الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل فِي بَيَانِهِ أَنَّهُ مَعَ كَمَالِ عِلْمِ الْمُتَكَلِّمِ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يُرِيدَ بِكَلَامِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ]
فَصْلٌ
فِي بَيَانِهِ أَنَّهُ مَعَ كَمَالِ عِلْمِ الْمُتَكَلِّمِ وَفَصَاحَتِهِ وَبَيَانِهِ وَنُصْحِهِ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يُرِيدَ بِكَلَامِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ
وَيُكْتَفَى مِنْ هَذَا الْفَصْلِ بِذِكْرِ مُنَاظَرَةٍ جَرَتْ بَيْنَ جَهْمِيٍّ وَسُنِّيٍّ حَدَّثَنِي بِمَضْمُونِهَا شَيْخُنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّهُ جَمَعَهُ وَبَعْضُ الْجَهْمِيَّةِ مَجْلِسٌ فَقَالَ الشَّيْخُ: قَدْ تَطَابَقَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ عَلَى إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ، وَتَنَوَّعَتْ دَلَالَتُهَا أَنْوَاعًا تُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِثُبُوتِهَا وَإِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ اعْتِقَادَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ ذِكْرِ الصِّفَاتِ، وَالسُّنَّةُ نَاطِقَةٌ بِمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَمُقَرِّرَةٌ لَهُ، مُصَدِّقَةٌ لَهُ، مُشْتَمِلَةٌ عَلَى زِيَادَةٍ فِي الْإِثْبَاتِ، فَتَارَةً يَذْكُرُ الِاسْمَ الدَّالَّ عَلَى الصِّفَةِ كَالسَّمِيعِ الْبَصِيرِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، وَتَارَةً يَذْكُرُ الْمَصْدَرَ، وَهُوَ الْوَصْفُ الَّذِي اشْتُقَّتْ مِنْهُ تِلْكَ الصِّفَةُ كَقَوْلِهِ:{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] وَقَوْلِهِ: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] وَقَوْلِهِ: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " «حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» " وَقَوْلِهِ فِي دُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ: " «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ» " وَقَوْلِهِ: " «أَسْأَلُكَ
بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ» "، وَقَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: " سُبْحَانَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتِ " وَنَحْوِهِ، وَتَارَةً يَذْكُرُ حُكْمَ تِلْكَ الصِّفَةِ كَقَوْلِهِ:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} [المجادلة: 1]{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] وَقَوْلِهِ: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 23] وَقَوْلِهِ: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَيُصَرِّحُ فِي الْفَوْقِيَّةِ بِلَفْظِهَا الْخَاصِّ، وَبِلَفْظِ الْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ، وَأَنَّهُ (فِي السَّمَاءِ) وَأَنَّهُ (ذُو الْمَعَارِجِ) وَأَنَّهُ (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ) وَأَنَّهُ (تَعْرُجُ إِلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ) وَتَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنَّهُ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ بِأَبْصَارِهِمْ عِيَانًا مِنْ فَوْقِهِمْ، إِلَى أَضْعَافِ ذَلِكَ مِمَّا لَوْ جُمِعَتِ النُّصُوصُ وَالْآثَارُ فِيهِ لَمْ تَنْقُصْ عَنْ نُصُوصِ الْأَحْكَامِ وَآثَارِهَا، وَمِنْ أَبْيَنِ الْمُحَالِ وَأَوْضَحِ الضَّلَالِ حَمْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى خِلَافِ حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ، وَدَعْوَى الْمَجَازِ فِيهِ وَالِاسْتِعَارَةِ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِي أَقْوَالِ النُّفَاةِ الْمُعَطَّلِينَ، وَأَنَّ تَأْوِيلَاتِهِمْ هِيَ الْمُرَادَّةُ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مَحَاذِيرُ ثَلَاثَةُ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَهِيَ: الْقَدْحُ فِي عِلْمِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا أَوْ فِي بَيَانِهِ أَوْ فِي نُصْحِهِ.
وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَذِهِ النُّصُوصِ عَالِمًا أَنَّ الْحَقَّ فِي تَأْوِيلَاتِ النُّفَاةِ الْمُعَطَّلِينَ أَوْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِي عِلْمِهِ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا أَنَّ الْحَقَّ فِيهَا فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى التَّعْبِيرِ بِعِبَارَتِهِمُ الَّتِي هِيَ تَنْزِيهٌ لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ عَنِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَالتَّجْسِيمِ، وَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ مَنْ لَمْ يُنَزِّهِ اللَّهَ بِهَا، أَوْ لَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى تِلْكَ الْعِبَارَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى التَّعْبِيرِ بِذَلِكَ لَزِمَ الْقَدْحُ فِي فَصَاحَتِهِ، وَكَانَ وَرَثَةُ الصَّابِئَةِ وَأَفْرَاخُ الْفَلَاسِفَةِ وَأَوْقَاحُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَتَلَامِذَةُ الْمَلَاحِدَةِ أَفْصَحَ مِنْهُ وَأَحْسَنَ بَيَانًا وَتَعْبِيرًا عَنِ الْحَقِّ، وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ بُطْلَانَهُ بِالضَّرُورَةِ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَعْدَاؤُهُ وَمُوَافَقُوهُ وَمُخَالِفُوهُ، فَإِنَّ مُخَالِفِيهِ لَمْ يَشُكُّوا أَنَّهُ أَفْصَحُ الْخَلْقِ، وَأَقْدَرُهُمْ عَلَى حُسْنِ التَّعْبِيرِ بِمَا يُطَابِقُ الْمَعْنَى وَيُخَلِّصُهُ مِنَ اللَّبْسِ وَالْإِشْكَالِ
وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ وَتَكَلَّمَ دَائِنًا بِخِلَافِهِ كَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِي نُصْحِهِ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ رُسُلَهُ بِأَنَّهُمْ أَنْصَحُ الْخَلْقِ لِأُمَمِهِمْ، فَمَعَ النُّصْحِ وَالْبَيَانِ وَالْمَعْرِفَةِ التَّامَّةِ كَيْفَ يَكُونُ مَذْهَبُ النُّفَاةِ الْمُعَطِّلَةِ أَصْحَابِ التَّحْرِيفِ هُوَ الصَّوَابَ، وَقَوْلُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ أَتْبَاعُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بَاطِلًا؟
قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَقَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ مَا جَرَى لِي مَعَ بَعْضِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَفْضَى بِنَا الْكَلَامُ إِلَى مِسَبَّةِ النَّصَارَى لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مَسَبَّةً مَا سَبَّهُ إِيَّاهَا أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ، فَقُلْتُ لَهُ: وَأَنْتُمْ بِإِنْكَارِكُمْ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَدْ سَبَبْتُمُ الرَّبَّ تَعَالَى أَعْظَمَ مَسَبَّةٍ، قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ قُلْتُ: لِأَنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا مَلِكٌ ظَالِمٌ لَيْسَ بِرَسُولٍ صَادِقٍ، وَأَنَّهُ خَرَجَ يَسْتَعْرِضُ النَّاسُ بِسَيْفِهِ فَيَسْتَبِيحُ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ وَيَقُولَ: اللَّهُ أَمَرَنِي بِهَذَا وَأَبَاحَهُ لِي، وَلَمْ يَأْمُرْهُ اللَّهُ وَلَا أَبَاحَ لَهُ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحِ إِلَيْهِ شَيْءٌ، وَيَنْسَخُ شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ عِنْدِهِ، وَيُبْطِلُ مِنْهَا مَا شَاءَ وَيُبْقِي مِنْهَا مَا شَاءَ، وَيَنْسُبُ ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَى اللَّهِ، وَيَقْتُلُ أَوْلِيَاءَهُ وَأَتْبَاعَ رُسُلِهِ، وَيَسْتَرِقُّ نِسَاءَهُمْ وَذُرِّيَّتَهُمْ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى رَائِيًا لِذَلِكَ كُلِّهِ عَالِمًا بِهِ أَوْ لَا، فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ وَاطِّلَاعِهِ نَسَبْتُمُوهُ إِلَى الْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ، وَذَلِكَ مِنْ أَقْبَحِ السَّبِّ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْأَخْذِ عَلَى يَدَيْهِ وَمَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لَا، فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى مَنْعِهِ نَسَبْتُمُوهُ إِلَى الْعَجْزِ، وَإِنْ قُلْتُمْ: بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى مَنْعِهِ وَلَمْ يَفْعَلْ نَسَبْتُمُوهُ إِلَى السَّفَهِ وَالظُّلْمِ، هَذَا هُوَ أَمْرُهُ مِنْ حِينِ ظَهَرَ إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ رَبُّهُ يُجِيبُ دُعَاءَهُ وَيَقْضِي حَوَائِجَهُ، وَلَا يَقُومُ لَهُ عَدُوٌّ إِلَّا أَظْفَرَهُ بِهِ، وَأَمْرُهُ مِنْ حِينِ ظَهَرَ إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى يَزْدَادُ عَلَى اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ ظُهُورُةً وَعُلُوًّا وَرِفْعَةً، وَأَمْرُ مُخَالِفِيهِ لَا يَزْدَادُ إِلَّا سُفُولًا وَاضْمِحْلَالًا، وَمَحَبَّتُهُ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ تَزِيدُ عَلَى مَمَرِّ الْأَوْقَاتِ، وَرَبُّهُ تَعَالَى يُؤَيِّدُهُ بِأَنْوَاعِ التَّأْيِيدَاتِ، هَذَا هُوَ عِنْدَكُمْ مِنْ أَعْظَمِ أَعْدَائِهِ وَأَشَدِّهِمْ ضَرَرًا عَلَى النَّاسِ، فَأَيُّ قَدْحٍ فِي رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَيُّ مَسَبَّةٍ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَأَخَذَ الْكَلَامُ مِنْهُ مَا أَخَذَ، وَقَالَ: حَاشَا لِلَّهِ أَنْ نَقُولَ فِيهِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بَلْ هُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، كُلُّ مَنِ اتَّبَعَهُ فَهُوَ سَعِيدٌ، وَكُلُّ مُنْصِفٍ مِنَّا يُقِرُّ بِذَلِكَ وَيَقُولُ: أَتْبَاعُهُ سُعَدَاءُ فِي الدَّارَيْنِ، قُلْتُ: فَمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الظَّفَرِ بِهَذِهِ السَّعَادَةِ؟ فَقَالَ: وَأَتْبَاعُ كُلِّ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَتْبَاعُ مُوسَى أَيْضًا سُعَدَاءُ، قُلْتُ: فَإِذَا أَقْرَرْتَ أَنَّهُ نَبِيٌّ صَادِقٌ، وَقَدْ كَفَرَ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْهُ، فَإِنْ صَدَّقْتَهُ فِي هَذَا وَجَبَ عَلَيْكَ اتِّبَاعُهُ، وَإِنْ كَذَّبْتَهُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، فَكَيْفَ يَكُونُ أَتْبَاعُهُ سُعَدَاءَ فَلَمْ يُحِرْ جَوَابًا، وَقَالَ: حَدِّثْنَا فِي غَيْرِ هَذَا.