الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31]، ثُمَّ قَالَ:{رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} [نوح: 5] فَذَكَرَ الدُّعَاءَ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ نُوحٍ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْمٍ كَانُوا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ فَيَجْهَرُونَ بِهِ خَلَطْتُمْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ يَقُولُ عَلَتْ أَصْوَاتُكُمْ صَوْتِي» ، فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْفَعَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ صَوْتَهُ، وَلَمْ يَنْهَ عَنِ الْقُرْآنِ وَلَا عَنْ كَلَامِ اللَّهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَاعْتَلَّ بَعْضُهُمْ فَقَالَ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ، قِيلَ لَهُ إِنَّمَا قَالَ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ لَا كَلَامَكَ وَنَغْمَتَكَ وَصَوْتَكَ، إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُوسَى بِكَلَامِهِ، وَلَوْ كَانَ يَسْمَعُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ كَلَامَ اللَّهِ كَمَا سَمِعَ مُوسَى لَمْ يَكُنْ لِمُوسَى عَلَيْكَ فَضْلٌ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ هَذَا الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنَ الْقَارِئِ لَوْ كَانَ هُوَ الصَّوْتُ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى لَكَانَ كُلُّ مَنْ سَمِعَ الْقُرْآنَ بِمَنْزِلَةِ مُوسَى فِي ذَلِكَ.
[فصل جواب السؤال هل حروف المعجم قديمة أو مخلوقة]
فَصْلٌ
وَإِذَا قِيلَ حُرُوفُ الْمُعْجَمِ قَدِيمَةٌ أَوْ مَخْلُوقَةٌ، فَجَوَابُهُ أَنَّ الْحَرْفَ حَرْفَانِ: فَالْحَرْفُ الْوَاقِعُ فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ مَخْلُوقٌ، وَحُرُوفُ الْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ الْحَرْفُ الْوَاحِدُ مَخْلُوقٌ وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ.
قِيلَ: لَيْسَ بِوَاحِدٍ بِالْعَيْنِ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا بِالنَّوْعِ، كَمَا أَنَّ الْكَلَامَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَخْلُوقٍ وَغَيْرِ مَخْلُوقٍ، فَهُوَ وَاحِدٌ بِالنَّوْعِ لَا بِالْعَيْنِ.
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّيْءَ لَهُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: مَرْتَبَةٌ فِي الْأَعْيَانِ، وَمَرْتَبَةٌ فِي الْأَذْهَانِ، وَمَرْتَبَةٌ فِي اللِّسَانِ، وَمَرْتَبَةٌ فِي الْخَطِّ، فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى وُجُودُهُ الْعَيْنِيُّ، وَالثَّانِيَةُ وَجُودُهُ الذِّهْنِيُّ، وَالثَّالِثَةُ وَجُودُهُ اللَّفْظِيُّ، وَالرَّابِعَةُ وَجُودُهُ الرَّسْمِيُّ، وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ الْأَرْبَعَةُ تَظْهَرُ فِي الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا، كَالشَّمْسِ مَثَلًا وَفِي أَكْثَرِ الْأَعْرَاضِ أَيْضًا كَالْأَلْوَانِ وَغَيْرِهَا، وَيَعْسُرُ تَمْيِيزُهُ فِي بَعْضِهَا كَالْعِلْمِ وَالْكَلَامِ، أَمَّا الْعِلْمُ فَلَا يَكَادُ يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَرْتَبَتِهِ فِي الْخَارِجِ وَمَرْتَبَتِهِ فِي الذِّهْنِ، بَلْ وُجُودُهُ الْخَارِجِيُّ مُمَاثِلٌ لِوُجُودِهِ الذِّهْنِيِّ، وَأَمَّا الْكَلَامُ فَإِنَّ وُجُودَهُ الْخَارِجِيَّ مَا قَامَ بِاللِّسَانِ، وَوُجُودَهُ الذِّهْنِيَّ مَا قَامَ بِالْقَلْبِ، وَوُجُودَهُ الرَّسْمِيَّ مَا أَظْهَرَ الرَّسْمُ، فَأَمَّا وُجُودُهُ اللَّفْظِيُّ فَقَدِ اتَّحَدَتْ فِيهِ الْمَرْتَبَتَانِ الْخَارِجِيَّةُ
وَاللَّفْظِيَّةُ، وَمِنْ مَوَاقِعِ الِاشْتِبَاهِ أَيْضًا أَنَّ الصَّوْتَ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ إِنْشَاءُ الْكَلَامِ مِثْلُ الصَّوْتِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ أَدَاؤُهُ وَتَبْلِيغُهُ، وَكَذَلِكَ الْحَرْفُ، فَصَوْتُ امْرِئِ الْقَيْسِ وَحُرُوفُهُ مِنْ قَوْلِهِ:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ
كَصَوْتِ الْمُنْشِدِ لِذَلِكَ حِكَايَةً عَنْهُ وَحَرْفِهِ، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: هَذَا كَلَامُكَ أَوْ كَلَامُ امْرِئِ الْقَيْسِ؟ كَانَ السُّؤَالُ مُجْمَلًا تَحْتَمِلُ الْإِشَارَةُ فِيهِ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَادَ الْإِشَارَةُ إِلَى صَوْتِ الْمُؤَدِّي وَحُرُوفِهِ، وَالثَّانِي: أَنْ يُرَادَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْكَلَامِ الْمُؤَدَّى بِصَوْتِ هَذَا وَحُرُوفِهِ، وَالْغَالِبُ إِرَادَتُهُ هُوَ الثَّانِي، وَلِهَذَا يُحْمَدُ الْقَائِلُ لَهُ أَوَّلًا أَوْ يُذَمُّ، وَإِنَّمَا يُحْمَدُ الثَّانِي أَوْ يُذَمُّ عَلَى كَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ وَحُسْنِ الصَّوْتِ وَقُبْحِهِ.
وَالْكَلَامُ يُضَافُ إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِيًا لَا إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا، فَإِذَا قَالَ الْوَاحِدُ مِنَّا:«الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، مُؤَدِّيًا لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّ هَذَا قَوْلُكَ وَكَلَامُكَ.
وَإِنْ قِيلَ إِنَّكَ حَسَنُ الْأَدَاءِ لَهُ، حَسَنُ التَّلَفُّظِ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَامَ بِهِ وَهُوَ حُسْنُهُ وَفِعْلُهُ وَعَلَيْهِ يَقَعُ اسْمُ الْخَلْقِ، وَلِشِدَّةِ ارْتِبَاطِهِ بِأَصْلِ الْكَلَامِ عَسُرَ التَّمْيِيزُ.
وَمِنْ هَاهُنَا غَلِطَتِ الطَّائِفَتَانِ إِحْدَاهُمَا: جَعَلَتِ الْكُلَّ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا، وَالثَّانِيَةُ: جَعَلَتِ الْكُلَّ قَدِيمًا، وَهُوَ عَيْنُ صِفَةِ الرَّبِّ نَظَرًا إِلَى مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ أَوَّلًا.
وَالْحَقُّ مَا عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ: أَنَّ الصَّوْتَ صَوْتُ الْقَارِئِ وَالْكَلَامَ كَلَامُ الْبَارِي.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلِ التِّلَاوَةُ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ أَمْ هِيَ الْمَتْلُوُّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالَّذِينَ قَالُوا: التِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ، فَلَيْسَتْ حَرَكَاتُ الْإِنْسَانِ عِنْدَهُمْ هِيَ التِّلَاوَةَ، وَإِنَّمَا أَظْهَرَتِ التِّلَاوَةَ وَكَانَتْ سَبَبًا لِظُهُورِهَا، وَإِلَّا فَالتِّلَاوَةُ عِنْدَهُمْ هِيَ نَفْسُ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَهِيَ قَدِيمَةٌ، وَالَّذِينَ قَالُوا التِّلَاوَةُ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ طَائِفَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا قَالَتِ: التِّلَاوَةُ هِيَ هَذِهِ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ الْمَسْمُوعَةُ، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ، وَالْمَتْلُوُّ هِيَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ وَهُوَ قَدِيمٌ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ.
وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ قَالُوا: التِّلَاوَةُ هِيَ قِرَاءَتُنَا وَتَلَفُّظُنَا بِالْقُرْآنِ، وَالْمَتْلُوُّ هُوَ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ وَالْمَسْمُوعُ بِالْآذَانِ بِالْأَدَاءِ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ (المص)(حم)(عسق)(كهيعص) حُرُوفٌ وَكَلِمَاتٌ وَسُوَرٌ وَآيَاتٌ تَلَاهُ عَلَيْهِ جَبْرَائِيلُ كَذَلِكَ وَتَلَاهُ هُوَ عَلَى الْأُمَّةِ كَمَا تَلَاهُ عَلَيْهِ جَبْرَائِيلُ، وَبَلَّغَهُ جَبْرَائِيلُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا سَمِعَهُ، وَهَذَا
قَوْلُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، فَهُمْ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَا قَامَ بِالْعَبْدِ وَمَا قَامَ بِالرَّبِّ، وَالْقُرْآنُ عِنْدَهُمْ جَمِيعُهُ كَلَامُ اللَّهِ، حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ، وَأَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَحَرَكَاتُهُمْ، وَأَدَاؤُهُمْ وَتَلَفُّظُهُمْ، كُلُّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ بَائِنٌ عَنِ اللَّهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَرَّرْتُمْ فَكَيْفَ أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ. وَبَدَّعَهُ وَنَسَبَهُ إِلَى التَّجَهُّمِ، وَهَلْ كَانَتْ مِحْنَةُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيِّ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى هَجَرَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَنَسَبُوهُ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.
قِيلَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُظَنَّ بِأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ هَذَا الظَّنُّ الْفَاسِدُ، فَقَدْ صَرَّحَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ (خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ) وَفِي آخِرِ (الْجَامِعِ) بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَقَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: أَدْرَكْتُ مَشْيَخَتَنَا مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمٌ الْقَارِي قَالَ سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: قَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: أَبْلِغْ أَبَا فُلَانٍ الْمُشْرِكَ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ دِينِهِ، وَكَانَ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، ثُمَّ سَاقَ قِصَّةَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ وَأَنَّهُ ضَحَّى بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ وَقَالَ إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ.
هَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِمَا مِنْ سَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَخَفِيَ تَفْرِيقُ الْبُخَارِيِّ وَتَمْيِيزُهُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، وَلَمْ يَفْهَمْ بَعْضُهُمْ مُرَادَهُ وَتَعَلَّقُوا بِالْمَنْقُولِ عَنْ أَحْمَدَ نَقْلًا مُسْتَفِيضًا أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جَهْمِيٌّ: وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ، وَسَاعَدَ ذَلِكَ نَوْعُ حَسَدٍ بَاطِنٍ لِلْبُخَارِيِّ لِمَا كَانَ اللَّهُ نَشَرَ لَهُ مِنَ الصِّيتِ وَالْمَحَبَّةِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ وَاجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَيْهِ حَيْثُ حَلَّ، حَتَّى هُضِمَ كَثِيرٌ مِنْ رِيَاسَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَامْتَعَضُوا لِذَلِكَ، فَوَافَقَ الْهَوَى الْبَاطِنُ الشُّبْهَةَ النَّاشِئَةَ مِنَ الْقَوْلِ الْمُجْمَلِ، وَتَمَسَّكُوا بِإِطْلَاقِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَإِنْكَارِهِ عَلَى مَنْ قَالَ
لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَأَنَّهُ جَهْمِيٌّ، فَتَرَكَّبَ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأُمُورِ فِتْنَةٌ وَقَعَتْ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ.
قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ طَاهِرَ بْنَ أَحْمَدَ الْوَرَّاقَ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ شَاذَانَ الْهَاشِمِيَّ يَقُولُ: لَمَّا وَقَعَ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ دَخَلْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِيشِ الْحِيلَةُ لَنَا فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، كُلُّ مَنْ يَخْتَلِفُ إِلَيْكَ يُطْرَدُ مِنْ مَنْزِلِهِ وَلَيْسَ لَكُمْ مَنْزِلٌ، قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى كَمْ يَعْتَرِيهِ الْحَسَدُ فِي الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ رِزْقٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تُحْكَى عِنْدَكَ، فَقَالَ لِي هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مَشْئُومَةٌ رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلَ وَمَا نَالَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جَعَلْتُ عَلَى نَفْسِي لَا أَتَكَلَّمُ فِيهَا، وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى لَا يُجِيبُ فِيهَا إِلَّا مَا يَحْكِيهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ فَوَقَفَ عَنْهَا، وَهِيَ أَنَّ اللَّفْظَ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، فَلَمَّا وَقَفَ عَنْهَا الْبُخَارِيُّ تَكَلَّمَ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى وَقَالَ: قَدْ أَظْهَرَ هَذَا الْبُخَارِيُّ قَوْلَ اللَّفْظِيَّةِ، وَاللَّفْظِيَّةُ شَرٌّ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ.
قَالَ الْحَاكِمُ: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الْعَدْلَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا حَامِدِ بْنَ الشَّرْقِيِّ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى يَقُولُ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَهُوَ قَوْلُ أَئِمَّتِنَا مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُمَرَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالْكَلَامُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَحَيْثُ تَصَرَّفَ، فَمَنْ لَزِمَ مَا قُلْنَا اسْتَغْنَى عَنِ اللَّفْظِ وَعَمَّا سِوَاهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي الْقُرْآنِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ وَخَرَجَ مِنَ الْإِيمَانِ وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَجُعِلَ مَالُهُ فَيْئًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُدْفَنْ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ وَلَا يُجَالَسُ وَلَا يُكَلَّمُ، وَمَنْ وَقَفَ وَقَالَ لَا أَقُولُ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَدْ ضَاهَى الْكُفْرَ، وَمَنْ ذَهَبَ بَعْدَ مَجْلِسِنَا هَذَا إِلَى مَجْلِسِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ فَاتَّهِمُوهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبِهِ.
قَالَ الْحَاكِمُ: وَسَمِعْتُ أَبَا الْوَلِيدِ حَسَّانَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْفَقِيهَ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ نُعَيْمٍ يَقُولُ سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ لَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْ شَأْنِهِ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَفْضَلُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ رضي الله عنهم، عَلَى هَذَا حَيِيتُ
وَعَلَيْهِ أَمُوتُ وَعَلَيْهِ أُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ: أَيُّ عَيْنٍ أَصَابَتْ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ بِمَا نَقِمَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ قَدْ بَوَّبَ فِي آخِرِ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ بَابًا مُتَرْجَمًا (ذِكْرُ قِرَاءَةِ الْفَاجِرِ وَالْمُنَافِقِ وَأَنَّ أَصْوَاتَهُمْ لَا تُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ) نَذْكُرُ فِيهِ حَدِيثَ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْأُتْرُجَّةِ» . . . " الْحَدِيثَ، وَحَدِيثُ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ. . .» " الْحَدِيثَ، فَقَالَ لِي كَيْفَ قُلْتَ؟ فَأَعَدْتُهُ عَلَيْهِ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ: مَا بَلَغَنِي هَذَا عَنْهُ.
وَمُرَادُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الثِّقَلَ فِي الْمِيزَانِ وَالْخِفَّةَ عَلَى اللِّسَانِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ، وَهُوَ صَوْتُهُ وَتَلَفُّظُهُ لَا يَعُودُ إِلَى مَا قَامَ بِالرَّبِّ تَعَالَى مِنْ كَلَامِهِ وَصِفَاتِهِ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْفَاجِرِ لَا تُجَاوِزُ حَنْجَرَتَهُ، فَلَوْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ هِيَ نَفْسَ مَا قَامَ بِالرَّبِّ مِنَ الْكَلَامِ وَهِيَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ، فَإِنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالرَّبِّ حِينَئِذٍ.
فَالْبُخَارِيُّ أَعْلَمُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَوْلَى بِالصَّوَابِ فِيهَا مِنْ جَمِيعِ مَنْ خَالَفَهُ، وَكَلَامُهُ أَوْضَحُ وَأَمْتَنُ مِنْ كَلَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ سَدَّ الذَّرِيعَةَ حَيْثُ مَنَعَ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْمَخْلُوقِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا عَلَى اللَّفْظِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَرَادَ سَدَّ بَابِ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّمَا كَرِهَ أَحْمَدُ ذَلِكَ وَمَنَعَ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ فِي اللُّغَةِ الرَّمْيُ وَالْإِسْقَاطُ يُقَالُ لَفِظَ الطَّعَامَ مِنْ فِيهِ وَلَفِظَ الشَّيْءَ مِنْ يَدِهِ إِذَا رَمَى بِهِ، فَكَرِهَ أَحْمَدُ إِطْلَاقَ ذَلِكَ عَلَى الْقُرْآنِ، وَقَالَ طَائِفَةٌ: إِنَّمَا مُرَادُ أَحْمَدَ أَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ الْمَلْفُوظِ فَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَفْظَهُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جَهْمِيٌّ.
وَأَمَّا مَنْعُهُ أَنْ يُقَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَإِنَّمَا مَنَعَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنْ نَفْسِ قَوْلِ السَّلَفِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالْقُرْآنُ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى، فَإِذَا خُصَّ اللَّفْظُ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْكَلَامِ أَوْ نَقْصًا مِنَ الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ ذَلِكَ بِأَلْفَاظٍ خَاصَّةٍ، وَهَذَا كَمَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ: السَّبْعُ الطِّوَالُ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا، لَكِنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَكُلُّ هَذَا عُدُولٌ عَمَّا أَرَادَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.
وَهَذَا الْمَنْعُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مِنْ كَمَالِ عِلْمِهِ بِاللُّغَةِ وَالسُّنَّةِ وَتَحْقِيقِهِ لِهَذَا الْبَابِ فَإِنَّهُ امْتُحِنَ بِهِ مَا لَمْ يُمْتَحَنْ بِهِ غَيْرُهُ، وَصَارَ كَلَامُهُ قُدْوَةً وَإِمَامًا لِحِزْبِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي قَصَدَهُ أَحْمَدُ أَنَّ اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: الْمَلْفُوظُ نَفْسُهُ وَهُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعَبْدِ وَلَا فِعْلٍ لَهُ، الثَّانِي: التَّلَفُّظُ بِهِ وَالْأَدَاءُ لَهُ وَفِعْلُ الْعَبْدِ، فَإِطْلَاقُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّفْظِ قَدْ تُوهِمُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَهُوَ خَطَأٌ، وَإِطْلَاقُ نَفْيِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ قَدْ يُوهِمُ الْمَعْنَى الثَّانِيَ وَهُوَ خَطَأٌ، فَمَنَعَ الْإِطْلَاقَيْنِ.
وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ مَيَّزَ وَفَصَلَ وَأَشْبَعَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ وَفَرَّقَ بَيْنَ مَا قَامَ بِالرَّبِّ وَبَيْنَ مَا قَامَ بِالْعَبْدِ، وَأَوْقَعَ الْمَخْلُوقَ عَلَى تَلَفُّظِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ وَأَكْسَابِهِمْ، وَنَفَى اسْمَ الْخَلْقِ عَنِ الْمَلْفُوظِ وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي سَمِعَهُ جَبْرَائِيلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَسَمِعَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ جَبْرَائِيلَ، وَقَدْ شَفَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ (خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ) وَأَتَى فِيهَا مِنَ الْفُرْقَانِ وَالْبَيَانِ بِمَا يُزِيلُ الشُّبْهَةَ، وَيُوَضِّحُ الْحَقَّ، وَيُبَيِّنُ مَحَلَّهُ مِنَ الْإِمَامَةِ وَالدِّينِ، وَرَدَّ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ أَحْسَنَ الرَّدِّ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ: فَأَمَّا مَا احْتَجَّ الْفَرِيقَانِ لِمَذْهَبِ أَحْمَدَ وَيَدَّعِيهِ كُلٌّ لِنَفْسِهِ فَلَيْسَ بِثَابِتِ كَثِيرٍ مِنْ أَخْبَارِهِمْ، وَرُبَّمَا لَمْ يَفْهَمُوا دِقَّةَ مَذْهَبِهِ، بَلِ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَحْمَدَ وَأَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا سِوَاهُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَأَنَّهُمْ كَرِهُوا الْبَحْثَ وَالتَّفْتِيشَ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْغَامِضَةِ وَتَجَنُّبِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْخَوْضَ وَالتَّنَازُعَ إِلَّا فِيمَا جَاءَ بِهِ الْعِلْمُ وَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
وَالْفَرِيقَانِ اللَّذَانِ عَنَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَتَصَدَّى لِلرَّدِّ عَلَيْهِمَا وَإِبْطَالِ قَوْلِهِمَا، ثُمَّ أَخْبَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ الزَّائِغَتَيْنِ تَحْتَجُّ بِأَحْمَدَ، وَتَزْعُمُ أَنَّ قَوْلَهَا قَوْلُهُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ أُولَئِكَ اللَّفْظِيَّةَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ التِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ وَالْقِرَاءَةُ هِيَ الْمَقْرُوءُ وَالْكِتَابَةُ هِيَ الْمَكْتُوبُ.
وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: التِّلَاوَةُ وَالْقِرَاءَةُ مَخْلُوقَةٌ، وَيَقُولُونَ: أَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ، وَمُرَادُهُمْ بِالتِّلَاوَةِ وَالْقُرْآنِ نَفْسُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي سُمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمَتْلُوُّ الْمَقْرُوءُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْقُرْآنِ، فَإِذَا قَالُوا: الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَرَادُوا بِهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَهُوَ الْمَتْلُوُّ الْمَقْرُوءُ، وَأَمَا الْمَقْرُوءُ الْمَسْمُوعُ الْمُثْبَتُ فِي الْمَصَاحِفِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ وَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ
التِّلَاوَةُ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ، وَالْقِرَاءَةُ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ، وَالْكِتَابَةُ غَيْرُ الْمَكْتُوبِ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ، وَالْمَتْلُوُّ الْمَقْرُوءُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَهُوَ غَيْرُ مَسْمُوعٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحُرُوفٍ وَلَا أَصْوَاتٍ.
وَالْفَرِيقَانِ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا حَقٌّ وَبَاطِلٌ، فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَمَّا الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ فَأَصَابُوا فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهَذَا الْقُرْآنِ عَلَى الْحَقِيقَةِ حُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ تَكَلَّمْ بِهِ بِصَوْتِهِ وَأَسْمَعَهُ مَنْ شَاءَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ، وَلَيْسَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ مَخْلُوقًا مِنْ جُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَخْطَئُوا فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ هَذَا الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنَ الْقَارِئِ هُوَ الصَّوْتُ الْقَائِمُ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى وَأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَنَّ تِلَاوَتَهُمْ وَقِرَاءَتَهُمْ وَأَلْفَاظَهُمُ الْقَائِمَةَ بِهِمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، فَهَذَا غُلُوٌّ فِي الْإِثْبَاتِ يَجْمَعُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.
وَأَمَّا الْفَرِيقُ الثَّانِي فَأَصَابُوا فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَتِلَاوَتَهُمْ وَقِرَاءَتَهُمْ وَمَا قَامَ بِهِمْ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَتَلَفُّظِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَكِتَابَتِهِمْ لَهُ مَخْلُوقٌ، وَأَخْطَئُوا فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ الَّذِي بَلَّغَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، وَلَمْ يُكَلِّمْ بِهِ الرَّبُّ وَلَا سُمِعَ مِنْهُ، وَأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا سُوَرٍ وَلَا آيَاتٍ، وَلَا لَهُ بَعْضٌ وَلَا كُلٌّ وَلَيْسَ بِعَرَبِيٍّ وَلَا عِبْرَانِيٍّ، بَلْ هَذِهِ عِبَارَاتٌ مَخْلُوقَةٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى.
وَالْحَرْبُ وَاقِعٌ بَيْنِ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إِلَى الْآنِ، فَإِنَّهُ لَمَّا مَاتَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قَالَ طَائِفَةٌ مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الْمِصِّيصِيُّ وَغَيْرُهُ: أَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، وَحَكَوْا ذَلِكَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ صَاحِبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَخَصُّ النَّاسِ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ ذَلِكَ، وَصَنَّفَ كِتَابًا مَشْهُورًا ذَكَرُهُ الْخَلَّالُ فِي السُّنَّةِ ثُمَّ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ وَأَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ وَغَيْرُهُمَا، ثُمَّ نَصَرَهُ بَعْدَهُمُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ ثُمَّ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ وَهُوَ خَطَأٌ عَلَى أَحْمَدَ.
فَقَابَلَ هَؤُلَاءِ الْفَرِيقُ الثَّانِي وَقَالُوا: إِنَّ نَفْسَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَخْلُوقَةٌ لَمْ يَتَكَلَّمِ اللَّهُ بِهَا وَلَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَلَامُهُ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ، وَقَالُوا: هَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ.
وَالْبُخَارِيُّ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ بُرَآءُ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَالثَّابِتُ الْمُتَوَاتِرُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ هُوَ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ خَوَاصُّ أَصْحَابِهِ وَثِقَاتِهِمْ، كَمَا بَيَّنَهُ صَالِحٌ وَعَبْدُ اللَّهِ الْمَرُّوذِيُّ وَغَيْرُهُمْ: مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، فَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْفَرِيقَيْنِ، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جَهْمِيٌّ، وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَأُهُ الْمُسْلِمُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ
وَحَيْثُ تَصَرَّفَ كَلَامُ اللَّهِ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَكَانَ يَقُولُ بِخَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ، وَإِنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنَ الْقَارِئِ هُوَ صَوْتُهُ وَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَيَقُولُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» " مَعْنَاهُ يُحَسِّنُهُ بِصَوْتِهِ، كَمَا قَالَ " «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» ".
وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَنِ احْتَجَّ بِكَلَامِ أَحْمَدَ عَلَى شَيْءٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: صِحَّةُ النَّقْلِ عَنْ ذَلِكَ الْقَائِلِ، وَالثَّانِي: مَعْرِفَةُ كَلَامِهِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: فَمَا احْتَجَّ بِهِ الْفَرِيقَانِ مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ لَيْسَ بِثَابِتِ كَثِيرٍ مِنْ أَخْبَارِهِمْ، وَرُبَّمَا لَمْ يَفْهَمُوا دِقَّةَ مَذْهَبِهِ فَذَكَرَ أَنَّ مِنَ الْمَنْقُولِ عَنْهُ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ، وَالثَّابِتُ عَنْهُ قَدْ لَا يَفْهَمُونَ مُرَادَهُ لِدِقَّتِهِ عَلَى أَفْهَامِهِمْ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ عِنْدَنَا قَوْمًا يَقُولُونَ إِنَّ أَلْفَاظَهُمْ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يَتَوَجَّهُ الْعَبْدُ لِلَّهِ بِالْقُرْآنِ بِخَمْسَةِ أَوْجُهٍ وَهُوَ فِيهَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ: حِفْظٌ بِقَلْبٍ، وَتِلَاوَةٌ بِلِسَانٍ، وَسَمْعٌ بِأُذُنٍ، وَنَظْرَةٌ بِبَصَرٍ، وَخَطٌّ بِيَدٍ، فَالْقَلْبُ مَخْلُوقٌ وَالْمَحْفُوظُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالتِّلَاوَةُ مَخْلُوقَةٌ وَالْمَتْلُوُّ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالسَّمْعُ مَخْلُوقٌ وَالْمَسْمُوعُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالنَّظَرُ مَخْلُوقٌ وَالْمَنْظُورُ إِلَيْهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالْكِتَابَةُ مَخْلُوقَةٌ وَالْمَكْتُوبُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَمَاتَ أَحْمَدُ فَرَأَيْتُهُ فِي النَّوْمِ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ خُضْرٌ وَبِيضٌ، وَعَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنَ الذَّهَبِ مُكَلَّلٌ بِالْجَوَاهِرِ وَفِي رِجْلَيْهِ نَعْلَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ غَفَرَ لِي وَقَرَّبَنِي وَأَدْنَانِي، فَقَالَ: قَدْ غَفَرْتُ لَكَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَبِّ بِمَاذَا؟ قَالَ: بِقَوْلِكَ كَلَامِي غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
فَفَرَّقَ أَحْمَدُ بَيْنَ فِعْلِ الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ وَمَا قَامَ بِهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَبَيْنَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ كَسْبُهُ وَهُوَ غَيْرُ، وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ هَذَا التَّفْرِيقَ لَمْ يَسْتَقِرَّ لَهُ قَدَمٌ فِي الْحَقِّ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ الْمَسْمُوعُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ صَوْتُ الْعَبْدِ، وَأَمَّا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ الْقَائِمُ بِهِ فَإِنَّا لَا نَسْمَعُهُ، وَكَيْفَ يَكُونُ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ الْمِدَادُ وَالْوَرَقُ، وَكَيْفَ يَكُونُ الْمَحْفُوظُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَإِنَّمَا هُوَ الصَّدْرُ وَمَا حَوَاهُ وَاشْتَمَلَ عَلَيْهِ، فَهَلِ انْتَقَلَ الْقَدِيمُ وَحَلَّ فِي الْمُحْدَثِ أَوِ اتَّحَدَ بِهِ وَظَهَرَ فِيهِ فَإِنْ أَزَلْتُمْ هَذِهِ الشُّبْهَةَ انْجَلَى الْحَقُّ وَظَهَرَ الثَّوَابُ، إِلَّا فَالْغَبَشُ مَوْجُودٌ وَالظُّلْمَةُ مُنْعَقِدَةٌ.
قِيلَ: قَدْ زَالَ الْغَبَشُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَزَالَتِ الظُّلْمَةُ بِبَعْضِ مَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ مَا حِيلَةُ
الْكَحَّالِ فِي الْعُمْيَانِ؟ فَمَنْ يَشُكُّ فِي الْقَلْبِ وَصِفَاتِهِ، وَاللِّسَانِ وَحَرَكَاتِهِ، وَالْحَقِّ وَأَصْوَاتِهِ وَالْبَصَرِ وَمَرْئِيَّاتِهِ، وَالْوَرَقِ وَمِدَادِهِ، وَالْكَاتِبِ وَآلَاتِهِ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ: لَا يَبِيعُ كِتَابَ اللَّهِ وَإِنَّمَا يَبِيعُ عَمَلَ يَدِهِ، وَقَالَ زِيَادٌ مَوْلَى سَعِيدٍ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَا نَرَى أَنْ تَجْعَلَهُ مَتْجَرًا وَلَكِنْ مَا عَمِلَتْ يَدَاكَ فَلَا بَأْسَ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ: إِنَّمَا هُمْ مُصَوِّرُونَ يَبِيعُونَ عَمَلَهُمْ، عَمَلَ أَيْدِيهِمْ، وَذَكَرَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ قَالَ، وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ، وَلَا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا رَسْمُهُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ اللَّهُ عز وجل: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] قَالَ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَلَفَّظَ بِهِ الْعِبَادُ وَالْمَلَائِكَةُ، قَالَ: وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ - وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 97 - 17] قَالَ وَسَمِعَ عُمَرُ مُعَاذًا الْقَارِئَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ وَقَالَ: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19] ثُمَّ رُوِيَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: مَا سَمِعْتُ صَنْجًا قَطُّ وَلَا بَرْبَطًا وَلَا مِزْمَارًا أَحْسَنَ مِنْ صَوْتِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ إِلَّا فُلَانٍ إِنْ كَانَ لَيُصَلِّيَ بِنَا فَنَوَدُّ أَنَّهُ قَرَأَ الْبَقَرَةَ لِحُسْنِ صَوْتِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَصْوَاتَ الْخَلْقِ وَدِرَاسَتَهُمْ وَقِرَاءَتَهُمْ وَتَعَلُّمَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ بَعْضُهَا أَحْسَنُ مِنْ بَعْضٍ، وَأَتْلَى وَأَزْيَنُ وَأَصْوَتُ وَأَرْتَلُ وَأَلْحَنُ وَأَعْلَى وَأَخَفُّ وَأَغَضُّ وَأَخْشَعُ، قَالَ تَعَالَى:{وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه: 108] وَأَجْهَرُ وَأَخْفَى وَأَمَدُّ وَأَخْفَضُ وَأَلْيَنُ مِنْ بَعْضٍ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ " «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَشْتَدُّ عَلَيْهِ لَهُ أَجْرَانِ» " وَمُرَادُهُ أَنَّ قِرَاءَتَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عِلْمُهُ وَسَعْيُهُ.
وَذَكَرَ حَدِيثَ قَتَادَةَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " «كَانَ يَمُدُّ مَدًّا» " وَفِي رِوَايَةٍ " «يَمُدُّ صَوْتَهُ مَدًّا» " ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ «قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ» عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْفَجْرِ: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 10] يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ» يَعْنِي فَالْمَدُّ وَالصَّوْتُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَأَمَّا الْمَتْلُوُّ فَقَوْلُهُ عز وجل الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، قَالَ تَعَالَى:{هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 29] وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: يُمَثَّلُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَشْفَعُ لِصَاحِبِهِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَهُوَ اكْتِسَابُهُ وَفِعْلُهُ، قَالَ تَعَالَى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] .
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: فَالْمَقْرُوءُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي قَالَ لِمُوسَى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14] إِلَّا الْمُعْتَزِلَةَ فَإِنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، وَهَذَا خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: فَالْقِرَاءَةُ هِيَ التِّلَاوَةُ، وَالتِّلَاوَةُ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ، قَالَ وَقَدْ بَيَّنَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ " «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ: يَقُولُ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَقُولُ اللَّهُ حَمِدَنِي عَبْدِي. . .» " الْحَدِيثَ، فَالْعَبْدُ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقَةً تَالِيًا لِمَا قَالَهُ اللَّهُ عز وجل فَهَذَا قَوْلُ اللَّهِ الَّذِي قَالَهُ وَتَكَلَّمَ بِهِ مُبْتَدِئًا تَالِيًا وَقَارِئًا، كَمَا هُوَ قَوْلُ الرَّسُولِ مُبَلِّغًا لَهُ وَمُؤَدِّيًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ - قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ - قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا أُمِرَ أَنْ يَقُولَهُ، فَكَانَ قَوْلُهُ تَبْلِيغًا مَحْضًا لِمَا قَالَهُ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ التَّالِيَ وَالْقَارِئَ لَمْ يُقَلْ شَيْئًا فَهُوَ مُكَابِرٌ جَاحِدٌ لِلْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ، وَمَنْ عَزَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُلْ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي نَقْرَأُهُ وَنَتْلُوهُ بِأَصْوَاتِنَا فَهُوَ مُعَطِّلٌ جَاحِدٌ جَهْمِيٌّ زَاعِمٌ أَنَّ الْقُرْآنَ قَوْلُ الْبَشَرِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ» " فَالْقِرَاءَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ خَلْقِهِ، فَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ الْعِبَادُ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ عَلَى لِسَانِ الْعَبْدِ، فَتَكَلَّمَ الْعَبْدُ بِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ كَلَامِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ اللَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ.