المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[المثال الثاني اسم الرحمن ورحمة الله] - مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

[ابن الموصلي]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌[فصل فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ التَّأْوِيلِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا]

- ‌[فصل تَنَازَعَ النَّاسُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ]

- ‌[فصل تَعْجِيزِ الْمُتَأَوِّلِينَ عَنْ تَحْقِيقِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَسُوغُ تَأْوِيلُهُ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وما لا يسوغ]

- ‌[فصل إِلْزَامِهِمْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي جَعَلُوهُ تَأَوُّلًا نَظِيرَ مَا فَرُّوا مِنْهُ]

- ‌[فَصْلٌ شبهات الجهمي في الوجه والعين والجنب والساق والجواب عليها]

- ‌[فصل فِي الْوَظَائِفِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْمُتَأَوِّلِ]

- ‌[فصل بَيَانِ أَنَّ التَّأْوِيلَ شَرٌّ مِنَ التَّعْطِيلِ]

- ‌[فصل قَصْدَ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الْمُخَاطَبِ حَمْلَ كَلَامِهِ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ يُنَافِي قَصْدَ الْبَيَانِ]

- ‌[فصل فِي بَيَانِهِ أَنَّهُ مَعَ كَمَالِ عِلْمِ الْمُتَكَلِّمِ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يُرِيدَ بِكَلَامِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ]

- ‌[فصل بَيَانِ أَنَّ تَيَسُّرَ الْقُرْآنِ لِلذِّكْرِ يُنَافِي حَمْلَهُ عَلَى التَّأْوِيلِ الْمُخَالَفَاتِ لِحَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ]

- ‌[فَصْلُ اشْتِمَالُ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَكْثَرَ مِنَ اشْتِمَالِهَا عَلَى مَا عَدَاهُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَقْبَلُ التَّأَوُّلَ مِنَ الْكَلَامِ وَمَا لَا يَقْبَلُهُ]

- ‌[فَصْلٌ لَا يَأْتِي الْمُعَطِّلُ لِلتَّوْحِيدِ الْعِلْمِيِّ بِتَأْوِيلٍ إِلَّا أَمْكَنَ الْمُعَطِّلُ لِلتَّوْحِيدِ الْعَمَلِيِّ أَنْ يَأْتِيَ بِتَأْوِيلٍ مِنْ جِنْسِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي انْقِسَامِ النَّاسِ فِي نُصُوصِ الْوَحْيِ]

- ‌[فَصْلٌ أَسْبَابٌ قَبُولُ التَّأْوِيلِ]

- ‌[فَصْلٌ أَهْلَ التَّأْوِيلِ لَا يُمْكِنُهُمْ إِقَامَةَ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ عَلَى مُبْطِلٍ أَبَدًا وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الآفَاتِ]

- ‌[حُجَجُهُ سُبْحَانَهُ الْعَقْلِيَّةُ والسمعية على توحيده وأسمائه وصفاته]

- ‌[موافقة صريح العقل لصحيح النقل]

- ‌[كَسْرُ الطَّاغُوتِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُمْ إِذَا تَعَارَضَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ]

- ‌[تَقْدِيمَ الْعَقْلِ عَلَى الشَّرْعِ يَتَضَمَّنُ الْقَدْحَ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ]

- ‌[إتمام الله لدينه لا يحوجنا إلى العقل]

- ‌[اتفاق العقل والنقل]

- ‌[معارضة العقل للشرع من عادة الكفار]

- ‌[الاحتجاج بشهادة العقل وحده باطلة]

- ‌[غاية ما ينتهي إليه من عارض الشرع بالعقل]

- ‌[كذب من زعم أن السلف لا يدرون معاني ألفاظ الصفات]

- ‌[أنواع التوحيد الصحيحة والباطلة]

- ‌[تسمية أهل الزيغ توحيد الرسل شركا وتجسيما]

- ‌[لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتا لا نفيا]

- ‌[الجهة والفوقية والعلو نفيها عنه سبحانه تعطيل]

- ‌[فصل إنكار القدرية خلق أفعال العباد وتسميتهم بذلك بالعدل]

- ‌[العقل يصدق ما جاء الوحي أشد مما يصدق كثير من المحسوسات]

- ‌[أصول المعارضين للشرع بالعقل تنفي وجود الصانع لا صفاته فحسب]

- ‌[فصل مذهب أهل الكلام في الصفات]

- ‌[معارضة الوحي بالعقل]

- ‌[الفطرة والمعقول يثبتان صفات الله]

- ‌[أحسن ما قيل في المثل الأعلى]

- ‌[الصحابة كانوا يستشكلون بعض النصوص ببعضها لا بمعقولات]

- ‌[إنكار الصحابة على من عارض النصوص بآراء الرجال]

- ‌[الجهمية أول من عارض الوحي بالرأي]

- ‌[قيام ابن تيمية بالحجة واليد على غزو أهل الضلال]

- ‌[إثبات الصفات لا يلزم منه التشبيه]

- ‌[إفحام من ينكر الصفات]

- ‌[توحيد الجهمية والفلاسفة مناقض لتوحيد الرسل]

- ‌[أقوى الطرق وأدلها على الصانع]

- ‌[الأصل الذي قاد إلى القول بالتعطيل]

- ‌[فصل اتفاق الحكماء مع السلف على علو الله]

- ‌[فصل مناقشة من يمنعون الإشارة الحسية إليه تعالى]

- ‌[مناقشة نفاة الصفات وإفحامهم]

- ‌[فصل الْجَهْمِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ مُعْتَرِفُونَ بِوَصْفَهِ تَعَالَى بِعُلُوِّ الْقَهْرِ وَعُلُوِّ الْقَدْرِ]

- ‌[فصل رؤية الرب إمكانها بالعقل وإثباتها بالشرع]

- ‌[نفي الشبيه ليس في نفسه مدح]

- ‌[فَصْلٌ حُجَّةِ الْجَهْمِيِّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَرْضَى وَلَا يَغْضَبُ وَلَا يُحِبُّ وَلَا يَسْخَطُ وَالْجَوَابُ عَنْهَا]

- ‌[إدراك حكمة الله في خلقه]

- ‌[معنى قضاء الله في عباده وتنزيهه عن الظلم]

- ‌[فصل استدلال الجبرية بقوله تعالى لا يسأَل عما يفعل]

- ‌[فصل ذوو الأرواح الذين يلحقهم اللذة والآلام أربعة أَصناف]

- ‌[فصل العدل الإلهي في الثواب والعقاب]

- ‌[فصل حكمة الله تعالى في خلق الضدين]

- ‌[فصل العبودية إنما تظهر عند الامتحان بالشهوات]

- ‌[حكمة الله تعالى في خلق إبليس]

- ‌[رحمة الله سبقت غضبة]

- ‌[فصل من عدله سبحانه أنه لا يزيد أحدا في العذاب على القدر الذي يستحقه]

- ‌[فصل في كسر الطاغوت الثالث الذي وضعته الجهمية لتعطيل حقائق الأسماء والصفات]

- ‌[فصل القول بالمجاز قول مبتدع]

- ‌[تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز تقسيم فاسد]

- ‌[تفريقهم بين الحقيقة والمجاز لاضطراد وفساده]

- ‌[أن العرب لم تضع جناح الذل لمعنى ثم نقلته من موضعه إلى غيره]

- ‌[الألفاظ التي تستعمل في حق الخالق والمخلوق لها ثلاث اعتبارت]

- ‌[أن الله تعالى هو الذي علمهم البيان بألفاظهم عما في أنفسهم]

- ‌[اللغة كلها حقيقة أو كلها مجاز]

- ‌[أنواع القرائن]

- ‌[تقسيم معاني الكلام إلى خبر وطلب واستفهام]

- ‌[نقل كلام ابن جني في المجاز والرد عليه]

- ‌[فصل ذكر ما ادعوا فيه المجاز من القرآن]

- ‌[المثال الأول قوله وجاء ربك والملك صفا صفا]

- ‌[المثال الثاني اسم الرحمن ورحمة الله]

- ‌[المثال الثالث استواء الله على عرشه]

- ‌[المثال الرابع إثبات اليدين حقيقة لله تعالى]

- ‌[المثال الخامس إثبات الوجه لله تعالى حقيقة]

- ‌[المثال السادس اسم الله النور وقوله تعالى الله نور السماوات والأرض]

- ‌[المثال السابع إثبات فوقية الله تعالى على الحقيقة]

- ‌[المثال الثامن إثبات نزوله حقيقة]

- ‌[حديث الجمعة وهو شجي في حلوق المعطلة]

- ‌[حديث لقيط بن عامر الجهني وفيه فوائد]

- ‌[النزول إلى الأرض يوم القيامة تواترت به الأحاديث وجاء به القرآن]

- ‌[فصل اختلاف أهل السنة في نزول الرب تبارك وتعالى على ثلاثة أقوال]

- ‌[فصل ثبوت الانتقال والحركة لله تعالى]

- ‌[المثال التاسع معية الله تعالى وقربه من عباده]

- ‌[المثال العاشر نداء الله ومناجاته وكلامه بحرف وصوت]

- ‌[فصل مذاهب الناس في كلام الله]

- ‌[مذهب الاتحادية]

- ‌[مذهب الفلاسفة المتأخرين]

- ‌[مذهب المعتزلة]

- ‌[مذهب الكلابية]

- ‌[مذهب الأشعري]

- ‌[مذهب الكرامية]

- ‌[مذهب السالمية]

- ‌[فصل مذهب أتباع الرسل]

- ‌[مسألة تكلم العباد بالقرآن]

- ‌[فصل جواب السؤال هل حروف المعجم قديمة أو مخلوقة]

- ‌[فصل كون الكلام في محاله]

- ‌[فصل سماع كلام الله مباشرة وبواسكة]

- ‌[فصل وجود القرآن في المصحف]

- ‌[فصل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك]

- ‌[فصل منشأ النزاع هل كلام الرب بمشيئتة أم لا]

- ‌[فصل هل يمكن وجود حرف نطقي بلا صوت]

- ‌[فصل الاحتجاج بالأحاديث النبوية على إثبات صفات الله المقدسة العلية]

- ‌[المقام الأول بيان إفادة النصوص الدلالة القاطعة على مراد المتكلم]

- ‌[المقام الثاني موافقة القرآن للحديث]

- ‌[فصل كلام الشافعي في الاحتجاج بالسنة]

- ‌[فصل المقام الرابع إفادتها للعلم واليقين]

- ‌[فصل التفصيل في خبر الواحد وأنه ليس سواء]

- ‌[كلام الإمام ابن حزم في أن خبر الواحد يفيد العلم قطعا]

- ‌[فصل استدلال ابن القيم على أن خبر الواحد يفيد العلم قطعا]

- ‌[فصل الاستدلال بأحاديث الآحاد في العلم كالعمل]

- ‌[فصل المقام الخامس هذه الأخبار لو لم تفد اليقين فإن الظن الغالب حاصل منها]

- ‌[فصل المقام السابع اختلاف درجة الدليل بحسب درجة فهم المستدل]

- ‌[فصل المقام الثامن انعقاد الإجماع على قبول أحاديث الآحاد]

- ‌[فصل ليس في السنة ما يخالف القرآن]

- ‌[فصل المقام التاسع والعاشر أن قولهم خبر الواحد لا يفيد العلم قضية كاذبة]

الفصل: ‌[المثال الثاني اسم الرحمن ورحمة الله]

اتِّفَاقِهِمْ حُجَّةً؟ فَأَمَّا النَّقْلُ وَالِاتِّفَاقُ فَهُوَ مِنْ جَانِبِ الْحَقِيقَةِ بِلَا رَيْبٍ، وَأَمَّا الْعَقْلُ فَإِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ أَوْلَى بِهِ مِنْهُمْ، وَهُمْ قَدْ أَبْطَلُوا جَمِيعَ عَقْلِيَّاتِكُمُ الَّتِي لِأَجْلِهَا ادَّعَيْتُمْ أَنَّ نِسْبَةَ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالنُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ وَجْهٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَسَلِمَ لَهُمُ النَّقْلُ وَاتِّفَاقُ السَّلَفِ، فَكَيْفَ وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ مِنْ جَانِبِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْلٍ يَقُومُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْجَمَادِ.

التَّاسِعُ: أَنَّ هَذَا الَّذِي ادَّعَوْا حَذْفَهُ وَإِضْمَارَهُ يَلْزَمُهُمْ فِيهِ كَمَا لَزِمَهُمْ فِيمَا أَنْكَرُوهُ، فَإِنَّهُمْ إِذَا قَدَّرُوا وَجَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَيَأْتِي أَمْرُهُ وَيَجِيءُ أَمْرُهُ وَيَنْزِلُ أَمْرُهُ، فَأَمْرُهُ هُوَ كَلَامُهُ وَهُوَ حَقِيقَةٌ، فَكَيْفَ تَجِيءُ الصِّفَةُ وَتَأْتِي وَتَنْزِلُ دُونَ مَوْصُوفِهَا، وَكَيْفَ يَنْزِلُ الْأَمْرُ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ.

وَلَمَّا تَفَطَّنَ بَعْضُهُمْ لِذَلِكَ قَالَ: أَمْرُهُ بِمَعْنَى مَأْمُورِهِ، فَالْخَلْقُ وَالرِّزْقُ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ وَالْمَرْزُوقِ فَرَكَّبَ مَجَازًا عَلَى مَجَازٍ بِزَعْمِهِ وَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، فَإِنَّ مَأْمُورَهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ وَيُخْلَقُ بِأَمْرِهِ وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُمْ أَمْرٌ يَقُومُ بِهِ، فَلَا كَلَامَ يَقُومُ بِهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَجَازُ الْكِنَايَةِ عَنْ سُرْعَةِ الِانْفِعَالِ بِمَشِيئَتِهِ تَشْبِيهًا بِمَنْ يَقُولُ: كُنْ، فَيَكُونُ الشَّيْءُ عَقِيبَ تَكْوِينِهِ، فَرَكَّبُوا مَجَازًا عَلَى مَجَازٍ وَلَمْ يَصْنَعُوا شَيْئًا، فَإِنَّ هَذَا الْمَأْمُورَ الَّذِي يَأْتِي إِنْ كَانَ مَلَكًا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ:{إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [الأنعام: 158] وَإِنْ كَانَ شَيْئًا غَيْرَ الْمَلَكِ فَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِهِ فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] .

الْعَاشِرُ: أَنَّ مَا ادَّعَوْا مِنَ الْحَذْفِ وَالْإِضْمَارِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِيهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَوَّلًا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَمْ يَجُزِ ادِّعَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يَكُونُ مَجَازًا، فَإِنَّ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ يَمْتَنِعُ تَقْدِيرُهُ.

[المثال الثاني اسم الرحمن ورحمة الله]

الْمِثَالُ الثَّانِي: مِمَّا ادَّعَوْا أَنَّهُ مَجَازٌ اسْمُهُ سُبْحَانَهُ (الرَّحْمَنُ) وَقَالُوا وَصْفُهُ بِالرَّحْمَةِ مَجَازٌ، قَالُوا: لِأَنَّ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ هِيَ رِقَّةٌ تَعْتَرِي الْقَلْبَ، وَهِيَ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسِيَّةِ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهَا، وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ جَحَدُوا حَقِيقَةَ الرَّحْمَةِ فَقَالُوا إِنَّ نِسْبَتَهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِرَحِيمٍ بِعِبَادِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى هَذَا النَّفْيِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] فَأَنْكَرُوا حَقِيقَةَ اسْمِ الرَّحْمَنِ أَنْ يُسَمَّى بِذَلِكَ، وَلَمْ يَكُونُوا يُنْكِرُونَ ذَاتَهُ

ص: 359

وَرُبُوبِيَّتَهُ، وَلَا مَا يَجْعَلُهُ الْمُعَطِّلَةُ مَعْنَى اسْمِ الرَّحْمَنِ مِنَ الْإِحْسَانِ، فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُنْكِرُوا إِحْسَانَ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ كَانَ هَذَا كَمَا ذَكَرْتُمْ لَأَنْكَرُوا اسْمَ الرَّحِيمِ لِأَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ.

قِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يُنْكِرُوا الرَّحِيمَ لِأَنَّ وُرُودَ الرَّحْمَنِ فِي أَسْمَائِهِ أَكْثَرُ مِنْ وُرُودِ الرَّحِيمِ.

وَلِهَذَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59] ، {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45] ، {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ} [النبأ: 37] {الرَّحْمَنُ - عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 1 - 2] وَإِنَّمَا جَاءَ الرَّحِيمُ مُقَيَّدًا كَقَوْلِهِ: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] وَقَوْلِهِ: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117] ، وَمَقْرُونًا بِاسْمِ الرَّحْمَنِ كَمَا فِي الْفَاتِحَةِ، أَوْ بِاسْمٍ آخَرَ نَحْوِ:{الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 9] وَأَيْضًا فَالرَّحْمَنُ جَاءَ عَلَى بِنَاءِ فَعْلَانَ الدَّالِّ عَلَى الصِّفَةِ الثَّابِتَةِ اللَّازِمَةِ الْكَامِلَةِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ هَذَا الْبِنَاءُ نَحْوَ غَضْبَانَ وَنَدْمَانَ وَحَيْرَانَ، فَالرَّحْمَنُ مِنْ صِفَتِهِ الرَّحْمَةُ، وَالرَّحِيمُ مَنْ يَرْحَمُ بِالْفِعْلِ.

وَأَيْضًا فَلَا يَخْلُو إِنْكَارُهُمْ لِهَذَا الِاسْمِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ دَلَالَتُهُ عَلَى حَقِيقَةِ الرَّحْمَةِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَمَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فَقَدْ وَافَقَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَوْضُوعَ الِاسْمِ وَحَقِيقَتَهُ صِفَةُ الرَّحْمَةِ الْقَائِمَةِ بِمَوْصُوفِهَا، فَلَوْ كَانَتْ حَقِيقَةُ الِاسْمِ مُنْتَفِيَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكَانَ طَعْنُهُمْ أَقْوَى، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ وَصْفِهِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَالْجَوْرِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَلِيقُ بِهِ وَبِالْجُمْلَةِ فَالَّذِي أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ رَحْمَانًا عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ (جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ) وَشِيعَتُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] .

وَمِنْ أَعْظَمِ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَائِهِ إِنْكَارُ حَقَائِقِهَا وَمَعَانِيهَا وَالتَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا مَجَازَاتٌ وَهُوَ أَنْوَاعٌ هَذَا أَحَدُهَا، الثَّانِي: جَحْدُهَا وَإِنْكَارُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، الثَّالِثُ: تَشْبِيهُهُ فِيهَا بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَمَعَانِي أَسْمَائِهِ، وَأَنَّ الثَّابِتَ لَهُ مِنْهَا مُمَاثِلٌ لِلثَّابِتِ لِخَلْقِهِ، وَهَذَا يَذْكُرُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي كُتُبِهِمْ وَيَجْعَلُونَهَا مَقَالَةً لِبَعْضِ النَّاسِ، وَهَذِهِ كُتُبُ الْمَقَالَاتِ بَيْنَ أَظْهُرِنَا لَا نَعْلَمُ ذَلِكَ مَقَالَةً لِطَائِفَةٍ مِنَ الطَّوَائِفِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا الْمُعَطِّلَةُ الْجَهْمِيَّةُ يُسَمُّونَ كُلَّ مَنْ

ص: 360

أَثْبَتَ صِفَاتَ الْكَمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى مُشَبِّهًا وَمُمَثِّلًا، وَيَجْعَلُونَ التَّشْبِيهَ لَازِمَ قَوْلِهِمْ، وَيَجْعَلُونَ لَازِمَ الْمَذْهَبِ مَذْهَبًا، وَيُسْرِعُونَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَتَكْفِيرِهِمْ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُعَطِّلَةَ الْمُلْحِدِينَ فِي أَسْمَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى هُمُ الْمُشَبِّهُونَ فِي الْحَقِيقَةِ، لَا مَنْ أَثْبَتَ أَلْفَاظَهَا وَحَقَائِقَهَا مِنْ غَيْرِ تَمْثِيلٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، وَلِهَذَا لَا يَأْتِي الرَّدُّ فِي الْقُرْآنِ عَلَى هَذِهِ الْفِرْقَةِ الَّتِي انْتَصَبَ لَهَا هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهَا فِرْقَةٌ مُقَدَّرَةٌ فِي الْأَذْهَانِ وَلَا مَوْجُودَ لَهَا فِي الْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنَ الرَّدِّ عَلَى مَنْ شَبَّهَ الْمَخْلُوقَ بِالْخَالِقِ فِي صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ حَتَّى عَبَدَهُ مِنْ دُونِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْوَاقِعُ مِنْ بَنِي آدَمَ يُشَبِّهُونَ أَوْثَانَهُمْ وَمَعْبُودَهُمْ بِالْخَالِقِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] أَيْ مَنْ يُسَامِيهِ وَيُمَاثِلُهُ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] وَقَالَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فَنَفَى عَنِ الْمَخْلُوقِ مُمَاثَلَتَهُ وَمُكَافَأَتَهُ وَمُشَابَهَتَهُ وَمُسَامَاتَهُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ شِرْكِ بَنِي آدَمَ فَضَرَبَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَنْ ذَلِكَ صَفْحًا وَأَخَذُوا فِي الْمُبَالَغَةِ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ، وَلَا نَعْلَمُ فِرْقَةً مِنْ فِرَقِ بَنِي آدَمَ اسْتَقَلَّتْ بِهَذِهِ النِّحْلَةِ، وَجَعَلَتْهَا مَذْهَبًا تَذْهَبُ إِلَيْهِ حَتَّى وَلَا الْمُجَسِّمَةَ الْمَحْضَةَ الَّذِينَ حَكَى أَرْبَابُ الْمَقَالَاتِ مَذَاهِبَهُمْ كَالْهَاشِمِيَّةِ وَالْكَرَامِيَّةِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ جِسْمٌ لَمْ يَقُولُوا: إِنَّهُ مُمَاثِلٌ لِلْأَجْسَامِ بَلْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ جِسْمًا أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مَوْصُوفٌ بِالصِّفَاتِ، وَمُثْبِتُو الصِّفَاتِ لَا يُنَازِعُونَهُمْ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ نَازَعُوهُمْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِلْحَادَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِنْكَارِ لَفْظِ الِاسْمِ أَوْ بِإِنْكَارِ مَعْنَاهُ، فَإِنْ كَانَ إِنْكَارُ لَفْظِهِ إِلْحَادًا فَمَنِ ادَّعَى أَنَّ الرَّحْمَنَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِنَفْيِهَا فَلَا يَسْتَنْكِفُ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ بِالرَّحْمَنِ وَلَا الرَّحِيمِ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِلرَّجُلِ الشُّجَاعِ لَيْسَ بِأَسَدٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ.

وَإِنْ قَالُوا: نَتَأَدَّبُ فِي إِطْلَاقِ هَذَا النَّفْيِ فَالْأَدَبُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِطْلَاقِ وَإِنْ كَانَ الْإِلْحَادُ هُوَ إِنْكَارَ مَعَانِي أَسْمَائِهِ وَحَقَائِقِهَا فَقَدْ أَنْكَرْتُمْ مَعَانِيَهَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا بِإِطْلَاقِهَا، وَمَا صَرَفْتُمُوهُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَجَازِ فَنَقِيضُ مَعْنَاهَا أَوْ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَاهَا، وَلَيْسَ هُوَ الْحَقِيقَةَ، وَلِهَذَا يُصَرِّحُ غُلَاتُهُمْ بِإِنْكَارِ مَعَانِيهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَيَقُولُونَ: هِيَ أَلْفَاظٌ لَا مَعَانِيَ لَهَا.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الْحَامِلَ لَكُمْ عَلَى دَعْوَى الْمَجَازِ فِي اسْمِ (الرَّحْمَنِ) هُوَ بِعَيْنِهِ

ص: 361

مَوْجُودٌ فِي اسْمِ الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ، وَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ، وَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ، فَإِنَّ الْمَعْقُولَ مِنَ الْعِلْمِ صِفَةٌ عَرَضِيَّةٌ تَقُومُ بِالْقَلْبِ، إِمَّا ضَرُورِيَّةٌ وَأَمَّا نَظَرِيَّةٌ، وَالْمَعْقُولُ مِنَ الْإِرَادَةِ حَرَكَةُ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ لِجَلْبِ مَا يَنْفَعُهَا وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهَا أَوْ يَنْفَعُ غَيْرَهَا أَوْ يَضُرُّهُ، وَالْمَعْقُولُ مِنَ الْقُدْرَةِ الْقُوَّةُ الْقَائِمَةُ بِجِسْمٍ تَتَأَتَّى بِهِ الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ فَهَلْ تَجْعَلُونَ إِطْلَاقَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَلَى اللَّهِ حَقِيقَةً أَمْ مَجَازًا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: حَقِيقَةٌ تَنَاقَضْتُمْ أَقْبَحَ التَّنَاقُضِ إِذْ عَمَدْتُمْ إِلَى صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ فَجَعَلْتُمْ بَعْضَهَا حَقِيقَةً وَبَعْضَهَا مَجَازًا مَعَ وُجُودِ الْمَحْذُورِ فِيمَا جَعَلْتُمُوهُ حَقِيقَةً، وَإِنْ قُلْتُمْ: لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ مَحْذُورًا فَمِنْ أَيْنَ اسْتَلْزَمَ اسْمُ الرَّحْمَنِ الْمَحْذُورَ، وَإِنْ قُلْتُمُ الْكُلُّ مَجَازٌ لَمْ تَتَمَكَّنُوا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ إِثْبَاتِ حَقِيقَةِ اللَّهِ الْبَتَّةَ، لَا فِي أَسْمَائِهِ وَلَا فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ، وَهَذَا انْسِلَاخٌ مِنَ الْعَقْلِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ نُفَاةَ الصِّفَاتِ يَلْزَمُهُمْ نَفْيُ الْأَسْمَاءِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَإِنَّ الْعَلِيمَ وَالْقَدِيرَ وَالسَّمِيعَ وَالْبَصِيرَ، أَسْمَاءٌ تَتَضَمَّنُ ثُبُوتَ الصِّفَاتِ فِي اللُّغَةِ فِيمَنْ وُصِفَ بِهَا، فَاسْتِعْمَالُهَا لِغَيْرٍ مِمَّنْ وُصِفَ بِهَا اسْتِعْمَالٌ لِلِاسْمِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، فَكَمَا انْتَفَتْ عَنْهُ حَقَائِقُهَا فَإِنَّهُ تَنْتَفِي عَنْهُ أَسْمَاؤُهَا، فَإِنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَقَّ تَابِعٌ لِلْمُشْتَقِّ مِنْهُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَإِذَا انْتَفَتْ حَقِيقَةُ الرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، انْتَفَتِ الْأَسْمَاءُ الْمُشْتَقَّةُ مِنْهَا عَقْلًا وَلُغَةً، فَيَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْحَقِيقَةِ أَنْ تَنْفِيَ الصِّفَاتِ وَالِاسْمَ جَمِيعًا، فَالْمُعْتَزِلَةُ لَا تُقِرُّ بِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الْحَقِيقِيَّةَ تَسْتَلْزِمُ الصِّفَاتِ، ثُمَّ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ، وَيُثْبِتُونَ الْأَسْمَاءَ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ كَمَا قَالُوا فِي الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُرِيدِ.

وَبَعْضُ الْجَهْمِيَّةِ يُسَاعِدُ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ يَسْتَلْزِمُ الصِّفَةَ، ثُمَّ يَنْفِي الصِّفَةَ وَيَنْفِي حَقِيقَةَ الِاسْمِ وَيَقُولُ: هَذَا مَجَازٌ، فَهُوَ شَرٌّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ مَنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَتَنَاقَضُ فَيُثْبِتُ بَعْضَ الصِّفَاتِ وَحَقَائِقَ الْأَسْمَاءِ وَيَنْفِي نَظِيرَهَا وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ حَقِيقَةِ الِاسْمِ.

وَأَهْلُ السُّنَّةِ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ وَحَقَائِقَ الْأَسْمَاءِ، فَالْأَسْمَاءُ عِنْدَهُمْ حَقَائِقُ وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلصِّفَاتِ.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ أَظْهَرَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي افْتَتَحَ اللَّهُ بِهَا كِتَابَهُ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ وَهِيَ مِنْ أَظْهَرِ شِعَارِ التَّوْحِيدِ، وَالْكَلِمَةُ الْجَارِيَةُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) الَّتِي هِيَ مِفْتَاحُ الطَّهُورِ وَالصَّلَاةِ وَجَمِيعِ الْأَفْعَالِ، كَيْفَ يَكُونُ مَجَازًا؟ هَذَا مِنْ أَشْنَعِ الْأَقْوَالِ، فَهَذَانِ الِاسْمَانِ اللَّذَانِ افْتَتَحَ اللَّهُ بِهِمَا أُمَّ الْقُرْآنِ،

ص: 362

وَجَعَلَهُمَا عُنْوَانَ مَا أَنْزَلَهُ مِنَ الْهُدَى وَالْبَيَانِ، وَضَمَّنَهُمَا الْكَلِمَةَ الَّتِي لَا يَثْبُتُ لَهَا شَيْطَانٌ، وَافْتَتَحَ بِهَا كِتَابَهُ نَبِيُّ اللَّهِ سُلَيْمَانُ، وَكَانَ جِبْرَائِيلُ يَنْزِلُ بِهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ افْتِتَاحِ كُلِّ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ.

الْوَجْهُ السَّادِسُ: قَوْلُهُمْ: (الرَّحْمَةُ رِقَّةُ الْقَلْبِ) تُرِيدُونَ رَحْمَةَ الْمَخْلُوقِ، أَمْ رَحْمَةَ الْخَالِقِ، أَمْ كُلُّ مَا سُمِّيَ رَحْمَةً، شَاهِدًا أَوْ غَائِبًا، فَإِنْ قُلْتُمْ بِالْأَوَّلِ صَدَقْتُمْ وَلَمْ يَنْفَعْكُمْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَإِنْ قُلْتُمْ بِالثَّانِي وَالثَّالِثِ كُنْتُمْ قَائِلِينَ غَيْرَ الْحَقِّ، فَإِنَّ الرَّحْمَةَ صِفَةُ الرَّحِيمِ وَهِيَ فِي كُلِّ مَوْصُوفٍ بِحَسَبَهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْصُوفُ حَيَوَانًا لَهُ قَلْبٌ فَرَحْمَتُهُ مِنْ جِنْسِهِ رِقَّةٌ قَائِمَةٌ بِقَلْبِهِ، وَإِنْ كَانَ مَلَكًا فَرَحَمَتُهُ تُنَاسِبُ ذَاتَهُ، فَإِذَا اتَّصَفَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ بِالرَّحْمَةِ حَقِيقَةً، لَمْ يَلْزَمْ أَنْ تَكُونَ رَحْمَتُهُ مِنْ جِنْسِ الْمَخْلُوقِ لِمَخْلُوقٍ، وَهَذَا يَطَّرِدُ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْحَيَاةِ وَالْإِرَادَةِ إِلْزَامًا وَجَوَابًا، فَكَيْفَ يَكُونُ رَحْمَةُ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ مَجَازًا دُونَ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ؟ .

الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ اسْمَ الرَّحْمَةِ اسْتُعْمِلَ فِي صِفَةِ الْخَالِقِ وَصِفَةِ الْمَخْلُوقِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْمَوْصُوفِينَ، أَوْ حَقِيقَةً فِي الْخَالِقِ مَجَازًا فِي الْمَخْلُوقِ، أَوْ عَكْسَهُ، فَإِذَا كَانَتْ حَقِيقَةً فِيهِمَا، فَإِمَّا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ التَّوَاطُؤُ، أَوْ حَقِيقَتَانِ، وَهُوَ الِاشْتِرَاكُ، وَمُحَالٌ أَنْ تَكُونَ مُشْتَرَكَةً لِأَنَّ مَعْنَاهَا يُفْهَمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَيَجْمَعُهُمَا مَعْنًى وَاحِدٌ وَيَصِحُّ تَقْسِيمُهَا، وَخَوَاصُّ الْمُشْتَرَكِ مَنْفِيَّةٌ عَنْهَا، وَلِأَنَّهَا لَمْ يُشْتَقَّ لَهَا وَضْعٌ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَتْ مِنَ الْمَخْلُوقِ لِلْخَالِقِ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ أَهْلُ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ، فَبَقِيَ قِسْمَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْخَالِقِ مَجَازًا فِي الْمَخْلُوقِ، الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً مُتَوَاطِئَةً أَوْ مُشْتَرَكَةً، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُهَا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَجَازًا.

الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَالِ أَنْ تَكُونَ رَحْمَةُ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ مَجَازًا، وَرَحْمَةُ الْعَبْدِ الضَّعِيفَةِ الْقَاصِرَةِ الْمَخْلُوقَةِ الْمُسْتَعَارَةِ مِنْ رَبِّهِ الَّتِي هِيَ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ حَقِيقَةً، وَهَلْ فِي قَلْبِ الْحَقَائِقِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا؟ فَالْعِبَادُ إِنَّمَا حَصَلَتْ لَهُمْ هَذِهِ الصِّفَاتُ الَّتِي هِيَ كَمَالٌ فِي حَقِّهِمْ، مِنْ آثَارِ صِفَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، فَكَيْفَ تَكُونُ لَهُمْ حَقِيقَةٌ، وَلَهُ مَجَازٌ، يُوَضِّحُهُ:

الْوَجْهُ التَّاسِعُ: وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ «قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَنَا الرَّحْمَنُ، خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنِ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ

ص: 363

قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ» " فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ اسْمَ الرَّحْمَةِ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِهِ الرَّحْمَنِ تَعَالَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ لَمَّا كَانَتْ هِيَ الْأَصْلَ فِي الْمَعْنَى كَانَتْ هِيَ الْأَصْلَ فِي اللَّفْظِ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ حَسَّانَ رضي الله عنه فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:

فَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ

فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ

فَإِذَا كَانَتْ أَسْمَاءُ الْخَلْقِ الْمَحْمُودَةُ مُشْتَقَّةً مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى كَانَتْ أَسْمَاؤُهُ يَقِينًا سَابِقَةً، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَجَازًا لَكَانَتِ الْحَقِيقَةُ سَابِقَةً لَهَا، فَإِنَّ الْمَجَازَ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، فَيَكُونُ اللَّفْظُ قَدْ سُمِّيَ بِهِ الْمَخْلُوقُ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى الْخَالِقِ، وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا.

الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» " وَفِي لَفْظٍ (غَلَبَتْ) وَقَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] فَوَصَفَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ بِالرَّحْمَةِ وَتُسَمَّى بِالرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَنُو آدَمَ، فَادِّعَاءُ الْمُدَّعِي أَنَّ وَصْفَهُ بِالرَّحْمَنِ مَجَازٌ مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ.

الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ أَسْمَاءَ الرَّبِّ قَدِيمَةٌ لَمْ يَسْتَحْدِثْهَا مِنْ جِهَةِ خَلْقِهِ، بَلْ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِهَا، مُسَمًّى بِهَا، وَالْمَجَازُ مَسْبُوقٌ بِالْحَقِيقَةِ وَضْعًا وَاسْتِعْمَالًا وَمَرْتَبَةً، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُمْتَنِعٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.

فَإِنْ قِيلَ: بَعْضُهَا مُسْتَعَارٌ مِنْ بَعْضٍ، وَفِيهَا الْحَقِيقَةُ وَفِيهَا الْمَجَازُ، وَمَجَازُهَا مُسْتَعَارٌ مِنْ حَقَائِقِهَا، كَالرَّحْمَنِ مُسْتَعَارٌ مِنِ اسْمِ الْمُحْسِنِ، وَذَلِكَ لَا مَحْذُورَ فِيهِ.

قِيلَ: هَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ مِنْ عَوَارِضِ الْوَضْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ، وَهُمَا مَعًا وَأَيًّا مَا كَانَ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَى الْمَجَازِ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.

الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُسْتَعَارَ يَكُونُ فِي الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ أَكْمَلَ مِنْهُ فِي الْمُسْتَعَارِ لَهُ، وَأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِالْحَقِيقَةِ أَكْمَلُ مِنَ الْمَعْنَى

ص: 364

الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ بِالْمَجَازِ، وَإِنَّمَا يُسْتَعَارُ لِتَكْمِيلِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ تَشْبِيهَهُ بِالْحَقِيقِيِّ كَمَا يُسْتَعَارُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْبَحْرُ لِلرَّجُلِ الشُّجَاعِ وَالْجَمِيلِ وَالْجَوَادِ، فَإِذَا جُعِلَ الرَّحْمَنُ وَالرَّحِيمُ وَالْوَدُودُ وَغَيْرُهَا مِنْ أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ حَقِيقَةً فِي الْعَبْدِ مَجَازًا فِي الرَّبِّ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَاتُ فِي الْعَبْدِ أَكْمَلَ مِنْهَا فِي الرَّبِّ تَعَالَى.

الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ وَصْفَهُ تَعَالَى بِكَوْنِهِ رَحْمَانًا رَحِيمًا حَقِيقَةٌ أَوْلَى مِنْ وَصْفِهِ بِالْإِرَادَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ، وَلَيْسَ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الْمُرِيدُ، وَالْمُتَكَلِّمُونَ يَقُولُونَ مُرِيدٌ لِبَيَانِ إِثْبَاتِ الصِّفَةِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، لِأَنَّ الْإِرَادَةَ تَنَاوُلُ مَا يَحْسُنُ إِرَادَتُهُ وَمَا لَا يَحْسُنُ، فَلَمْ يُوصَفْ بِالِاسْمِ الْمُطْلَقِ مِنْهَا، كَمَا لَيْسَ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الْفَاعِلُ وَلَا الْمُتَكَلِّمُ، وَإِنَّمَا كَانَ فَعَّالًا مُرِيدًا مُتَكَلِّمًا بِالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، فَلَيْسَ الْوَصْفُ بِمُطْلَقِ الْكَلَامِ وَمُطْلَقِ الْإِرَادَةِ وَمُطْلَقِ الْفِعْلِ يَقْتَضِي مَدْحًا وَحَمْدًا حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِمَا يَحْسُنُ تَعَلُّقُهُ بِهِ، بِخِلَافِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ وَالْعَدْلِ وَالْمُحْسِنِ وَالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَإِنَّ هَذِهِ كَمَالَاتٌ فِي أَنْفُسِهَا لَا تَكُونُ نَقْصًا وَلَا مُسْتَلْزِمَةً لِنَقْصٍ الْبَتَّةَ.

فَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُ مُرِيدٌ حَقِيقَةً وَلَهُ إِرَادَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَلَيْسَ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الْمُرِيدُ، فَلِأَنْ يَكُونَ رَحْمَانًا رَحِيمًا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِالرَّحْمَةِ حَقِيقَةٌ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ أَوْلَى وَأَحْرَى.

الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ الرَّحْمَةَ مَقْرُونَةٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ بِلَوَازِمِ الْمَخْلُوقِ مِنَ الْحُدُوثِ وَالنَّقْصِ وَالضَّعْفِ وَغَيْرِهِ، وَهَذِهِ اللَّوَازِمُ مُمْتَنِعَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الرَّحْمَةُ اسْمًا لِلْقَدْرِ الْمَمْدُوحِ فَقَطْ، أَوِ الْمَمْدُوحِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ النَّقْصِ، فَإِنْ كَانَتِ اسْمًا لِلْقَدْرِ الْكَامِلِ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ نَقْصًا، وَذَلِكَ ثَابِتٌ لِلرَّبِّ تَعَالَى كَانَتْ حَقِيقَةً فِي حَقِّهِ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَتِ اسْمًا لِلْمَجْمُوعِ فَالثَّابِتُ لِلرَّبِّ تَعَالَى هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ، وَغَايَةُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتُعْمِلَ لَفْظُهَا فِي بَعْضِ مَدْلُولِهِ كَالْعَامِّ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْخُصُوصِ، وَالْأَمْرُ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي النَّدْبِ وَذَلِكَ لَا يُخْرِجُ اللَّفْظَ عَنْ حَقِيقَتِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ النَّاسِ.

قِيلَ: هَذَا حَقِيقَةٌ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّ اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَجْمُوعِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ، وَفِي الْبَعْضِ عِنْدَ تَقْيِيدِهِ، وَالْمُطْلَقُ مَوْضُوعٌ وَالْمُقَيَّدُ مَوْضُوعٌ، كَمَا تَقَدَّمَ، لَا سِيَّمَا أَكْثَرَ النَّاسِ يَقُولُونَ: إِنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ وَصِفَتَهُ لَيْسَ غَيْرًا لَهُ، كَمَا أَجَابَ مُثْبِتُو الصِّفَاتِ لِنُفَاتِهَا وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، فَلَا يَكُونُ مَجَازًا.

الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ هَذَا النَّقْضَ اللَّازِمَ لِلصِّفَةِ لَيْسَ هُوَ مِنْ مَوْضُوعِهَا وَلَا

ص: 365

مُسَمَّى لَفْظِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ خُصُوصِ الْإِضَافَةِ، فَالْقَدْرُ الْمَمْدُوحُ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُ الصِّفَةِ وَالنَّقْصُ اللَّازِمُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي مَوْضُوعِهَا، وَكَذَلِكَ لَا دَلَالَةَ فِي لَفْظِهَا عَلَى الْعَدَمِ، وَالْوُجُودُ غَايَةُ الْكَمَالِ الَّذِي لَا كَمَالَ فَوْقَهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ إِضَافَتِهَا وَنِسْبَتِهَا إِلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، فَإِذًا مَوْضُوعُ لَفْظِهَا مُطْلَقُ الْمَعْنَى الْمَمْدُوحِ، وَخُصُوصُ الْإِضَافَةِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي اللَّفْظِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي حَقِّ الرَّبِّ تَعَالَى كَانَتْ حَقِيقَةً، وَإِذَا اسْتُعْمِلَتْ لِلْعَبْدِ كَانَتْ حَقِيقَةً.

فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ فَصْلُ الْخِطَابِ فِيمَا يُطْلَقُ عَلَى الرَّبِّ وَالْعَبْدِ، وَاعْتَبِرْ هَذَا فِيمَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَخْلُوقِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ مَعَ دَلَالَتِهِ عَلَى غَايَةِ الْمَدْحِ فِي الْمَحَلِّ، وَغَايَةِ الذَّمِّ فِي مَحَلٍّ آخَرَ.

مِثَالُهُ: قَوْلُكَ: هَذَا كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَدْيُهُ وَسَمْتُهُ، وَهَذَا كَلَامُ الصِّدِّيقِ، وَهَذَا كَلَامُ الْمُفْتَرِي، فَهَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا حَقِيقَةٌ، وَهُمَا فِي غَايَةِ التَّضَادِّ وَالِاخْتِلَافِ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ بِالْإِضَافَةِ نَظِيرُ التَّعْرِيفِ بِاللَّامِ يَنْصَرِفُ إِلَى كُلِّ مَحَلٍّ بِحَسَبِهِ {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] هُوَ مُوسَى، وَ {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ} [النور: 63] هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَرَسُولُ دَالٌّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَاللَّامُ تَدُلُّ عَلَى تَعْرِيفِهِ وَتَعْيِينِهِ، وَكُلٌّ مِنَ الْمَوْضِعَيْنِ حَقِيقَةٌ، هَذَا مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ مُجَرَّدًا عَنِ التَّعْرِيفِ كَثِيرًا.

وَأَمَّا لَفْظُ الرَّحْمَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْيَدِ وَالْوَجْهِ وَالْكَلَامِ فَلَا تَكَادُ تُسْتَعْمَلُ إِلَّا مُضَافَةً إِلَى مَحَلِّهَا، فَلُزُومُ الْإِضَافَةِ فِيهَا نَحْوُ لُزُومِهَا فِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَعْلَامِ، وَلَا سِيَّمَا الْمُضَافَةُ إِلَى الرَّبِّ كَقَوْلِهِ:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] ، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] ، {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 20] ، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] ، {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] فَهَذِهِ الْإِضَافَةُ تَمْنَعُ أَنْ يَدْخُلَ فِي اسْمِ الصِّفَةِ شَيْءٌ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَالْمَحْذُوفُ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُمْ دَعْوَى الْمَجَازِ فِيهَا مُنْتَفٍ بِالْإِضَافَةِ قَطْعًا فَلَا وَجْهَ لِدَعْوَى الْمَجَازِ فِيهَا الْبَتَّةَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا، فَإِنَّهَا بِإِضَافَتِهَا الْخَاصَّةِ دَلَّتْ عَلَى مَا لَا تَسَعُهُ الْعِبَارَةُ مِنَ الْكَمَالِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.

ص: 366

الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ: أَنْ يُقَالَ لِمَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا مِنَ الصِّفَاتِ بِالْعَقْلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ بِقِيَاسٍ شُمُولِيٍّ أَوْ قِيَاسٍ تَخْيِيلِيٍّ، فَتَقُولُ فِي الشُّمُولِيِّ: كُلُّ فِعْلٍ مُنْقَلٍ مُحْكَمٍ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عِلْمِ فَاعِلِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتُ كَذَلِكَ فَهِيَ. دَالَّةٌ عَلَى عِلْمِ الرَّبِّ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَتَقُولُ فِي التَّمْثِيلِ: الْفِعْلُ الْمُتْقَنُ يَدُلُّ عَلَى عِلْمِ فَاعِلِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي الشَّاهِدِ، فَكَانَ دَلِيلًا فِي الْغَائِبِ، وَالدَّلَالَةُ الْعَقْلِيَّةُ لَا تَخْتَلِفُ شَاهِدًا وَغَائِبًا، فَلَا يُمْكِنُكَ أَنْ تُثْبِتَ لَهُ سُبْحَانَهُ بِالْعَقْلِ صِفَةً أَوْ فِعْلًا إِلَّا بِالْقِيَاسِ الْمُتَضَمِّنِ قَضِيَّةً كُلِّيَّةً، إِمَّا لَفْظًا كَمَا فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ، وَإِمَّا مَعْنًى كَمَا فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ.

فَإِذَا كُنْتَ لَا يُمْكِنُكَ ثَبَاتُ الصَّانِعِ وَلَا صِفَاتُهُ إِلَّا بِالْقِيَاسِ الَّذِي لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِثْبَاتِ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ أَفْرَادِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا عِنْدَكَ تَشْبِيهًا مُمْتَنِعًا، فَكَيْفَ تُنْكِرُ مَعَانِيَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَحَقَائِقَهُ بِزَعْمِكَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَشْبِيهًا، وَهَذَا مِنْ أَنْفَعِ الْأَشْيَاءِ لِمَنْ لَهُ فَهْمٌ، فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَلَا بُدَّ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ الْمُتَوَاطِئَةِ مِنْ مَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَ أَفْرَادِهَا، فَجَحَدَ الْمُعَطِّلَةُ حَقَائِقَهَا لِمَا زَعَمُوا فِيهَا مِنَ التَّشْبِيهِ، وَهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ إِثْبَاتُ شَيْءٍ يَعْتَقِدُونَهُ إِلَّا بِنَوْعٍ مِنَ الْقِيَاسِ الْمُتَضَمِّنِ التَّشْبِيهَ الَّذِي فَرُّوا مِنْهُ، لَا فِي جَانِبِ النَّفْيِ وَلَا فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ، فَهُمْ مُنْكِرُونَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ بِمَا هُوَ مِنْ نَوْعِهِ أَوْ دُونَهُ، وَهَذَا غَايَةُ الضَّلَالِ، فَلْيُتَأَمَّلْ ذَلِكَ.

الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ مَنِ ادَّعَى أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ مَجَازٌ أَوِ اسْمَهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، إِمَّا أَنْ يُثْبِتَ لِهَذَا اللَّفْظِ مَعْنًى أَوْ لَا، وَالثَّانِي يُقِرُّ الْمُنَازِعُ بِبُطْلَانِهِ، وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ مَعْنًى لِهَذَا اللَّفْظِ، فَإِمَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ مَحْذُورًا أَوْ لَا، فَإِنْ تَضَمَّنَ مَحْذُورًا لَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ مَحْذُورًا لَمْ يُمْكِنْ إِثْبَاتُهُ لِإِخْرَاجِ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ أَوْلَى مِنْ بَقَاءِ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَإِثْبَاتِ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ، إِذِ انْتِفَاءُ الْمَحْذُورِ عَنِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَاحِدٌ، وَتَسْلَمُ الْحَقِيقَةُ وَهِيَ الْأَصْلُ، فَأَمَّا إِخْرَاجُ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ لِأَمْرٍ لَا يَتَخَلَّصُ بِهِ فِي الْمَجَازِ وَلَا مَحْذُورَ مِنْهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا فِي الْمَجَازِ مَعْنًى لَهُ بَلْ هُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ.

الْوَجْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى فَرَّقَ بَيْنَ رَحْمَتِهِ وَالرِّضْوَانِ وَثَوَابِهِ الْمُنْفَصِلِ فَقَالَ تَعَالَى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 21] فَالرَّحْمَةُ وَالرِّضْوَانُ صِفَتُهُ وَالْجَنَّةُ ثَوَابُهُ، وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الرَّحْمَةَ

ص: 367

وَالرِّضْوَانَ ثَوَابًا مُنْفَصِلًا مَخْلُوقًا، وَقَوْلَ مَنْ قَالَ: هِيَ إِرَادَتُهُ الْإِحْسَانَ، فَإِنَّ إِرَادَتَهُ الْإِحْسَانَ هِيَ مِنْ لَوَازِمِ الرَّحْمَةِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الرَّحْمَةِ أَنْ يُرِيدَ الْإِحْسَانَ إِلَى الْمَرْحُومِ، فَإِذَا انْتَفَتْ حَقِيقَةُ الرَّحْمَةِ انْتَفَى لَازِمُهَا، وَهُوَ إِرَادَةُ الْإِحْسَانِ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ اللَّعْنَةِ وَالْغَضَبِ وَالْمَقْتِ هِيَ أُمُورٌ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْعُقُوبَةِ، فَإِذَا انْتَفَتْ حَقَائِقُ تِلْكَ الصِّفَاتِ انْتَفَى لَازِمُهَا، فَإِنَّ ثُبُوتَ لَازِمِ الْحَقِيقَةِ مَعَ انْتِفَائِهَا مُمْتَنِعٌ، فَالْحَقِيقَةُ لَا تُوجَدُ مُنْفَكَّةً عَنْ لَوَازِمِهَا.

الْوَجْهُ التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّ ظُهُورَ آثَارِ هَذِهِ الصِّفَةِ فِي الْوُجُودِ كَظُهُورِ أَثَرِ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ، فَإِنَّ مَا لِلَّهِ عَلَى خَلْقِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالْإِنْعَامِ شَاهِدٌ بِرَحْمَةٍ تَامَّةٍ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، كَمَا أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا شَاهِدَةٌ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ التَّامَّةِ الْكَامِلَةِ، وَمَا فِي الْعَالَمِ مِنْ آثَارِ التَّدْبِيرِ وَالتَّصْرِيفِ الْإِلَهِيِّ شَاهِدٌ بِمُلْكِهِ سُبْحَانَهُ، فَجَعَلَ صِفَةَ الرَّحْمَةِ وَاسْمَ الرَّحْمَةِ مَجَازًا كَجَعْلِ صِفَةِ الْمُلْكِ وَالرُّبُوبِيَّةِ مَجَازًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي شَرْعٍ وَلَا عَقْلٍ وَلَا لُغَةٍ.

وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ بُطْلَانَ هَذَا الْقَوْلِ فَانْظُرْ إِلَى مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، فَبِرَحْمَتِهِ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا كِتَابَهُ وَعَصَمَنَا مِنَ الْجَهَالَةِ وَهَدَانَا مِنَ الضَّلَالَةِ وَبَصَّرَنَا مِنَ الْعَمَى وَأَرْشَدَنَا مِنَ الْغَيِّ، وَبِرَحْمَتِهِ عَرَّفَنَا مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَتِهِ وَأَفْعَالِهِ مَا عَرَفْنَا بِهِ أَنَّهُ رَبُّنَا وَمَوْلَانَا، وَبِرَحْمَتِهِ عَلَّمَنَا مَا لَمْ نَكُنْ نَعْلَمُ، وَأَرْشَدَنَا لِمَصَالِحِ دِينِنَا وَدُنْيَانَا، وَبِرَحْمَتِهِ أَطْلَعَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَبَسَطَ الْأَرْضَ، وَجَعَلَهَا مِهَادًا وَفِرَاشًا وَقَرَارًا وَكِفَاتًا لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، وَبِرَحْمَتِهِ أَنْشَأَ السَّحَابَ وَأَمْطَرَ الْمَطَرَ، وَأَطْلَعَ الْفَوَاكِهَ وَالْأَقْوَاتَ وَالْمَرْعَى، وَمِنْ رَحْمَتِهِ سَخَّرَ لَنَا الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَالْأَنْعَامَ وَذَلَّلَهَا مُنْقَادَةً لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ وَالْأَكْلِ وَالدَّرِّ، وَبِرَحْمَتِهِ وَضَعَ الرَّحْمَةَ بَيْنَ عِبَادِهِ لِيَتَرَاحَمُوا بِهَا، وَكَذَلِكَ بَيْنَ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ.

فَهَذَا التَّرَاحُمُ الَّذِي بَيْنَهُمْ بَعْضُ آثَارِ الرَّحْمَةِ الَّتِي هِيَ صِفَتُهُ وَنِعْمَتُهُ، وَاشْتَقَّ لِنَفْسِهِ مِنْهَا اسْمَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَأَوْصَلَ إِلَى خَلْقِهِ مَعَانِيَ خِطَابِهِ بِرَحْمَتِهِ، وَبَصَّرَهُمْ وَمَكَّنَ لَهُمْ أَسْبَابَ مَصَالِحِهِمْ بِرَحْمَتِهِ، وَأَوْسَعَ الْمَخْلُوقَاتِ عَرْشَهُ، وَأَوْسَعَ الصِّفَاتِ رَحْمَتَهُ، فَاسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ الَّذِي وَسِعَ الْمَخْلُوقَاتِ بِصِفَةِ رَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِهَذَا الِاسْمِ الَّذِي اشْتَقَّهُ مِنْ صِفَتِهِ وَتَسَمَّى بِهِ دُونَ خَلْقِهِ، كَتَبَ بِمُقْتَضَاهُ عَلَى نَفْسِهِ يَوْمَ اسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ حِينَ قَضَى الْخَلْقَ كِتَابًا، فَهُوَ عِنْدَهُ وَضَعَهُ

ص: 368

عَلَى عَرْشِهِ أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَكَانَ هَذَا الْكِتَابُ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ كَالْعَهْدِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا بِالرَّحْمَةِ لَهُمْ وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَالْمَغْفِرَةِ وَالتَّجَاوُزِ وَالسِّتْرِ وَالْإِمْهَالِ وَالْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ، فَكَانَ قِيَامُ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ بِمَضْمُونِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي لَوْلَاهُ لَكَانَ لِلْخَلْقِ شَأْنٌ آخَرُ، وَكَانَ عَنْ صِفَةِ الرَّحْمَةِ الْجَنَّةُ وَسُكَّانُهَا وَأَعْمَالُهَا، فَبِرَحْمَتِهِ خُلِقَتْ، وَبِرَحْمَتِهِ عُمِرَتْ بِأَهْلِهَا، وَبِرَحْمَتِهِ وَصَلُوا إِلَيْهَا، وَبِرَحْمَتِهِ طَابَ عَيْشُهُمْ فِيهَا، وَبِرَحْمَتِهِ احْتَجَبَ عَنْ خَلْقِهِ بِالنُّورِ، وَلَوْ كَشَفَ ذَلِكَ الْحِجَابَ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ.

وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَنَّهُ يُعِيذُ مِنْ سَخَطِهِ بِرِضَاهُ، وَمِنْ عُقُوبَتِهِ بِعَفْوِهِ، وَمِنْ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَنْ خَلَقَ لِلذَّكَرِ مِنَ الْحَيَوَانِ أُنْثَى مِنْ جِنْسِهِ، وَأَلْقَى بَيْنَهُمَا الْمَحَبَّةَ وَالرَّحْمَةَ، لِيَقَعَ بَيْنَهُمَا التَّوَاصُلُ الَّذِي بِهِ دَوَامُ التَّنَاسُلِ، وَانْتِفَاعُ الزَّوْجَيْنِ، وَيُمَتَّعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَحْوَجَ الْخَلْقَ بَعْضَهُمْ إِلَى بَعْضٍ لِتَتِمَّ مَصَالِحُهُمْ، وَلَوْ أَغْنَى بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ لَتَعَطَّلَتْ مَصَالِحُهُمْ وَانْحَلَّ نِظَامُهَا، وَكَانَ مِنْ تَمَامِ رَحْمَتِهِ بِهِمْ أَنْ جَعَلَ فِيهِمُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ، وَالْعَزِيزَ وَالذَّلِيلَ، وَالْعَاجِزَ وَالْقَادِرَ، وَالرَّاعِيَ وَالْمَرْعِيَّ، ثُمَّ أَفْقَرَ الْجَمِيعَ إِلَيْهِ، ثُمَّ عَمَّ الْجَمِيعَ بِرَحْمَتِهِ.

وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَنَّهُ خَلَقَ مِائَةَ رَحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ مِنْهَا طِبَاقُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَأَنْزَلَ مِنْهَا إِلَى الْأَرْضِ رَحْمَةً وَاحِدَةً، نَشَرَهَا بَيْنَ الْخَلِيقَةِ لِيَتَرَاحَمُوا بِهَا، فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا، وَالطَّيْرُ وَالْوَحْشُ وَالْبَهَائِمُ، وَبِهَذِهِ الرَّحْمَةِ قِوَامُ الْعَالَمِ وَنِظَامِهِ.

وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى {الرَّحْمَنُ - عَلَّمَ الْقُرْآنَ - خَلَقَ الْإِنْسَانَ - عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4] كَيْفَ جَعَلَ الْخَلْقَ وَالتَّعْلِيمَ نَاشِئًا عَنْ صِفَةِ الرَّحْمَةِ مُتَعَلِّقًا بِاسْمِ الرَّحْمَنِ، وَجَعَلَ مَعَانِيَ السُّورَةِ مُرْتَبِطَةً بِهَذَا الِاسْمِ وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78] فَالِاسْمُ الَّذِي تَبَارَكَ هُوَ الِاسْمُ الَّذِي افْتَتَحَ بِهِ السُّورَةَ، إِذْ مَجِيءُ الْبَرَكَةِ كُلِّهَا مِنْهُ، وَبِهِ وُضِعَتِ الْبَرَكَةُ فِي كُلِّ مُبَارَكٍ، فَكُلُّ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ بُورِكَ فِيهِ وَكُلُّ مَا خَلِيَ مِنْهُ نُزِعَتْ مِنْهُ الْبَرَكَةُ، فَإِنْ كَانَ مُذَكًّى وَخَلِيَ مِنْهُ اسْمُهُ كَانَ مَيْتَةً، وَإِنْ كَانَ طَعَامًا شَارَكَ صَاحِبَهُ فِيهِ الشَّيْطَانُ، وَإِنْ كَانَ مَدْخَلًا دَخَلَ مَعَهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ حَدَثًا لَمْ يُرْفَعْ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ صَلَاةً لَمْ تَصِحَّ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ.

ص: 369

وَلَمَّا خَلَقَ سُبْحَانَهُ الرَّحِمَ وَاشْتَقَّ لَهَا اسْمًا مِنِ اسْمِهِ، فَأَرَادَ إِنْزَالَهَا إِلَى الْأَرْضِ تَعَلَّقَتْ بِهِ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: مَهْ، فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، فَقَالَ: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنِ أَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ وَأَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ؟ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْعَرْشِ لَهَا حَنْحَنَةٌ كَحَنْحَنَةِ الْمِغْزَلِ، وَكَانَ تَعَلُّقُهَا بِالْعَرْشِ رَحْمَةً مِنْهُ بِهَا، وَإِنْزَالُهَا إِلَى الْأَرْضِ رَحْمَةً مِنْهُ بِخَلْقِهِ، وَلَمَّا عَلِمَ سُبْحَانَهُ مَا تَلْقَاهُ مِنْ نُزُولِهَا إِلَى الْأَرْضِ وَمُفَارَقَتِهَا لِمَا اشْتُقَّتْ مِنْهُ رَحِمَهَا بِتَعَلُّقِهَا بِالْعَرْشِ وَاتِّصَالِهَا بِهِ، وَقَوْلُهُ:" «أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ» ".

وَلِذَلِكَ كَانَ مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ لِقُرْبِهِ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَرِعَايَةَ حُرْمَةِ الرَّحِمِ، قَدْ عَمَّرَ دُنْيَاهُ، وَاتَّسَعَتْ لَهُ مَعِيشَتُهُ، وَبُورِكَ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَنُسِئَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَإِنْ وَصَلَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّحْمَنِ جل جلاله مَعَ ذَلِكَ وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ بِالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ تَمَّ لَهُ أَمْرُ دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، وَإِنْ قَطَعَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّحِمِ وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّحْمَنِ أَفْسَدَ عَلَيْهِ أَمْرَ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَمَحَقَ بَرَكَةَ رَحْمَتِهِ وَرِزْقِهِ وَأَثَرِهِ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:" «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرَ أَنْ يُعَجَّلَ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» "، فَالْبَغْيُ مُعَامَلَةُ الْخَلْقِ بِضِدِّ الرَّحْمَةِ، وَكَذَلِكَ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَإِنَّ الْقَوْمَ لَيَتَوَاصَلُونَ وَهُمْ فَجَرَةٌ فَتَكْثُرُ أَمْوَالُهُمْ وَيَكْثُرُ عَدَدُهُمْ، وَإِنَّ الْقَوْمَ لَيَتَقَاطَعُونَ فَتَقِلُّ أَمْوَالُهُمْ وَيَقِلُّ عَدَدُهُمْ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ نَصِيبِ هَؤُلَاءِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقِلَّةِ نَصِيبُ هَؤُلَاءِ مِنْهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ: " «إِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ» " وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِأَهْلِ الْأَرْضِ خَيْرًا نَشَرَ عَلَيْهِمْ أَثَرًا مِنْ آثَارِ اسْمِهِ الرَّحْمَنِ فَعَمَّرَ بِهِ الْبِلَادَ وَأَحْيَا بِهِ الْعِبَادَ، فَإِذَا أَرَادَ بِهِمْ ضُرًّا أَمْسَكَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْأَثَرَ، فَحَلَّ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ بِحَسَبِ مَا أَمْسَكَ عَنْهُمْ مِنْ آثَارِ اسْمِهِ الرَّحْمَنِ، وَلِهَذَا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُخَرِّبَ هَذِهِ الدَّارَ وَيُقِيمَ الْقِيَامَةَ أَمْسَكَ عَنْ أَهْلِهَا

ص: 370