمْرُهُ، وَهَذَا يَأْبَاهُ السِّيَاقُ كُلَّ الْإِبَاءِ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ حَمْلُهُ
عَلَى ذَلِكَ مَعَ التَّقْسِيمِ وَالتَّنْوِيعِ وَالتَّرْدِيدِ، وَكَتَأْوِيلِ قَوْلِهِ:" «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ، وَكَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ» " فَتَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ بِمَا يُخَالِفُ حَقِيقَتَهَا وَظَاهِرَهَا فِي غَايَةِ الِامْتِنَاعِ وَهُوَ رَدٌّ وَتَكْذِيبٌ يَسْتَتِرُ صَاحِبُهُ بِالتَّأْوِيلِ.
الرَّابِعُ: مَا لَمْ يُؤْلَفِ اسْتِعْمَالُهُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي لُغَةِ الْمُخَاطَبِ وَإِنْ أُلِفَ فِي الِاصْطِلَاحِ الْحَادِثِ، وَهَذَا مَوْضِعٌ زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ حَيْثُ تَأَوَّلُوا كَثِيرًا مِنْ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ بِمَا لَمْ يُؤْلَفِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ لَهُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الْبَتَّةَ وَإِنْ كَانَ مَعْهُودًا فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهُ فَإِنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِهِ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا حَصَلَ، كَمَا تَأَوَّلَتْ طَائِفَةٌ قَوْلَهُ تَعَالَى:{فَلَمَّا أَفَلَ} [الأنعام: 76] بِالْحَرَكَةِ وَقَالُوا: اسْتَدَلَّ بِحَرَكَتِهِ عَلَى بُطْلَانِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَلَا يُعْرَفُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ أَنَّ الْأُفُولَ هُوَ الْحَرَكَةُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ الْبَتَّةَ، وَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ الْأَحَدِ بِأَنَّهُ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ عَنْ شَيْءٍ الْبَتَّةَ، ثُمَّ قَالُوا: لَوْ كَانَ فَوْقَ الْعَرْشِ لَمْ يَكُنْ أَحَدًا ; فَإِنَّ تَأْوِيلَ الْأَحَدِ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ وَلَا أَهْلُ اللُّغَةِ إِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحُ الْجَهْمِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ رَافَقَهُمْ، وَكَتَأْوِيلِ قَوْلِهِ:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] بِأَنَّ الْمَعْنَى أَقْبَلَ عَلَى خَلْقِ الْعَرْشِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يُعْرَفُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، لَا يُقَالُ لِمَنْ أَقْبَلَ عَلَى الرَّحْلِ: اسْتَوَى عَلَيْهِ وَلَا لِمَنْ أَقْبَلَ عَلَى عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ دِرَاسَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ قَدِ اسْتَوَى عَلَيْهَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ سَنَذْكُرُهَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِلَّا تَكْذِيبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِصَاحِبِ هَذَا التَّأْوِيلِ لَكَفَاهُ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ " «إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» " فَكَانَ الْعَرْشُ مَوْجُودًا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى خَلْقِ الْعَرْشِ، وَالتَّأْوِيلُ إِذَا تَضَمَّنَ تَكْذِيبَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَحَسْبُهُ ذَلِكَ بُطْلَانًا.
الْخَامِسُ: مَا أُلِفَ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَكِنْ فِي غَيْرِ التَّرْكِيبِ الَّذِي وَرَدَ النَّصُّ، فَيَحْمِلُهُ الْمُتَأَوِّلُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُهُ عَلَى مَجِيئِهِ فِي تَرْكِيبٍ آخَرَ يَحْتَمِلُهُ كَتَأْوِيلِ الْيَدَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] بِالنِّعْمَةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: لِفُلَانٍ عِنْدِي يَدٌ، وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ لِلصِّدِّيقِ رضي الله عنه: لَوْلَا يَدٌ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ.
وَلَكِنْ وُقُوعُ الْيَدِ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ الَّذِي أَضَافَ سُبْحَانَهُ فِيهِ الْفِعْلَ إِلَى نَفْسِهِ ثُمَّ تَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى الْيَدِ بِالْبَاءِ الَّتِي هِيَ نَظِيرُ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ خَاصَّةً خَصَّ بِهَا صَفِيَّهُ آدَمَ دُونَ الْبَشَرِ، كَمَا خَصَّ الْمَسِيحَ بِأَنَّهُ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَخَصَّ مُوسَى بِأَنْ كَلَّمَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ.
فَهَذَا مِمَّا يُحِيلُ تَأْوِيلَ الْيَدِ فِي النَّصِّ بِالنِّعْمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي تَرْكِيبٍ آخَرَ تَصْلُحُ لِذَلِكَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ صَلَاحِيَةِ اللَّفْظِ لِمَعْنَى مَا فِي تَرْكِيبِ صَلَاحِيَتِهِ لَهُ فِي كُلِّ تَرْكِيبٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ - إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] يَسْتَحِيلُ فِيهَا تَأْوِيلُ النَّظَرِ بِانْتِظَارِ الثَّوَابِ، فَإِنَّهُ أَضَافَ النَّظَرَ إِلَى الْوُجُوهِ بِالنَّظْرَةِ الَّتِي لَا تَحْصُلُ إِلَّا مَعَ حُضُورِ مَا يُتَنَعَّمُ بِهِ لَا مَعَ التَّنْغِيصِ بِانْتِظَارِهِ، وَيَسْتَحِيلُ مَعَ هَذَا التَّرْكِيبِ تَأْوِيلُ النَّظَرِ بِغَيْرِ الرُّؤْيَا وَأَنَّ كُلَّ النَّظَرِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13]، وَقَوْلِهِ:{فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35] .
وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيِّ الْمُلَبِّسِ: إِذَا قَالَ لَكَ الْمُشَبَّهُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فَقُلْ لَهُ: الْعَرْشُ لَهُ عِدَّةُ مَعَانٍ، وَالِاسْتِوَاءُ لَهُ خَمْسُ مَعَانٍ، فَأَيُّ ذَلِكَ الْمُرَادُ؟ فَإِنَّ الْمُشَبِّهَ يَتَحَيَّرُ وَلَا يَدْرِي مَا يَقُولُ.
فَيُقَالُ لِهَذَا الْجَاهِلِ: وَيْلَكَ، مَا ذَنْبُ الْمُوَحِّدِ الَّذِي سَمَّيْتَهُ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ مُشَبِّهًا وَقَدْ قَالَ لَكَ نَفْسَ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، فَوَاللَّهِ لَوْ كَانَ مُشَبِّهًا كَمَا تَزْعُمُ لَكَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ النَّصَّ.
وَأَمَّا قَوْلُكَ: الْعَرْشُ لَهُ سَبْعَةُ مَعَانٍ وَنَحْوُهُ، وَالِاسْتِوَاءُ لَهُ خَمْسَةُ مَعَانٍ فَتَلْبِيسٌ مِنْكَ عَلَى الْجُهَّالِ وَكَذِبٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِعَرْشِ الرَّحْمَنِ الَّذِي اسْتَوَى عَلَيْهِ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ لِلْعَرْشِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ عِدَّةُ مَعَانٍ فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ قَدْ صَارَ بِهَا فِي الْعَرْشِ مُعَيَّنًا وَهُوَ عَرْشُ الرَّبِّ تَعَالَى، الَّذِي هُوَ سَرِيرُ مُلْكِهِ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الرُّسُلُ وَأَقَرَّتْ بِهِ الْأُمَمُ إِلَّا مَنْ نَابَذَ الرُّسُلَ.
وَقَوْلُكَ: الِاسْتِوَاءُ لَهُ عِدَّةُ مَعَانٍ تَلْبِيسٌ آخَرُ مِنْكَ، فَإِنَّ الِاسْتِوَاءَ الْمُعَدَّى بِأَدَاةِ " عَلَى " لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ، وَأَمَّا الِاسْتِوَاءُ الْمُطْلَقُ فَلَهُ عِدَّةُ مَعَانٍ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: اسْتَوَى كَذَا: انْتَهَى وَكَمَلَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: 14] وَتَقُولُ: اسْتَوَى وَكَذَا إِذَا سَاوَاهُ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: اسْتَوَى الْمَاءُ وَالْخَشَبَةُ وَاسْتَوَى اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَتَقُولُ: اسْتَوَى إِلَى كَذَا إِذَا قَصَدَ إِلَيْهِ عُلُوًّا وَارْتِفَاعًا نَحْوَ اسْتَوَى إِلَى السَّطْحِ وَالْجَبَلِ وَاسْتَوَى عَلَى كَذَا أَيِ ارْتَفَعَ عَلَيْهِ وَعَلَا عَلَيْهِ، وَلَا تَعْرِفُ الْعَرَبُ غَيْرَ هَذَا، فَالِاسْتِوَاءُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ نَصٌّ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَعْنَاهُ كَمَا هُوَ نَصٌّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: 14] لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَعْنَاهُ، وَنَصٌّ فِي قَوْلِهِمْ: اسْتَوَى اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ فِي مَعْنَاهُ وَلَا تَحْتَمِلُ غَيْرَهُ.
السَّادِسُ: اللَّفْظُ الَّذِي اطَّرَدَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَعْنًى هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ وَلَمْ يُعْهَدِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعْنَى الْمُؤَوَّلِ أَوْ عُهِدَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ نَادِرًا، فَحَمْلُهُ عَلَى خِلَافِ الْمَعْهُودِ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ تَلْبِيسًا يُنَاقِضُ الْبَيَانَ وَالْهِدَايَةَ بَلْ إِذَا أَرَادُوا اسْتِعْمَالَ مِثْلِ هَذَا فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ الْمَعْهُودِ حَفُّوا بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ مَا يُبَيِّنُ لِلسَّامِعِ مُرَادَهُمْ بِهِ لِئَلَّا يَسْبِقَ فَهْمُهُ إِلَى مَعْنَاهُ الْمَأْلُوفِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ كَمَالَ هَذِهِ اللُّغَةِ وَحِكْمَةَ وَاضِعِهَا تَبَيَّنَ لَهُ صِحَّةُ ذَلِكَ.
السَّابِعُ: كُلُّ تَأْوِيلٍ يَعُودُ عَلَى أَصْلِ النَّصِّ بِالْإِبْطَالِ فَهُوَ بَاطِلٌ كَتَأْوِيلِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» " فَيَحْمِلُهُ عَلَى الْأَمَةِ، فَإِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ مَعَ شِدَّةِ مُخَالَفَتِهِ لِظَاهِرِ النَّصِّ يَرْجِعُ عَلَى أَصْلِ النَّصِّ بِالْإِبْطَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ:" «فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا» "، وَمَهْرُ الْأَمَةِ إِنَّمَا هُوَ لِلسَّيِّدِ فَقَالُوا:
نَحْمِلُهُ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ، وَهَذَا يَرْجِعُ عَلَى النَّصِّ بِالْإِبْطَالِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ أَتَى فِيهِ بِأَيِّ الشَّرْطِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَدَوَاتِ الْعُمُومِ وَأَتَى بِالنَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ وَهِيَ تَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَعَلَّقَ بُطْلَانَ النِّكَاحِ بِالْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لَهُ الْمُقْتَضِي لِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهِ وَهُوَ إِنْكَاحُهَا نَفْسَهَا، فَرَتَّبَهُ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْبُطْلَانِ وَهُوَ افْتِئَاتُهَا عَلَى وَلِيِّهَا، وَأَكَّدَ الْحُكْمَ بِالْبُطْلَانِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَحَمْلُهُ عَلَى صُورَةٍ لَا تَقَعُ فِي الْعَالَمِ إِلَّا نَادِرًا يَرْجِعُ إِلَى مَقْصُودِ النَّصِّ بِالْإِبْطَالِ، وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ عَامَّةَ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّةِ رَأَيْتَهَا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، بَلْ أَشْنَعَ.
الثَّامِنُ: تَأْوِيلُ اللَّفْظِ الَّذِي لَهُ ظَاهِرٌ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ سِوَاهُ إِلَّا بِالْمَعْنَى الْخَفِيِّ الَّذِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا فُرَادَى مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ، كَتَأْوِيلٍ لَفْظِ الْأَحَدِ الَّذِي يَفْهَمُهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ بِالذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا مَعْنَيَانِ بِوَجْهٍ، فَإِنَّ هَذَا لَوْ أَمْكَنَ ثُبُوتُهُ فِي الْخَارِجِ لَمْ يُعْرَفْ إِلَّا بَعْدَ مُقَدِّمَاتٍ طَوِيلَةٍ صَعْبَةٍ جِدًّا فَكَيْفَ وَهُوَ مُحَالٌ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا يَفْرِضُهُ الذِّهْنُ فَرْضًا، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى وُجُودِ الْخَارِجِيِّ فَيَسْتَحِيلُ وَضْعُ اللَّفْظِ الْمَشْهُودِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ.
التَّاسِعُ: التَّأْوِيلُ الَّذِي يُوجِبُ تَعْطِيلَ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْعُلُوِّ وَالشَّرَفِ وَيَحْمِلُهُ إِلَى مَعْنًى دُونَهُ بِمَرَاتِبَ، مِثَالُهُ تَأْوِيلُ الْجَهْمِيَّةِ:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] وَنَظَائِرَهُ بِأَنَّهَا فَوْقِيَّةُ الشَّرَفِ، كَقَوْلِهِمْ: الدَّرَاهِمُ فَوْقَ الْمُفْلِسِ، فَعَطَّلُوا حَقِيقَةَ الْفَوْقِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِعَظَمَةِ الرَّبِّ تَعَالَى وَحَطُّوهَا إِلَى كَوْنِ قَدْرِهِ فَوْقَ قَدْرِ بَنِي آدَمَ، وَكَذَلِكَ تَأْوِيلُهُمُ اسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ بِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ غَالِبٌ عَلَيْهِ.
فَيَالِلَّهِ الْعَجَبُ، هَلْ شَكَّ عَاقِلٌ فِي كَوْنِهِ غَالِبًا لِعَرْشِهِ قَادِرًا عَلَيْهِ حَتَّى يُخْبِرَ بِهِ سُبْحَانَهُ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ مُطَّرِدَةٍ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعٌ وَاحِدٌ يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي أَبْدَاهُ الْمُتَأَوِّلُونَ؟ وَهَذَا التَّمَدُّحُ وَالتَّعْظِيمُ كُلُّهُ لِأَجْلِ أَنْ يُعَرِّفَنَا أَنَّهُ غَلَبَ عَلَى عَرْشِهِ وَقَدَرَ عَلَيْهِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؟ أَفْتَرَى لَمْ يَكُنْ غَالِبًا لِلْعَرْشِ قَادِرًا عَلَيْهِ فِي مُدَّةٍ تَزِيدُ عَنْ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ تَجَدَّدَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ؟
الْعَاشِرُ: تَأْوِيلُ اللَّفْظِ بِمَعْنًى لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنَ السِّيَاقِ وَلَا قَرِينَةٌ تَقْتَضِيهِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقْصِدُهُ الْمُبَيِّنُ الْهَادِي بِكَلَامِهِ، إِذْ لَوْ قَصَدَهُ لَحَفَّ بِالْكَلَامِ قَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمُخَالِفِ لِظَاهِرِهِ حَتَّى لَا يُوقِعَ السَّامِعَ فِي اللَّبْسِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ كَلَامَهُ بَيَانًا