الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَا تَحْتَهُ، وَلَا فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إِلَيَّ وَلَا يَعْرُجُ إِلَيَّ شَيْءٌ وَلَا يَنْزِلُ مِنْ عِنْدِي شَيْءٌ مِنْ قَوْلِي:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وَمِنْ قَوْلِي: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وَمِنْ قَوْلِي: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] وَمِنْ قَوْلِي: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] وَمِنْ قَوْلِي: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر: 15] وَمِنْ قَوْلِي: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] وَأَنْ تَفْهَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِي يَدَانِ مِنْ قَوْلِي: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وَلَا عَيْنٌ مِنْ قَوْلِي: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] فَإِنَّكُمْ مَتَى فَهِمْتُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ حَقَائِقَهَا وَظَوَاهِرَهَا فَهِمْتُمْ خِلَافَ مُرَادِي مِنْكُمْ أَنْ تَفْهَمُوا مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ حَقَائِقِهَا وَظَوَاهِرِهَا.
فَأَيُّ تَيْسِيرٍ يَكُونُ هُنَاكَ، وَأَيُّ تَعْقِيدٍ وَتَعْسِيرٍ لَمْ يَحْصُلْ بِذَلِكَ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ خِطَابَ الرَّجُلِ بِمَا لَا يَفْهَمُهُ إِلَّا بِتَرْجَمَةٍ أَيْسَرَ عَلَيْهِ مِنْ خِطَابِهِ بِمَا كُلِّفَ أَنْ يَفْهَمَ مِنْهُ خِلَافَ مَوْضُوعِهِ، فَتَيْسِيرُ الْقُرْآنِ مُنَافٍ لِطَرِيقَةِ النُّفَاةِ الْمُحَرِّفِينَ أَعْظَمَ مُنَافَاةٍ، وَلِهَذَا لَمَّا عَسُرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْهَمُوا مِنْهُ النَّفْيَ عَوَّلُوا عَلَى الشُّبَهِ الْخَيَالِيَّةِ.
[فَصْلُ اشْتِمَالُ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَكْثَرَ مِنَ اشْتِمَالِهَا عَلَى مَا عَدَاهُ]
فَصْلُ
اشْتِمَالُ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَكْثَرَ مِنَ اشْتِمَالِهَا عَلَى مَا عَدَاهُ
وَذَلِكَ لِشَرَفِ مُتَعَلِّقِهَا وَعَظَمَتِهِ، وَشَدِّةِ الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، فَكَانَتِ الطُّرُقُ إِلَى تَحْصِيلِ مَعْرِفَتِهِ أَكْثَرَ وَأَسْهَلَ وَأَبْيَنَ مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ حِكْمَةِ الرَّبِّ تبارك وتعالى وَتَمَامِ نِعْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتْ حَاجَةُ الْعِبَادِ إِلَى الشَّيْءِ أَقْوَى كَانَ بَذْلُهُ لَهُمْ أَكْثَرَ وَأَسْهَلَ، وَهَذَا فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، فَإِنَّ حَاجَتَهُمْ لَمَّا كَانَتْ إِلَى الْهَوَاءِ أَكْثَرَ مِنَ الْمَاءِ فِي الْقُوتِ كَانَ مَوْجُودًا مَعَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَتْ حَاجَتُهُمْ إِلَى الْمَاءِ شَدِيدَةً، إِذْ هُوَ مَادَّةُ أَقْوَاتِهِمْ وَفَوَاكِهِهِمْ وَشَرَابِهِمْ كَانَ مَبْذُولًا لَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِي مَرَاتِبِ الْحَاجَاتِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَاجَتَهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ رَبِّهِمْ وَفَاطِرِهِمْ فَوْقَ مَرَاتِبِ هَذِهِ الْحَاجَاتِ كُلِّهَا، فَإِنَّهُ لَا سَعَادَةَ لَهُمْ وَلَا فَلَاحَ وَلَا صَلَاحَ وَلَا
نَعِيمَ إِلَّا بِأَنْ يَعْرِفُوهُ وَيَعْتَقِدُوهُ، وَيَكُونُ هُوَ وَحْدَهُ غَايَةَ مَطْلُوبِهِمْ، وَالتَّقَرُّبُ إِلَيْهِ قُرَّةَ عُيُونِهِمْ، فَمَتَى فَقَدُوا ذَلِكَ كَانُوا أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْأَنْعَامِ، وَكَانَتِ الْأَنْعَامُ أَطْيَبَ عَيْشًا مِنْهُمْ فِي الْعَاجِلِ وَأَسْلَمَ عَاقِبَةً فِي الْآجِلِ.
وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ ضَرُورَةَ الْعَبْدِ إِلَى مَعْرِفَةِ رَبِّهِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ كَانَتِ الْعِنَايَةُ بِبَيَانِهَا أَيْسَرَ الطُّرُقِ وَأَهْدَاهَا وَأَبْيَنَهَا، وَإِذَا سُلِّطَ التَّأْوِيلُ عَلَى النُّصُوصِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَيْهَا فَتَسْلِيطُهُ عَلَى النُّصُوصِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ أَقْرَبُ بِكَثِيرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ لِعِبَادِهِ مِنْ صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ وَشَأْنِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ عُشْرَ مِعْشَارِ مَا ذَكَرَ لَهُمْ مِنْ نُعُوتِ جَلَالِهِ وَصِفَاتِ كَمَالِهِ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ قَابِلَةً لِلتَّأْوِيلِ فَالْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا الْمَلَائِكَةَ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَهَا الْمَلَاحِدَةُ كَمَا تَأَوَّلُوا نُصُوصَ الْمَعَادِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَأَبْدَوْا لَهَا تَأْوِيلَاتٍ لَيْسَتْ بِدُونِ تَأْوِيلَاتٍ الْجَهْمِيَّةِ لِنُصُوصِ الصِّفَاتِ، وَأَوَّلَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ عَامَّةَ نُصُوصِ الْأَخْبَارِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ، وَقَالُوا لِلْجَهْمِيَّةِ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ حَاكِمُ الْعَقْلِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ، بَلِ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ مَمْلُوءَةٌ بِذِكْرِ الْفَوْقِيَّةِ وَعُلُوِّ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَأَنَّهُ تَكَلَّمَ وَيَتَكَلَّمُ وَأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالصِّفَاتِ وَأَنَّ لَهُ أَفْعَالًا تَقُومُ بِهِ وَهُوَ بِهَا فَاعِلٌ وَأَنَّهُ يُرَى بِالْأَبْصَارِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نُصُوصِ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَخْبَارِهَا الَّتِي إِذَا قِيسَ إِلَيْهَا نُصُوصُ حَشْرِ هَذِهِ الْأَجْسَادِ وَخَرَابِ هَذَا الْعَالَمِ وَإِعْدَامِهِ لِإِنْشَاءِ عَالَمٍ آخَرَ، وُجِدَتْ نُصُوصُ الصِّفَاتِ أَضْعَافَ أَضْعَافِهَا، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارَ الدَّالَّةَ عَلَى عُلُوِّ الرَّبِّ عَلَى خَلْقِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ تُقَارِبُ الْأُلُوفَ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ عَلَيْهَا الرُّسُلُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَمَا الَّذِي سَوَّغَ لَكُمْ تَأْوِيلَهَا وَحَرَّمَ عَلَيْنَا تَأْوِيلَ نُصُوصِ حَشْرِ الْأَجْسَادِ وَخَرَابِ الْعَالَمِ؟
فَإِنْ قُلْتُمُ: الرُّسُلُ أَجْمَعُوا عَلَى الْمَجِيءِ بِهِ، فَلَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ، قِيلَ: وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ اسْتَوَى فَوْقَ عَرْشِهِ وَأَنَّهُ تَكَلَّمَ وَمُتَكَلِّمٌ وَأَنَّهُ فَاعِلٌ حَقِيقَةً مَوْصُوفٌ بِالصِّفَاتِ، فَإِنْ مُنِعَ إِجْمَاعُهُمْ هُنَاكَ مِنَ التَّأْوِيلِ وَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ هُنَا.
فَإِنْ قُلْتُمْ: أَوْجَبَ تَأْوِيلَ نُصُوصِ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَلَمْ يُوجِبْ تَأْوِيلَ نُصُوصِ الْمَعَادِ، قُلْنَا: هَاتُوا أَدِلَّةَ الْعُقُولِ الَّتِي بِهَا الصِّفَاتُ، وَنُحْضِرُ أَدِلَّةَ الْعُقُولِ الَّتِي بِهَا الْمَعَادُ وَحَشْرُ الْأَجْسَادِ، وَنُوَازِنُ بَيْنَهَا لِيَتَبَيَّنَ أَيُّهَا أَقْوَى.
فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنْكَارُ الْمَعَادِ تَكْذِيبٌ لِمَا عُلِمَ مِنَ الْإِسْلَامِ بِالضَّرُورَةِ، قُلْنَا: أَيْضًا إِنْكَارُ صِفَاتِ الرَّبِّ وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ، وَأَنَّهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ يَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ تَكْذِيبٌ لِمَا عُلِمَ أَنَّهُمْ جَاءُوا بِهِ ضَرُورَةً.
فَإِنْ قُلْتُمْ: تَأْوِيلُنَا لِلنُّصُوصِ الَّتِي جَاءُوا بِهَا لَا يَسْتَلْزِمُ تَكْذِيبَهُمْ، قُلْنَا: فَمِنْ أَيْنَ صَارَ تَأْوِيلُنَا لِلنُّصُوصِ الَّتِي جَاءُوا بِهَا فِي الْمِيعَادِ يَسْتَلْزِمُ تَكْذِيبَهُمْ دُونَ تَأْوِيلِكُمْ: أَلِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي؟
فَصَاحَتِ الْقَرَامِطَةُ وَالْمَلَاحِدَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ وَقَالُوا: مَا الَّذِي سَوَّغَ لَكُمْ تَأْوِيلَ الْأَخْبَارِ وَحَرَّمَ عَلَيْنَا تَأْوِيلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْإِيجَابِ، وَمَوْرِدُ الْجَمِيعِ عَنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ؟ قَالُوا: وَأَيْنَ تَقَعُ نُصُوصُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ نُصُوصِ الْخَبَرِ؟ قَالُوا: وَكَثِيرٌ مِنْكُمْ قَدْ فَتَحُوا لَنَا بَابَ التَّأْوِيلِ فِي الْأَمْرِ، فَأَوَّلُوا أَوَامِرَ وَنَوَاهِيَ كَثِيرَةً صَرِيحَةَ الدِّلَالَةِ أَوْ ظَاهِرَةَ الدِّلَالَةِ فِي مَعْنَاهَا بِمَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَقَائِقِهَا، فَهَلُمَّ نَضَعُهَا فِي كِفَّةٍ وَنَضَعُ تَأْوِيلَاتِنَا فِي كِفَّةٍ وَنُوَازِنُ بَيْنَهَا، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّا أَكْثَرُ تَأْوِيلًا مِنْهُمْ، وَلَكِنَّا وَجَدْنَا بَابًا مَفْتُوحًا فَدَخَلْنَاهُ.
فَهَذِهِ مِنْ شُؤْمِ جِنَايَةِ التَّأْوِيلِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ طَرْدَ إِبْلِيسَ وَلَعْنَهُ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ التَّأْوِيلِ، فَإِنَّهُ عَارَضَ النَّصَّ بِالْقِيَاسِ وَقَدَّمَهُ عَلَيْهِ، وَتَأَوَّلَ لِنَفْسِهِ أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ مُقَدَّمٌ عَلَى نَصِّ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ، فَإِنَّهُ قَالَ:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12] وَهَذَا دَلِيلٌ قَدْ حُذِفَتْ إِحْدَى مُقَدِّمَتَيْهِ، وَهِيَ: أَنَّ الْفَاضِلَ لَا يَخْضَعُ لِلْمَفْضُولِ، وَطَوَى ذِكْرَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ كَأَنَّهَا صُورَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَقَرَّرَ الْمُقَدِّمَةَ الْأَوْلَى بِقَوْلِهِ:{خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] فَكَانَ نَتِيجَةَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ امْتِنَاعُهُ مِنَ السُّجُودِ، وَظَنَّ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ الْعَقْلِيَّةَ تَنْفَعُهُ بِتَأْوِيلِهِ فَجَرَى عَلَيْهِ مَا جَرَى، وَصَارَ إِمَامًا لِكُلِّ مَنْ عَارَضَ نُصُوصَ الْوَحْيِ بِتَأْوِيلِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، كَمْ لِهَذَا الْإِمَامِ اللَّعِينِ مِنْ أَتْبَاعٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ عَامَّةَ شُبَهِ الْمُتَأَوِّلِينَ رَأَيْتَهَا مِنْ جِنْسِ شُبْهَتِهِ، وَالْقَائِلُ: إِذَا تَعَارَضَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ
قَدَّمْنَا الْعَقْلَ، مِنْ هُنَا اشْتَقَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَجَعَلَهَا أَصْلًا لِرَدِّ نُصُوصِ الْوَحْيِ الَّتِي يَزْعُمُ أَنَّ الْعَقْلَ يُخَالِفُهَا، وَعَرَضَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ لِعَدُوِّ اللَّهِ مِنْ جِهَةِ كِبْرِهِ الَّذِي مَنَعَهُ مِنَ الِانْقِيَادِ الْمَحْضِ لِنُصُوصِ الْوَحْيِ، وَهَكَذَا إِلْحَادُهُ فِي نُصُوصِ الْوَحْيِ إِنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ كِبْرٌ فِي صَدْرِهِ مَا هُوَ بِبَالِغِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 56] وَكَذَلِكَ خُرُوجُ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ إِنَّمَا كَانَ بِالتَّأْوِيلِ، وَإِلَّا فَهُوَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْصِدْ بِالْأَكْلِ مَعْصِيَةَ الرَّبِّ، ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وَجْهِ تَأْوِيلِهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَأَوَّلَ بِحَمْلِهِ النَّهْيَ الْمُطْلَقَ عَلَى الشَّجَرَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَغَرَّهُ عَدُوُّ اللَّهِ بِأَنَّ جِنْسَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ هِيَ شَجَرَةُ الْخُلْدِ وَأَطْمَعَهُ فِي أَنَّهُ إِنْ أَكَلَ مِنْهَا لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ لَهُ:{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20] فَذَكَرَ لَهُمَا عَدُوُّ اللَّهِ الشَّجَرَةَ الَّتِي نُهِيَا عَنْهَا، إِمَّا بِعَيْنِهَا أَوْ بِجِنْسِهَا، وَصَرَّحَ لَهُمَا بِأَنَّهَا هِيَ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا، وَلَوْ كَانَ عِنْدَ آدَمَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ تِلْكَ الشَّجَرَةُ الْمُعَيَّنَةُ دُونَ سَائِرِ النَّوْعِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِأَكْلِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَنَزَعَ عَنْهُ لِبَاسَهُ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: تَأَوَّلَ آدَمُ أَنَّ النَّهْيَ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ فَأَقْدَمَ، وَأَيْضًا فَحَيْثُ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِعْلِ الشَّيْءِ بِقُرْبَانِهِ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا لِتَحْرِيمٍ كَقَوْلِهِ:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} [الأنعام: 152] وَأَيْضًا لَوْ كَانَ لِلتَّنْزِيهِ لَمَا أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ عَصَى رَبَّهُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ كَانَ تَأْوِيلُهُ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا كَانَ عَنْ قُرْبَانِهِمَا وَأَكْلِهِمَا مَعًا، لَا عَنْ أَكْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ:{وَلَا تَقْرَبَا} [البقرة: 35] نَهْيٌ لَهُمَا عَنِ الْجَمْعِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ النَّهْيِ حَالَ الِاجْتِمَاعِ حُصُولُهُ حَالَ الِانْفِرَادِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْخَطِيبِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ كَمَا تَرَى فِي الْبُطْلَانِ وَالْفَسَادِ، وَنَحْنُ نَقْطَعُ أَنَّ هَذَا