الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُعَظِّمُ نَفْسَهُ، نَحْنُ فَعَلْنَا كَذَا، فَهُوَ مِمَّا يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ أَلْفَاظًا اسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَتْ لَهُ، وَأَنَّهَا يُفْهَمُ مِنْهَا خِلَافُ حَقَائِقِهَا، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِكَلَامِ أَحْمَدَ هَذَا مَنْ يَنْسُبُ إِلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَجَازًا كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَنَعَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ ذَلِكَ، كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ، وَأَبِي الْحَسَنِ الْجَزَرِيِّ وَأَبِي الْفَضْلِ التَّمِيمِيِّ.
وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ مَالِكٍ مُخْتَلِفُونَ، فَكَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخَّرِيهِمْ يُثْبِتُ فِي الْقُرْآنِ مَجَازًا، وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ كَابْنِ وَهْبٍ وَأَشْهَبَ وَابْنِ الْقَاسِمِ فَلَا يُعْرَفُ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَقَدْ صَرَّحَ بِنَفْيِ الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ مُحَمَّدُ بْنُ خُوَازِ مَنْدَادَ الْبَصْرِيُّ الْمَالِكِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَصَرَّحَ بِنَفْيِهِ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ، وَمُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ، وَصَنَّفَ فِي نَفْيِهِ مُصَنَّفًا، وَبَعْضُ النَّاسِ يَحْكِي فِي ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ.
وَقَدْ أَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ بِالْكُلِّيَّةِ، كَأَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَائِينِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ: لَهُ غَوْرٌ لَمْ يَفْهَمْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَظَنُّوا أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ، وَسَنَذْكُرُ أَنَّ مَذْهَبَهُ أَسَدُّ وَأَصَحُّ عَقْلًا وَلُغَةً مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِ الْمَجَازِ، وَطَائِفَةٌ أُخْرَى غَلَتْ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ وَادَّعَتْ أَنَّ أَكْثَرَ اللُّغَةِ مَجَازٌ، بَلْ كُلُّهَا، وَهَؤُلَاءِ أَقْبَحُ قَوْلًا وَأَبْعَدُ عَنِ الصَّوَابِ مِنْ قَوْلِ مَنْ نَفَى الْمَجَازَ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ مَنْ نَفَاهُ أَسْعَدُ بِالصَّوَابِ.
[فصل القول بالمجاز قول مبتدع]
فَصْلٌ
إِذَا عُلِمَ أَنَّ تَقْسِيمَ الْأَلْفَاظِ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ لَيْسَ تَقْسِيمًا شَرْعِيًّا وَلَا عَقْلِيًّا وَلَا لُغَوِيًّا فَهُوَ اصْطِلَاحٌ مَحْضٌ، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ حَدَثَ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمُفَضَّلَةِ بِالنَّصِّ، وَكَانَ مَنْشَؤُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَهُمْ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.
وَأَشْهَرُ ضَوَابِطِهِمْ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْحَقِيقَةَ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا، وَالْمَجَازُ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ زَادَ بَعْضُهُمْ: فِي الْعُرْفِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ التَّخَاطُبُ لِتَدَخُّلِ الْحَقَائِقِ الثَّلَاثِ وَهِيَ اللُّغَوِيَّةُ وَالشَّرْعِيَّةُ وَالْعُرْفِيَّةُ.
وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا تَعْنُونَ بِاللَّفْظِ سَوَاءٌ كَانَتِ اللُّغَاتُ تَوْقِيفِيَّةً كَمَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ النَّاسِ، أَوِ اصْطِلَاحِيَّةً، كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي هَاشِمٍ الْجَبَائِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ، أَتَعْنُونَ بِهِ جَعْلَ اللَّفْظِ دَلِيلًا عَلَى الْمَعْنَى، أَمْ تَعْنُونَ بِهِ غَلَبَةَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى حَتَّى يَصِيرَ فِيهِ أَشْهَرَ مِنْ غَيْرِهِ، أَمْ تَعْنُونَ بِهِ مُطْلَقَ الِاسْتِعْمَالِ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا قُلْتُمْ مِنْ
شَرْطِ الْمَجَازِ الْوَضْعُ، فَإِنَّ الْوَضْعَ فِي كَلَامِكُمْ مَا يَدُورُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا عُلِمَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْعَرَبِيَّةَ وُضِعَتْ أَوَّلًا لِمَعَانٍ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِيهَا، ثُمَّ وُضِعَ لِمَعَانٍ أُخَرَ بَعْدَ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ وَالِاسْتِعْمَالِ بَعْدَهُ وَالْوَضْعِ الثَّانِي وَالِاسْتِعْمَالِ بَعْدَهُ، وَلَا تَتِمُّ لَكُمْ دَعْوَى الْمَجَازِ إِلَّا بِهَذِهِ الْمَقَامَاتِ الْأَرْبَعِ، وَلَيْسَ مَعَكُمْ وَلَا مَعَ غَيْرِكُمْ سِوَى اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى.
وَأَمَّا إِنَّهُمْ وَضَعُوهُ لِمَعْنًى ثُمَّ اسْتَعْمَلُوهُ فِيهِ وَضَعُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَعْنًى آخَرَ غَيْرِ مَعْنَاهُ الْأَوَّلِ ثُمَّ اسْتَعْمَلُوهُ فِيهِ، فَدَعْوَى ذَلِكَ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ، وَهُوَ حَرَامٌ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ، فَكَيْفَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ يُمْكِنُهُ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يُثْبِتَ ذَلِكَ، وَهَذَا لَوْ أَمْكَنَ الْعِلْمُ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إِلَّا الْوَحْيَ وَخَبَرَ الصَّادِقِ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ صِدْقُهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُمْكِنُ دَعْوَاهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْعُقَلَاءِ اجْتَمَعُوا وَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يُسَمُّوا هَذَا بِكَذَا وَهَذَا بِكَذَا، ثُمَّ اسْتَعْمَلُوا تِلْكَ الْأَلْفَاظَ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اجْتَمَعُوا وَتَوَاطَئُوا عَلَى أَنْ يَسْتَعْمِلُوا تِلْكَ الْأَلْفَاظَ بِعَيْنِهَا فِي مَعَانٍ أُخَرَ غَيْرِ الْمَعَانِي الْأُوَلِ، لِعَلَاقَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا، وَقَالُوا: هَذِهِ الْأَلْفَاظُ حَقِيقَةٌ تِلْكَ الْمَعَانِي مَجَازٌ فِي هَذِهِ وَهَذِهِ، وَلَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنَ الْعُقَلَاءِ قَالَهُ قَبْلَ أَبِي هَاشِمٍ الْجَبَائِيِّ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللُّغَاتِ اصْطِلَاحِيَّةٌ، وَأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اصْطَلَحُوا عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا مُجَاهَرَةٌ بِالْكَذِبِ، وَقَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ، وَالَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي مَعَانِيهَا الْمَفْهُومَةِ مِنْهَا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَكُمْ: الْحَقِيقَةُ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضُوعِهِ، فَلَزِمَ مِنْهُ انْتِفَاءُ كَوْنِهِ حَقِيقَةً قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ وَلَيْسَ بِمَجَازٍ، فَتَكُونُ الْأَلْفَاظُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهَا لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، هَذَا وَإِنِ اسْتَلْزَمُوهُ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَصْلًا فَاسِدًا، وَمُسْتَلْزِمٌ لِأَمْرٍ فَاسِدٍ، أَمَّا الْأَصْلُ الْفَاسِدُ فَهُوَ أَنَّ هَاهُنَا وَضْعًا سَابِقًا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ ثُمَّ اطَّرَدَ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ فَصَارَ بِاعْتِبَارِهِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يُعْرَفُ تَجَرُّدُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ بَلْ تَجَرُّدُهَا عَنِ الِاسْتِعْمَالِ مُحَالٌ، وَهُوَ كَتَجَرُّدِ الْحَرَكَةِ عَنِ الْمُتَحَرِّكِ، نَعَمْ إِنَّمَا تَتَجَرَّدُ فِي الذِّهْنِ وَهِيَ حِينَئِذٍ لَيْسَتْ أَلْفَاظًا وَإِنَّمَا هِيَ تُقَدَّرُ أَلْفَاظًا لَا حُكْمَ لَهَا، وَثُبُوتُهَا فِي الرَّسْمِ مَسْبُوقٌ بِالنُّطْقِ بِهَا، فَإِنَّ الْخَطَّ يَسْتَلْزِمُ اللَّفْظَ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ.
وَأَمَّا اسْتِلْزَامُهُ الْأَمْرَ الْفَاسِدَ فَإِنَّهُ إِذَا تَجَرَّدَ الْوَضْعُ عَنِ اسْتِعْمَالٍ جَازَ أَنْ يُوضَعَ
لِلْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي مَعْنَاهُ الْأَوَّلِ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مَجَازًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، فَإِذَا الْحَقِيقَةُ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضُوعِهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ إِلَى مَجَازِهِ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا نَوْعٌ مِنَ الْكِهَانَةِ الْبَاطِلَةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ وَحْيٌ بِذَلِكَ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ تَعْطِيلَ الْأَلْفَاظِ عَنْ دَلَالَتِهَا عَلَى الْمَعَانِي وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ يَسْتَلْزِمُ مَدْلُولَهُ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ عَدَمُ الدَّلَالَةِ فَإِنَّهُمَا غَيْرُ مُتَلَازِمَيْنِ، قِيلَ: بَلْ يَلْزَمُ لُزُومًا بَيِّنًا، فَإِنَّ دَلَالَتَهُ عَلَيْهِ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِاسْتِعْمَالِهِ، فَإِنَّ الدَّلَالَةَ هِيَ فَهْمُ الْمَعْنَى مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ، فَلَا تَحَقُّقَ لَهَا بِدُونِ الِاسْتِعْمَالِ الْبَتَّةَ، وَالِاسْتِعْمَالُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْحَقِيقَةَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَوْضِعِهِ، أَوْ جُزْءٌ مُسَمًّى الْحَقِيقَةَ، كَمَا يَقُولُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِهِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَلْزَمُ تَجَرُّدُ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ مَعَ وُجُودِ دَلَالَتِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فَتَأَمَّلْهُ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْمَجَازِ مُخْتَلِفُونَ، هَلْ يَسْتَلْزِمُ الْمَجَازُ الْحَقِيقَةَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْمَجَازَ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ حَقِيقَةِ مَجَازٌ، وَالَّذِينَ قَالُوا بِاللُّزُومِ احْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَجَازُ مُسْتَلْزِمًا لِلْحَقِيقَةِ لَعَرِيَ وَضْعُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى عَنِ الْفَائِدَةِ، وَكَانَ وَضْعُهُ عَبَثًا، وَالْحَقِيقَةُ عِنْدَهُمْ إِمَّا اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ وَإِمَّا وَضْعُ اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي مَوْضُوعِهِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمْ مَجَازٌ حَتَّى يَسْبِقَهُ اسْتِعْمَالٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَهَذَا السَّبْقُ مِمَّا لَا سَبِيلَ لَهُمُ الْعِلْمُ بِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَيَسْتَحِيلُ عَلَى أَصْلِهِمُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.
فَإِنْ قَالُوا: نَحْنُ نَخْتَارُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَأَنَّ الْمَجَازَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحَقِيقَةَ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: شَابَتْ لُمَّةُ اللَّيْلِ، وَقَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، وَهَذِهِ مَجَازَاتٌ لَمْ يَسْبِقْ لَهَا اسْتِعْمَالٌ فِي حَقَائِقِهَا وَلَمْ تُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِ مَدْلُولَاتِهَا الْمَجَازِيَّةِ.
قِيلَ لَهُمْ: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَجَازَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمِ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَلْزِمَ وَضْعَ اللَّفْظِ لِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، فَلَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْ وَضْعُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِحَقَائِقِهَا لَكَانَتْ قَدْ وُضِعَتْ لِهَذِهِ الْمَعَانِي وَضْعًا أَوَّلِيًّا، فَتَكُونُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَوْضُوعٌ سِوَى مَعْنَاهَا لَمْ تَكُنْ مَجَازًا، وَإِنْ كَانَ لَهَا مَوْضُوعٌ سِوَاهُ بَطَلَ الدَّلِيلُ.