الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُتَعَيِّنًا، وَلَا يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى حَقِيقَةٍ مَا وَجَدَ إِلَى الْمَجَازِ سَبِيلًا، وَفِي هَذَا مِنْ إِفْسَادِ اللُّغَاتِ وَالتَّفَاهُمِ مَا لَا يَخْفَى.
[تفريقهم بين الحقيقة والمجاز لاضطراد وفساده]
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّكُمْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِالِاطِّرَادِ وَعَدَمِهِ، فَقُلْتُمْ: يُعْرَفُ الْمَجَازُ بِعَدَمِ اطِّرَادِهِ دُونَ الْعَكْسِ، أَيْ لَا يَكُونُ الِاطِّرَادُ دَلِيلَ الْحَقِيقَةِ، أَوْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْمَجَازِ عَدَمُ الِاطِّرَادِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْعَلَامَةُ يَجِبْ طَرْدُهَا وَلَا يَجِبُ عَكْسُهَا، وَهَذَا الْفَرْقُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ وَلَا مُنْعَكِسٍ، وَنُطَالِبُكُمْ قَبْلَ الْبَيَانِ بِفَسَادِ الْفَرْقِ بِمَعْنَى الِاطِّرَادِ الثَّابِتِ لِلْحَقِيقَةِ، وَالْمَنْفِيِّ عَنِ الْمَجَازِ مَا تَعْنُونَ بِهِ أَوَّلًا فَالِاطِّرَادُ نَوْعَانِ: اطِّرَادٌ سَمَاعِيٌّ، وَاطِّرَادٌ قِيَاسِيٌّ، فَإِنْ عَنَيْتُمُ الْأَوَّلَ كَانَ مَعْنَاهُ مَا اطَّرَدَ السَّمَاعُ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي مَعْنَاهُ فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَمَا لَمْ يَطَّرِدِ السَّمَاعُ بِاسْتِعْمَالِهِ فَهُوَ مَجَازٌ، وَهَذَا لَا يُفِيدُ فَرْقًا الْبَتَّةَ، فَإِنَّ كُلَّ مَسْمُوعٍ فَهُوَ مُطَّرِدٌ فِي مَوَارِدِ اسْتِعْمَالِهِ، وَمَا لَمْ يُسْمَعْ فَهُوَ مُطَّرِدُ التَّرْكِ، فَلَيْسَ فِي السَّمَاعِ مُطَّرِدُ الِاسْتِمَالِ وَغَيْرُ مُطَّرِدِهِ، وَإِنْ عَنَيْتُمُ الِاضْطِرَادَ الْقِيَاسِيَّ فَاللُّغَاتُ لَا تُثْبَتُ قِيَاسًا إِذْ يَكُونُ ذَلِكَ إِنْشَاءً وَاخْتِرَاعًا، وَلَوْ جَازَ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يَقِيسَ عَلَى الْمَسْمُوعِ أَلْفَاظًا يَسْتَعْمِلُهَا فِي خِطَابِهِ نَظْمًا وَنَثْرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامَ الْعَرَبِ عَلَى مَا قَاسَهُ عَلَى لُغَتِهِمْ، فَإِنَّ هَذَا كَذِبٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ أَوَّلًا، فَإِنَّهُ يُنْشِئُ مِنْ عِنْدِهِ قِيَاسًا يَضَعُ بِهِ أَلْفَاظًا لِمَعَانٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تِلْكَ الْمَعَانِي، وَهَذَا كَثِيرًا مَا تَجِدُهُ فِي كَلَامِ مَنْ يَدَّعِي التَّحْقِيقَ وَالنَّظَرَ، وَهَذَا مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ، الْقَوْلُ بِهِ حَرَامٌ، وَهُوَ قَوْلٌ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِلَا عِلْمٍ.
وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِالِاطِّرَادِ وَعَدَمِهِ اطِّرَادَ الِاشْتِقَاقِ فَيَصْدُقُ اللَّفْظُ حَيْثُ وُجِدَ الْمَعْنَى الْمُشْتَقُّ مِنْهُ، قِيلَ لَكُمُ: الِاشْتِقَاقُ نَوْعَانِ: وَصْفِيٌّ لَفْظِيٌّ، وَحُكْمِيٌّ مَعْنَوِيٌّ (فَالْأَوَّلُ) كَاشْتِقَاقِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَاسْمِ الْمَفْعُولِ وَالصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ، وَأَمْثَالُهُ الْمُبَالَغَةُ مِنْ مَصَادِرِهَا (وَالثَّانِي) كَاشْتِقَاقِ الْخَابِيَةِ مِنَ الْخَبْءِ، وَالْقَارُورَةِ مِنَ الِاسْتِقْرَارِ، وَالنِّكَاحِ مِنَ الضَّمِّ، وَنَظَائِرِ ذَلِكَ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ بِالِاطِّرَادِ النَّوْعَ الْأَوَّلَ فَوُجُودُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَعَدَمُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَجَازِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْأَلْفَاظِ الْمَجَازِيَّةِ عِنْدَكُمْ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ قَالَ: إِنْ ضَرَبْتُ زَيْدًا أَوْ رَأَيْتُهُ وَأَكَلْتُ وَشَرِبْتُ مَجَازٌ، فَإِنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَتْ لَهُ، فَإِنَّهَا وُضِعَتْ لِلْمَصَادِرِ الْمُطْلَقَةِ الْعَامَّةِ، فَإِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا فَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، كَمَا قَالَ ابْنُ جِنِّي وَغَيْرُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ
الْأَلْفَاظَ مُطَّرِدَةٌ فِي مَجَارِي اسْتِقَامَاتِهَا، فَقَدْ طُرِدَ الْمَجَازُ فَأَيْنَ عَدَمُ الِاطِّرَادِ الَّذِي هُوَ فَرْقٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.
وَكَذَلِكَ حَقَائِقُ كَثِيرَةٌ مِنَ الْأَفْعَالِ لَا تُطَّرَدُ وَلَا يُشْتَقُّ مِنْهَا اسْمُ فِعْلٍ وَلَا مَفْعُولٍ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى مَصْدَرٍ، كَالْأَفْعَالِ الَّتِي لَا تَتَصَرَّفُ، مِثْلَ نِعْمَ وَبِئْسَ، وَلَيْسَ وَحَبَّذَا وَفِعْلِ التَّعَجُّبِ.
وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِالِاطِّرَادِ الِاشْتِقَاقَ الْحُكْمِيَّ الْمَعْنَوِيَّ، فَلَا يَدُلُّ عَدَمُ اطِّرَادِهِ عَلَى الْمَجَازِ إِذْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ الْأَلْفَاظُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي مَوْضُوعَاتِهَا الْأُوَلِ مَجَازًا كَالْخَابِئَةِ وَالْقَارُورَةِ وَالْبِرْكَةِ وَالنَّجْمِ وَالْمَعْدِنِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّهَا لَمْ يَطَّرِدِ اسْتِعْمَالُهَا فِيمَا شَارَكَهَا فِي أَصْلِ مَعْنَاهَا.
فَإِنْ قُلْتُمْ: مَنَعَ الْمَانِعُ مِنَ الِاطِّرَادِ كَمَا مَنَعَ مِنِ اطِّرَادِ الْفَاضِلِ وَالسَّخِيِّ وَالْعَارِفِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، قِيلَ لَكُمْ: هَذَا دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ، لِأَنَّ عَدَمَ الِاطِّرَادِ حِينَئِذٍ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَامَةَ الْمَجَازِ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ الْمَانِعُ، وَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لِمَانِعٍ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْمَجَازِ، وَتَقْرِيرُ الدَّوْرِ أَنْ يُقَالَ: عَدَمُ الطَّرْدِ لَهُ مُوجِبٌ وَلَيْسَ مُوجِبُهُ الشَّرْعَ وَلَا اللُّغَةَ، إِذِ التَّقْدِيرُ بِخِلَافِهِ، وَلَا الْعَقْلُ قَطْعًا، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبُ عَدَمِ الطَّرْدِ كَوْنَ اللَّفْظِ مَجَازًا، فَيَلْزَمُ الدَّوْرَ ضَرُورَةٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: تَفْرِيقُكُمْ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِجَمْعِ مُفْرَدَيْهِمَا، فَإِذَا جَمَعَ الْحَقِيقَةَ عَلَى صِفَةٍ ثُمَّ جَمَعَ ذَلِكَ اللَّفْظَ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى كَانَ مَجَازًا، مِثْلُهُ لَفْظُ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ يُجْمَعُ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ عَلَى أَوَامِرَ، وَيُجْمَعُ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْفِعْلِ عَلَى أُمُورٍ، وَهَذَا التَّفْرِيقُ مِنْ أَفْسَدِ شَيْءٍ وَأَبْطَلِهِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ يَكُونُ لَهُ عِدَّةُ جُمُوعٍ بِاعْتِبَارِ مَفْهُومٍ وَاحِدٍ كَشَيْخٍ مَثَلًا، فَإِنَّهُ يُجْمَعُ عَلَى عِدَّةِ جُمُوعٍ أَنْشَدَنَاهَا شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ ابْنُ أَبِي الْفَتْحِ الْبَعْلِيُّ، قَالَ: أَنْشَدَنَا شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَالِكٍ لِنَفْسِهِ:
شَيْخُ شُيُوخُ وَمَشْيُوخَاءُ مِشْيَخَةُ
…
شِيَخَةُ شِيخَةُ شِيخَانُ أَشْيَاخُ
وَكَذَلِكَ عَبْدٌ فَإِنَّهُ يُجْمَعُ عَلَى عَبِيدٍ وَعِبَادٍ وَعُبْدَانٍ وَعُبُدٍ، وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ صِيغَةُ الْجَمْعِ بِاعْتِبَارِ الْمَدْلُولِ الْوَاحِدِ لَمْ يَدُلَّ اخْتِلَافُهَا عَلَى خُرُوجِ الْفَرْدِ عَنْ حَقِيقَتِهِ، فَكَيْفَ يَدُلُّ اخْتِلَافُهُ مَعَ تَعَدُّدِ الْمَدْلُولِ عَلَى الْمَجَازِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُشْتَرَكَ قَدْ يَخْتَلِفُ جَمْعُهُ بِاخْتِلَافِ مَفْهُومَاتِهِ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْمَجَازِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ ادِّعَاءُ كَوْنِ أَحَدِهِمَا مَجَازًا لِمُخَالَفَةِ جَمْعِهِ الْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: بَلْ إِنْ عَلِمْنَا أَنَّ أَحَدَهُمَا حَقِيقَةٌ عَلِمْنَا أَنَّ الْآخَرَ الَّذِي خَالَفَهُ فِي صِفَةِ جَمْعِهِ مَجَازٌ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ اعْتِبَارُ مُخَالَفَةِ الْجَمْعِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَإِنَّا مَتَى عَلِمْنَا كَوْنَ أَحَدِهِمَا حَقِيقَةً، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ مَجَازًا، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِنْ تَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ الْجَمْعِ لَمْ يَكُنْ مُعَرَّفًا، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُعَرَّفًا، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ رَأْسَ مَالِكُمْ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ هُوَ لَفْظُ أَوَامِرَ، وَأُمُورٍ، فَادَّعَيْتُمْ أَنَّ أَوَامِرَ جَمْعُ أَمْرِ الْقَوْلِ، وَأُمُورَ جَمْعُ أَمْرِ الْفِعْلِ، وَغَرَّكُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْجَوْهَرِيِّ فِي الصِّحَاحِ: تَقُولُ: أَمَرْتُهُ أَمْرًا وَجَمْعُهُ أَوَامِرَ، وَهَذَا مِنْ إِحْدَى غَلَطَاتِهِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يُعْرَفُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَاللُّغَةِ، وَفَعْلٌ لَهُ جُمُوعٌ عَدِيدَةٌ لَيْسَ مِنْهَا فَوَاعِلُ الْبَتَّةَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ طُرُقُ الْمُتَكَلِّمِينَ لِتَصْحِيحِ ذَلِكَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: جَمَعُوا أَمْرًا عَلَى أَأْمُرٍ كَأَفْلُسٍ، ثُمَّ جَمَعُوا هَذَا الْجَمْعَ عَلَى أَفَاعِلَ لَا فَوَاعِلَ، فَكَانَ أَصْلُهَا أَأْمِرٌ فَقَلَبُوا الْهَمْزَةَ الثَّانِيَةَ وَاوًا كَرَاهِيَةَ النُّطْقِ بِالْهَمْزَتَيْنِ، فَصَارَ فِي هَذَا أَوَامِرُ، وَفِي هَذَا مِنَ التَّكَلُّفِ وَدَعْوَى مَا لَمْ تَنْطِقْ بِهِ الْعَرَبُ عَلَيْهِمْ مَا فِيهِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُمْ أَأْمُرٌ عَلَى أَفْعُلٍ الْبَتَّةَ، وَلَا أَوَامِرُ أَيْضًا فَلَمْ يَنْطِقُوا بِهَذَا وَلَا هَذَا.
وَلَمَّا عَلِمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ هَذَا لَا يَتِمُّ فِي النَّوَاهِي تَكَلَّفُوا لَهَا تَكَلُّفًا آخَرَ، فَقَالُوا: حَمَلُوهَا عَلَى نَقِيضِهَا، كَمَا قَالُوا: الْغَدَايَا وَالْعَشَايَا، وَقَالُوا: قَدُمَ وَحَدُثَ، فَضَمُّوا الدَّالَ مِنْ حَدُثَ حَمَلًا عَلَى قَدُمَ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: بَلْ أَوَامِرُ وَنَوَاهٍ جَمْعُ آمِرٍ وَنَاهٍ، فَسُمِّيَ الْقَوْلُ آمِرًا وَنَاهِيًا تَوَسُّعًا ثُمَّ جَمَعُوهَا عَلَى فَوَاعِلَ، كَمَا قَالُوا: فَارِسٌ وَفَوَارِسُ، وَهَالِكٌ وَهَوَالِكُ، وَهَذَا أَيْضًا مُتَكَلَّفٌ، فَإِنَّ فَاعِلًا نَوْعَانِ: صِفَةٌ وَاسْمٌ، فَإِنْ كَانَ صِفَةً لَا يُجْمَعُ عَلَى فَوَاعِلَ فَلَا يُقَالُ: قَائِمٌ وَقَوَائِمُ، وَآكِلٌ وَأَوَاكِلُ، وَضَارِبٌ وَضَوَارِبُ، وَعَابِدٌ وَعَوَابِدُ، وَإِنْ كَانَ اسْمًا فَإِنَّهُ يُجْمَعُ عَلَى فَوَاعِلَ نَحْوَ خَاتَمٍ وَخَوَاتِمَ، وَقَدْ شَذَّ فَارِسٌ وَفَوَارِسُ، وَهَالِكٌ وَهَوَالِكُ، فَجُمِعَا عَلَى فَوَاعِلَ مَعَ كَوْنِهِمَا صِفَتَيْنِ، أَمَّا فَارِسٌ فَلِعَدَمِ اللَّبْسِ لِأَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ بِهِ الْمُؤَنَّثُ، وَأَمَا هَالِكٌ فَقَصَدُوا النَّفْسَ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ جَمْعُ هَالِكَةٍ، فَإِنَّهُ فَاعِلَةٌ يُجْمَعُ عَلَى فَوَاعِلَ بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ كَفَاطِمَةَ وَفَوَاطِمَ، وَعَابِدَةٍ وَعَوَابِدَ، فَسَمِعَتْ هَذَا طَائِفَةٌ أُخْرَى قَالَتْ: أَوَامِرُ وَنَوَاهٍ جَمْعُ آمِرَةٍ وَنَاهِيَةٍ، أَيْ كَلِمَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ آمِرَةٍ وَنَاهِيَةٍ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْعَرَبَ سَكَتَتْ عَنْ جَمْعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَلَمْ يَنْطِقُوا لَهُمَا بِجَمْعٍ لِأَنَّهَا فِي
الْأَصْلِ مَصْدَرٌ، فَالْمَصَادِرُ لَا حَظَّ لَهَا فِي التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ (إِلَّا إِذَا تَعَدَّدَتْ أَنْوَاعُهَا) وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ مُتَعَلِّقَاتُهُمَا وَمَحَالُّهُمَا فَحَقِيقَتُهُمَا غَيْرُ مُتَعَدِّدَةٍ، فَتَعَدُّدُ الْمَحَالِّ لَا يُوجِبُ تَعَدُّدَ الصِّفَةِ، وَقَدْ مَنَعَ سِيبَوَيْهِ جَمْعَ الْعِلْمِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ تَعَدُّدَ الْمَعْلُومَاتِ فَتَبَيَّنَ بُطْلَانُ هَذَا الْفَرْقِ الَّذِي اعْتَمَدْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: تَفْرِيقُكُمْ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِالْتِزَامِ التَّقْيِيدِ فِي أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ كَجَنَاحِ الذُّلِّ وَنَارِ الْحَرْبِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَسْتَعْمِلْهُمَا إِلَّا مُقَيَّدَةً، وَهَذَا الْفَرْقُ مِنْ أَفْسَدِ الْفُرُوقِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَمْ تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي مَوْضُوعِهَا قَدِ الْتَزَمُوا تَقْيِيدَهَا كَالرَّأْسِ وَالْجَنَاحِ وَالْيَدِ وَالسَّاقِ وَالْقَدَمِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَأَمْثَالَهَا إِلَّا مُقَيِّدَةً بِمَحَالِّهَا وَمَا تُضَافُ إِلَيْهِ، كَرَأْسِ الْحَيَوَانِ وَرَأْسِ الْمَاءِ وَرَأْسِ الْمَالِ وَرَأْسِ الْأَمْرِ.
وَكَذَلِكَ الْجَنَاحُ لَمْ يَسْتَعْمِلُوهُ إِلَّا مُقَيَّدًا بِمَا يُضَافُ إِلَيْهِ، كَجَنَاحِ الطَّائِرِ وَجَنَاحِ الذُّلِّ، فَإِنْ أَخَذْتُمُ الْجَنَاحَ مُطْلَقًا مُجَرَّدًا عَنِ الْإِضَافَةِ لَمْ يَكُنْ مُقَيِّدًا لِمَعْنَاهُ الْإِفْرَادِيِّ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، وَإِنِ اعْتَبَرْتُمُوهُ مُضَافًا مُقَيَّدًا فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ حَقِيقَةً فِي مُضَافٍ، مَجَازًا فِي مُضَافٍ آخَرَ، وَنِسْبَتُهُ إِلَى هَذَا الْمُضَافِ كَنِسْبَةِ الْآخَرِ إِلَى الْمُضَافِ الْآخَرِ، فَجَنَاحُ الْمَلَكِ حَقِيقَةٌ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] فَمَنْ قَالَ: لَيْسَ لِلْمَلَكِ جَنَاحٌ حَقِيقَةً فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ نَافٍ لِمَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ قَالَ: لَيْسَ لَهُ جَنَاحٌ مِنْ رِيشٍ، قِيلَ لَهُ: مِنْ جَهْلِكَ اعْتِقَادُكَ أَنَّ الْجَنَاحَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ ذُو الرِّيشِ وَمَا عَدَاهُ مَجَازٌ، لِأَنَّكَ لَمْ تَأْلَفْ إِلَّا الْجَنَاحَ الرِّيشَ.
وَطَرْدُ هَذَا الْجَهْلِ الْعَظِيمِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ لَفْظٍ أُطْلِقَ عَلَى الْمَلَكِ وَعَلَى الْبَشَرِ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي حَقِّ الْمَلَكِ كَحَيَاتِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَكَلَامِهِ، فَكَيْفَ بِمَا أُطْلِقَ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ مِنَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَى وَالْإِرَادَةِ، فَإِنَّهَا لَا تُمَاثِلُ الْمَعْهُودَ فِي الْمَخْلُوقِ، وَلِهَذَا قَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ إِنَّهَا مَجَازَاتٌ فِي حَقِّ الرَّبِّ لَا حَقَائِقَ لَهَا وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَدَانَا عَلَى تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي الْمَجَازِ، فَإِنَّ أَرْبَابَهُ لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ ضَابِطٌ مُطَّرِدٌ وَلَا مُنْعَكِسٌ، وَهُمْ مُتَنَاقِضُونَ غَايَةَ التَّنَاقُضِ، خَارِجُونَ عَنِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَحُكْمِ الْعَقْلِ إِلَى اصْطِلَاحٍ فَاسِدٍ يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، فَهَذِهِ فُرُوقُهُمْ قَدْ رَأَيْتُ حَالَهَا وَتَبَيَّنْتُ مُحَالَهَا، يُوَضِّحُهُ: