الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَيُقَالُ لَهُ: اصْرِفْ عِنَايَتَكَ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَالْحِرْصِ عَلَيْهِ وَتَتَبُّعِهِ وَجَمْعِهِ وَمَعْرِفَةِ أَحْوَالِ نَقَلَتِهِ وَسِيرَتِهِمْ، وَأَعْرِضْ عَمَّا سِوَاهُ وَاجْعَلْهُ غَايَةَ طَلَبِكَ وَنِهَايَةَ قَصْدِكَ، بَلِ احْرِصْ عَلَيْهِ حِرْصَ أَتْبَاعِ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ عَلَى مَعْرِفَةِ مَذَاهِبِ أَئِمَّتِهِمْ بِحَيْثُ حَصَلَ لَهُمُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِأَنَّهَا مَذَاهِبُ أَئِمَّتِهِمْ بِحَيْثُ حَصَلَ لَهُمُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِأَنَّهَا مَذَاهِبُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ، وَلَوْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ لَسَخِرُوا مِنْهُ (وَحِينَئِذٍ) تَعْلَمُ هَلْ تُفِيدُ أَخْبَارُ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم الْعِلْمَ أَوْ لَا تُفِيدُهُ فَأَمَّا مَعَ إِعْرَاضِكَ عَنْهَا وَعَنْ طَلَبِهَا فَهِيَ لَا تُفِيدُكَ عِلْمًا، وَلَوْ قُلْتَ: لَا تُفِيدُكَ أَيْضًا ظَنًّا لَكُنْتَ مُخْبِرًا بِحِصَّتِكَ وَنَصِيبِكَ مِنْهَا.
[فصل المقام الثامن انعقاد الإجماع على قبول أحاديث الآحاد]
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّامِنُ: وَهُوَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ الْمُتَيَقَّنِ عَلَى قَبُولِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَإِثْبَاتِ صِفَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى بِهَا، فَهَذَا لَا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ لَهُ أَقَلُّ خِبْرَةٍ بِالْمَنْقُولِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ هُمُ الَّذِينَ رَوَوْا هَذَهِ الْأَحَادِيثَ وَتَلَقَّاهَا بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِالْقَبُولِ وَلَمْ يُنْكِرْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى مَنْ رَوَاهَا، ثُمَّ تَلَقَّاهَا عَنْهُمْ جَمِيعُ التَّابِعِينَ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، وَمَنْ سَمِعَهَا مِنْهُمْ تَلَقَّاهَا بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ لَهُمْ، وَمَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا مِنْهُمْ تَلَقَّاهَا عَنِ التَّابِعِينَ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ تَابِعُ التَّابِعِينَ مَعَ التَّابِعِينَ.
هَذَا أَمْرٌ يَعْلَمُهُ ضَرُورَةً أَهْلُ الْحَدِيثِ كَمَا يَعْلَمُونَ عَدَالَةَ الصَّحَابَةِ وَصِدْقَهُمْ وَأَمَانَتَهُمْ وَنَقْلَهُمْ ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم كَنَقْلِهِمُ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ مِنَ الْجَنَابَةِ وَأَعْدَادَ الصَّلَوَاتِ وَأَوْقَاتِهَا، وَنَقْلِ الْأَذَانِ وَالتَّشَهُّدِ وَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، فَإِنَّ الَّذِينَ نَقَلُوا هَذَا هُمُ الَّذِينَ نَقَلُوا أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ، فَإِنْ جَازَ عَلَيْهِمُ الْخَطَأُ وَالْكَذِبُ فِي نَقْلِهَا جَازَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي نَقْلِ غَيْرِهَا مِمَّا ذَكَرْنَا (وَحِينَئِذٍ) فَلَا وُثُوقَ لَنَا بِشَيْءٍ نُقِلَ لَنَا عَنْ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم الْبَتَّةَ، وَهَذَا انْسِلَاخٌ مِنَ الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَالْعَقْلِ، عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْقَادِحِينَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ قَدْ طُرِدُوا وَقَالُوا: لَا وُثُوقَ لَنَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْبَتَّةَ.
قَالُوا: وَأَظْهَرُ شَيْءٍ الْآذَانُ وَالْإِقَامَةُ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِيهِمَا، هَلْ يُرَجِّعُ أَمْ لَا؟ وَيُثَنِّي الْإِقَامَةَ أَوْ يُفْرِدُ؟ ، وَهَذَا تَشَهُّدُ الصَّلَاةِ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى وُجُودِهِ، وَكَذَلِكَ جَهْرُهُ بِالْبَسْمَلَةِ وَإِخْفَاؤُهَا، وَهُوَ مِنْ أَظْهَرِ الْأُمُورِ، يُفْعَلُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ بِحَضْرَةِ الْجَمْعِ.
قَالُوا: وَأَظْهَرُوا مِنْ ذَلِكَ حَجَّةُ الْوَدَاعِ فَإِنَّهَا حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ شَاهَدَهُ الْجَمْعُ الْعَظِيمُ وَالْجَمُّ الْغَفِيرُ، فَهَذَا يَقُولُ أَفْرَدَ، وَهَذَا يَقُولُ تَمَتَّعَ، وَهَذَا يَقُولُ قَرَنَ، فَكَيْفَ لَنَا بَعْدَ ذَلِكَ بِالْوُثُوقِ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ، فَلِذَلِكَ أَطْرَحْنَاهَا رَأْسًا، فَهَؤُلَاءِ أَعْطَوُا الِانْسِلَاخَ مِنَ السُّنَّةِ وَالدِّينِ حَقَّهُ، وَطَرَدُوا كُفْرَهُمْ وَخَلَعُوا رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ أَعْنَاقِهِمْ، وَتَقَسَّمَتِ الْفِرَقُ قَوْلَهُمْ هَذَا فِي رَدِّ الْأَحَادِيثِ (فَطَائِفَةٌ) رَدَّتْهَا رَأْسًا وَجَوَّزَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخَطَأَ وَالْغَلَطَ، وَهَؤُلَاءِ سَلَفُ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ قَدَحَ رَئِيسُهُمْ فِي فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: لَهُ «اعْدِلْ، فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ» وَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: «إِنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ» ، فَقَدَحَ هَذَا فِي قَصْدِهِ وَقَدَحَ الْآخَرُ فِي حُكْمِهِ وَعَدْلِهِ.
وَطَائِفَةٌ أُخْرَى قَالُوا: لَا نَقْبَلُ مِنْهَا إِلَّا مَا وَافَقَ الْقُرْآنَ، وَمَا لَا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ فَإِنَّا نَرُدُّهُ وَلَا نَقْبَلُهُ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ هُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" «يُوشِكُ الرَّجُلُ أَنْ يَكُونَ شَبْعَانَ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْقُرْآنُ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ حَلَّلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ» " وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَلَا هَلْ رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الْحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ» " وَمِمَّنْ أَحْسَنَ الرَّدَّ عَلَى هَذِهِ الطَّائِفَةِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِ جُمَّاعِ الْعِلْمِ وَإِبْطَالِ الِاسْتِحْسَانِ وَفِي الرِّسَالَةِ وَغَيْرِهَا.
وَطَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ قَالَتْ: نَقْبَلُ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَوَاتِرَهَا وَنَرُدُّ آحَادَهَا، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَقْتَضِي عِلْمًا أَوْ عَمَلًا، وَقَدْ نَاظَرَ الشَّافِعِيُّ بَعْضَ أَهْلِ زَمَانِهِ فِي ذَلِكَ، فَأَبْطَلَ الشَّافِعِيُّ قَوْلَهُ وَأَقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةَ، وَعَقَدَ فِي الرِّسَالَةِ بَابًا أَطَالَ فِيهِ الْكَلَامُ فِي تَثْبِيتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَلُزُومِ الْحُجَّةِ بِهِ، وَخُرُوجِ مَنْ رَدَّهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْبَتَّةَ بَيْنَ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، وَلَا يُعْرَفُ
هَذَا الْفَرْقُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَلَا مَنْ تَابَعَهُمْ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عَنْ رُءُوسِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ.
وَطَائِفَةٌ رَابِعَةٌ: رَدَّتْ أَخْبَارَ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَخْبَارِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَشِيعَتِهِمْ خَاصَّةً، وَهَذَا مَذْهَبُ الرَّافِضَةِ، فَلَمْ يَقْبَلْ هَؤُلَاءِ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ.
وَطَائِفَةٌ خَامِسَةٌ: رَدَّتْ أَخْبَارَ الْمُقْتَتِلِينَ يَوْمَ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، وَقَبِلَتْ خَبَرَ غَيْرِهِمْ قَالُوا: لِأَنَّهُ قَدْ فَسَقَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَهِيَ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ فَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهَا وَيُقْبَلُ خَبَرُ غَيْرِهَا.
وَطَائِفَةٌ سَادِسَةٌ: قَبِلَتْ خَبَرَ الْأَرْبَعَةِ بِشَرْطِ تَنَائِي بُلْدَانِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَبِلَهُ عَنْ غَيْرِ الَّذِي قَبِلَهُ صَاحِبُهُ، ثُمَّ قَبِلَهُ عَنْهُ مَنْ أَدَّاهُ إِلَيْنَا مِمَّنْ لَمْ يَقْبَلْ عَنْ صَاحِبِهِ، حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَمَّنْ نَاظَرَهُ عَلَيْهِ وَرَدَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) فَقُلْتُ لَهُ: أَرَأَيْتَ لَوْ لَقِيتَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَهُمُ الْمُقَدَّمُونَ مِمَّنْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ، فَأَخْبَرَكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكَانَ يَلْزَمُكَ أَنْ تَقُولَ بِهِ؟ قَالَ: لَا يَلْزَمُنِي، لِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ فِي الْوَاحِدِ الْغَلَطُ وَالنِّسْيَانُ، ثُمَّ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ فِي إِبْطَالِ هَذَا الْمَذْهَبِ.
وَطَائِفَةٌ سَابِعَةٌ: قَبِلَتْ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الصَّحَابَةِ نِزَاعٌ فِي مَضْمُونِهِ وَرَدَّتْهُ إِذَا تَنَازَعُوا فِي حُكْمِهِ، حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا وَرَدَّهُ.
وَطَائِفَةٌ ثَامِنَةٌ: قَبِلَتْ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِيمَا لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَرَدَّتْهُ فِيمَا يَسْقُطُ بِهَا كَالْحُدُودِ الَّتِي تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَزَعَمَتْ أَنَّ احْتِمَالَ الْغَلَطِ وَالْكَذِبِ عَنِ الرَّاوِي شُبْهَةٌ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَحَكَوْهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ.
وَطَائِفَةٌ تَاسِعَةٌ: رَدَّتْ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ، وَقَبِلَتْهُ إِذَا رَوَاهُ ثِقَةٌ آخَرُ فَصَاعِدًا حَكَاهُ عَنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَطَائِفَةٌ عَاشِرَةٌ: رَدَّتْهُ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَقَبِلَتْهُ فِيمَا عَدَاهُ، وَحَكَوْهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ كَذِبٌ عَلَيْهِ وَعَلَى أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، فَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمُ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا هَذَا قَوْلُ مُتَأَخِّرِيهِمْ، وَأَقْدَمُ مَنْ قَالَ بِهِ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ وَتَبِعَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَطَائِفَةٌ حَادِيَةَ عَشَرَ: رَدُّوهُ إِذَا كَانَ الرَّاوِي لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرَ فَقِيهٍ بِزَعْمِهِمْ وَقَبِلُوهُ إِذَا كَانَ فَقِيهًا، وَبِمِثْلِ ذَلِكَ رَدُّوا رِوَايَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ إِذَا خَالَفَتْ آرَاءَهُمْ، قَالُوا: لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا، وَقَدْ أَفْتَى فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَقَرَّهُ عَلَى الْفَتْوَى، وَاسْتَعْمَلَهُ نَائِبًا عَلَى الْبَحْرَيْنِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْ تَلَامِيذِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرُهُ مِنَ التَّابِعِينَ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: رَوَى الْعِلْمَ عَنْهُ ثَمَانُ مِائَةٍ مَا بَيْنَ صَاحِبٍ وَتَابِعٍ، وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ الصَّحَابَةِ بِالْحَدِيثِ وَأَحْفَظِهِمْ لَهُ، وَكَانَ قَارِئًا لِلْقُرْآنِ، وَكَانَ عَرَبِيًّا، وَالْعَرَبِيَّةُ طَبْعُهُ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَرْجِعُونَ إِلَى رِوَايَتِهِ وَيَعْمَلُونَ بِهَا، نَعَمْ كَانَ فِقْهُهُ نَوْعًا آخَرَ غَيْرَ الْخَوَاطِرِ وَالْآرَاءِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: نَاظَرْتُ مُحَمَّدًا فِي مَسْأَلَةِ الْمُصَرَّاةِ فَذَكَرْتُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ هَذَا خَبَرٌ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَكَانَ الَّذِي جَاءَ بِهِ شَرًّا مِمَّا فَرَّ مِنْهُ أَوْ كَمَا قَالَ.
وَطَائِفَةٌ ثَانِيَةَ عَشَرَ: رَدُّوا الْحَدِيثَ إِذَا خَالَفَ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ بِزَعْمِهِمْ، وَجَعَلُوا هَذَا مِعْيَارًا لِكُلِّ حَدِيثٍ خَالَفَ آرَاءَهُمْ، فَأَخَذُوا عُمُومًا بَعِيدًا مِنَ الْحَدِيثِ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ فَجَعَلُوهُ مُخَالِفًا لِلْحَدِيثِ وَرَدُّوهُ بِهِ، فَرَدُّوا حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِمُخَالَفَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] وَرَدُّوا أَحَادِيثَ الْقُرْعَةِ لِمُخَالَفَةِ ظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] وَرَدُّوا حَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ فِيمَنْ أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لِمُخَالَفَةِ ظَاهِرِ قَوْلِهِ: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وَرَدُّوا أَحَادِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ لِمُخَالَفَةِ ظَاهِرِ قَوْلِهِ: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] وَرَدُّوا أَحَادِيثَ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمُخَالَفَةِ ظَاهِرِ قَوْلِهِ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] وَرَدُّوا أَحَادِيثَ الشَّفَاعَةِ لِمُخَالَفَةِ ظَاهِرِ قَوْلِهِ: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192] وَرَدُّوا حَدِيثَ الْعَرَايَا وَالْمُصَرَّاةِ لِمُخَالَفَةِ ظَاهِرِ الرِّبَا لَهُمَا، وَرَدُّوا حَدِيثَ " «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» " بِظَاهِرِ قَوْلِهِ:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَرَدُّوا حَدِيثَ " «مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» " بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وَرَدُّوا
حَدِيثَ " «النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ» " بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وَرَدُّوا حَدِيثَ " «النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي وَعَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ» " بِهَذَا الظَّاهِرِ، وَرَدُّوا حَدِيثَ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وَرَدُّوا حَدِيثَ " «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» " بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَرَدُّوا حَدِيثَ " «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ» " بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَرَدُّوا حَدِيثَ إِبَاحَةِ لُحُومِ الْخَيْلِ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] وَرَدُّوا حَدِيثَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» " بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] وَظَاهِرِ قَوْلِهِ: "«فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» " وَرَدُّوا " «ذَكَاةُ الْجَنِينِ
ذَكَاةُ أُمَّهٍ» " بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وَرَدُّوا حَدِيثَ تَحْرِيمِ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْوَلَدِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْعَطِيَّةِ، وَقَوْلَهُ: "«إِنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ» " وَتَسْمِيَتَهُ إِيَّاهُ جَوْرًا وَامْتِنَاعَهُ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْجَوْرِ، وَقَوْلَهُ أَشْهِدُوا عَلَى هَذَا غَيْرِي تَهْدِيدًا وَإِعْلَامًا أَنَّ مُسْلِمًا لَا يَشْهَدُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَقَدِ امْتَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَرَدُّوا حَدِيثَ "«لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» بِقَوْلِهِ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] وَرَدُّوا حَدِيثَ " «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ مَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ بَيْنَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ» " بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] وَرَدُّوا الْحَدِيثَ لِكَوْنِهِ يَتَضَمَّنُ زِيَادَةً عَلَى الْقُرْآنِ فَيَكُونُ نَسْخًا لَهُ وَالْقُرْآنُ لَا يُنْسَخُ بِالْحَدِيثِ، وَرَدُّوا بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْفَاسِدَةِ مَا شَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ، كَأَحَادِيثِ فَرْضِ الطُّمَأْنِينَةِ، وَأَحَادِيثِ فَرْضِ الْفَاتِحَةِ، وَحَدِيثِ تَغْرِيبِ الزَّانِي.
وَقَدْ أَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ عَلَى مَنْ رَدَّ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْقُرْآنِ، وَقَالُوا: لَا تُرَدُّ السُّنَّةُ بِالْقُرْآنِ فَكَيْفَ بِمَنْ رَدَّهَا بِرَأْيٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ قَاعِدَةٍ هُوَ وَضَعَهَا، وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ مَعَ مَنْ قَبِلَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّحِيحَ الثَّابِتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ «الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» دُونَ مَنْ رَدَّهُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ رَدَّهُ بِقَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43] وَكَانَ الصَّوَابُ مَعَ مَنْ قَبِلَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي إِسْقَاطِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لِلْمَبْتُوتَةِ دُونَ مَنْ رَدَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] وَكَانَ الصَّوَابُ قَبُولَ حَدِيثِ خِطَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَتْلَى بَدْرٍ دُونَ رَدِّهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] وَهَذَا وَإِنْ وَقَعَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَتَّفِقُوا كُلُّهُمْ عَلَى رَدِّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِالْقُرْآنِ، بَلْ كَانَ الَّذِينَ قَبِلُوهُ أَضْعَافُ أَضْعَافِ الَّذِينَ رَدُّوهُ، وَقَوْلُهُمْ هُوَ الرَّاجِحُ قَطْعًا دُونَ قَوْلِ الْآخَرِينَ فَلَا يُرَدُّ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ أَبَدًا إِلَّا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ نَاسِخٍ لَهُ يُعْلَمُ مُقَاوَمَتُهُ لَهُ وَمُعَارَضَتُهُ لَهُ وَتَأَخُّرُهُ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ رَدُّهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْبَتَّةَ.
وَطَائِفَةٌ أُخْرَى رَدَّتِ الْأَحَادِيثَ بِعَدَمِ مَعْرِفَتِهَا بِمَنْ ذَهَبَ إِلَيْهَا، وَسَمَّوْا عَدَمَ عِلْمِهِمْ إِجْمَاعًا وَرَدُّوا بِهِ كَثِيرًا مِنَ السُّنَنِ، وَبَالَغَ الشَّافِعِيُّ وَبَعْدَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى هَؤُلَاءِ وَوَسَّعَ الشَّافِعِيُّ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي الرِّسَالَتَيْنِ وَكِتَابِ جُمَّاعِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تُجْمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى خِلَافِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطُّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ مَعْلُومَةٌ نَاسِخَةٌ، فَتُجْمِعُ عَلَى الْقَوْلِ بِالسُّنَّةِ النَّاسِخَةِ، وَأَمَّا أَنْ تَتَّفِقَ عَلَى الْعَمَلِ بِتَرْكِ حَدِيثٍ لَا نَاسِخَ لَهُ، فَهَذَا لَمْ يَقَعْ أَبَدًا، وَلَا يَجُوزُ نِسْبَةُ الْأُمَّةِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَدْحٌ فِيهَا وَنِسْبَةٌ لَهَا إِلَى تَرْكِ الصَّوَابِ وَالْأَخْذِ بِالْخَطَأِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: مَنِ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَقَدْ كَذَبَ، لَعَلَّ النَّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا هَذِهِ دَعْوَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ، وَلَكِنْ يَقُولُ: لَا أَعْلَمُ النَّاسَ اخْتَلَفُوا (قَالَ) فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: كَيْفَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ: أَجْمَعُوا إِذَا سَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ أَجْمَعُوا فَاتَّهِمْهُمْ، لَوْ قَالَ: إِنِّي لَا أَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا جَازَ (وَقَالَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: هَذَا كَذِبٌ مَا أَعْلَمُهُ أَنَّ النَّاسَ مُجْمِعُونَ، وَلَكِنْ يَقُولُ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلَافًا: فَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِ إِجْمَاعَ النَّاسِ.
وَقَالُوا فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَارِثِ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ الْإِجْمَاعَ، لَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا.