الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمَنْ أَنَا حَتَّى أَقُولَ ذَلِكَ، فَقَدْ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَلَّغَهُ الْأُمَّةَ، فَقَالَ لَهُ الْجَهْمِيُّ: هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْحَرَكَةُ وَالِانْتِقَالُ، فَقَالَ لَهُ السُّنِّيُّ: أَنَا لَمْ أَقُلْ مِنْ عِنْدِي شَيْئًا، وَهَذَا الْإِلْزَامُ لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَتَصْدِيقُهُ وَاجِبٌ عَلَيْنَا، فَإِنْ كَانَ تَصْدِيقُهُ عَلَى ذَلِكَ بَطَلَ الْإِلْزَامُ بِهِ، فَبُهِتَ الْجَهْمِيُّ.
قَالُوا وَقَدْ دَلَّ الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَيٌّ فَعَّالٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ إِلَّا بِالْفِعْلِ، فَالْفِعْلُ الِاخْتِيَارِيُّ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ فَالْإِرَادَةُ وَالْمَشِيئَةُ مِنْ لَوَازِمِ الْفِعْلِ، وَلِلْفِعْلِ لَوَازِمُ لَا يَجُوزُ نَفْيُهَا، إِذْ نَفْيُهَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَلِهَذَا لَمَّا نَفَاهَا الدَّهْرِيَّةُ وَالْفَلَاسِفَةُ نَفَوُا الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ مِنْ أَصْلِهِ.
قَالُوا: وَمِنْ لَوَازِمِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، الْحُبُّ وَالْبُغْضُ وَانْتِقَالُ الْفَاعِلِ مِنْ شَأْنٍ إِلَى شَأْنٍ، وَالرَّبُّ تبارك وتعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، وَمَنْ كَانَ عَلَى حَالٍ وَاحِدٍ قَبْلَ الْفِعْلِ وَحَالَ الْفِعْلِ وَبَعْدَ الْفِعْلِ لَمْ يُعْقَلْ كَوْنُهُ فَاعِلًا بِاخْتِيَارِهِ، بَلْ وَلَا فَاعِلًا الْبَتَّةَ، فَلَيْسَ مَعَ نُفَاةِ لَوَازِمِ الْأَفْعَالِ إِلَّا إِثْبَاتُ أَلْفَاظٍ لَا حَقَائِقَ لَهَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَالُوا: نَحْنُ لَمْ نُصَرِّحْ بِالِانْتِقَالِ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَاهُ.
[فصل ثبوت الانتقال والحركة لله تعالى]
فَصْلٌ
أَمَّا الَّذِينَ نَفَوُا الْحَرَكَةَ وَالِانْتِقَالَ، فَإِنْ نَفَوْا مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِ فَقَدْ أَصَابُوا وَلَكِنْ أَخْطَئُوا فِي ظَنِّهِمْ أَنَّ ذَلِكَ لَازِمُ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ، فَأَصَابُوا فِي نَفْيِ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ وَأَخْطَئُوا فِي ظَنِّهِمْ أَنَّهُ لَازِمُ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ، وَفِي نَفْيِهِمْ لِلَازِمِ الَّذِي يَسْتَحِيلُ اتِّصَافَ الْمَخْلُوقِ بِنَظِيرِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الصِّفَةَ يَلْزَمُهَا لَوَازِمُ لِنَفْسِهَا وَذَاتِهَا، فَلَا يَجُوزُ نَفْيُ هَذِهِ اللَّوَازِمِ عَنْهَا لَا فِي حَقِّ الرَّبِّ وَلَا فِي حَقِّ الْعَبْدِ، وَيَلْزَمُهَا لَوَازِمُ مِنْ جِهَةِ اخْتِصَاصِهَا بِالْعَبْدِ، فَلَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ تِلْكَ اللَّوَازِمِ لِلرَّبِّ، وَيَلْزَمُهَا لَوَازِمُ مِنْ حَيْثُ اخْتِصَاصِهَا بِالرَّبِّ فَلَا يَجُوزُ سَلْبُهَا عَنْهُ وَلَا إِثْبَاتُهَا لِلْعَبْدِ، فَعَلَيْكَ بِمُرَاعَاةِ هَذَا الْأَصْلِ وَالِاعْتِصَامِ بِهِ فِي كُلِّ مَا يُطْلَقُ عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى، وَعَلَى الْعَبْدِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ أَمْسَكُوا عَنِ الْأَمْرَيْنِ وَقَالُوا: لَا نَقُولُ يَتَحَرَّكُ وَيَنْتَقِلُ، وَلَا نَنْفِي ذَلِكَ عَنْهُ، فَهُمْ أَسْعَدُ بِالصَّوَابِ وَالِاتِّبَاعِ، فَإِنَّهُمْ نَطَقُوا بِمَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ، وَسَكَتُوا عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ، وَتَظْهَرُ صِحَّةُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ ظُهُورًا تَامًّا فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْأَلْفَاظُ الَّتِي سَكَتَ النَّصُّ عَنْهَا مُجْمَلَةً مُحْتَمِلَةً لِمَعْنَيَيْنِ: صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ، كَلَفْظِ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ وَالْجِسْمِ وَالْحَيِّزِ
وَالْجِهَةِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْحَوَادِثِ وَالْعِلَّةِ وَالتَّغَيُّرِ وَالتَّرْكِيبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَحْتَهَا حَقٌّ وَبَاطِلٌ، فَهَذِهِ لَا تُقْبَلٌ مُطْلَقًا وَلَا تُرَدُّ مُطْلَقًا، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُثْبِتْ لِنَفْسِهِ هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ وَلَمْ يَنْفِهَا عَنْهُ، فَمَنْ أَثْبَتَهَا مُطْلَقًا فَقَدْ أَخْطَأَ وَمَنْ نَفَاهَا مُطْلَقًا فَقَدَ أَخْطَأَ، فَإِنَّ مَعَانِيهَا مُنْقَسِمَةٌ إِلَى مَا يَمْتَنِعُ إِثْبَاتُهُ لِلَّهِ، وَمَا يَجِبُ إِثْبَاتُهُ لَهُ، فَإِنَّ الِانْتِقَالَ يُرَادُ بِهِ انْتِقَالُ الْجِسْمِ وَالْعَرَضِ مِنْ مَكَانٍ هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَهُوَ يُمْتَنَعُ إِثْبَاتُهُ لِلرَّبِّ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ الْحَرَكَةُ إِذَا أُرِيدَ بِهَا هَذَا الْمَعْنَى امْتَنَعَ إِثْبَاتُهَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَيُرَادُ بِالْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ حَرَكَةُ الْفَاعِلِ مِنْ كَوْنِهِ فَاعِلًا، وَانْتِقَالِهِ أَيْضًا مِنْ كَوْنِهِ غَيْرَ فَاعِلٍ إِلَى كَوْنِهِ فَاعِلًا.
فَهَذَا الْمَعْنَى حَقٌّ فِي نَفْسِهِ لَا يُعْقَلُ كَوْنُ الْفَاعِلِ إِلَّا بِهِ، فَنَفْيُهُ عَنِ الْفَاعِلِ نَفْيٌ لِحَقِيقَةِ الْفِعْلِ وَتَعْطِيلٌ لَهُ، وَقَدْ يُرَادُ بِالْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ فِعْلٌ يَقُومُ بِذَاتِ الْفَاعِلِ يَتَعَلَّقُ بِالْمَكَانِ الَّذِي قَصَدَ لَهُ، وَأَرَادَ إِيقَاعَ الْفِعْلِ بِنَفْسِهِ فِيهِ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَنْزِلُ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَيَأْتِي فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَيَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَيَنْزِلُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَيَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَنْزِلُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهَذِهِ أَفْعَالٌ يَفْعَلُهَا بِنَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ، فَلَا يَجُوزُ نَفْيُهَا عَنْهُ بِنَفْيِ الْحَرَكَةِ وَالنَّقْلَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمَخْلُوقِينَ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ أَفْعَالِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ، فَمَا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ أَفْعَالِهِ لَمْ يَجُزْ نَفْيُهُ عَنْهُ، وَمَا كَانَ مِنْ خَصَائِصِ الْخَلْقِ لَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُهُ لَهُ، وَحَرَكَةُ الْحَيِّ مَنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ إِلَّا بِالْحَرَكَةِ وَالشُّعُورِ فَكُلُّ حَيٍّ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ وَلَهُ شُعُورٌ، فَنَفْيُ الْحَرَكَةِ عَنْهُ كَنَفْيِ الشُّعُورِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْحَيَاةِ.
وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ: لَوْ قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ لَقَامَتْ بِهِ الْأَعْرَاضُ، قِيَامُ الْأَعْرَاضِ بِهِ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ جِسْمًا، فَقَالَتِ الصِّفَاتِيَّةُ: قَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى قِيَامِ الصِّفَاتِ بِهِ، فَلَا يَجُوزُ نَفْيُهَا عَنْهُ بِتَسْمِيَتِهَا أَعْرَاضًا، فَإِنْ أَرَدْتُمْ بِالْأَعْرَاضِ الصِّفَاتِ فَإِثْبَاتُ الصِّفَاتِ حَقٌّ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِهِ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِنْ إِثْبَاتِهَا لِلرَّبِّ تَعَالَى.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ يَصْعَدُ إِلَيْهِ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ لَكَانَ جِسْمًا وَجَوَابُهُمْ بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ وَالْفِطْرَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَالٍ عَلَى خَلْقِهِ، فَلَا يَجُوزُ نَفْيُهُ بِتَسْمِيَتِهِ تَجْسِيمًا، فَإِنْ كَانَ التَّجْسِيمُ اللَّازِمُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ، فَهَذَا اللَّازِمُ حَقٌّ فَسَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى لُزُومُ تَرْكِيبِهِ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ وَالْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ أَوْ كَوْنُهُ مُمَاثِلًا لِلْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ فَدَعْوَى هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ كَذِبٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْفَى عَنِ اللَّهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ وَالْفِطْرَةُ بِأَلْفَاظٍ مُجْمَلَةٍ تَنْقَسِمُ مَعَانِيهَا إِلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ يَأْتِي أَمْرُهُ وَيَنْزِلُ رَحْمَتُهُ، فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِذَا نَزَلَ وَأَتَى حَلَّتْ رَحْمَتُهُ وَأَمْرُهُ فَهَذَا حَقٌّ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ النُّزُولَ وَالْمَجِيءَ وَالْإِتْيَانَ لِلرَّحْمَةِ وَالْأَمْرِ لَيْسَ إِلَّا، فَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ قَدْ تَقَدَّمَتْ وَنَزِيدُهَا وُجُوهًا أُخَرَ مِنْهَا أَنْ يُقَالَ: أَتُرِيدُونَ رَحْمَتَهُ وَأَمْرَهُ صِفَتَهُ الْقَائِمَةَ بِذَاتِهِ؟ أَمْ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا سَمَّيْتُمُوهُ رَحْمَةً وَأَمْرًا؟ فَإِنْ أَرَدْتُمُ الْأَوَّلَ فَنُزُولُهُ يَسْتَلْزِمُ نُزُولَ الذَّاتِ وَمَجِيئَهَا قَطْعًا، وَإِنْ أَرَدْتُمُ الثَّانِي كَانَ الَّذِي يَنْزِلُ وَيَأْتِي لِفَصْلِ الْقَضَاءِ مَخْلُوقًا مُحْدَثًا لَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَهَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ قَطْعًا وَهُوَ تَكْذِيبٌ صَرِيحٌ لِلْخَبَرِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَعَهُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَلَا يَأْتِي لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَنْزِلُ وَيَأْتِي غَيْرُهُ.
وَمِنْهَا: كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ: لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي، وَيَقُولُ: مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرُ لَهُ؟ وَنُزُولُ رَحْمَتِهِ وَأَمْرِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِنُزُولِهِ سُبْحَانَهُ وَمَجِيئِهِ، وَإِثْبَاتُ ذَلِكَ لِلْمَخْلُوقِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْبَاطِلِ الَّذِي لَا يَجُوزُ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ مَعَ رَدِّ خَبَرِهِ صَرِيحًا.
وَمِنْهَا: أَنَّ نُزُولَ رَحْمَتِهِ وَأَمْرِهِ لَا يَخْتَصُّ بِالثُّلُثِ الْأَخِيرِ وَلَا بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ يَنْزِلُ أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ فَلَا تَنْقَطِعُ رَحْمَتُهُ وَلَا أَمْرُهُ عَنِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ طَرْفَةَ عَيْنٍ.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْمَنْقُولَةُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَاخْتَلَفَ فِيهَا أَصْحَابُهُ عَلَى ثَلَاثِ طُرُقٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهَا غَلَطٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ حَنْبَلًا تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ، وَهُوَ كَثِيرُ الْمَفَارِيدِ الْمُخَالِفَةِ لِلْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ وَإِذَا تَفَرَّدَ بِمَا خَالَفَ الْمَشْهُورَ عَنْهُ، فَالْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ لَا يُثْبِتُونَ ذَلِكَ رِوَايَةً وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ وَغَيْرُهُ يُثْبِتُونَ ذَلِكَ رِوَايَةً، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِجَادَّةِ مَذْهَبِهِ، هَذَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ فَكَيْفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: بَلْ ضَبَطَ حَنْبَلٌ مَا نَقَلَ وَحَفِظَهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِ هَذَا
النَّصِّ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: إِنَّمَا قَالَهُ أَحْمَدُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ لَهُمْ فَإِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَتَأَوَّلُونَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ بِمَجِيءِ أَمْرِهِ سُبْحَانَهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ نُسِبَ إِلَيْهِ الْمَجِيءُ وَالْإِتْيَانُ مَخْلُوقٌ فَكَذَلِكَ وَصْفُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَلَامَهُ بِالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ هُوَ مِثْلُ وَصْفِهِ بِذَلِكَ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ يُحْمَلُ مَجِيءُ الْقُرْآنِ عَلَى مَجِيءِ ثَوَابِهِ، كَمَا حَمْلُهُمْ مَجِيئَهُ سُبْحَانَهُ وَإِتْيَانَهُ عَلَى مَجِيءِ أَمْرِهِ وَبَأْسِهِ.
فَأَحْمَدُ ذَكَرَ عَلَى وَجْهِ الْمُعَارَضَةِ وَالْإِلْزَامِ لِخُصُومِهِ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي نَظِيرِ مَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَيْهِ لَا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ، وَالْمُعَارَضَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ اعْتِقَادَ الْمُعَارِضِ صِحَّةَ مَا عَارَضَ بِهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: بَلْ ثَبَتَ عَنْ أَحْمَدَ بِمِثْلِ هَذَا رِوَايَةٌ فِي تَأْوِيلِ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَنَظَائِرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَرَكَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَصَدَ التَّأْوِيلَ.
عَلَى هَذَا النَّوْعِ خَاصَّةً، وَجَعَلَ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى رِوَايَتَيْنِ فِي بَابِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ، وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ مِنْ مَذْهَبِهِ تَرْكُ التَّأْوِيلِ فِي الْجَمِيعِ، حَتَّى أَنَّ حَنْبَلًا نَفْسَهُ مِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ تَرْكُ التَّأْوِيلِ صَرِيحًا فَإِنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ تَفْسِيرِ النُّزُولِ هَلْ هُوَ أَمْرُهُ أَمْ مَاذَا؟ نَهَاهُ عَنْهُ.
وَطَرِيقَةُ الْقَاضِي وَابْنِ الزَّاغُونِيِّ تَخْصِيصُ الرِّوَايَتَيْنِ بِتَأْوِيلِ النُّزُولِ وَنَوْعِهِ، وَطَرِيقَةُ ابْنِ عَقِيلٍ تَعْمِيمُ الرِّوَايَتَيْنِ لِكُلِّ مَا يَمْنَعُ عِنْدَهُمْ إِرَادَةً ظَاهِرَةً، وَطَرِيقَةُ الْخَلَّالِ وَقُدَمَاءِ الْأَصْحَابِ امْتِنَاعُ التَّأْوِيلِ فِي الْكُلِّ، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ إِمَّا شَاذَّةٌ أَوْ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهَا، كَمَا هُوَ صَرِيحٌ عَنْهُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَإِمَّا أَنَّهَا إِلْزَامٌ مِنْهُ وَمُعَارَضَةٌ لَا مَذْهَبٌ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ وَقَعَ نَظِيرُهُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، فَإِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ وَعَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ إِقْرَارُ نُصُوصِ الصِّفَاتِ وَالْمَنْعُ مِنْ تَأْوِيلِهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ:" «يَنْزِلُ رَبُّنَا» " بِمَعْنَى نُزُولِ أَمْرِهِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَهَا إِسْنَادَانِ (أَحَدُهُمَا) مِنْ طَرِيقِ حَبِيبٍ كَاتِبِهِ، وَحَبِيبٌ هَذَا غَيْرُ حَبِيبٍ، بَلْ هُوَ كَذَّابٌ وَضَّاعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَلَمْ يَعْتَمِدْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى نَقْلِهِ، وَالْإِسْنَادُ (الثَّانِي) فِيهِ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ، فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ أَثْبَتَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُثْبِتْهَا ; لِأَنَّ الْمَشَاهِيرَ مِنْ أَصْحَابِهِ لَمْ يَنْقُلُوا عَنْهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
فَصْلٌ
وَهَاهُنَا قَاعِدَةٌ يَجِبُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا، وَهِيَ أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا تَأْوِيلُ شَيْءٍ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهُ وَقَعَ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَوِ الْحَدِيثِ وَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَفْسِيرِ آيَاتٍ وَأَحَادِيثَ، مِثْلَ تَنَازُعِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ