الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَعَارَضُوا شَرْعَهُ وَدِينَهُ الَّذِي شَرَعَهُ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ وَتَوْحِيدِهِ بِمُعَارَضَةٍ عَقْلِيَّةٍ، وَاسْتَنَدُوا فِيهَا إِلَى الْقَدَرِ، فَقَالَ تَعَالَى:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ - قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149] وَحَكَى مِثْلَ هَذِهِ الْمُعَارَضَةَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَفِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَهَا حَقَّ التَّأَمُّلِ رَأَيْتَهَا أَقْوَى بِكَثِيرٍ مِنْ مُعَارَضَةِ آيَاتِ الصِّفَاتِ بِعُقُولِهِمْ، فَإِنَّ إِخْوَانَهُمْ عَارَضُوا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ لِلْكَائِنَاتِ وَالْمَشِيئَةُ ثَابِتَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَالنُّفَاةُ عَارَضُوا بِأُصُولٍ فَاسِدَةٍ هُمْ وَضَعُوهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، أَوْ تَلَقَّوْهُ عَنْ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ مِنَ الصَّابِئَةِ وَالْمَجُوسِ وَالْفَلَاسِفَةِ، وَهِيَ خَيَالَاتٌ فَاسِدَةٌ.
[معارضة العقل للشرع من عادة الكفار]
وَبِالْجُمْلَةِ فَمُعَارَضَةُ أَمْرِ الرُّسُلِ أَوْ خَبَرِهِمْ بِالْمَعْقُولَاتِ إِنَّمَا هِيَ طَرِيقَةُ الْكُفَّارِ، فَهُمْ سَلَفُ الْخَلْقِ بَعْدَهُمْ، فَبِئْسَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ، وَمَنْ تَأْمَّلَ مُعَارَضَةَ الْمُشْرِكِينَ لِلرُّسُلِ بِالْعُقُولِ وَجَدَهَا أَقْوَى مِنْ مُعَارَضَةِ الْجَهْمِيَّةِ وَالنُّفَاةِ لَخَبَرِهِمْ عَنِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَعُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَتَكْلِيمِهِ لِمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ بِعُقُولِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمُعَارَضَةُ بَاطِلَةً فَهَذِهِ أَبْطَلُ وَأَبْطَلُ، وَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ فَتِلْكَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْهَا وَهَذَا لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ، يُوَضِّحُهُ:
التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّ الْقُرْآنَ مَمْلُوءٌ مِنْ ذِكْرِ الصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ عَلَى الْخَلْقِ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ، وَتَكَلُّمِ اللَّهِ وَتَكْلِيمِهِ لِلرُّسُلِ وَاثَبَاتِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْحَيَاةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَا لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا عِنْدَ النُّفَاةِ مِثْلُ وَصْفِهِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالنَّوْمِ، كُلُّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ تَعَالَى مِنْ أَعْظَمِ الْمُنَفِّرَاتِ عَنْهُ، وَمُعَارَضَتُهُ فِيهِ أَسْهَلُ مِنْ مُعَارَضَتِهِ فِيمَا عَدَاهُ، وَلَمْ يُعَارِضْهُ أَعْدَاؤُهُ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى مُعَارَضَتِهِ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، فَهَلَّا عَارَضُوهُ بِمَا عَارَضَتْهُ بِهِ الْجَهْمِيَّةُ وَالنُّفَاةُ، وَقَالُوا: قَدْ أَخْبَرْتَنَا بِمَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُنَا تَصْدِيقُكَ؟ بَلْ كَانَ الْقَوْمُ عَلَى شِرْكِهِمْ وَضَلَالِهِمْ أَعْرَفُ بِاللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ مِنَ النُّفَاةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، وَأَقْرَبُ إِلَى إِثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْفِعْلِ مِنْ شُيُوخِ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنَ السِّينَاوِيَّةِ وَالْفَارَابِيَّةِ وَالطُّوسِيَّةِ.
الْعِشْرُونَ: أَنَّ دِلَالَةَ السَّمْعِ عَلَى مَدْلُولِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي جِهَتِهَا، هَلْ هِيَ ظَنِّيَّةٌ أَوْ قَطْعِيَّةٌ وَأَرَادَتِ الرُّسُلُ إِفْهَامَ مَدْلُولِهَا وَاعْتِقَادَ ثُبُوتِهِ أَمْ أَرَادَتِ الرُّسُلُ إِفْهَامَ غَيْرِهِ وَتَأْوِيلَ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ وَصَرْفَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا؟ فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى مَدْلُولِهَا، ثُمَّ قَالَ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ: مَدْلُولُهَا ثَابِتٌ فِي الْأَمْرِ وَفِي الْإِرَادَةِ، وَقَالَتِ النُّفَاةُ أَصْحَابُ التَّأْوِيلِ: مَدْلُولُهَا مُنْتَفٍ فِي الْأَمْرِ وَفِي بَعْضِ الْإِرَادَةِ، وَقَالَ أَصْحَابُ التَّخْيِيلِ: مَدْلُولُهَا ثَابِتٌ فِي الْإِرَادَةِ مُنْتَفٍ فِي الْأَمْرِ، وَأَمَّا دِلَالَةُ مَا عَارَضَهَا مِنَ الْعَقْلِيَّاتِ عَلَى مَدْلُولِهِ فَلَمْ يَتَّفِقْ أَرْبَابُهَا عَلَى دَلِيلٍ وَاحِدٍ مِنْهَا، بَلْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَقُولُ فِي أَدِلَّةِ خُصُومِهَا: إِنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهَا لَا عَلَى صِحَّتِهَا، وَأَهْلُ السَّمْعِ مَعَ كُلِّ طَائِفَةٍ فِي دِلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ تِلْكَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى الْمُخَالِفَةِ لِلسَّمْعِ، فَكُلُّ طَائِفَةٍ تَدَّعِي فَسَادَ قَوْلِ خُصُومِهَا بِالْعَقْلِ، يُصَدِّقُهُمْ أَهْلُ السَّمْعِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ يُكَذِّبُونَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ صِحَّةَ قَوْلِهِمْ بِالْعَقْلِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ دَعْوَى الطَّوَائِفِ فَسَادَ مَا يَفْهَمُ الْعَقْلُ بِشَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَشَهَادَةِ أَهْلِ الْوَحْيِ وَالسَّمْعِ مَعَهُمْ، وَلَا يُقَالُ: هَذَا يَنْقَلِبُ عَلَيْكُمْ بِاتِّفَاقِ شَهَادَةِ الْفِرَقِ كُلِّهَا عَلَى بُطْلَانِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ السَّمْعُ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ; لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ السَّمْعَ دَلَّ عَلَى الْإِثْبَاتِ، وَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى نَقِيضِهِ، فَيَمْتَنِعُ تَقْدِيمُ الدِّلَالَةِ الَّتِي لَمْ يُتَّفَقْ عَلَيْهَا عَلَى الدِّلَالَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْأُمُورَ السَّمْعِيَّةَ الَّتِي يُقَالُ: إِنَّ الْعَقْلَ عَارَضَهَا كَإِثْبَاتِ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ وَتَكَلُّمِهِ وَرُؤْيَةِ الْعِبَادِ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ لَهُ، هِيَ مِمَّا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الرَّسُولَ جَاءَ بِهَا، وَعُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ صِحَّةُ نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ، وَمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ امْتَنَعَ أَنْ يَقُومَ عَلَى بُطْلَانِهِ دَلِيلٌ، وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُعَارِضٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ لَوْ قَامَ عَلَى بُطْلَانِهِ دَلِيلٌ لَمْ يَبْقَ لَنَا وُثُوقٌ بِمَعْلُومٍ أَصْلًا لَا حِسٍّ وَلَا عَقْلٍ، وَهَذَا يُبْطِلُ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِيَّةِ بَلْ حَقِيقَةَ الْحَيَوَانِيَّةِ الْمُشْتَرِكَةَ بَيْنَ الْحَيَوَانَاتِ، فَإِنَّ لَهَا تَمْيِيزًا وَإِدْرَاكًا لِحَقَائِقَ بِحَسْبِهَا، وَهَذَا الْوَجْهُ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ عَنِ التَّأَمُّلِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ بِذَلِكَ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ صَادِقٌ، فَفِي أَيِّ الْمُقَدِّمَتَيْنِ يَقْدَحُ الْمُعَارِضُ بَيْنَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ؟
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ هُوَ إِخْبَارُهُ عَنِ الَّذِي خَلَقَهُ وَفَطَرَهُ أَنَّهُ وَضَعَ فِيهِ ذَلِكَ وَعَلَّمَهُ إِيَّاهُ وَأَرْشَدَهُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ السَّمْعُ هُوَ الْخَبَرُ عَنِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَتَكَلَّمَ بِهِ