الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللَّوَازِمُ مُنْتَفِيَةٌ عَنِ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَوْ مَيَّزَ أَهْلُ التَّعْطِيلِ هَذَا التَّمْيِيزَ لَهُدُوا إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَلَمَا فَارَقُوا الدَّلِيلَ.
[الأصل الذي قاد إلى القول بالتعطيل]
الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي قَادَهُمْ إِلَى التَّعْطِيلِ، وَاعْتِقَادِ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْوَحْيِ وَالْعَقْلِ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَنْشَأُ ضَلَالِ بَنِي آدَمَ، وَهُوَ الْفِرَارُ مِنْ تَعَدُّدِ صِفَاتِ الْوَاحِدِ وَتَكَثُّرِ أَسْمَائِهِ الدَّالَّةِ عَلَى صِفَاتِهِ، وَقِيَامُ الْأُمُورِ الْمُتَجَدِّدَةِ بِهِ، وَهَذَا لَا مَحْذُورَ فِيهِ، بَلْ هُوَ الْحَقُّ لَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ رَبًّا وَإِلَهًا وَخَالِقًا إِلَّا بِهِ، وَنَفْيُهُ جَحْدٌ لِلصَّانِعِ بِالْكُلِّىةِ، وَهَذَا الْقَدْرُ اللَّازِمِ لِجَمِيعِ طَوَائِفِ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى اخْتِلَافِ مِلَلِهِمْ وَعُلُومِهِمْ، حَتَّى لِمَنْ أَنْكَرَ الصَّانِعَ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَنْكَرَهُ رَأْسًا، فَإِنَّهُ يُضْطَرُّ إِلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ، وَإِنْ قَامَ عِنْدَهُ أَلْفُ شُبْهَةٍ أَوْ أَكْثَرُ عَلَى خِلَافِهِ، وَأَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِالصَّانِعِ فَهُوَ مُضْطَرٌّ إِلَى أَنْ يُقِرَّ بِكَوْنِهِ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا مُرِيدًا حَكِيمًا فَعَّالًا، وَمَعَ إِقْرَارِهِ بِذَلِكَ فَقَدِ اضْطُرَّ إِلَى الْقَوْلِ بِتَعَدُّدِ صِفَاتِ الْوَاحِدِ، وَتَكَثُّرِ أَسْمَائِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَلَوْ تَكَثَّرَتْ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ تَكَثُّرِهَا وَتَعَدُّدِهَا مَحْذُورٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
وَإِنْ قَالَ: أَنَا أَنْفِيهَا بِالْجُمْلَةِ وَلَا أُثْبِتُ تَعَدُّدَهَا بِوَجْهٍ قِيلَ لَهُ: فَهُوَ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتُ أَوْ غَيْرُهَا؟ فَإِنْ قَالَ: غَيْرُهَا قِيلَ: هُوَ خَالِقُهَا أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالَ: هُوَ خَالِقُهَا قِيلَ لَهُ: قَبْلُ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا عَالِمٌ بِهَا مُرِيدٌ لَهَا أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ، اضْطُرَّ إِلَى تَعَدُّدِ صِفَاتِهِ وَتَكَثُّرِهَا، وَإِنْ نَفَى ذَلِكَ كَانَ جَاحِدًا لِلصَّانِعِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ الدَّهْرِيَّةِ، وَيُقَالُ لَهُمْ مَا قَالَتِ الرُّسُلُ لِأُمَمِهِمْ:{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 10] وَهَلْ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ هُوَ أَظْهَرُ لِلْعُقُولِ مِنْ إِقْرَارِهَا بِهِ وَبِرُبُوبِيَّتِهِ.
وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ
…
إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ
فَإِنْ قَالَ: أَنَا أُثْبِتُهُ مَوْجُودًا وَاجِبَ الْوُجُودِ لَا صِفَةَ لَهُ قِيلَ لَهُ: فَكُلُّ مَوْجُودٍ عَلَى قَوْلِكَ أَكْمَلُ مِنْهُ، وَضَلَالُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعُبَّادِ الْأَصْنَامِ أَعْرَفُ بِهِ مِنْكَ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ مِنْكَ، وَأَمَّا فِرَارُكَ مِنْ قِيَامِ الْأُمُورِ الْمُتَّجِدَةِ بِهِ فَفَرَرْتَ مِنْ أَمْرٍ لَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ إِلَهًا وَرَبًّا وَخَالِقًا إِلَّا بِهِ، وَلَا يَتَقَرَّرُ كَوْنُهُ صَانِعًا لِهَذَا الْعَالَمِ مَعَ نَفْيِهِ أَبَدًا ; وَهُوَ لَازِمٌ لِجَمِيعِ طَوَائِفِ أَهْلِ الْأَرْضِ، حَتَّى الْفَلَاسِفَةَ الَّذِينَ هُمْ أَبْعَدُ الْخَلْقِ مِنْ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ عُقَلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ: إِنَّهُ لَا يَتَقَرَّرُ كَوْنُهُ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِلَّا بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ، قَالَ: وَالْإِجْلَالُ مِنْ هَذَا الْإِجْلَالِ وَاجِبٌ، وَالتَّنْزِيهُ مِنْ هَذَا التَّنْزِيهِ مُتَعَيَّنٌ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يَقُومُ عَلَيْهَا قَرِيبٌ مِنْ أَلْفِ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَسَمْعِيٍّ وَالْكُتُبُ
الْإِلَهِيَّةُ وَالنُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ، وَإِنْكَارٌ لِمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ أَنَّهُمْ جَاءُوا بِهِ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ كُلَّ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ تَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَفِيهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهَا، فَأَدِلَّتُهَا تَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دَلِيلٍ، فَأَوَّلُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَهِيَ سُورَةُ أُمِّ الْكِتَابِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] يَدُلُّ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحْمَدُ عَلَى أَفْعَالِهِ كَمَا حَمَدَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، وَحَمِدَهُ عَلَيْهَا رُسُلُهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ عِبَادِهِ، فَمَنْ لَا فِعْلَ لَهُ الْبَتَّةَ كَيْفَ يُحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ؟ فَالْأَفْعَالُ هِيَ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْحَمْدِ، وَلِهَذَا تَجِدُهُ مَقْرُونًا بِهَا كَقَوْلِهِ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 1]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43] ، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1] .
الثَّانِي: قَوْلُهُ: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] وَرُبُوبِيَّتُهُ لِلْعَالَمِ تَتَضَمَّنُ تَصَرُّفَهُ فِيهِ وَتَدْبِيرَهُ لَهُ وَإِنْفَاذَ أَمْرِ كُلِّ وَقْتٍ فِيهِ، وَكَوْنُهُ مَعَهُ كُلَّ سَاعَةٍ فِي شَأْنٍ: يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ، وَيُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيُصَرِّفُ الْأُمُورَ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ إِنْكَارٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَمُلْكِهِ.
الثَّالِثُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] هُوَ الَّذِي يَرْحَمُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَاحِمًا قَبْلَ ذَلِكَ.
الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] وَالْمَلِكُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيمَا هُوَ مَلِكٌ عَلَيْهِ وَمَالِكٌ لَهُ، وَمَنْ لَا تَصَرُّفَ لَهُ وَلَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ الْبَتَّةَ لَا يُعْقَلُ لَهُ ثُبُوتُ مُلْكٍ.
الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] فَهَذَا سُؤَالُ الْفِعْلِ يَفْعَلُهُ لَهُمْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ، وَهِيَ الْهِدَايَةُ الَّتِي هِيَ فِعْلُهُ.
السَّادِسُ: قَوْلُهُ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] وَفِعْلُهُ الْقَائِمُ بِهِ وَهُوَ الْإِنْعَامُ، فَلَوْ لَمْ يَقُمْ بِهِ فِعْلُ الْإِنْعَامِ لَمْ يَكُنْ لِلنِّعْمَةِ وُجُودٌ الْبَتَّةَ.
السَّابِعُ: قَوْلُهُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] وَهُمُ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَمَا أَوَجَدَهُمْ وَقَامَ بِهِمْ سَبَبُ الْغَضَبِ، إِذِ الْغَضَبُ عَلَى الْمَعْدُومِ مُحَالٌ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " «أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي
عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» "، فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَحْدَهَا.
فَتَأَمَّلْ أَدِلَّةَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَجِدْهَا فَوْقَ عَدِّ الْعَادِّينَ، حَتَّى إِنَّكَ تَجِدُ فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى اخْتِصَارِ لَفْظِهَا عِدَّةَ أَدِلَّةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ عِدَّةُ أَدِلَّةٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ} [يس: 82] وَهَذَا أَمْرُ التَّكْوِينِ الَّذِي لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ أَمْرُ الْمُكَوَّنِ بَلْ يَعْقُبُهُ الثَّانِي: {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا} [يس: 82](وَإِذَا) تَخَلَّصَ الْفِعْلُ لِلِاسْتِقْبَالِ الثَّالِثِ: {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، (وَأَنْ) تُخَلِّصُ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ الرَّابِعِ:{أَنْ يَقُولَ} [يس: 82] فِعْلٌ مُضَارِعٌ إِمَّا لِلْحَالِ عَامًّا لِلِاسْتِقْبَالِ، الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: (كُنْ) وَهُمَا حَرْفَانِ يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ يَعْقُبُهُ الثَّانِي، السَّادِسُ: قَوْلُهُ: (فَيَكُونُ)، وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ عَقِبَ قَوْلِهِ:(كُنْ) سَوَاءٌ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] فَهُوَ سُبْحَانُهُ إِنَّمَا كَلَّمَهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَنَادَيْنَاهُ} [مريم: 52]، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ} [القصص: 62] ، وَقَوْلُهُ:{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22] ، فَالنِّدَاءُ إِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَقَوْلُهُ:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210]، {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] ، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] ، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء: 16] ، {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] ، {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27] ، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ - وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5 - 6]
، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4] ، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1] ، {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] وَهَذَا عِنْدَ النُّفَاةِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، بَلِ الشُّئُونُ لِلْمَفْعُولَاتِ، وَأَمَّا هُوَ فَلَهُ شَأْنٌ وَاحِدٌ قَدِيمٌ، فَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَأَضْعَافُ أَضْعَافِهَا مِمَّا يَشْهَدُ بِهِ صَرِيحَ الْعَقْلِ، فَإِنْكَارُ ذَلِكَ وَإِنْكَارُ تَكَثُّرِ الصِّفَاتِ وَتُعَدُّدِ الْأَسْمَاءِ هُوَ أَفْسَدُ لِلْعَقْلِ وَالنَّقْلِ وَأَفْتَحُ بَابٍ لِلْمُعَارَضَةِ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ يُقَالَ لِهَؤُلَاءِ الْمُعَارِضِينَ لِلْوَحْيِ بِعُقُولِهِمْ: إِنَّ مِنْ أَئِمَّتِكُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُوجِبُ تَنْزِيهَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ عَنِ النَّقَائِصِ، وَلَمْ يَقُمْ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ أَصْلًا، صَرَّحَ بِهِ الرَّازِيُّ ; وَتَلَقَّاهُ عَنِ الْجَوْنِيِّ وَأَمْثَالِهِ، قَالُوا وَإِنَّمَا نَسيًا عَنْهُ النَّقَائِصَ بِالْإِجْمَاعِ ; وَقَدْ قَدَحَ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ النُّفَاةِ فِي دَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، وَبَيَّنُوا أَنَّهَا ظَنِّيَّةٌ لَا قَطْعِيَّةٌ، فَالْقَوْمُ لَيْسُوا قَاطِعِينَ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ النَّقَائِصِ بَلْ غَايَةُ مَا عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ الظَّنُّ.
فَيَا أُولِي الْأَلْبَابِ، كَيْفَ تَقُومُ الْأَدِلَّةُ الْقَطْعِيَّةُ عَلَى نَفْيِ صِفَاتِ اللَّهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ وَعُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَتَكَلُّمِهِ بِالْقُرْآنِ حَقِيقَةً وَتَكَلُّمِهِ لِمُوسَى، حَتَّى يُدْعَى أَنَّ الْأَدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ عَلَى ذَلِكَ قَدْ عَارَضَهَا صَرِيحُ الْعَقْلِ؟ وَأَمَّا تَنْزِيهُهُ عَنِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ فَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ وَلَكِنْ عَلِمْنَاهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَقُلْتُمْ: إِنَّ دَلَالَتَهُ ظَنِّيَّةٌ، وَيَكْفِيكَ فِي فَسَادِ عَقْلِ مُعَارِضِ الْوَحْيِ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ عِنْدَهُ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ عَلَى تَنْزِيهِ رَبِّهِ عَنِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ عَالِيًا عَلَى بَعْضٍ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ مُمَاثَلَةُ الْعَالِي وَمُشَابَهَتُهُ لَهُ، فَهَذَا الْمَاءُ فَوْقَ الْأَرْضِ، وَالْهَوَاءُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَالنَّارُ فَوْقَ الْهَوَاءِ، وَالْأَفْلَاكُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ عَالِيهَا مُمَاثِلًا لِسَافِلِهَا، وَالتَّفَاوُتُ الَّذِي بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ أَعْظَمُ مِنَ التَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَكَيْفَ يَلْزَمُ مِنْ عُلُوِّهِ تَشْبِيهُهُ بِخَلْقِهِ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: وَإِنْ لَمْ يَلْزَمِ التَّشْبِيهُ لَكِنْ يَلْزَمُ التَّجْسِيمُ قِيلَ: انْفَصِلُوا أَوَّلًا عَنْ قَوْلِ الْمُعَطِّلَةِ لِلصِّفَاتِ: لَوْ كَانَ لَهُ سَمْعٌ أَوْ بَصَرٌ أَوْ حَيَاةٌ أَوْ عِلْمٌ أَوْ قُدْرَةٌ أَوْ كَلَامٌ لَزِمَ التَّجْسِيمُ، فَإِذَا انْفَصَلْتُمْ مِنْهُمْ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا الْجَوَابَ قِيلَ لَكُمْ، مَا تُعْنُونَ بِالتَّجْسِيمِ؟