الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُجَرَّدَةً عَنْ سَائِرِ الْقُيُودِ، وَجَعْلُهُمْ تِلْكَ الْأُمُورَ الَّتِي لَا تَكُونُ إِنْسَانًا فِي الْخَارِجِ لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ، كَجَعْلِ هَؤُلَاءِ الْقُيُودِ الَّتِي لَا يَكُونُ اللَّفْظُ مُفِيدًا إِلَّا بِهَا مُقْتَضِيَةً لِمَجَازِهِ.
فَتَأَمَّلْ هَذَا التَّشَابُهَ وَالتَّنَاسُبَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، هَؤُلَاءِ فِي تَجْرِيدِ الْمَعَانِي وَهَؤُلَاءِ فِي تَجْرِيدِ الْأَلْفَاظِ، وَتَأَمَّلْ مَا دَخَلَ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنَ الْفَسَادِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَبِسَبَبِ هَذَا الْغَلَطِ دَخَلَ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْعُلُومِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
[أنواع القرائن]
الْوَجْهُ الْأَرْبَعُونَ: أَنَّ اللَّفْظَ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ، وَالْقَرَائِنُ ضَرْبَانِ: لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ، وَاللَّفْظِيَّةُ نَوْعَانِ: مُتَّصِلَةٌ وَمُنْفَصِلَةٌ، وَالْمُتَّصِلَةٌ ضَرْبَانِ: مُسْتَقِلَّةٌ وَغَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ، وَالْمَعْنَوِيَّةُ إِمَّا عَقْلِيَّةُ وَإِمَّا عُرْفِيَّةُ، وَالْعُرْفِيَّةُ إِمَّا عَامَّةٌ وَإِمَّا خَاصَّةٌ، وَتَارَةً يَكُونُ عُرْفَ الْمُتَكَلِّمِ وَعَادَتَهُ، وَتَارَةً عُرْفَ الْمُخَاطَبِ وَعَادَتَهُ، فَمَا الَّذِي تَعْتَبِرُونَ فِي الْمَجَازِ مِنْ تِلْكَ الْقَرَائِنِ، هَلْ هُوَ الْجَمِيعُ؟ فَكُلُّ مَا اقْتَرَنَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَانَ مَجَازًا، فَجَمِيعُ لُغَاتِ بَنِي آدَمَ مَجَازٌ، أَوِ اللَّفْظِيَّةُ دُونَ الْمَعْنَوِيَّةِ أَوِ الْعَكْسُ، أَوْ بَعْضُ اللَّفْظِ دُونَ بَعْضِ، فَلَا يَذْكُرُونَ نَوْعًا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا طُولِبُوا بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَقِيَّةِ الْأَنْوَاعِ لُغَةً أَوْ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا، وَكَانُوا فِي ذَلِكَ مُتَحَكِّمِينَ مُفَرِّقِينَ بَيْنَ مَا لَا يُسَوَّغُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ.
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ جُمْهُورَ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ حَقِيقَةٌ، سَوَاءٌ خُصَّ بِمُتَّصِلٍ أَوْ مُنْفَصِلٍ، بِعَقْلِيٍّ أَوْ لَفْظِيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُ حُجَّةٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ، وَإِنَّمَا حَدَثَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْعُصُورِ الْمُفَضَّلَةِ الَّتِي شَهِدَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهَا خَيْرُ الْقُرُونِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يَصِيرُ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مَجَازًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَبْقَى مُجْمَلًا لَا يُحْتَجُّ بِهِ، فَقَالَ لَهُمُ الْجُمْهُورُ: هُوَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، قَالُوا: فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْعُمُومِ بِمُجَرَّدِهِ وَلِلْخُصُوصِ بِقَرِينَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِهِ مِثْلُ الِاسْتِثْنَاءِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَّا أَهْلَ الْكِتَابِ لَيْسَ مَجَازًا، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَالْقَرِينَةُ الْمُنْفَصِلَةُ فِي مَعْنَى الْقَرِينَةِ الْمُتَّصِلَةِ، وَالْخَاصُّ مَعَ الْعَامِّ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَثْنَى مَعَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْقَائِلُ: خَرَجَ زَيْدٌ، فَيَكُونُ إِخْبَارًا عَنْ خُرُوجِهِ، وَيَضُمُّ إِلَيْهِ " مَا " فَيَكُونُ إِخْبَارًا عَنْ ضِدِّهِ، وَتُضِيفُ إِلَيْهِ الْهَمْزَةَ فَيَكُونُ اسْتِفْهَامًا، وَكُلُّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ، فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا.
هَذِهِ أَلْفَاظُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، فَتَأَمَّلْ كَيْفَ هِيَ صَرِيحَةٌ فِي نَفْيِ الْمَجَازِ، وَأَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِمُطْلَقِ الْمَعْنَى وَبِالْقَرِينَةِ لِغَيْرِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ حَقِيقَةٌ، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ
دُونَ التَّحَكُّمِ وَالتَّنَاقُضِ، وَلِهَذَا لَمَّا فَهِمَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يَصِيرُ مَجَازًا بَعْدَ التَّحْقِيقِ عَنْ ذَلِكَ أَلْزَمُوا الْجُمْهُورَ بِنَفْيِ الْمَجَازِ، فَقَالُوا: هَذَا يُودِي إِلَى أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ، قَالُوا: لِأَنَّ قَوْلَنَا (بَحْرٌ) مَوْضُوعٌ لِلْمَاءِ الْكَثِيرِ بِمُجَرَّدِهِ، وَالْعَالِمِ وَالْجَوَادِ بِقَرِينَةٍ، وَالْأَسَدُ مَوْضُوعٌ لِلْحَيَوَانِ الْمُفْتَرِسِ بِمُجَرَّدِهِ، وَلِلرَّجُلِ الشُّجَاعِ بِقَرِينَةٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ارْتَفَعَ الْمَجَازُ فِي اللُّغَةِ، وَهَذَا سُؤَالٌ صَحِيحٌ، وَلِهَذَا لَمْ يُجِبْهُمْ عَنْهُ مُنَازِعُونَ إِلَّا بِأَنَّهُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ، فَقَالُوا فِي جَوَابِهِمْ: إِنْ هَذَا لَزِمَنَا فِي التَّخْصِيصِ لَزِمَكُمْ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، فَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مَا نَقُولُهُ نَحْنُ فِي التَّخْصِيصِ.
هَذَا لَفْظُ جَوَابِهِمْ، فَقَدِ اعْتَرَفَ الْفَرِيقَانِ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِكَوْنِ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ حَقِيقَةً يَنْفِي الْمَجَازَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْقَائِلِينَ جَوَابٌ سِوَى أَنَّ هَذَا يَلْزَمُنَا وَيَلْزَمُكُمْ جَمِيعًا، فَثَبَتَ بِاعْتِرَافِ الْفَرِيقَيْنِ لُزُومُ نَفْيِ الْمَجَازِ لِكَوْنِ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ حَقِيقَةً، وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ، بَلْ لَا يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ مُتَقَدِّمٌ الْبَتَّةَ، فَإِذَا كَانَ الْحَقُّ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَلَزِمَهُ نَفْيُ الْمَجَازِ وَلَازِمُ الْحَقِّ حَقٌّ، فَنَفْيُ الْمَجَازِ هُوَ الْحَقُّ، فَهَذَا تَقْرِيرُ نَفْيِ الْمَجَازِ مِنْ نَفْسِ قَوْلِهِمْ تَقْرِيرًا لَا حِيلَةَ لَهُمْ فِي دَفْعِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْمَجَازِ قَالُوا وَاللَّفْظُ لِأَبِي الْحُسَيْنِ يُعْرَفُ الْمَجَازُ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَسْبِقَ إِلَى أَذْهَانِ أَهْلِ اللُّغَةِ عِنْدَ سَمَاعِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي دُونَ آخَرَ، فَعَلِمُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيمَا سَبَقَ إِلَى الْفَهْمِ، لِأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُ قَدِ اضْطُرَّ السَّامِعُ مِنْ قَصْدِ الْوَاضِعِينَ إِلَى أَنَّهُمْ وَضَعُوا اللَّفْظَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى مَا سَبَقَ إِلَى فَهْمِهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى دُونَ غَيْرِهِ.
فَهَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ السَّابِقُ يَسْبِقُ إِلَى أَفْهَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي بِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ، لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ كَالنَّبَطِ الَّذِينَ أَكْثَرُ عَادَاتِهِمُ اسْتِعْمَالُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ فِي غَيْرِ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُهُ فِيهَا، وَحِينَئِذٍ فَلَا عِبْرَةَ بِالسَّبْقِ إِلَى أَفْهَامِ النَّبَطِ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ هَؤُلَاءِ الْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ، فَأَكْثَرُ الْقَائِلِينَ بِالْمَجَازِ أَوْ كُلُّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أُولَئِكَ الْعَرَبِ، بَلْ مِنَ النَّبَطِ الَّذِينَ لَا يُحْتَجُّ بِفَهْمِهِمْ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ، وَأَمَّا الْعَرَبُ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ فَفَهْمُهُمْ هُوَ الْحُجَّةُ.
فَقَوْلُكُمْ أَمَارَةُ الْحَقِيقَةِ السَّبْقُ إِلَى الْفَهْمِ، أَفَهْمَ هَؤُلَاءِ تُرِيدُونَ أَمْ فَهْمَ النَّبَطِ؟ .
وَإِذَا كَانَتِ الْعِبْرَةُ بِفَهْمِ الْعَرَبِ فَاللَّهُ يَعْلَمُ وَمَلَائِكَتُهُ وَكُتُبُهُ وَرُسُلُهُ وَالْعُقَلَاءُ أَنَّ أَحَدًا
مِنْهُمْ لَمْ يَقُلْ قَطُّ: إِنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَلَا قَالَ عَرَبِيٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: إِنَّ هَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ، وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ دُونَ هَذَا الْمَعْنَى، بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ عَلَى أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ مَعَهُ قَرِينَةٌ يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعَ تِلْكَ الْقَرِينَةِ، وَذَلِكَ بِالِاضْطِرَابِ لَهُمْ، لَمْ يُوقِفْهُمْ عَلَيْهِ مَوْقِفٌ، بَلَى هُوَ مَعَهُمْ مِنْ أَصْلِ النَّشْأَةِ، وَهُمْ أَكْمَلُ عُقُولًا وَأَصَحُّ أَذْهَانًا أَنْ يُجَرِّدُوا الْأَلْفَاظَ عَنْ جَمِيعِ الْقَرَائِنِ وَيَنْعِقُوا بِهَا كَالْأَصْوَاتِ الْغُفْلِ الَّتِي لَا تُفِيدُ شَيْئًا.
الْأَمْرُ الثَّانِي: قَوْلُكُمْ أَنْ يَسْبِقَ إِلَى أَفْهَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ عِنْدَ سَمَاعِ اللَّفْظَةِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةِ مَعْنًى، فَهَذَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَعُمُّ كُلَّ قَرِينَةٍ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ الْمُقَيَّدِ يُفِيدُ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَلَّفًا مِنِ اسْمَيْنِ أَوْ مِنِ اسْمٍ وَفِعْلٍ، أَوْ مِنِ اسْمٍ وَحَرْفٍ، عَلَى رَأْيٍ، وَلَا بُدَّ أَنْ تُعْرَفَ عَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ فِي خِطَابِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ سِيَاقٍ يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ، وَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدٍ يُعِينُ الْمُرَادَ، فَإِنْ أَرَدْتُمُ السَّبْقَ إِلَى الْفَهْمِ بِدُونِ كُلِّ قَرِينَةٍ فَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ الْمَنْظُومِ، يُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْمَجَازِ قَالُوا: الْحَقِيقَةُ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا، وَالْمَجَازُ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا بِقَرِينَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْقَرِينَةُ اسْتِعْمَالُ الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضُوعِهِ، وَالْمَجَازُ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ.
وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالِاسْتِعْمَالُ عِنْدَكُمْ دَاخِلٌ فِي حَدِّ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، إِمَّا بِالتَّضَمُّنِ عَلَى الرَّأْيِ الْأَوَّلِ وَإِمَّا بِالْمُطَابَقَةِ عَلَى الرَّأْيِ الثَّانِي، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاللَّفْظُ الْمُجَرَّدُ عَنْ جَمِيعِ الْقَرَائِنِ لَا يَسْتَعْمِلُهُ الْعُقَلَاءُ، لَا مِنَ الْعَرَبِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا مُقَيَّدًا، وَالِاسْتِعْمَالُ يُقَيِّدُهُ قَطْعًا وَلَا يَجْتَمِعُ قَوْلُكُمْ: إِنَّ الْحَقِيقَةَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَقَوْلُكُمْ: هِيَ مَا يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ تَجَرُّدِهِ عَنْ كُلِّ قَرِينَةٍ فَتَأَمَّلْهُ، يُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَهُوَ مِمَّا يَرْفَعُ الْمَجَازَ بِالْكُلِّيَّةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مِنْ عَلَامَةِ الْحَقِيقَةِ السَّبْقَ إِلَى الْفَهْمِ، وَشَرَطُوا فِي كَوْنِهَا حَقِيقَةً الِاسْتِعْمَالَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَعِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ لَا يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ غَيْرُ الْمَعْنَى الَّذِي اسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ فِيهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، فَلَا يَسْبِقُ إِلَى فَهْمِ أَحَدٍ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْفَرَسِ الَّذِي رَكِبَهُ:" إِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا " بِالْمَاءِ الْكَثِيرِ الْمُسْتَبْحِرِ، فَإِنَّ فِي " وَجَدْنَاهُ " ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى الْفَرَسِ
يَمْنَعُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَاءُ الْكَثِيرُ، وَلَا يَسْبِقُ إِلَى فَهْمِ أَحَدٍ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " «إِنَّ خَالِدًا سَيْفٌ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ» " أَنَّ خَالِدًا حَدِيدَةٌ طَوِيلَةٌ لَهَا شَفْرَتَانِ، بَلِ السَّابِقُ إِلَى الْأَفْهَامِ مِنْ هَذَا التَّرْكِيبِ نَظِيرُ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِمْ:" «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ» "، وَنَظِيرُ السَّابِقِ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بَعْدَمَا عَلَوْتُهُ بِالسَّيْفِ، فَكَيْفَ كَانَ هَذَا حَقِيقَةً وَذَاكَ مَجَازًا، وَالسَّبَقُ إِلَى الْفَهْمِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ؟ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَمْزَةَ " «إِنَّهُ أَسَدُ اللَّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ» " وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فِي أَبِي قَتَادَةَ: لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ، لَمْ يَسْبِقْ فَهْمَهُ أَنَّهُ الْحَيَوَانُ الَّذِي يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ، بَلْ يَسْبِقُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّ ثَلَاثَةً حَفَرُوا زُبْيَةَ أَسَدٍ فَوَقَعُوا فِيهَا فَقَتَلَهُمُ الْأَسَدُ، مَعْنَاهُ.
وَلَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112] أَنَّ الْجُوعَ وَالْخَوْفَ طَعَامٌ يُؤْكَلُ بِالْفَهْمِ، بَلْ هَذَا التَّرْكِيبُ لِهَذَا الْمَفْعُولِ! مَعَ هَذَا الْفِعْلِ حَقِيقَةٌ فِي مَعْنَاهُ كَالتَّرْكِيبِ فِي قَوْلِهِ:{أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} [قريش: 4] وَنِسْبَةُ هَذَا إِلَى مَعْنَاهُ الْمُرَادِ بِهِ كَنِسْبَةِ الْآخَرِ إِلَى مَعْنَاهُ، وَفَهْمُ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ هَذَا الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ كَفَهْمِ الْمَعْنَى الْآخَرِ وَالسَّبَقُ كَالسَّبْقِ، وَالتَّجْرِيدُ عَنْ كُلِّ قَرِينَةٍ مُمْتَنِعٌ،
وَكَذَلِكَ مَنْ سَمِعَ قَوْلَهُ: " «الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» " فَمَنْ صَافَحَهُ وَقَبَّلَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ، لَمْ يَسْبِقْ إِلَى فَهْمِهِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ غَيْرُ مَعْنَاهُ الَّذِي سَبَقَ لَهُ وَقَصَدَ بِهِ وَأَنَّ تَقْبِيلَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَمُصَافَحَتَهُ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ تَقْبِيلِ يَمِينِ اللَّهِ وَمُصَافَحَتِهِ، فَهَذَا حَقِيقَةُ هَذَا اللَّفْظِ، فَإِنَّ الْمُتَبَادِرَ السَّابِقَ إِلَى الْفَهْمِ مِنْهُ لَا يَفْهَمُ النَّاسُ مِنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنْهُ أَنَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ هُوَ صِفَةُ اللَّهِ الْقَدِيمَةِ الْقَائِمَةِ بِهِ، فَهَذَا لَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ عِنْدَ سَمَاعِ هَذَا اللَّفْظِ أَصْلًا، فَدَعْوَى أَنَّ هَذَا حَقِيقَةٌ وَأَنَّهُ خَرَجَ إِلَى مَجَازِهِ بِهَذَا التَّرْكِيبِ خَطَأٌ، وَنُكْتَةُ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْمُجَرَّدَ لَا يُسْتَعْمَلُ وَلَا يَكُونُ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، وَالْمُسْتَعْمَلُ مَعَهُ مِنَ الْقَرَائِنِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ وَيَكُونُ هُوَ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ، وَالْمُقَدِّمَتَانِ لَا يُنْكِرُهُمَا الْمُنَازِعُ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَذَلِكَ مِمَّا رَفَعَ الْمَجَازَ بِالْكُلِّيَّةِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْمَجَازِ قَدْ أَبْطَلَ بَعْضُهُمْ ضَوَابِطَ بَعْضٍ، قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الشَّيْءَ إِذَا سُمِّيَ بِاسْمِ مَا هُوَ جَزَاءٌ عَنْهُ كَانَ حَقِيقَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، أَوْ بِاسْمِ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ كَالنِّكَاحِ، أَوْ بِاسْمِ مَا يُشْبِهُهُ كَتَسْمِيَةِ الْبَلِيدِ حِمَارًا، قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي الشَّيْءِ فِيمَا يُشْبِهُهُ وَفِيمَا هُوَ جَزَاءٌ عَنْهُ وَفِيمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ.
قَالَ شَيْخُنَا: قَوْلُ هَؤُلَاءِ بَاطِلٌ بَلْ هُوَ بِالضِّدِّ أَحَقُّ، فَإِنَّ الشَّيْءَ يُسَمَّى بِاسْمِ مَا هُوَ جَزَاءٌ عَنْهُ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ".
قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7]