الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِهِمْ لَجَئُوا إِلَى هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا يُنَاقِضُ الْإِيمَانَ بِالنُّبُوَّةِ، وَإِنْ تَنَاقَضَ الْقَائِلُ بِهِ فَغَلَبَتُهُ أَنْ يُثْبِتَ كَوْنَ النَّبِيِّ رَسُولًا فِي الْعَمَلِيَّاتِ وَلَا فِي الْعِلْمِيَّاتِ، أَوْ فِي بَعْضِ الْعِلْمِيَّاتِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا دُونَ الْبَعْضِ، وَهَذَا أَسْوَأُ حَالًا مِمَّنْ جَعَلَهُ رَسُولًا إِلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنَّ الْقَائِلَ بِهَذَا يَجْعَلُهُ رَسُولًا فِي الْعِلْمِيَّاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ، وَلَا يُعَارِضُ بَيْنَ خَبَرِهِ وَبَيْنَ الْعَقْلِ، وَإِنْ تَنَاقَضَ جَحْدُهُ عُمُومِ رِسَالَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، فَهَذَا جَحْدُ عُمُومِ رِسَالَتِهِ إِلَى الْمَدْعُوِّينَ، وَذَاكَ جَحْدُ عُمُومِ رِسَالَتِهِ فِي الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ الْمُخْبَرِ بِهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ فِي الْحَقِيقَةِ بِرِسَالَتِهِ، لَا هَذَا وَلَا هَذَا، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِهَذَا: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى هَؤُلَاءِ حَقًّا فَهُوَ رَسُولُهُ إِلَى الْآخَرِينَ قَطْعًا، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ، وَمِنْ ضَرُورَةِ تَصْدِيقِهِ الْإِيمَانُ بِعُمُومِ رِسَالَتِهِ، وَيُقَالُ لِلْآخَرِ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ فِي الْعَمَلِيَّاتِ وَأَنَّهَا حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهُوَ رَسُولُهُ فِي الْعِلْمِيَّاتِ، فَإِنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُ بِهَذَا وَهَذَا.
[العقل يصدق ما جاء الوحي أشد مما يصدق كثير من المحسوسات]
الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: وَهُوَ أَنَّكَ إِذَا جَعَلْتَ الْعَقْلَ مِيزَانًا، وَوَضَعْتَ فِي إِحْدَى كِفَّتَيْهِ كَثِيرًا مِنَ الْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ الْمَحْسُوسَةِ الَّتِي يَنَالُهَا الْعَيَانُ، وَوَضَعْتَ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى الْأُمُورَ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَجَدْتَ تَرْجِيحَهُ لِهَذِهِ الْكِفَّةِ فَوْقَ تَرْجِيحِهِ لِلَّتِي قَبْلَهَا وَتَصْدِيقَهُ بِهَا أَقْوَى، وَلَوْلَا الْحِسُّ وَالْمُشَاهَدَةُ يَمْنَعُهُ مِنْ إِنْكَارِ ذَلِكَ لَأَنْكَرَهُ، هَذِهِ دَعْوَى نَعْلَمُ أَنَّكَ تَتَعَجَّبُ مِمَّنْ يَدَّعِيهَا وَتَنْسُبُهُ إِلَى الْمُجَازَفَةِ وَقِلَّةِ التَّحْصِيلِ، وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ مُدَّعِيَهَا لَيَعْجَبُ مِنْ إِنْكَارِكَ لَهَا وَتَوَقُّفِكَ فِيهَا بَعْدَ الْبَيَانِ.
فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَنْسَبُ إِلَى الْعَقْلِ، حَيَوَانٌ يَرَى وَيُحِسُّ وَيَتَكَلَّمُ وَيَعْمَلُ، فَغَشِيَهُ أَمْرٌ أَلْفَاهُ كَأَنَّهُ خَشَبَةٌ لَا رُوحَ فِيهَا، وَزَالَ إِحْسَاسُهُ وَإِدْرَاكُهُ، وَتَوَارَى عَنْهُ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَعَقْلُهُ، بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا، فَأَدْرَكَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنَ الْعُلُومِ الْعَجِيبَةِ وَالْأُمُورِ الْغَائِبَةِ مَا لَمْ يُدْرِكْهُ حَالَ حُضُورِ ذِهْنِهِ، وَاجْتِمَاعِ حَوَاسِّهِ وَوُفُورِ عَقْلِهِ، وَعَلِمَ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ دَلِيلٌ وَلَا طَرِيقٌ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ.
وَأَنْسَبُ إِلَيْهِ أَيْضًا حَيَوَانٌ خَرَجَ مِنْ إِحْلِيلِهِ مَجَّةَ مَاءٍ مُسْتَحِيلَةٍ عَنْ حُصُولِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ كَالْمَخْطَةِ، فَامْتَزَجَتْ بِمِثْلِهَا فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ فَأَقَامَتْ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ، فَانْقَلَبَتْ دَمًا قَدْ تَغَيرَ لَوْنُهَا وَشَكْلُهَا وَصِفَاتُهَا، فَأَقَامَتْ كَذَلِكَ مُدَّةً، ثُمَّ انْقَلَبَتْ بَعْدَ ذَلِكَ قِطْعَةَ لَحْمٍ، فَأَقَامَتْ كَذَلِكَ مُدَّةً، ثُمَّ انْقَلَبَتْ عِظَامًا وَأَعْصَابًا وَعَرُوقًا وَأَظْفَارًا مُخْتَلِفَةَ الْأَشْكَالِ وَالْأَوْضَاعِ، وَهِيَ جَمَادٌ لَا إِحْسَاسَ بِهَا، ثُمَّ عَادَتْ حَيَوَانًا يَتَحَرَّكُ وَيَتَغَذَّى وَيَتَقَلَّبُ، ثُمَّ
أَقَامَ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ فِي مَكَانٍ لَا يَجِدُ فِيهِ مَنْفَسًا وَهُوَ دَاخِلُ أَوْعِيَةٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، ثُمَّ انْفَتَحَ لَهُ بَابٌ يَضِيقُ عَنْهُ مَسْلَكُ الذَّكَرِ لَا يَسْلُكُهُ إِلَّا بِضَغْطِهِ، فَوُسِّعَ لَهُ ذَلِكَ الْبَابُ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ.
وَأَنْسَبُ إِلَيْهِ أَيْضًا: بِقَدْرِ الْحَبَّةِ تُرْسِلُهُ فِي مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ أَعْظَمِ الْمُدُنِ فَيَأْكُلُ الْمَدِينَةَ وَكُلَّ مَنْ فِيهَا ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَأْكُلُهَا، وَهُوَ النَّارُ.
وَأَنْسَبُ إِلَيْهِ شَيْئًا بِقَدْرِ بَذْرِ الْخَشْخَاشِ يَحْمِلُهُ الْإِنْسَانُ بَيْنَ ثِيَابِهِ مُدَّةً فَيَنْقَلِبُ حَيَوَانًا يَتَغَذَّى بِوَرَقِ الشَّجَرِ بُرْهَةً، ثُمَّ إِنَّهُ يَبْنِي عَلَى نَفْسِهِ قِبَابًا مُخْتَلِفَةَ الْأَلْوَانِ مِنْ أَبْيَضَ وَأَصْفَرَ وَأَحْمَرَ بِنَاءً مُحْكَمًا مُتَّفِقًا، فَيُقِيمُ فِي ذَلِكَ الْبِنَاءِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ لَا يَتَغَذَّى بِشَيْءٍ الْبَتَّةَ، فَيَنْقَلِبُ فِي الْقُبَّةِ طَائِرًا لَهُ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُ بِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ دُودًا يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ فَيَفْتَحُ عَنْ نَفْسِهِ بَابَ الْقُبَّةَ، وَذَلِكَ دُودُ الْقَزِّ.
إِلَى أَضْعَافِ أَضْعَافِ مَا ذَكَرْنَاهُ، مِمَّا يُشَاهَدُ بِالْعَيَانِ، مِمَّا لَوْ حُكِيَ لِمَنْ لَمْ يَرَهُ لَعَجِبَ مِنْ عَقْلِ مَنْ حَكَاهُ لَهُ وَقَالَ: وَهَلْ يُصَدِّقُ بِهَذَا عَاقِلٌ، وَضَرُورَةُ الْعَقْلِ تَدْفَعُ هَذَا، وَأَقَامَ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى اسْتِحَالَتِهِ فَقَالَ فِي النَّائِمِ مَثَلًا: الْقُوَى الْحَسَّاسَةُ سَبَبُ الْإِدْرَاكِ لِلْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ وَآلَةٌ لَهَا، فَمَنْ لَمْ يُدْرِكِ الْأَشْيَاءَ مَعَ وُجُودِهَا وَاسْتِجْمَاعِهَا وَوُفُورِهَا، فَلِأَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ عَدَمُ إِدْرَاكِهَا مَعَ عَدَمِهَا وَبُطْلَانِ أَفْعَالِهَا أَوْلَى وَأَحْرَى، وَهَذَا قِيَاسٌ أَنْتَ تَجِدُهُ أَقْوَى مِنَ الْأَقْيِسَةِ الَّتِي يُعَارَضُ بِهَا خَبَرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْحِسُّ وَالْعِيَانُ يَدْفَعُهُ، وَمَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِمَوَادِّ الْأَدِلَّةِ وَتَرْتِيبِ مُقَدِّمَاتِهَا، وَلَهُ أَدْنَى بَيَانٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْظِمَ أَدِلَّةً عَقْلِيَّةً عَلَى اسْتِحَالَةِ كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ الْمَحْسُوسَةِ، وَتَكُونُ مُقَدِّمَاتُ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ مِنْ جِنْسِ مُقَدِّمَاتِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تُعَارَضُ بِهَا النُّصُوصُ أَوْ أَصَحُّ مِنْهَا.
وَأَنْسَبُ إِلَى الْعَقْلِ: وُجُودُ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَثُبُوتِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي ذَكَرْنَا الْيَسِيرَ مِنْهَا، وَمَا لَمْ نَذْكُرْهُ وَلَمْ يَخْطُرْ لَنَا بِبَالٍ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ، تَجِدُ تَصْدِيقَ الْعَقْلِ بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ تَصْدِيقِهِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَلَوْلَا الْمُشَاهَدَةُ لَكَذَّبَ بِهَا، فَيَا لَلَّهِ الْعَجَبَ، كَيْفَ يَسْتَجِيزُ الْعَقْلُ تَكْذِيبَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ وَرَأَى وَعَايَنَ مَا لَوْلَا الْحِسُّ لَأَنْكَرَهُ غَايَةَ الْإِنْكَارِ؟ وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ مَنْ صَحَّ عَقْلُهُ وَإِيمَانُهُ: إِنَّ نِسْبَةَ الْعَقْلِ إِلَى الْوَحْيِ أَقَلُّ وَأَدَقُّ بِكَثِيرٍ مِنْ نِسْبَةِ مَبَادِئِ التَّمْيِيزِ إِلَى الْعَقْلِ.
التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُعَارِضِينَ بَيْنَ الْعَقْلِ وَالْوَحْيِ لَا يُمْكِنُهُمْ إِثْبَاتَ
الصَّانِعِ، بَلْ يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِمْ نَفْيُهُ بِالْكُلِّيَّةِ لُزُومًا بَيِّنًا، وَلِأَنَّ الْعَالَمَ مَخْلُوقٌ لَهُ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ إِقَامَةُ دَلِيلٍ عَلَى اسْتِحَالَةِ الْهَيِّنِ، وَلَا إِقَامَةِ دَلِيلٍ وَاحِدٍ عَلَى اسْتِحَالَةِ كَوْنِ الصَّانِعِ جِسْمًا، وَلَا إِثْبَاتِ كَوْنِهِ عَالِمًا وَلَا قَادِرًا وَلَا رَبًّا، وَنَقْتَصِرُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى بَيَانِ عَجْزِهِمْ عَنْ إِثْبَاتِ وُجُودِهِ سبحانه وتعالى، فَضْلًا عَنْ تَنْزِيهِهِ عَنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ فَنَقُولُ: الْمُعَارِضُ بَيْنَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ فِي الْأَصْلِ هُمُ الزَّنَادِقَةُ الْمُنْكِرُونَ لِلنُّبُوَّةِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَالْمَعَادِ، وَوَافَقَهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ الْجَهْمِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ لِصِفَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ، وَالطَّائِفَتَانِ لَمْ تُثْبِتْ لِلْعَالَمِ صَانِعًا الْبَتَّةَ، فَإِنَّ الصَّانِعَ الَّذِي أَثْبَتُوا وُجُودَهُ مُسْتَحِيلٌ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ قَدِيمًا، أَمَّا الزَّنَادِقَةُ الْفَلَاسِفَةُ فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا لِلْعَالَمِ صَانِعًا لَفْظًا لَا مَعْنًى، ثُمَّ لَبَّسُوا عَلَى النَّاسِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْعَالَمَ صَنَعَهُ وَفَعَلَهُ وَخَلَقَهُ، ثُمَّ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ غَيْرُ مَصْنُوعٍ وَلَا مَخْلُوقٍ وَلَا مَفْعُولٍ، وَلَا يُمْكِنُ عَلَى أَصْلِهِمْ أَنْ يَكُونَ الْعَالَمُ مَخْلُوقًا وَلَا مَفْعُولًا.
قَالَ أَبُو حَامِدٍ: وَذَلِكَ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهٌ فِي الْفَاعِلِ، وَوَجْهٌ فِي الْفِعْلِ، وَوَجْهٌ فِي نِسْبَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ، وَأَمَّا الَّذِي فِي الْفَاعِلِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا مُخْتَارًا عَالِمًا بِمَا يُرِيدُهُ حِينَ يَكُونُ فَاعِلًا لِمَا يُرِيدُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى عِنْدَهُمْ لَيْسَ مُرِيدًا، بَلْ لَا صَنْعَةَ لَهُ أَصْلًا، وَمَا يَصْدُرُ عَنْهُ فَيَلْزَمُ لُزُومًا ضَرُورِيًّا، وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ عِنْدَهُمْ وَالْفِعْلُ هُوَ الْحَادِثُ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْوَاحِدُ عِنْدَهُمْ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ، وَالْعَالَمُ مُرَكَّبٌ مِنْ خُلُفَاتٍ، فَكَيْفَ يَصْدُرُ عَنْهُ؟
قَالَ: وَلِنُحَقِّقَ وَجْهَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ مَعَ حَالِهِمْ فِي دَفْعِهِ فَنَقُولُ: الْفَاعِلُ عِبَارَةٌ عَمَّا صَدَرَ عَنْهُ الْفِعْلُ مَعَ الْإِرَادَةِ لِلْفِعْلِ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ، مَعَ الْعِلْمِ بِالْمُرَادِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْعَالَمَ مَعَ اللَّهِ كَالْمَعْلُومِ مَعَ الْعِلَّةِ، يَلْزَمُ لُزُومًا ضَرُورِيًّا لَا يُتَصَوَّرُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى دَفْعُهُ، لُزُومَ الظِّلِّ لِلشَّخْصِ وَالنُّورِ لِلشَّمْسِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْفِعْلِ فِي شَيْءٍ، بَلْ مَنْ قَالَ: إِنَّ السِّرَاجَ يَفْعَلُ الضَّوْءَ، وَالشَّخْصُ يَفْعَلُ الظِّلَّ فَقَدْ جَاوَزَ وَتَوَسَّعَ فِي التَّجَاوُزِ تَوَسُّعًا خَارِجًا عَنِ الْحَدِّ، وَاسْتَعَارَ اللَّفْظَ وَاكْتَفَى بِوُقُوعِ الْمُشَارَكَةِ بَيْنَ الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ فِي وَصْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْفَاعِلَ سَبَبٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَالسِّرَاجُ سَبَبٌ لِلضَّوْءِ، وَالشَّمْسُ سَبَبٌ لِلنُّورِ، وَالْفَاعِلُ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلًا صَانِعًا بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ سَبَبًا، بَلْ لِكَوْنِهِ سَبَبًا عَلَى وَجْهِ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ، حَتَّى لَوْ قَالَ قَائِلٌ: الْجِدَارُ لَيْسَ بِفَاعِلٍ، وَالْحَجَرُ لَيْسَ بِفَاعِلٍ، وَالْجَمَادُ لَيْسَ بِفَاعِلٍ، وَإِنَّمَا الْفِعْلُ لِلْحَيَوَانِ، لَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ،
وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ كَذِبًا، وَلِلْحَجَرِ فِعْلٌ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ الْهَوِيُّ إِلَى أَسْفَلَ وَالْمَيْلُ إِلَى الْمَرْكَزِ، كَمَا أَنَّ لِلنَّارِ فِعْلًا، وَهُوَ التَّسْخِينُ، وَلِلْحَائِطِ فِعْلًا وَهُوَ الْمَيْلُ إِلَى الْمَرْكَزِ وَوُقُوعُ الظِّلِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ صَادِرٌ عَنْهُ، وَهَذَا مُحَالٌ.
قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: كُلُّ مَوْجُودٍ لَيْسَ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ بِغَيْرِهِ، فَإِنَّا نُسَمِّي ذَلِكَ الشَّيْءَ مَفْعُولًا، وَنُسَمِّي سَبَبَهُ فِعْلًا وَلَا نُبَالِي، كَانَ الْمُسَبِّبُ فَاعِلًا بِالطَّبْعِ أَوْ بِالْإِرَادَةِ، كَمَا أَنَّكُمْ لَا تُبَالُونَ إِنْ كَانَ فَاعِلًا بِآلَةٍ أَوْ غَيْرِ آلَةٍ، بَلِ الْفِعْلُ جِنْسٌ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَقَعُ بِآلَةٍ وَإِلَى مَا يَقَعُ بِغَيْرِ آلَةٍ، كَذَلِكَ هُوَ جِنْسٌ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَقَعُ بِالطَّبْعِ وَإِلَى مَا يَقَعُ بِالِاخْتِيَارِ، بِدَلِيلِ أَنَّا لَوْ قُلْنَا: فَعَلَ بِالطَّبْعِ لَمْ يَكُنْ قَوْلُنَا فِعْلٌ بِالطَّبْعِ ضِدًّا لِقَوْلِنَا فِعْلًا، وَلَا رَفْعًا لَهُ، وَلَا نَقْصًا لَهُ، بَلْ بَيَانًا لِنَوْعِ الْفِعْلِ، كَمَا إِذَا قُلْنَا: فِعْلٌ مُبَاشِرٌ بِغَيْرِ آلَةٍ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا، بَلْ تَنْوِيعًا وَبَيَانًا، وَإِذَا قُلْنَا: فِعْلٌ بِالِاخْتِيَارِ لَمْ يَكُنْ تَكْرَارًا، بَلْ كَانَ بَيَانًا لِنَوْعِ الْفِعْلِ، كَقَوْلِنَا: فِعْلٌ بِآلَةٍ، وَلَوْ كَانَ قَوْلُنَا فِعْلٌ يَتَضَمَّنُ الْإِرَادَةَ وَكَانَتِ الْإِرَادَةُ ثَابِتَةً لِلْفِعْلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِعْلٌ لَكَانَ قَوْلُنَا فِعْلٌ وَمَا فُعِلَ.
قُلْنَا: هَذِهِ التَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى كُلُّ سَبَبٍ بِأَيِّ فِعْلٍ كَانَ فَاعِلًا وَلَا كُلُّ سَبَبٍ مَفْعُولًا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ: الْجَمَادُ لَا فِعْلَ لَهُ وَإِنَّمَا الْفِعْلُ لِلْحَيَوَانِ، وَهَذِهِ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمَشْهُورَةِ الصَّادِقَةِ، فَإِنْ سُمِّيَ الْجَمَادُ فَاعِلًا فَبِالِاسْتِعَارَةِ كَمَا يُسَمَّى طَالِبًا مُرِيدًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَيُقَالُ: الْحَجَرُ يَهْوِي، لِأَنَّهُ يُرِيدُ الْمَرْكَزَ وَيَطْلُبُهُ، وَالطَّلَبُ وَالْإِرَادَةُ هُنَا حَقِيقَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ الْمُرَادِ الْمَطْلُوبِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا مِنَ الْحَيَوَانِ، وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ قَوْلَنَا: فَعْلٌ عَامٌّ وَيَنْقَسِمُ إِلَى مَا هُوَ بِالطَّبْعِ وَإِلَى مَا هُوَ بِالْإِرَادَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: قَوْلُنَا: أَرَادَ عَامٌّ، وَيَنْقَسِمُ إِلَى مَنْ يُرِيدُ مَعَ الْعِلْمِ بِالْمُرَادِ، وَإِلَى مَنْ يُرِيدُ وَلَا يَعْلَمُ مَا يُرِيدُ، وَهُوَ فَاسِدٌ، إِذِ الْإِرَادَةُ تَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ بِالضَّرُورَةِ، وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ يَتَضَمَّنُ الْإِرَادَةَ بِالضَّرُورَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ قَوْلَنَا: فِعْلٌ بِالطَّبْعِ لَيْسَ بِنَقْصٍ لِلْأَوَّلِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ نَقْضٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ التَّنَاقُضُ وَلَا يَشْتَدُّ نُفُورُ الطَّبْعِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا أَنْ كَانَ سَبَبًا مُوجِبًا وَالْفَاعِلُ أَيْضًا سَبَبًا سُمِّيَ فِعْلًا مَجَازًا، وَإِذَا قَالَ: فِعْلٌ بِالِاخْتِيَارِ فَهُوَ تَكْوِينٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، كَقَوْلِهِ: أَرَادَ، وَهُوَ عَالِمٌ بِمَا أَرَادَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَصَوَّرَ أَنْ يُقَالَ: فِعْلٌ وَهُوَ مَجَازٌ، وَيُقَالُ: فِعْلٌ وَهُوَ حَقِيقَةٌ لَنْ تَنْفِرَ النَّفْسُ عَنْ قَوْلِهِ: فِعْلٌ بِالِاخْتِيَارِ، وَكَانَ مَعْنَاهُ فِعْلٌ حَقِيقِيًّا لَا مَجَازِيًّا، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: تَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ، وَنَظَرَ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا
جَازَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ النَّظَرَ فِي الْقَلْبِ مَجَازًا، وَالْكَلَامُ فِي تَحْرِيكِ الرَّأْسِ وَالْيَدِ مَجَازًا، لَمْ يُسْتَقْبَحْ أَنْ يُقَالَ: قَالَ بِلِسَانِهِ وَنَظَرَ بِعَيْنِهِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ نَفْيَ احْتِمَالِ الْمَجَازِ، فَهَذِهِ مَزَلَّةُ الْقَدَمِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَتَسْمِيَةُ الْفَاعِلِ فَاعِلًا إِنَّمَا يُعْرَفُ مِنَ اللُّغَةِ، وَإِلَّا فَقَدَ ظَهَرَ فِي الْعَقْلِ أَنَّ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلشَّيْءِ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَكُونُ مُرِيدًا وَإِلَى مَا لَا يَكُونُ، فَوَقَعَ النِّزَاعُ فِي أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ يَقَعُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ حَقِيقَةً أَمْ لَا، إِذِ الْعَرَبُ تَقُولُ: النَّارُ تَحْرِقُ، وَالثَّلْجُ يُبْرِدُ، وَالسَّيْفُ يَقْطَعُ، وَالْخُبْزُ يُشْبِعُ، وَالْمَاءُ يَرْوِي، وَقَوْلُنَا: يَقْطَعُ مَعْنَاهُ يَفْعَلُ الْقَطْعَ، وَقَوْلُنَا: يَحْرِقُ مَعْنَاهُ يَفْعَلُ الْإِحْرَاقَ، فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ، فَأَنْتُمْ مُتَحَكِّمُونَ، قَالَ: وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ طَرِيقٌ، وَإِنَّمَا الْفِعْلُ الْحَقِيقِيُّ مَا يَكُونُ بِالْإِرَادَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا حَادِثًا تَوَقَّفَ حُصُولُهُ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا إِرَادِيٌّ وَالْآخَرُ غَيْرُ إِرَادِيٍّ، أَضَافَ الْعَقْلُ الْفِعْلَ إِلَى الْإِرَادِيِّ، فَكَذَا اللُّغَةُ، فَإِنَّ مَنْ أَلْقَى إِنْسَانًا فِي نَارٍ فَمَاتَ يُقَالُ: هُوَ الْقَاتِلُ دُونَ النَّارِ، حَتَّى إِذَا قِيلَ: مَا قَتَلَهُ إِلَّا فُلَانٌ كَانَ صِدْقًا، وَإِذَا كَانَ اسْمُ الْفَاعِلِ الْمُرِيدِ وَغَيْرِ الْمُرِيدِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ لَا بِطَرِيقِ كَوْنِ أَحَدِهِمَا أَصْلًا وَالْآخَرِ مُسْتَعَارًا، فَلَمْ يُضِفِ الْقَتْلَ إِلَى الْمُرِيدِ لُغَةً وَعُرْفًا وَعَقْلًا، مَعَ أَنَّ النَّارَ هِيَ الْعِلَّةُ الْقَرِيبَةُ فِي الْعَقْلِ، وَكَانَ الْمُلْقِي لَمْ يَتَعَاطَ إِلَّا الْجَمْعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْجَمْعُ بِالْإِرَادَةِ وَتَأْثِيرُ النَّارِ بِغَيْرِ إِرَادَةٍ سُمِّيَ قَاتِلًا وَلَمْ تُسَمَّ النَّارُ قَاتِلَةً إِلَّا بِمَعْنَى الِاسْتِعَارَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْفَاعِلَ مَنْ يَصْدُرُ الْفِعْلُ عَنْ إِرَادَتِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ مُرِيدًا عِنْدَهُمْ وَلَا مُخْتَارًا لِلْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ صَانِعًا وَلَا فَاعِلًا إِلَّا مَجَازًا.
فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ نَعْنِي بِكَوْنِ اللَّهِ فَاعِلًا أَنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُودِ كُلِّ مُوجِدٍ سِوَاهُ، وَأَنَّ الْعَالَمَ قَوَامُهُ بِهِ، وَلَوْلَا وُجُودُ الْبَارِي لَمَا تُصُوِّرَ وُجُودُ الْعَالَمِ، وَلَوْ قُدِّرَ عَدَمُ الْبَارِي لَانْعَدَمَ الْعَالَمُ كَمَا لَوْ قُدِّرَ عَدَمُ الشَّمْسِ لَانْعَدَمَ الضَّوْءُ، فَهَذَا مَا نَعْنِيهِ بِكَوْنِهِ فَاعِلًا، فَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ يَأْبَى أَنْ يُسَمِّيَ هَذَا الْمَعْنَى فِعْلًا فَلَا مُشَاحَةَ فِي الْأَسَامِي بَعْدَ ظُهُورِ الْمَعْنَى.
قُلْنَا: غَرَضُنَا أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُسَمَّى فَعْلًا وَصُنْعًا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى بِالْفِعْلِ وَالصُّنْعُ مَا يَصْدُرُ عَنِ الْإِرَادَةِ حَقِيقَةً، وَقَدْ نَفَيْتُمْ حَقِيقَةَ مَعْنَى الْفِعْلِ، وَنَطَقْتُمْ بِلَفْظِهِ تَجَمُّلًا بِالْإِسْلَامِ، وَلَا يَتِمُّ الدِّينُ بِإِطْلَاقِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْمَعَانِي، فَصَرَّحُوا بِأَنَّ اللَّهَ لَا فِعْلَ لَهُ حَتَّى يَتَّضِحَ أَنَّ مُعْتَقَدَكُمْ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَلْبِسُوا بِقَوْلِكُمْ: إِنَّ اللَّهَ صَانِعُ الْعَالَمِ، فَإِنَّ هَذِهِ لَفْظَةٌ أَطْلَقْتُمُوهَا وَنَفَيْتُمْ حَقِيقَتَهَا، وَمَقْصُودُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْكَشْفُ عَنْ هَذَا التَّلْبِيسِ فَقَطْ ثُمَّ سَاقَ الْكَلَامَ إِلَى أَنْ قَالَ: