الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَصْحَابُ الْإِسْنَادِ أَصَحُّ دَعْوَى فِي ذَلِكَ لِشَهَادَةِ كَثْرَةِ الرُّوَاةِ وَتَغَايُرِ الْأَسَانِيدِ لَهُمْ بِصِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي نَقْلِ التَّوَاتُرِ، فَإِنْ لَجَأَ لَاجِئٌ إِلَى أَنْ يَقُولَ بِأَنَّ كُلَّ خَبَرٍ جَاءَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ الثِّقَاتِ إِنَّهُ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهَذِهِ مُجَاهَرَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَمُدَافَعَةٌ لِمَا يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ خِلَافُهُ، وَتَكْذِيبٌ لِجَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَلِجَمِيعِ فُضَلَاءِ التَّابِعِينَ، وَلِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا رَوَوُا الْأَخْبَارَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَا شَكٍّ وَاحْتَجَّ بِهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَعَمِلُوا بِهَا، وَأَفْتَوْا بِهَا فِي دِينِ اللَّهِ، وَهَذَا إِطِّرَاحٌ لِلْإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ وَبَاطِلٌ لَا تَخْتَلِفُ النُّفُوسُ فِيهِ؛ لِأَنَّ بِالضَّرُورَةِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا لَمْ يَصْدُقْ فِي كَلِمَةٍ بَلْ كُلُّهُمْ كَذَبُوا وَوَضَعُوا كُلَّ مَا رَوَوْا.
وَأَيْضًا فَفِيهِ إِبْطَالُ لِأَكْثَرِ الشَّرَائِعِ الَّتِي لَا يَشُكُّ مُسْلِمٌ وَلَا غَيْرُ مُسْلِمٍ فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ مُبَيَّنَةً كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّا إِنَّمَا تَلَقَّيْنَاهَا مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ كَمَا تَرَى لَا رَابِعَ لَهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ خَبَرٍ نَقَلَهُ الْعَدْلُ عَنِ الْعَدْلِ مُبْلِغًا بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَذِبًا كُلُّهَا أَوَّلُهَا عَنْ آخِرِهَا، أَوْ يَكُونَ فِيهَا حَقٌّ بَاطِلٌ إِلَّا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَنَا إِلَى تَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ أَبَدًا، وَهَذَا تَكْذِيبٌ لِلَّهِ فِي إِخْبَارِهِ بِحِفْظِ الذِّكْرِ الْمُنَزَّلِ وَبِإِكْمَالِهِ لَنَا الدِّينَ، وَبِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنَّا إِلَّا دِينَ الْإِسْلَامِ لَا شَيْءَ سِوَاهُ، وَفِيهِ أَيْضًا إِفْسَادُ الدِّينِ وَاخْتِلَاطُهُ بِمَا لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِهِ وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ فِي الْعَالَمِ أَنْ يَعْرِفَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي دِينِهِ مِمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ أَبَدًا، وَإِنَّ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ قَدْ بَطَلَتْ بِيَقِينٍ، وَهَذَا انْسِلَاخٌ، مِنَ الْإِسْلَامِ، أَوْ أَنَّهَا كُلَّهَا حَقٌّ مَقْطُوعٌ عَلَى غَيْبِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مُوجِبَةٌ كُلُّهَا الْعِلْمَ بِإِخْبَارِ اللَّهِ بِأَنَّهُ حَافِظٌ لِمَا أَنْزَلَ مِنَ الذِّكْرِ وَلِتَحْرِيمِهِ تَعَالَى الْحُكْمَ فِي الدِّينِ بِالظَّنِّ وَالْقَوْلِ عَلَيْهِ بِمَا لَا عِلْمَ لَنَا، وَلِإِخْبَارِهِ تَعَالَى أَنَّهُ {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] ، وَلَيْسَ الرُّشْدُ إِلَّا مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي فِعْلِهِ، وَلَيْسَ الْغَيُّ إِلَّا مَا لَمْ يُنْزِلْهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ، وَهَذَا قَوْلُنَا: انْتَهَى كَلَامُهُ.
[فصل استدلال ابن القيم على أن خبر الواحد يفيد العلم قطعا]
فَصْلٌ
وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ يُفِيدُ الْعِلْمَ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا أَخْبَرَهُمُ الْوَاحِدُ وَهُمْ بِقِبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ أَنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ قَبِلُوا خَبَرَهُ وَتَرَكُوا الْحُجَّةَ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وَاسْتَدَارُوا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَلَمْ
يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ شُكِرُوا عَلَى ذَلِكَ وَكَانُوا عَلَى أَمْرٍ مَقْطُوعٍ بِهِ مِنَ الْقِبْلَةِ الْأُولَى، فَلَوْلَا حُصُولُ الْعِلْمِ لَهُمْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَمْ يَتْرُكُوا الْمَقْطُوعَ بِهِ الْمَعْلُومَ لِخَبَرٍ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَغَايَةُ مَا يُقَالُ فِيهِ أَنَّهُ خَبَرٌ اقْتَرَنَتْهُ قَرِينَةٌ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقُولُ: لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِقَرِينَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْمُكَابَرَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَرِينَةَ تَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ وَرِوَايَتِهِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَقْوَى الْقَرَائِنِ وَأَظْهَرِهَا فَأَيُّ قَرِينَةٍ فَرَضْتَهَا كَانَتْ تِلْكَ أَقْوَى مِنْهَا.
الدَّلِيلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى (فَتَثَبَّتُوا) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْجَزْمِ بِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّثْبِيتِ، وَلَوْ كَانَ خَبَرُهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ لِأَمْرٍ بِالتَّثَبُّتِ حَتَّى يَحْصُلَ الْعِلْمُ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ وَأَئِمَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَزَالُوا يَقُولُونَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا وَفَعَلَ كَذَا، وَأَمَرَ بِكَذَا وَنَهَى عَنْ كَذَا، وَهَذَا مَعْلُومٌ فِي كَلَامِهِمْ بِالضَّرُورَةِ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ وَكَثِيرٌ مِنْ أَحَادِيثِ الصَّحَابَةِ يَقُولُ فِيهَا أَحَدُهُمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ صَحَابِيٍّ غَيْرِهِ، وَهَذِهِ شَهَادَةٌ مِنَ الْعَاقِلِ وَجَزْمٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَلَوْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ لَكَانَ شَاهِدًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِغَيْرِ عِلْمٍ.
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: إِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ لَمْ يَزَالُوا يَقُولُونَ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ جَزْمٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ قَالَهُ، وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُمْ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إِنَّ الْمُرَادَ بِالصِّحَّةِ صِحَّةُ السَّنَدِ لَا صِحَّةُ الْمَتْنِ، بَلْ هَذَا مُرَادُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ وَإِنَّ مَا كَانَ مُرَادُهُمْ صِحَّةَ الْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ قَالَ كَمَا كَانُوا يَجْزِمُونَ بِقَوْلِهِمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ وَنَهَى وَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَيْثُ كَانَ يَقَعُ لَهُمُ الْوَهْمُ فِي ذَلِكَ يَقُولُونَ يُذْكَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيُرْوَى عَنْهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَمَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِالْحَدِيثِ يُفَرِّقُ بَيْنَ قَوْلِ أَحَدِهِمْ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، فَالْأَوَّلُ جَزْمٌ بِصِحَّةِ نِسْبَتِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالثَّانِي شَهَادَةٌ بِصِحَّةِ سَنَدِهِ،
وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ عِلَّةٌ أَوْ شُذُوذٌ فَيَكُونُ سَنَدُهُ صَحِيحًا وَلَا يَحْكُمُونَ أَنَّهُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ.
الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] وَالطَّائِفَةُ تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ فَمَا فَوْقَهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الطَّائِفَةَ تُنْذِرُ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ وَالْإِنْذَارُ: الْإِعْلَامُ بِمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَقَوْلُهُ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ فِي آيَاتِهِ الْمَتْلُوَّةِ وَالْمَشْهُودَةِ {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176] ، {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 46] ، {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء: 31] وَهُوَ سُبْحَانُهُ إِنَّمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ فِيمَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ لَا فِيمَا لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ.
الدَّلِيلُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] أَيْ لَا تَتَّبِعْهُ وَلَا تَعْمَلْ بِهِ، وَلَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ يَقْفُونَ أَخْبَارَ الْآحَادِ وَيَعْمَلُونَ بِهَا وَيُثْبِتُونَ لِلَّهِ تَعَالَى بِهَا الصِّفَاتِ، فَلَوْ كَانَتْ لَا تُفِيدُ عِلْمًا لَكَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَتَابِعُوهُمْ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ قَدْ قَفَوْا مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ.
الدَّلِيلُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فَأَمَرَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنْ يَسْأَلَ أَهْلَ الذِّكْرِ وَهُمْ أُولُو الْكِتَابِ وَالْعِلْمِ، وَلَوْلَا أَنَّ أَخْبَارَهُمْ تُفِيدُ الْعِلْمَ لَمْ يَأْمُرْ بِسُؤَالِ مَنْ لَا يُفِيدُ خَبَرُهُ عِلْمًا، وَهُوَ سُبْحَانُهُ لَمْ يَقُلْ سَلُوا عَدَدَ التَّوَاتُرِ بَلْ أَمَرَ بِسُؤَالِ أَهْلِ الذِّكْرِ مُطْلَقًا، فَلَوْ كَانَ وَاحِدٌ لَكَانَ سُؤَالُهُ وَجَوَابُهُ كَافِيًا.
الدَّلِيلُ السَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] وَقَالَ: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] وَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «بَلِّغُوا عَنِّي» " وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي الْجَمْعِ الْأَعْظَمِ يَوْمَ عَرَفَةَ: " «أَنْتُمْ مَسْئُولُونَ عَنِّي فَمَاذَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ " قَالُوا: " نَشْهَدُ أَنَّكَ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ» "، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَلَاغَ هُوَ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْمُبَلَّغِ وَيَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ، فَلَوْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ لَمْ يَقَعْ بِهِ التَّبْلِيغُ الَّذِي تَقُومُ بِهِ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ، فَإِنَّ الْحُجَّةَ إِنَّمَا تَقُومُ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ.
وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرْسِلُ الْوَاحِدَ مِنْ أَصْحَابِهِ يُبَلِّغُ عَنْهُ فَتَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ بَلَّغَهُ، وَكَذَلِكَ قَامَتْ حُجَّتُهُ عَلَيْنَا بِمَا بَلَّغَنَا الْعُدُولُ الثِّقَاتُ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَسُنَّتِهِ، وَلَوْ لَمْ يُفِدِ الْعِلْمَ لَمْ تَقُمْ عَلَيْنَا بِذَلِكَ حُجَّةٌ، وَلَا عَلَى مَنْ بَلَّغَهُ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ أَوْ دُونَ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، وَهَذَا مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ.
فَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَخْبَارَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقُولَ إِنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُبَلِّغْ غَيْرَ الْقُرْآنِ وَمَا رَوَاهُ عَنْهُ عَدَدُ التَّوَاتُرِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ لَمْ تَقُمْ بِهِ حَجَّةٌ وَلَا تَبْلِيغٌ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ إِنَّ الْحُجَّةَ وَالْبَلَاغَ حَاصِلَانِ بِمَا لَا يُوجِبُ عِلْمًا وَلَا يَقْتَضِي عَمَلًا، وَإِذَا بَطَلَ هَذَانِ الْأَمْرَانِ بَطَلَ الْقَوْلُ بِأَنَّ أَخْبَارَهُ صلى الله عليه وسلم الَّتِي رَوَاهَا الثِّقَاتُ الْعُدُولُ الْحُفَّاظُ وَتَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ لَا تُفِيدُ عِلْمًا، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ.
الدَّلِيلُ الثَّامِنُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] وَقَوْلُهُ: {وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78] وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ عُدُولًا خِيَارًا يَشْهَدُوا عَلَى النَّاسِ بِأَنَّ رُسُلَهُمْ قَدْ بَلَّغُوهُمْ عَنِ اللَّهِ رِسَالَتَهُ وَأَدَّوْا عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ شَهَادَتَهُمْ عَلَى الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَشَهَادَتَهُمْ عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُمْ بِكَذَا وَنَهَاهُمْ عَنْ كَذَا، فَهُمْ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى مَنْ خَالَفَ رَسُولَ اللَّهِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِهِمْ مِنَ اللَّهِ مَا تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَتَشْهَدُ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ عَلَيْهِ بِأَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ بِالرُّسُلِ قَامَتْ عَلَيْهِ، وَيَشْهَدُ كُلُّ وَاحِدٍ بِانْفِرَادِهِ بِمَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي كَانَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، فَلَوْ كَانَتْ أَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُفِيدُ الْعِلْمَ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ الشَّاهِدُ وَلَمْ تَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.
الدَّلِيلُ التَّاسِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]
وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الَّتِي رَوَاهَا الثِّقَاتُ الْحُفَّاظُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَوْ مَشْكُوكًا فِيهَا، لَا يُدْرَى هَلْ هِيَ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ، فَإِنْ كَانَتْ بَاطِلًا أَوْ مَشْكُوكًا فِيهَا وَجَبَ اطِّرَاحُهَا وَأَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَيْهَا وَهَذَا انْسِلَاخٌ مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا فَيَجِبُ الشَّهَادَةُ بِهَا عَلَى الْبَتِّ أَنَّهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ الشَّاهِدُ بِذَلِكَ شَاهِدًا بِالْحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ صِحَّةَ الْمَشْهُودِ بِهِ.
الدَّلِيلُ الْعَاشِرُ: قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِثْلِهَا " فَاشْهَدُوا " أَشَارَ إِلَى الشَّمْسِ وَلَمْ يَزَلِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَئِمَّةُ الْحَدِيثِ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْقَطْعِ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَأَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ وَفَعَلَهُ لَمَّا بَلَّغَهُمْ إِيَّاهُ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ فَيَقُولُونَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا، وَحَرَّمَ كَذَا وَأَبَاحَ كَذَا، وَهَذِهِ شَهَادَةٌ جَازِمَةٌ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ كَالشَّمْسِ فِي الْوُضُوحِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ الْتِفَاتٌ إِلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاعْتِنَاءٌ بِهَا يَشْهَدُ شَهَادَةً جَازِمَةً أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ عِيَانًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ يَدْخُلُونَ النَّارَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ وَأَنَّ الصِّرَاطَ حَقٌّ، وَتَكْلِيمَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ، وَأَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ، إِلَى أَضْعَافِ أَضْعَافِ ذَلِكَ، بَلْ يَشْهَدُ بِكُلِّ خَبَرٍ صَحِيحٍ مُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ لَمْ يُنْكِرْهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ شَهَادَةً لَا يَشُكُّ فِيهَا.
الدَّلِيلُ الْحَادِيَ عَشَرَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرُونَ لِإِفَادَةِ أَخْبَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعِلْمَ يَشْهَدُونَ شَهَادَةً جَازِمَةً قَاطِعَةً عَلَى أَئِمَّتِهِمْ بِمَذَاهِبِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا، وَلَوْ قِيلَ إِنَّهَا لَمْ تَصِحَّ عَنْهُمْ لَأَنْكَرُوا ذَلِكَ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، وَتَعَجَّبُوا مِنْ جَهْلِ قَائِلِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تِلْكَ الْمَذَاهِبَ لَمْ يَرْوِهَا عَنْهُمْ إِلَّا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ وَنَحْوُهُمْ، وَلَمْ يَرْوِهَا عَنْهُمْ عَدَدُ التَّوَاتُرِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ يَقِينًا.
فَكَيْفَ يَحْصُلُ لَهُمُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ وَالْمُقَارِبُ لِلضَّرُورِيِّ بِأَنَّ أَئِمَّتَهُمْ وَمَنْ قَلَّدُوهُمْ دِينَهُمْ أَفْتَوْا بِكَذَا وَذَهَبُوا إِلَى كَذَا، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا بِمَا رَوَاهُ عَنْهُمُ التَّابِعُونَ وَشَاعَ فِي الْأُمَّةِ وَذَاعَ، وَتَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَتَنَوَّعَتْ، وَكَانَ حِرْصُهُ عَلَيْهِ أَعْظَمَ بِكَثِيرٍ مِنْ حِرْصِ أُولَئِكَ عَلَى أَقْوَالِ مَتْبُوعِيهِمْ؟ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْعَجَبُ الْعُجَابُ.
وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَفْسُهُ دَلِيلًا يَلْزَمُهُمْ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقُولُوا أَخْبَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفَتَاوَاهُ وَأَقْضِيَتُهُ تُفِيدُ الْعِلْمَ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا إِنَّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِصِحَّةِ شَيْءٍ مِمَّا
نُقِلَ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ وَأَنَّ النُّقُولَ عَنْهُمْ لَا تُفِيدُ عِلْمًا، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ دُونَ الْمَنْقُولِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مِنْ أَبْيَنِ الْبَاطِلِ.
الدَّلِيلُ الثَّانِيَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَدَعْوَتُهُ نَوْعَانِ: مُوَاجَهَةٌ وَنَوْعٌ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِإِجَابَةِ الدَّعْوَتَيْنِ فِي الْحَالَتَيْنِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ حَيَاتَهُ فِي تِلْكَ الدَّعْوَةِ وَالِاسْتِجَابَةِ لَهَا وَمِنَ الْمُمْتَنَعِ أَنْ يَأْمُرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِجَابَةِ لِمَا لَا يُفِيدُ عِلْمًا مَا أَوْ يُجِيبَهُ بِمَا لَا يُفِيدُ عِلْمًا أَوْ يَتَوَعَّدَهُ عَلَى تَرْكِ الِاسْتِجَابَةِ لِمَا لَا يُفِيدُ عِلْمًا بِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ عَاقَبَهُ، وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَلْبِهِ.
الدَّلِيلُ الثَّالِثَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ مُخَالِفٍ بَلَغَهُ أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَوْ كَانَ مَا بَلَغَهُ لَمْ يُفِدْهُ عِلْمًا لَمَا كَانَ مُتَعَرِّضًا بِمُخَالَفَةِ مَا لَا يُفِيدُ عِلْمًا لِلْفِتْنَةِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ الَّتِي لَا يَبْقَى مَعَهَا لِمُخَالِفِ أَمْرِهِ عُذْرٌ.
الدَّلِيلُ الرَّابِعَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] إِلَى قَوْلِهِ: {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59] وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يَرُدَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ هُوَ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ وَالرَّدُّ إِلَى رَسُولِهِ هُوَ الرَّدُّ إِلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَوْلَا أَنَّ الْمَرْدُودَ إِلَيْهِ يُفِيدُ الْعِلْمَ وَفَصْلَ النِّزَاعِ لَمْ يَكُنْ فِي الرَّدِّ إِلَيْهِ فَائِدَةٌ، إِذْ كَيْفَ يَرُدُّ حُكْمَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى مَا لَا يُفِيدُ عِلْمًا الْبَتَّةَ وَلَا يَدْرَى حَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ؟ وَهَذَا بُرْهَانٌ قَاطِعٌ بِحَمْدِ اللَّهِ، فَلِهَذَا قَالَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَخْبَارَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تُفِيدُ عِلْمًا، إِنَّا نَرُدُّ مَا تَنَازَعْنَا فِيهِ إِلَى الْعُقُولِ وَالْآرَاءِ وَالْأَقْيِسَةِ فَإِنَّهَا تُفِيدُ الْعِلْمَ.
الدَّلِيلُ الْخَامِسَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] إِلَى قَوْلِهِ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ كُلَّ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَهُوَ ذِكْرٌ مِنَ اللَّهِ أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَقَدْ تَكَفَّلَ سُبْحَانَهُ بِحِفْظِهِ، فَلَوْ جَازَ عَلَى حُكْمِهِ الْكَذِبُ وَالْغَلَطُ وَالسَّهْوُ مِنَ الرُّوَاةِ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى غَلَطِهِ وَسَهْوِ نَاقِلِهِ لَسَقَطَ حُكْمُ ضَمَانِ اللَّهِ وَكَفَالَتِهِ لِحِفْظِهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ، وَنَحْنُ لَا نَدَّعِي عِصْمَةَ الرُّوَاةِ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ الرَّاوِيَ إِذَا كَذَبَ أَوْ غَلِطَ أَوْ سَهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ يَعْرِفُ كَذِبَهُ وَغَلَطَهُ لِيَتِمَّ حِفْظُهُ لِحُجَجِهِ وَأَدِلَّتِهِ، وَلَا تَلْتَبِسَ بِمَا لَيْسَ مِنْهَا، فَإِنَّهُ مِنْ حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، بِخِلَافِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ الْمَنْقُولَةِ إِلَيْنَا آحَادًا كَذِبًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَغَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَهُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ، إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا، وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ.
الدَّلِيلُ السَّادِسَ عَشَرَ: مَا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ نَفْسُهُ فَقَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «نَضَرَّ الَلَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ، إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَالنَّصِيحَةُ لِلْمُسْلِمِينَ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» ".
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا نَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى اسْتِمَاعِ مَقَالَتِهِ وَحِفْظِهَا وَأَدَائِهَا أَمَرَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا وَلَوْ وَاحِدٌ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ مَنْ يُؤَدِّي عَنْهُ إِلَّا مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ أَدَّى إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُؤَدَّى عَنْهُ حَلَالٌ يُؤْتَى، وَحَرَامٌ يُجْتَنَبُ وَحَدٌّ يُقَامُ، وَمَالٌ يُؤْخَذُ وَيُعْطَى، وَنَصِيحَةٌ فِي دِينٍ وَدُنْيَا، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَحْمِلُ الْفِقْهَ غَيْرُ الْفَقِيهِ يَكُونُ لَهُ حَافِظًا وَلَا يَكُونُ فِيهِ فَقِيهًا، وَأَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ فِي إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ لَازِمٌ. انْتَهَى.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ لَوْ لَمْ يُفِدْ عِلْمًا لَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يُقْبَلَ مِمَّنْ أَدَّى إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ الَّذِي لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ إِلَّا بِخَبَرِهِمْ، وَلَمْ يَدْعُ لِلْحَامِلِ الْمُؤَدِّي وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا؛ لِأَنَّ مَا حَمَلَهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، فَلَمْ يَفْعَلْ مَا يَسْتَحِقُّ الدُّعَاءَ وَحْدَهُ إِلَّا بِانْضِمَامِهِ إِلَى أَهْلِ التَّوَاتُرِ، وَهَذَا خِلَافُ مَا اقْتَضَاهُ الْحَدِيثُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا نَدَبَ إِلَى ذَلِكَ وَحَثَّ عَلَيْهِ وَأَمَرَ بِهِ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ أَدَّى إِلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يُفِدِ الْعِلْمَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ.
الدَّلِيلُ السَّابِعَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ الصَّحِيحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي يَقُولُ: لَا نَدْرِي مَا هَذَا، بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْقُرْآنُ، أَلَا وَإِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» " وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ هَذَا نَهْيٌ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُخَالِفَهُ أَوْ يَقُولَ لَا أَقْبَلُ إِلَّا الْقُرْآنَ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ لَازِمٌ، وَفَرْضٌ حَتْمٌ بِقَبُولِ أَخْبَارِهِ وَسُنَنِهِ، وَإِعْلَامٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ أَوْحَاهَا إِلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ تُفِدْ عِلْمًا لَقَالَ مَنْ بَلَغَتْهُ: إِنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ لَا تُفِيدُ عِلْمًا فَلَا يَلْزَمُنِي قَبُولُ مَا لَا عِلْمَ لِي بِصِحَّتِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْنِي الْعِلْمَ بِمَا لَمْ أَعْلَمْ صِحَّتَهُ وَلَا اعْتِقَادَهُ، بَلْ هَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ الَّذِي حَذَّرَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ وَنَهَاهَا عَنْهُ، وَلَمَّا عَلِمَ أَنَّ فِي الْأُمَّةِ مَنْ يَقُولُهُ حَذَّرَهُمْ مِنْهُ، فَإِنَّ الْقَائِلَ إِنَّ أَخْبَارَهُ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ هَكَذَا يَقُولُ سِوَاهُ لَا نَدْرِي مَا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ، وَكَانَ سَلَفُ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْقُرْآنُ وَخَلَفُهُمْ يَقُولُونَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَدِلَّةُ الْعُقُولِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ وَقَالُوا: تُقَدَّمُ الْعُقُولُ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، آحَادِهَا وَمُتَوَاتِرِهَا، وَنُقَدِّمُ الْأَقْيِسَةَ عَلَيْهَا.
الدَّلِيلُ الثَّامِنَ عَشَرَ: مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ «عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَأَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ شَرَابًا مِنْ فَضِيخٍ، فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: قُمْ يَا أَنَسُ إِلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَاكْسِرْهَا، فَقُمْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا فَضَرَبْتُهَا بِأَسْفَلِهَا حَتَّى كَسَرْتُهَا» " وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ أَقْدَمَ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ التَّحْرِيمِ حَيْثُ ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ لَمَّا كَانَ حَلَالًا، وَهُوَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم – شِفَاهًا، وَأَكَّدَ ذَلِكَ الْقَبُولَ بِإِتْلَافِ الْإِنَاءِ وَمَا فِيهِ، وَهُوَ مَالٌ، وَمَا كَانَ لِيُقْدِمَ عَلَى إِتْلَافِ الْمَالِ بِخَبَرِ مَنْ لَا يُفِيدُهُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى جَنْبِهِ، فَقَامَ خَبَرُ ذَلِكَ الْأَتِي عِنْدَهُ وَعِنْدَ مَنْ مَعَهُ مَقَامَ السَّمَاعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَيْثُ لَمْ يَشُكُّوا وَلَمْ يَرْتَابُوا فِي صِدْقِهِ، وَالْمُتَكَلِّفُونَ يَقُولُونَ إِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْخَبَرِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ لَا بِقَرِينَةٍ وَلَا بِغَيْرِ قَرِينَةٍ.
الدَّلِيلُ التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَوْ لَمْ يُفِدِ الْعِلْمَ لَمْ يُثْبِتْ بِهِ الصَّحَابَةُ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ وَالْإِبَاحَةَ وَالْفُرُوضَ، وَيُجْعَلْ ذَلِكَ دِينًا يُدَانُ بِهِ فِي الْأَرْضِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، فَهَذَا الصِّدِّيقُ رضي الله عنه زَادَ فِي الْفُرُوضِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ فَرْضَ الْجَدَّةِ وَجَعَلَهُ شَرِيعَةً مُسْتَمِرَّةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِخَبَرِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فَقَطْ، وَجَعَلَ حُكْمَ ذَلِكَ الْخَبَرِ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْفَرْضِ حُكْمَ نَصِّ الْقُرْآنِ فِي إِثْبَاتِ فَرْضِ الْأُمِّ، ثُمَّ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُمْ عَلَى إِثْبَاتِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَثْبَتَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِخَبَرِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ دِيَةَ الْجَنِينِ وَجَعَلَهَا فَرْضًا لَازِمًا لِلْأُمَّةِ، وَأَثْبَتَ مِيرَاثَ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا بِخَبَرِ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلَابِيِّ وَحْدَهُ، وَصَارَ ذَلِكَ شَرْعًا مُسْتَمِرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَثْبَتَ شَرِيعَةً عَامَّةً فِي حَقِّ الْمَجُوسِ بِخَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَحْدَهُ، وَأَثْبَتَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ شَرِيعَةً عَامَّةً فِي سُكْنَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِخَبَرِ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ وَحْدَهَا، وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، بَلْ هُوَ إِجْمَاعٌ مَعْلُومٌ مِنْهُمْ، وَلَا يُقَالُ عَلَى هَذَا إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الظَّنِّيَاتِ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ جَمَعُوا عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِمُوجَبِهِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا أَوْ غَلَطًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكَانَتِ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةً عَلَى قَبُولِ الْخَطَأِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَهَذَا قَدْحٌ فِي الدِّينِ وَالْأُمَّةِ.
الدَّلِيلُ الْعِشْرُونَ: أَنَّ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ كَانُوا يَقْبَلُونَ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَيَقْطَعُونَ بِمَضْمُونِهِ، فَقَبِلَهُ مُوسَى مِنَ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ قَائِلًا لَهُ:{إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20] ، فَجَزَمَ بِخَبَرِهِ وَخَرَجَ هَارِبًا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَقَبِلَ خَبَرَ بِنْتِ صَاحِبِ (مَدْيَنَ) لَمَّا قَالَتْ:{إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25] وَقَبِلَ خَبَرَ أَبِيهَا فِي قَوْلِهِ: هَذِهِ ابْنَتِي وَتَزَوَّجَهَا بِخَبَرِهِ.
وَقَبِلَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ خَبَرَ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَهُ مِنْ عِنْدِ الْمَلِكِ وَقَالَ: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} [يوسف: 50] .
وَقَبِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ الْآحَادِ الَّذِينَ كَانُوا يُخْبِرُونَهُ بِنَقْضِ عَهْدِ الْمُعَاهِدِينَ لَهُ وَغَزَاهُمْ بِخَبَرِهِمْ، وَاسْتَبَاحَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيَهُمْ، وَرُسُلُ اللَّهِ صَلَوَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لَمْ يُرَتِّبُوا عَلَى تِلْكَ الْأَخْبَارِ أَحْكَامَهَا، وَهُمْ يُجَوِّزُونَ أَنْ تَكُونَ كَذِبًا وَغَلَطًا، وَكَذَلِكَ الْأُمَّةُ لَمْ تُثْبِتِ الشَّرَائِعَ الْعَامَّةَ الْكُلِّيَّةَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَهُمْ يُجَوِّزُونَ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَمْ يُخْبِرُوا عَنِ الرَّبِّ تبارك وتعالى فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا وَخَطَأً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، هَذَا مِمَّا يَقْطَعُ بِبُطْلَانِهِ كُلُّ عَالِمٍ مُسْتَبْصِرٍ.