الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَجُحُودِهِمْ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ أَوْ يَعْلَمُ الْجُزَيْئَاتِ أَوْ يَقْدِرُ عَلَى إِحْدَاثِ فِعْلٍ، فَشُبُهَاتُ مُنْكِرِي الرِّسَالَةِ تَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ، فَمَنْ أَقَرَّ بِمَا أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنَّهُ عَالِمٌ مُتَكَلِّمٌ بِكُتُبِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَيْهِمْ، قَادِرٌ عَلَى الْإِرْسَالِ فَقَدْ قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مُطْلَقًا.
وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ قَدْ قَامُوا فِي ذَلِكَ بِحَسْبِ قُدْرَتِهِمْ وَطَاقَتِهِمُ الَّتِي أَعَانَهُمْ بِهَا، وَوَفَّقَهُمْ بِهَا لِمَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ هَذَا الْوَصْفُ، فَإِنَّ التَّعْظِيمَ لَهُ سُبْحَانَهُ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَوَصْفُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ قَدْ أَمَرَ بِهِ عِبَادَهُ، وَأَعَانَهُمْ عَلَيْهِ وَرَضِيَ مِنْهُمْ بِمَا قَدَرُوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَقْدُرُونَهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَا يَقْدُرُ أَحَدٌ مِنَ الْعِبَادِ قَدْرَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتِ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي يَدِهِ كَالْخَرْدَلَةِ فِي يَدِ أَحَدِنَا، وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ فِي يَدِهِ الْأُخْرَى كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يَقْدُرُهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَجَعَلَ لَهُ نِدًّا، وَأَنْكَرَ صِفَاتَهُ وَأَفْعَالَهُ؟ بَلْ كَيْفَ يَقْدُرُهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ لَهُ يَدَانِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقْبِضَ بِهِمَا شَيْئًا؟ فَلَا يَدَ عِنْدَ الْمُعَطِّلَةِ وَلَا قَبْضَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَجَازٌ.
وَقَدْ شَرَحَ تَعَالَى لِعِبَادِهِ ذِكْرَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ: الْعَلِيِّ، الْعَظِيمِ، فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، «لَمَّا نَزَلَتْ:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ "، فَلَمَّا نَزَلَتْ:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] قَالَ: " اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» " فَهُوَ سُبْحَانُهُ كَثِيرًا مَا يَقْرِنُ فِي وَصْفِهِ بَيْنَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ، كَقَوْلِهِ:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، وَقَوْلِهِ:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23]، وَقَوْلِهِ:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9] ثَبَتَ بِذَلِكَ عُلُوُّهُ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَعَظَمَتُهُ، وَالْعُلُوُّ رِفْعَتُهُ، وَالْعَظَمَةُ قَدْرُهُ ذَاتًا وَوَصْفًا.
[نفي الشبيه ليس في نفسه مدح]
الْخَمْسُونَ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُعَارِضِينَ بَيْنَ الْوَحْيِ وَالْعَقْلِ إِنَّمَا يُدَلِّلُونَ بِنَفْيِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَيَجْعَلُونَهُ جُنَّةً لِتَعْطِيلِهِمْ، فَأَنْكَرُوا عُلُوَّهُ وَكَلَامَهُ وَتَكْلِيمَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَخْبَرَ بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم حَتَّى آلَ ذَلِكَ بِبَعْضِهِمْ إِلَى نَفْيِ ذَاتِهِ وَمَاهِيَّتِهِ
خَشْيَةَ التَّشْبِيهِ، وَقَالُوا: هُوَ وُجُودٌ مَحْضٌ لَا مَاهِيَّةَ لَهُ، وَنَفَى آخَرُونَ وُجُودَهُ بِالْكُلِّيَّةِ خَشْيَةَ التَّشْبِيهِ، وَقَالُوا: يَلْزَمُ فِي الْوُجُودِ مَا يَلْزَمُ مُثْبِتِي الصِّفَاتِ وَالْكَلَامِ وَالْعُلُوِّ، فَنَحْنُ نَسُدُّ الْبَابَ بِالْكُلِّيَّةِ.
فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ فِي هَذَا قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ نَافِعَةٌ جِدًّا هِيَ: أَنَّ نَفْيَ الشَّبِيهِ وَالْمِثْلِ وَالنَّظِيرِ لَيْسَ فِي نَفْسِهِ صِفَةَ مَدْحٍ وَلَا كَمَالٍ، وَلَا يُمْدَحُ بِهِ الْمَنْفِيُّ عَنْهُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِهِ، فَإِنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ الَّذِي هُوَ أَخَسُّ الْمَعْلُومَاتِ وَأَنْقَصُهَا يُنْفَى عَنِ الشَّبَهِ وَالْمِثْلِ وَالنَّظِيرِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ كَمَالًا وَلَا مَدْحًا، إِلَّا إِذَا تَضَمَّنَ كَوْنَ مَنْ نَفَى عَنْهُ ذَلِكَ قَدِ اخْتَصَّ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ بِصِفَاتٍ بَايَنَ بِهَا غَيْرَهُ، وَخَرَجَ بِهَا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا نَظِيرٌ أَوْ مِثْلٌ، فَهُوَ لِتَفَرُّدِهِ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ صَحَّ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ الشَّبَهَ وَالْمَثِيلَ، وَلَا يُقَالُ لِمَنْ لَا سَمْعَ لَهُ وَلَا بَصَرَ وَلَا حَيَاةَ وَلَا عِلْمَ وَلَا كَلَامَ وَلَا فِعْلَ: لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ وَلَا شَبَهٌ وَلَا نَظِيرٌ، إِلَّا فِي بَابِ الذَّمِّ وَالْعَيْبِ، هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ فِطَرُ النَّاسِ وَعُقُولُهُمْ وَاسْتِعْمَالُهُمْ فِي الْمَدْحِ وَالذَّمِّ كَمَا قِيلَ:
لَيْسَ كَمِثْلِ الْفَتَى زُهَيْرٌ
…
خَلْقٌ يُسَاوِيهِ فِي الْفَضَائِلِ
وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ () :
فَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إِلَّا مُمَلَّكًا
…
أَبُو أَمُّهُ حَيٌّ أَخُوهُ يُقَارِبُهُ
أَيْ فَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ حَيٌّ يُقَارِبُهُ إِلَّا مُمَلَّكًا هُوَ أَخُوهُ، فَعَكَسَ الْمُعَطِّلَةُ الْمَعْنَى فَجَعَلُوا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] جُنَّةً يَتَتَرَّسُونَ بِهَا لِنَفْيِ عُلُوِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى عَرْشِهِ وَتَكْلِيمِهِ لِرُسُلِهِ وَإِثْبَاتِ صِفَاتِ كَمَالِهِ.
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ كُلَّ سَلْبٍ وَنَفْيٍ لَا يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتًا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُوصَفُ بِهِ، لِأَنَّهُ عَدَمٌ مَحْضٌ وَنَفْيٌ صِرْفٌ لَا يَقْتَضِي مَدْحًا وَلَا كَمَالًا، وَلِهَذَا كَانَ تَسْبِيُحُهُ وَتَقْدِيسُهُ مُسْتَلْزِمَيْنِ لِعَظَمَتِهِ وَمُتَضَمِّنَيْنِ لِصِفَاتِ كَمَالِهِ، وَإِلَّا فَالْمَدْحُ بِالْعَدَمِ الْمَحْضِ كَلَا مَدْحٍ، وَلِهَذَا كَانَ عَدَمُ السُّنَّةِ وَالنَّوْمِ مَدْحًا وَكَمَالًا فِي حَقِّهِ لِتَضَمُّنِهِ أَوِ اسْتِلْزَامِهِ كَمَالَ حَيَاتِهِ وَقَيُّومِيَّتِهِ، وَنَفْيُ اللُّغُوبِ عَنْهُ كَمَالٌ لِاسْتِلْزَامِهِ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ، وَنَفْيُ النِّسْيَانِ عَنْهُ كَمَالٌ لِتَضَمُّنِهِ كَمَالَ عِلْمِهِ، وَكَذَلِكَ نَفْيُ عُزُوبِ شَيْءٍ عَنْهُ وَنَفْيُ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ كَمَالٌ
لِتَضَمُّنِهِ كَمَالَ غِنَاهُ وَتَفَرُّدِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنَّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَبِيدٌ لَهُ، وَكَذَلِكَ نَفْيُ الْكُفْءِ وَالسَّمِيِّ وَالْمَثْلِ عَنْهُ كَمَالٌ، لِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ ثُبُوتَ جَمِيعِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ لَهُ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَاسْتِحَالَةِ مُشَارِكٍ لَهُ فِيهَا.
فَالَّذِينَ يَصِفُونَهُ بِالسُّلُوبِ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ لَمْ يَعْرِفُوهُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي عَرَفَتْهُ بِهِ الرُّسُلُ وَعَرَفُوهُ بِهِ إِلَى الْخَلْقِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي يُحْمَدُ بِهِ وَيُعْرَفُ بِهِ عَظَمَتُهُ وَجَلَالُهُ، وَإِنَّمَا عَرَفُوهُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يَقُودُهُمْ إِلَى تَعْطِيلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ بِهِ لِعَدَمِ اعْتِقَادِهِمُ الْحَقَّ، وَحَقِيقَةُ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا لِلَّهِ عَظَمَةً إِلَّا مَا تَخَيَّلُوهُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ السُّلُوبِ وَالنَّفْيِ الَّذِي لَا عَظَمَةَ فِيهِ وَلَا مَدْحَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ كَمَالًا، بَلْ مَا أَثْبَتُوهُ مُسْتَلْزِمٌ لِنَفْيِ ذَاتِهِ رَأْسًا.
وَأَمَّا الصِّفَاتِيَّةُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ وَيَجْحَدُونَ بَعْضًا، فَإِذَا أَثْبَتُوا عِلْمًا، وَقُدْرَةً وَإِرَادَةً، وَغَيْرَهَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ إِثْبَاتُ ذَاتٍ تَقُومُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَتَتَمَيَّزُ بِحَقِيقَتِهَا وَمَاهِيَّتِهَا: سَوَاءٌ سَمَّوْهُ قَدْرًا أَوْ لَمْ يُسَمُّوهُ، فَإِنْ لَمْ يُثْبِتُوا ذَاتًا مُتَمَيِّزَةً بِحَقِيقَتِهَا وَمَاهِيَّتِهَا كَانُوا قَدْ أَثْبَتُوا صِفَاتٍ بِلَا ذَاتٍ كَمَا أَثْبَتَ إِخْوَانُهُمْ ذَاتًا بِغَيْرِ صِفَاتٍ، وَأَثْبَتُوا أَسْمَاءً بِلَا مَعَانٍ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ الْعُقُولِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ ذَاتٍ مُحَقَّقَةٍ لَهَا الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، وَإِلَّا فَأَسْمَاءٌ فَارِغَةٌ لَا مَعْنَى لَهَا لَا تُوصَفُ بِحُسْنٍ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهَا أَحْسَنَ مِنْ غَيْرِهَا يُوَضِّحُهُ: الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَرَنَ بَيْنَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ الدَّالَّيْنِ عَلَى عُلُوِّهِ وَعَظَمَتِهِ فِي آخِرِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَفِي سُورَةِ الشُّورَى، وَفِي سُورَةِ الرَّعْدِ، وَفِي سُورَةِ سَبَأٍ فِي قَوْلِهِ:{مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] فَفِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ ذَكَرَ الْحَيَاةَ الَّتِي هِيَ أَصْلُ جَمِيعِ الصِّفَاتِ، وَذَكَرَ مَعَهَا قَيُّومِيَّتَهُ الْمُقْتَضِيَةَ لِدَوَامِهِ وَبَقَائِهِ، وَانْتِفَاءِ الْآفَاتِ جَمِيعِهَا عَنْهُ مِنَ النَّوْمِ وَالسِّنَةِ وَالْعَجْزِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ كَمَالَ مُلْكِهِ، ثُمَّ عَقَبَهُ بِذِكْرِ وَحْدَانِيَّتِهِ فِي مُلْكِهِ وَأَنَّهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ سَعَةَ عِلْمِهِ وَإِحَاطَتِهِ، ثُمَّ عَقَبَهُ بِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْخَلْقِ إِلَى عِلْمِ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا بَعْدَ مَشِيئَتِهِ لَهُمْ أَنْ يَعْلَمُوهُ، ثُمَّ ذَكَرَ سَعَةَ كُرْسِيِّهِ مُنَبِّهًا بِهِ عَلَى سَعَتِهِ سُبْحَانَهُ وَعَظْمَتِهِ وَعُلُوِّهِ، وَذَلِكَ تَوْطِئَةٌ بَيْنَ يَدَيْ عُلُوِّهِ وَعَظَمَتِهِ ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ كَمَالِ اقْتِدَارِهِ وَحِفْظِهِ لِلْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ
وَالسُّفْلِيِّ، مِنْ غَيْرِ اكْتِرَاثٍ وَلَا مَشَقَّةٍ وَتَعَبٍ، ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ الدَّالَّيْنِ عَلَى عُلُوِّ ذَاتِهِ وَعَظَمَتِهِ فِي نَفْسِهِ.
وَقَالَ فِي سُورَةِ طَهَ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مُفَسِّرِ الضَّمِيرِ فِي (بِهِ) فَقِيلَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، أَيْ: وَلَا يُحِيطُونَ بِاللَّهِ عِلْمًا، وَقِيلَ هُوَ:{مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [طه: 110] فَعَلَى الثَّانِي يَرْجِعُ إِلَى الْمَعْلُومِ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلَ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، لِأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يُحِيطُوا بِبَعْضِ مَعْلُومَاتِهِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِمْ، فَإِنَّ لَا يُحِيطُونَ عِلْمًا بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
كَذَلِكَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [طه: 110] وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ إِلَّا مَا شَاءَ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُصْدَرُ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ اتِّصَافَهُ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ، وَمَوَاضِعِ ذَلِكَ كَانَ تَكْرِيرًا، فَإِنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا أَبْلَغُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ بِمَا لَا يُفْهَمُ إِلَّا بِكُلْفَةٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا قِيلَ: إِنَّ عُلُوَّهُ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ أَعْظَمَ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ وَأَفْضَلَ مِنْهَا، فَهَذَا هَضْمٌ عَظِيمٌ لِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُذْكَرَ وَيُخْبَرَ بِهِ عَنْهُ إِلَّا فِي مَعْرِضِ الرَّدِّ لِمَنْ سَاوَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّأَلُّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] وَقَوْلِ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39] فَهَذَا السِّيَاقُ يُقَالُ فِي مِثْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ خَيْرٌ مِمَّا سِوَاهُ، وَأَمَّا بَعْدَ أَنْ يُذْكَرَ مَالِكُ الْكَائِنَاتِ وَيُقَالُ مَعَ ذَلِكَ إِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَعْظَمُ مِنْ مَصْنُوعَاتِهِ، فَهَذَا يُنَزَّهُ عَنْهُ كَلَامُهُ، وَإِنَّمَا يَلِيقُ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَثَلَ السَّوْءِ فِي كَلَامِهِ، وَيَجْعَلُونَ ظَاهِرَهُ كُفْرًا تَارَةً، وَضَلَالَةً أُخْرَى، وَتَارَةً تَجْسِيمًا وَتَشْبِيهًا، وَيَقُولُونَ فِيهِ مَا لَا يَرْضَى أَحَدُنَا أَنْ يَقُولَهُ فِي كَلَامِهِ.