الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَيُقَالُ فُلَانٌ حَسَنُ الْقِرَاءَةِ وَرَدِيءُ الْقِرَاءَةِ، وَلَا يُقَالُ حَسَنُ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَى الْعِبَادِ الْقِرَاءَةُ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ الرَّبِّ، وَالْقِرَاءَةُ فِعْلُ الْعَبْدِ، قَالَ وَلَا تَخْفَى مَعْرِفَةُ هَذَا الْقَدْرِ إِلَّا عَلَى مَنْ أَعْمَى اللَّهُ قَلْبَهُ وَلَمْ يُوَفِّقْهُ وَلَمْ يَهْدِهِ سَبِيلَ الرَّشَادِ.
[فصل كون الكلام في محاله]
فَصْلٌ
مِنَ الْمَعْلُومِ بِالْفِطْرَةِ الْمُسْتَقِرَّةِ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ قَاطِبَةً أَنَّ الْكَلَامَ يُكْتَبُ فِي الْمَحَالِّ مِنَ الرَّقِّ وَالْخَشَبِ وَغَيْرِهِمَا، وَيُسَمَّى مَحَلُّهُ كِتَابًا، وَيُسَمَّى نَفْسُ الْمَكْتُوبِ كِتَابًا، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 77] وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} [الأنعام: 7] وَقَوْلُهُ: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 2] وَلَكِنَّ تَسْمِيَةَ الْمَحَلِّ مَشْرُوطَةٌ بِوُجُودِ الْمَكْتُوبِ فِيهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ تَسْمِيَةَ الْقَصَبَةِ قَلَمًا مَشْرُوطَةٌ بِكَوْنِهَا مَبْرُوءَةً، وَتَسْمِيَةَ الدَّارِ قَرْيَةً مَشْرُوطَةٌ بِكَوْنِهَا مَأْهُولَةً بِالسَّاكِنِ، وَتَسْمِيَةَ الْإِنَاءِ كَأْسًا مَشْرُوطَةٌ بِوَضْعِ الشَّرَابِ فِيهِ، وَتَسْمِيَةَ السَّرِيرِ أَرِيكَةً مَشْرُوطَةٌ بِنَصْبِ الْحَجَلَةِ عَلَيْهِ، بَلِ اشْتِرَاطُ وُجُودِ الْمَكْتُوبِ فِي الْمَحَلِّ يُصَحِّحُ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ أَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّحِيفَةِ مِنَ الْعِلْمِ الْعَامِّ الَّذِي لَمْ يُنَازِعْ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ إِذَا خُلِّيَ مَعَ الْفِطْرَةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ فِيهِ شُبْهَتَانِ فَاسِدَتَانِ مِنْ جِهَةِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ أَحَالَتْ أَرْبَابَهَا عَنْ فِطْرَتِهِمْ، حَتَّى قَالُوا مَا هُوَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالْفِطْرَةِ وَالْعُقَلَاءُ كُلُّهُمْ يَذْكُرُونَ هَذَا مُطْلَقًا كَقَوْلِهِمُ الْكَلَامُ فِي الصَّحِيفَةِ وَاللَّوْحِ، وَمُقَيَّدًا كَقَوْلِهِ كَلَامُ فُلَانٍ فِي الصَّحِيفَةِ وَالْكِتَابِ وَاللَّوْحِ.
وَهَذَا الْقَدْرُ الْمُسْتَقِرُّ فِي فِطَرِ النَّاسِ جَاءَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} [الأنعام: 7] وَقَالَ: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 77] وَقَالَ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} [عبس: 11] وَقَالَ تَعَالَى: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 2] وَقَدْ أَخْبَرَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ تَعَدُّدِ مَحَلِّهِ بِالْكِتَابِ تَارَةً وَبِالرَّقِّ تَارَةً وَبِصُدُورِ الْحُفَّاظِ تَارَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] .
وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ:«نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ» ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَا مَحْذُورَ فِي السَّفَرِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ بِمِدَادٍ وَوَرَقٍ وَكَاغَدٍ، وَإِنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا وَقَعَ عَنِ السَّفَرِ بِالْكَلَامِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْوَرَقُ وَالْمِدَادُ، فَهُوَ الْمَقْصُودُ لِذَاتِهِ، وَالْوَرَقُ وَالْمِدَادُ مَقْصُودٌ قَصْدَ الْوَسَائِلِ، وَلِهَذَا يَرْغَبُ النَّاسُ فِي الْكِتَابِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي يَنْتَفَعُ بِهِ وَيَتَنَافَسُونَ فِيهِ وَيَبْذُلُونَ فِيهِ أَضْعَافَ ثَمَنِ الْكَاغَدِ وَالْمِدَادِ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْكَلَامُ نَفْسُهُ لَا الْمِدَادُ وَالْوَرَقُ.
وَكُلُّ ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ يَعْلَمُ أَنَّ وُجُودَ الْكَلَامِ فِي الْمُصْحَفِ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ وُجُودِ الْحَقَائِقِ الْخَارِجِيَّةِ فِيهَا، وَلَا بِمَنْزِلَةِ وُجُودِهَا فِي مَحَالِّهَا وَأَمَاكِنِهَا وَظُرُوفِهَا، وَيَجِدُ الْفَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْكَلَامِ فِي الْوَرَقَةِ، وَبَيْنَ كَوْنِ الْمَاءِ فِي الظَّرْفِ.
فَهَاهُنَا ثَلَاثُ مَعَانٍ مُتَمَيِّزَةٍ لَا يُشْبِهُ كُلٌّ مِنْهَا الْآخَرَ، فَإِنَّ الْحَقَائِقَ الْمَوْجُودَةَ لَهَا وُجُودُ عَيْنٍ، ثُمَّ تُعَلَّمُ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ يُعَبَّرُ عَنِ الْعِلْمِ بِهَا، ثُمَّ تُكْتَبُ الْعِبَارَةُ عَنْهَا فَهَذَا الْعِلْمُ وَالْعِبَارَةُ وَالْخَطُّ لَيْسَ هُوَ أَعْيَانُ تِلْكَ الْحَقَائِقِ بَلْ هُوَ وُجُودُهَا الذِّهْنِيُّ الْعِلْمِيُّ فِي مَحَلِّهِ، وَهُوَ الْقَلْبُ وَالذِّهْنُ، وَوُجُودُهَا اللَّفْظِيُّ النُّطْقِيُّ فِي مَحَلِّهِ وَهُوَ اللِّسَانُ فِي الْآدَمِيِّ، وَوُجُودُهَا الرَّسْمِيُّ الْخَطِّيُّ فِي مَحَلِّهِ وَهُوَ الْكِتَابُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ حَفْرٍ فِي حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ، وَقَدِ افْتَتَحَ اللَّهُ وَحْيَهُ إِلَى رَسُولِهِ بِإِنْزَالِ:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ خَلَقَ الْحَقَائِقَ الْمَوْجُودَةَ، وَعَلَّمَ الْحَقَائِقَ الْعِلْمِيَّةَ، وَذَكَرَ تَعْلِيمَهُ بِالْقَلَمِ وَهُوَ الْخَطُّ، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ تَعْلِيمَ الْبَيَانِ النُّطْقِيِّ وَهُوَ الْعِبَارَةُ، وَتَعْلِيمَ الْعِلْمِ بِمَدْلُولِهَا وَهُوَ الصُّورَةُ الْعِلْمِيَّةُ الْمُطَابِقَةُ لِلْحَقِيقَةِ، فَأَوَّلُ الْمَرَاتِبِ الْوُجُودُ الْخَارِجِيُّ، وَبَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْكِتَابِ مَرْتَبَتَانِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ مَرْتَبَةُ اللَّفْظِ فَقَطْ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّفْظِ مَرْتَبَةٌ أُخْرَى.
إِذَا عُرِفَ هَذَا فَكَوْنُ الرَّبِّ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فِي الْكِتَابِ غَيْرُ كَوْنِ كَلَامِهِ فِي الْكِتَابِ، فَهَذَا شَيْءٌ وَهَذَا شَيْءٌ وَهَذَا شَيْءٌ، فَكَوْنُهُ فِي الْكِتَابِ هُوَ اسْمُهُ وَأَسْمَاءُ صِفَاتِهِ وَالْخَبَرُ عَنْهُ، وَهُوَ نَظِيرُ كَوْنِ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ فِي الْكِتَابِ، إِنَّمَا ذَلِكَ أَسْمَاؤُهَا وَالْخَبَرُ عَنْهَا، وَأَمَّا كَوْنُ كَلَامِهِ فِي الْمُصْحَفِ وَالصُّدُورِ فَهُوَ نَظِيرُ كَوْنِ كَلَامِ رَسُولِهِ فِي الْكِتَابِ وَفِي الصُّدُورِ، فَمَنْ سَوَّى بَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ، فَهُوَ مُلْبِسٌ أَوْ مَلْبُوسٌ عَلَيْهِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ فِي صُحُفٍ مُطَهَّرَةٍ يَتْلُوهَا رُسُلُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَوْنَهُ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ لَيْسَ مِثْلُهُ كَوْنَهُ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي عِنْدَنَا، وَفِي الصُّحُفِ الَّتِي بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ، فَإِنَّ وُجُودَهُ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ هُوَ ذِكْرُهُ وَالْخَبَرُ عَنْهُ كَوُجُودِ رَسُولِهِ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] فَوُجُودُ الرَّسُولِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَوُجُودُ الْقُرْآنِ فِيهِ وَاحِدٌ، فَمَنْ جَعَلَ وُجُودَ كَلَامِ اللَّهِ فِي الْمُصْحَفِ كَذَلِكَ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ.
وَقَدْ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنْ لَا يُحْتَاجَ إِلَى حَذْلَقَةِ مُتَحَذْلِقٍ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حَذْفٍ وَإِضْمَارٍ وَتَقْدِيرُهُ (عِبَارَةُ كَلَامِ اللَّهِ فِي الْمُصْحَفِ أَوْ حِكَايَتُهُ) فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ فِي هَذَا الْكِتَابِ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَفْهَمُ الْمُرَادَ بِذَلِكَ، وَلَا يَتَوَقَّفُ فَهْمُهُ عَلَى حَذْفٍ وَإِضْمَارٍ كَمَا لَا يَذْهَبُ وَهْمُهُ إِلَى أَنَّ صِفَةَ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْقَوْلَ الْقَائِمَ بِهِ الصَّوْتُ وَاللَّفْظُ الْمَسْمُوعُ مِنْهُ فَارَقَ ذَاتَهُ، وَانْفَصَلَ مِنْ مَحَلِّهِ، وَانْتَقَلَ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ.
هَذَا كُلُّهُ أَمْرٌ مَحْسُوسٌ مَشْهُودٌ لَا يُنَازِعُ فِيهِ مَنْ فَهِمَهُ إِلَّا عِنَادًا، لَكِنْ قَدْ لَا يَفْهَمُهُ بَعْضُ النَّاسِ لِفَرْطِ بَلَادَةٍ وَعَمَى قَلْبٍ أَوْ غَلَبَةِ هَوًى.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كِتَابًا مُفَصَّلًا مُحِيطًا بِالْكَائِنَاتِ، وَأَخْبَرَنَا بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، فَالْخَبَرُ عَنْهَا مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ فِي قَوْلِهِ:{وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] وَالْإِمَامُ هُوَ الْكِتَابُ،