الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[كَسْرُ الطَّاغُوتِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُمْ إِذَا تَعَارَضَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ]
كَسْرُ الطَّاغُوتِ الثَّانِي
وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِذَا تَعَارَضَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَلَا إِبْطَالُهُمَا، وَلَا يُقَدَّمُ النَّقْلُ، لِأَنَّ الْعَقْلَ أَصْلُ النَّقْلِ، فَلَوْ قَدَّمَنَا عَلَيْهِ النَّقْلَ لَبَطَلَ الْعَقْلُ، وَهُوَ أَصْلُ النَّقْلِ، فَلَزِمَ بُطْلَانُ النَّقْلِ، فَيَلْزَمُ مِنْ تَقْدِيمِ النَّقْلِ بُطْلَانُ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، فَتَعَيَّنَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ.
فَهَذَا الطَّاغُوتُ أَخُو ذَلِكَ الْقَانُونِ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى ثَلَاثِ مُقَدِّمَاتٍ:
الْأُولَى: ثُبُوتُ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، وَالثَّانِيَةُ: انْحِصَارُ التَّقْسِيمِ فِي الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهِ، الثَّالِثَةُ: بُطْلَانُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ لِيَتَعَيَّنَ ثُبُوتُ الرَّابِعِ.
وَقَدْ أَشَفَى شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَبَيَّنَ بُطْلَانَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَكَسَرَ هَذَا الطَّاغُوتَ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ فَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى كَلِمَاتٍ يَسِيرَةٍ هِيَ قَطْرَةٌ مِنْ بَحْرِهِ تَتَضَمَّنُ كَسْرَهُ، وَذَلِكَ يَظْهَرُ مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ، وَالتَّقْسِيمُ الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ سَمْعِيَّانِ أَوْ عَقْلِيَّانِ، أَوْ سَمْعِيٌّ وَعَقْلِيٌّ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا قَطْعِيَّيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَا ظَنِّيَّيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَطْعِيًّا وَالْآخَرُ ظَنِّيًّا، فَأَمَّا الْقَطْعِيَّانِ فَلَا يُمْكِنُ تَعَارُضُهُمَا فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ هُوَ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ مَدْلُولَهُ قَطْعِيًّا، وَلَوْ تَعَارَضَا لَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَهَذَا لَا يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَطْعِيًّا وَالْآخَرُ ظَنِّيًّا تَعَيَّنَ تَقْدِيمُ الْقَطْعِيِّ، سَوَاءٌ كَانَ عَقْلِيًّا أَوْ سَمْعِيًّا، وَإِنْ كَانَا ظَنِّيَّيْنِ صِرْنَا إِلَى التَّرْجِيحِ وَوَجَبَ تَقْدِيمُ الرَّاجِحِ مِنْهُمَا، وَهَذَا تَقْسِيمٌ رَاجِحٌ مُتَّفَقٌ عَلَى مَضْمُونِهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، فَأَمَّا إِثْبَاتُ التَّعَارُضِ بَيْنَ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَالسَّمْعِيِّ وَالْجَزْمُ بِتَقْدِيمِ الْعَقْلِيِّ مُطْلَقًا فَخَطَأٌ وَاضِحٌ مَعْلُومُ الْفَسَادِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: إِذَا تَعَارَضَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْقَطْعِيَّيْنِ فَلَا نُسَلِّمُ إِمْكَانَ التَّعَارُضِ، وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الظَّنِّيَّيْنِ فَالتَّقْدِيمُ الرَّاجِحُ مُطْلَقًا، وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْعَقْلِيَّ هُوَ الْقَطْعِيُّ كَانَ تَقْدِيمُهُ لِأَنَّهُ قَطْعِيٌّ لَا لِأَنَّهُ عَقْلِيٌّ، فَعُلِمَ أَنَّ تَقْدِيمَ الْعَقْلِيِّ مُطْلَقًا خَطَأٌ وَأَنَّ جَعْلَ جِهَةِ التَّرْجِيحِ كَوْنُهُ عَقْلِيًّا خَطَأٌ، وَأَنَّ جَعْلَ سَبَبِ التَّأْخِيرِ وَالِاطِّرَادِ كَوْنُهُ نَقْلِيًّا خَطَأٌ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: إِنْ قَدَّمْنَا النَّقْلَ لَزِمَ الطَّعْنُ فِي أَصْلِهِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ:
الْعَقْلُ أَصْلُ النَّقْلِ، إِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ أَصْلٌ فِي ثُبُوتِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَأَصْلٌ فِي عِلْمِنَا بِصِحَّتِهِ، فَالْأَوَّلُ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، فَإِنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى عِلْمِنَا بِهِ، فَعَدَمُ عِلْمِنَا بِالْحَقَائِقِ لَا يُنَافِي ثُبُوتَهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَمَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ هُوَ ثَابِتٌ فِي نَفْسِهِ، سَوَاءٌ عَلِمْنَاهُ بِعُقُولِنَا أَمْ لَمْ نَعْلَمْهُ، وَسَوَاءٌ صَدَّقَهُ النَّاسُ أَوْ لَمْ يُصَدِّقُوهُ، كَمَا أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا وَإِنْ كَذَّبَهُ مَنْ كَذَّبَهُ، كَمَا أَنَّ وُجُودَ الرَّبِّ تَعَالَى وَثُبُوتَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ حَقٌّ، سَوَاءٌ عَلِمْنَاهُ بِعُقُولِنَا أَوْ لَمْ نَعْلَمْهُ، فَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى وُجُودِنَا، فَضْلًا عَنْ عُلُومِنَا وَعُقُولِنَا، فَالشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُسْتَغْنٍ فِي عِلْمِنَا وَعَقْلِنَا، وَلَكِنْ نَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ أَنْ نَعْلَمَهُ، فَإِذَا عَلِمَ الْعَقْلُ ذَلِكَ حَصَلَ لَهُ كَمَالٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِذَا فَقَدَهُ كَانَ نَاقِصًا جَاهِلًا.
وَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنَّ الْعَقْلَ أَصْلٌ فِي مَعْرِفَتِنَا بِالسَّمْعِ وَدَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: أَتَعْنِي بِالْعَقْلِ الْقُوَّةَ الْغَرِيزِيَّةَ الَّتِي فِينَا، أَمِ الْعُلُومَ الْمُسْتَفَادَةَ بِتِلْكَ الْغَرِيزَةِ؟ فَالْأَوَّلُ لَمْ يُرِدْهُ، وَيَمْتَنِعُ إِرَادَتُهُ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْغَرِيزَةَ لَيْسَتْ عِلْمًا يُمْكِنُ مُعَارَضَتُهُ لِلنَّقْلِ، وَإِنْ كَانَتْ شَرْطًا فِي كُلِّ عِلْمٍ عَقْلِيٍّ أَوْ سَمْعِيٍّ، وَمَا كَانَ شَرْطًا فِي الشَّيْءِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُنَافِيًا لَهُ، وَإِنْ أَرَدْتَ الْعِلْمَ وَالْمَعْرِفَةَ الْحَاصِلَةَ بِالْعَقْلِ، قِيلَ لَكَ: لَيْسَ كُلُّ مَا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ يَكُونُ أَصْلًا لِلسَّمْعِ وَدَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ، فَإِنَّ الْمَعَارِفَ الْعَقْلِيَّةَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَالْعِلْمُ بِصِحَّةِ السَّمْعِ غَايَتُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا بِهِ يُعْلَمُ صِدْقُ الرَّسُولِ مِنَ الْعَقْلِيَّاتِ، وَلَيْسَ كُلُّ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ يُعْلَمُ بِهَا صِدْقُ الرَّسُولِ، بَلْ ذَلِكَ بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَعْقُولَاتِ لَيْسَتْ أَصْلًا لِلنَّقْلِ لَا بِمَعْنَى تَوَقُّفِ الْعِلْمِ بِالسَّمْعِ عَلَيْهَا ; لَا سِيَّمَا وَأَكْثَرُ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْإِثْبَاتِ كَالْأَشْعَرِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعِلْمَ بِصِدْقِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الْحَادِثَةِ ضَرُورِيٌّ، فَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِصِدْقِ الرَّسُولِ مِنَ الْعِلْمِ الْعَقْلِيِّ سَهْلٌ يَسِيرٌ، مَعَ أَنَّ الْعِلْمَ بِصِدْقِهِ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ، وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ الْمُعَارِضُ لِلسَّمْعِ مِنَ الْمَعْقُولَاتِ مَا لَا يَتَوَقَّفُ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ السَّمْعِ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنِ الْقَدْحُ فِيهِ قَدْحًا فِي أَصْلِ السَّمْعِ، وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ بَيِّنٌ وَاضِحٌ، وَلَيْسَ الْقَدْحُ فِي بَعْضِ الْعَقْلِيَّاتِ قَدْحًا فِي جَمِيعِهَا، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ الْقَدْحُ فِي بَعْضِ السَّمْعِيَّاتِ قَدْحًا فِي جَمِيعِهَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي تُبْنَى عَلَيْهَا مَعْرِفَتُنَا بِالسَّمْعِ صِحَّةُ غَيْرِهَا مِنَ الْمَعْقُولَاتِ، وَلَا مِنْ فَسَادِ هَذِهِ فَسَّادُ تِلْكَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلَى مَا يُقَالُ: إِنَّهُ مَعْقُولٌ فِي الْجُمْلَةِ الْقَدْحُ فِي أَصْلِهِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِصِدْقِ الرَّسُولِ وَثُبُوتِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا امْتَنَعَ التَّعَارُضُ عِنْدَهُ ; لِأَنَّ الْمَعْقُولَ إِنْ كَانَ مَعْلُومًا لَمْ يَتَعَارَضْ مَعْلُومٌ وَمَجْهُولٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَمْ يَتَعَارَضْ مَجْهُولَانِ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِصِدْقِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم امْتَنَعَ أَلَّا يَعْلَمَ بِثُبُوتِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِصِدْقِهِ لَزِمَ ضَرُورَةً أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِثُبُوتِ مُخْبَرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَقَعَ عِنْدَهُ دَلِيلٌ يُعَارِضُ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمُعَارِضُ وَاجِبَ التَّقْدِيمِ، إِذْ مَضْمُونُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: لَا تَعْتَقِدْ ثُبُوتَ مَا عَلِمْتَ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ ; لِأَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ يُنَافِي مَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّ الْمُخْبِرَ صَادِقٌ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ، لَا تُصَدِّقْهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ ; لِأَنَّ تَصْدِيقَهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ تَصْدِيقِهِ، فَيَقُولُ: وَعَدَمُ تَصْدِيقِي لَهُ فِيهِ هُوَ عَيْنُ اللَّازِمِ الْمَحْذُورِ، فَإِذَا قِيلَ لِي: لَا تُصَدِّقْهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ عَدَمُ تَصْدِيقِهِ كَانَ كَمَا لَوْ قِيلَ: كَذِّبْهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَكْذِيبُهُ، فَهَكَذَا حَالُ مَنْ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ لَا يُصَدِّقُوا الرَّسُولَ فِيمَا عَلِمَهُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ رَسُولٌ لِئَلَّا يُفْضِيَ تَصْدِيقُهُمْ إِلَى عَدَمِ تَصْدِيقِهِ، يُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مِنْ قَبُولِ هَذَا الْخَبَرِ وَتَصْدِيقِهِ فِيهِ هُوَ عَيْنُ الْمَحْذُورِ، فَيَكُونُ وَاقِعًا فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ سَوَاءٌ أَطَاعَ أَوْ عَصَى، وَيَكُونُ تَارِكًا لِلْمَأْمُورِيَّةِ سَوَاءٌ أَطَاعَ أَوْ عَصَى، وَيَكُونُ وُقُوعُهُ فِي الْمَخُوفِ الْمَحْذُورِ عَلَى تَقْدِيرِ الطَّاعَةِ أَعْجَلَ وَأَسْبَقَ مِنْهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَعْصِيَةِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ التَّكْذِيبُ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ النَّهْيُ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ مَحْذُورًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْذُورًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ مَحْذُورًا فَلَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ إِذَا قِيلَ لَهُ: لَا تُصَدِّقْهُ فِي هَذَا كَانَ آمِرًا لَهُ بِمَا يُنَاقِضُ مَا عَلِمَ بِهِ صِدْقَهُ، فَكَانَ آمِرًا بِمَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَثِقَ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ مَتَى جَوَّزَ كَذِبَهُ أَوْ غَلَطَهُ فِي خَبَرٍ جَوَّزَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ، وَلِهَذَا أَفْضَى الْأَمْرُ بِمَنْ سَلَكَ هَذَا الطَّرِيقَ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا مِنَ الْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِصِفَاتِ الرَّبِّ سبحانه وتعالى وَأَفْعَالِهِ، بَلْ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ يَجِبُ رَدُّهُ وَتَكْذِيبُهُ، وَنَوْعٌ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ وَإِخْرَاجُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَنَوْعٌ يُقَرُّ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ أَصْلٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، بَلْ يَقُولُ: مَا أَثْبَتَهُ عَقْلُكَ فَأَثْبِتْهُ وَمَا نَفَاهُ عَقْلُكَ فَانْفِهِ، وَهَذَا يَقُولُ: مَا أَثْبَتَهُ كَشْفُكَ فَأَثْبِتْهُ وَمَا لَا فَلَا، وَوُجُودُ الرَّسُولِ عِنْدَهُمْ كَعَدَمِهِ فِي الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ وَمَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، بَلْ عَلَى قَوْلِهِمْ وَأُصُولِهِمْ وُجُودُهُ
أَضَرُّ مِنْ عَدَمِهِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ جِهَتِهِ عِلْمًا بِهَذَا الشَّأْنِ، وَاحْتَاجُوا إِلَى دَفْعِ مَا جَاءَ بِهِ، إِمَّا بِتَكْذِيبٍ، وَإِمَّا بِتَأْوِيلٍ، وَإِمَّا بِإِعْرَاضٍ وَتَفْوِيضٍ.
فَإِذَا قِيلَ: لَا يُمْكِنُ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يُنَافِي الْعَقْلَ فَإِنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَمُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ ذَلِكَ، قِيلَ: فَهَذَا إِقْرَارٌ بِاسْتِحَالَةِ مُعَارَضَةِ الْعَقْلِ لِلسَّمْعِ وَاسْتِحَالَةِ الْمَسْأَلَةِ، وَعُلِمَ أَنَّ جَمِيعَ أَخْبَارِهِ لَا تُنَاقِضُ الْعَقْلَ.
قَعَدَ النَّقْلُ سَالِمًا مِنْ مُنَافٍ
…
وَاسْتَرَحْنَا مِنَ الصُّدَاعِ جَمِيعًا
فَإِنْ قِيلَ: بَلِ الْمُعَارَضَةُ ثَابِتَةٌ بَيْنَ الْعَقْلِ وَبَيْنَ مَا يُفْهِمُهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَلَيْسَتْ ثَابِتَةً بَيْنَ الْعَقْلِ وَبَيْنَ نَفْسِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فَالْمُعَارَضَةُ ثَابِتَةٌ بَيْنَ الْعَقْلِ وَبَيْنَ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ دَلِيلٌ وَلَيْسَ بِدَلِيلٍ، أَوْ يَكُونُ دَلِيلًا ظَنِّيًّا لِتَطَرُّقِ الظَّنِّ إِلَى بَعْضِ مُقَدِّمَاتِ إِسْنَادِهِ أَوِ امْتِنَاعًا؟
قِيلَ: وَهَذَا رَفَعَ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ وَيُحِيلُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَيُصَيِّرُ صُورَتُهَا هَكَذَا: إِذَا تَعَارَضَ الدَّلِيلُ الْقَوْلِيُّ وَمَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ، وَهُوَ كَلَامٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا حَاصِلَ لَهُ، وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ الدَّلِيلَ لَا يُتْرَكُ لِمَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ.
ثُمَّ يُقَالُ: إِذَا فَسَّرْتُمُ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ بِمَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلِ اعْتِقَادُ دَلَالَتِهِ جَهْلٌ، أَوْ بِمَا يُظَنُّ أَنَّهُ دَلِيلٌ وَلَيْسَ دَلِيلًا، فَإِنْ كَانَ السَّمْعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ لِكَوْنِهِ خَبَرًا مَكْذُوبًا أَوْ صَحِيحًا، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مُعَارَضَتِهِ الْعَقْلَ بِوَجْهٍ، وَأَبَيْتُمُ التَّعَارُضَ وَالتَّقْدِيمَ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَسَاعَدْنَاكُمْ عَلَيْهِ، وَكُلُّنَا أَسْعَدُ بِذَلِكَ مِنْكُمْ، فَأَنَا أَشَدُّ مِنْكُمْ نَفْيًا لِلْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَشَدُّ إِبْطَالًا لِمَا تَحْمِلُهُ مِنَ الْمَعَانِي الْبَاطِلَةِ، وَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ ظَاهِرَ الدِّلَالَةِ بِنَفْسِهِ عَلَى الْمُرَادِ، لَمْ يَكُنْ مَا عَارَضَهُ مِنَ الْعَقْلِيَّاتِ إِلَّا خَيَالِيَّاتٍ فَاسِدَةً.
السَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: لَوْ قَدْ عَارَضَ الْعَقْلُ لِلشَّرْعِ لَوَجَبَ تَقْدِيمُ الشَّرْعِ ; لَأَنَّ الْعَقْلَ قَدْ صَدَّقَ الشَّرْعَ، وَمِنْ ضَرُورَةِ تَصْدِيقِهِ لَهُ قَبُولُ خَبَرِهِ، وَالشَّرْعُ لَمْ يُصَدِّقِ الْعَقْلَ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَلَا الْعِلْمُ بِصِدْقِ الشَّرْعِ مَوْقُوفٌ عَلَى كُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ الْعَقْلُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْمَسْلَكَ إِذَا سُلِكَ أَصَحُّ مِنْ مَسْلَكِهِمْ، كَمَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِيمَانِ: يَكْفِيكَ مِنَ الْعَقْلِ أَنْ يُعَرِّفَكَ صِدْقَ الرَّسُولِ وَمَعَانِيَ كَلَامِهِ ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَقَالَ آخَرُ: الْعَقْلُ سُلْطَانٌ وَلَّى الرَّسُولَ ثُمَّ عَزَلَ نَفْسَهُ ; وَلِأَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ ; وَلِأَنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ دِلَالَةً عَامَّةً مُطْلَقَةً، وَلَا يَدُلُّ عَلَى