الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثَّانِي: أَنَّكُمْ إِنَّمَا تَعْنُونَ بِقَوْلِكُمْ: لَوِ اسْتَلْزَمَ الْمَجَازُ الْحَقِيقَةَ لَكَانَ كَنَحْوِ قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، وَشَابَتْ لُمَّةُ اللَّيْلِ، حَقِيقَةَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِمُفْرَدَاتِهَا مِنْ حَقِيقَةٍ، أَوْ لَا بُدَّ لِلتَّرْكِيبِ مِنْ حَقِيقَةٍ، فَإِنْ أَرَدْتُمُ الْأَوَّلَ فَمُسَلَّمٌ.
وَهَذِهِ الْمُفْرَدَاتُ لَهَا حَقَائِقُ فَبَطَلَ الدَّلِيلُ، وَإِنْ أَرَدْتُمُ الثَّانِيَ فَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ دَلَالَةَ الْمُرَكَّبِ تَنْقَسِمُ إِلَى حَقِيقِيَّةٍ وَمَجَازِيَّةٍ، وَهَذَا يُنَازَعُ فِيهِ جُمْهُورُ الْقَائِلِينَ بِالْمَجَازِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْمَجَازَ فِي الْمُفْرَدَاتِ لَا فِي التَّرْكِيبِ، إِذْ لَا يُعْقَلُ وُقُوعُهُ فِي التَّرْكِيبِ، لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِسْنَادِ جِهَتَانِ: إِحْدَاهُمَا جِهَةُ حَقِيقَةٍ، وَالْأُخْرَى جِهَةُ مَجَازٍ، بِخِلَافِ الْمُفْرَدَاتِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِسْنَادَ لَمْ يُوضَعْ أَوَّلًا لِمَعْنًى ثُمَّ نُقِلَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ ذَلِكَ وَإِنْ تُصُوِّرَ فِي الْمُفْرَدِ.
[تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز تقسيم فاسد]
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ تَقْسِيمَ الْكَلَامِ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْمَجَازِ، بَلْ وَلَا عَلَى مَكَانِهِ، فَإِنَّ التَّقْسِيمَ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَقْسَامِ فِي الْخَارِجِ، وَلَا عَلَى إِمْكَانِهَا، فَإِنَّ التَّقْسِيمَ يَتَضَمَّنُ حَصْرَ الْمَقْسُومِ فِي تِلْكَ الْأَقْسَامِ، هِيَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً أَوْ مَعْدُومَةً، مُمْكِنَةً أَوْ مُمْتَنِعَةً، فَهَاهُنَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: انْحِصَارُ الْمَقْسُومِ فِي أَقْسَامِهِ، وَهَذَا يُعْرَفُ بِطُرُقٍ:
مِنْهَا أَنْ يَكُونَ التَّقْسِيمُ دَائِرًا بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَمِنْهَا أَنْ يَجْزِمَ الْعَقْلُ بِنَفْيِ قِسْمٍ آخَرَ غَيْرِهَا، وَمِنْهَا أَنْ يَحْصُلَ الِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ، أَوِ الِاسْتِقْرَاءُ الْمُفِيدُ لِلظَّنِّ.
وَالثَّانِي: ثُبُوتُ تِلْكَ الْأَقْسَامِ أَوْ بَعْضِهَا فِي الْخَارِجِ، وَهَذَا لَا يُسْتَفَادُ مِنَ التَّقْسِيمِ، بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى الدَّلِيلِ مُنْفَصِلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ يَغْلَطُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَيَسْتَدِلُّ بِصِحَّةِ التَّقْسِيمِ عَلَى الْوُجُودِ الْخَارِجِيَّةِ وَإِمْكَانِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ مَحْضٌ، كَمَا يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي حَصْرِ مَا لَيْسَ بِمَحْصُورٍ، فَإِنَّ الذِّهْنَ يُقَسِّمُ الْمَعْلُومَ إِلَى مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ،. وَمَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَلَا مَعْدُومٍ، وَالْمَوْجُودُ إِمَّا قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا قَائِمٌ بِغَيْرِهِ، وَإِمَّا لَا قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَلَا قَائِمٌ بِغَيْرِهِ، وَإِمَّا قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، وَإِمَّا دَاخِلَ الْعَالَمِ أَوْ خَارِجَهُ، أَوْ دَاخِلَهُ، أَوْ دَاخِلَهُ وَخَارِجَهُ، أَوْ لَا دَاخِلَهُ وَلَا خَارِجَهُ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ التَّقْسِيمَاتِ الذِّهْنِيَّةِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ ثُبُوتُ بَعْضِ أَقْسَامِهَا فِي الْخَارِجِ.
إِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَالَّذِينَ قَسَّمُوا الْكَلَامَ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ إِنْ أَرَادُوا بِذَلِكَ التَّقْسِيمَ الذِّهْنِيَّ لَمْ يُفِدْهِمْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَإِنْ أَرَادُوا التَّقْسِيمَ الْخَارِجِيَّ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْجَمِيعِ فِي الْخَارِجِ سِوَى مُجَرَّدِ التَّقْسِيمِ، وَهُوَ لَا يُفِيدُ الثُّبُوتَ الْخَارِجِيَّ،
فَحِينَئِذٍ لَا يَتِمُّ لَهُمْ مَطْلُوبُهُمْ حَتَّى يُثْبِتُوا أَنَّ هَاهُنَا أَلْفَاظًا وُضِعَتْ لِمُعَانٍ حَتَّى تُقْلَبَ عَنْهَا بِهِ بِوَضْعٍ ثَانٍ عَلَى مَعَانٍ أُخَرَ غَيْرِهَا، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ تَقْسِيمَ الْأَلْفَاظِ إِلَى أَلْفَاظٍ مُسْتَعْمَلَةٍ فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ، وَأَلْفَاظٍ مُسْتَعْمَلَةٍ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَتْ لَهُ تَقْسِيمٌ فَاسِدٌ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ الشَّيْءِ وَنَفْيَهُ، فَإِنَّ وَضْعَ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى هُوَ تَخْصِيصُهُ بِهِ بِحَيْثُ إِذَا اسْتُعْمِلَ فُهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَا يُعْرَفُ لِلْوَضْعِ مَعْنًى غَيْرُ ذَلِكَ، فَفَهْمُ الْمَعْنَى الَّذِي سَمَّيْتُمُوهُ أَوْ سَمَّيْتُمُ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَيْهِ أَوِ اسْتِعْمَالَهُ عَلَى حَسْبِ اصْطِلَاحِكُمْ مَجَازًا مَعَ نَفْيِ الْوَضْعِ جَمَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا غَيْرَ مَوْضِعٍ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: لَا تَنَاقُضَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّا نَفَيْنَا الْوَضْعَ الْأَوَّلَ وَأَثْبَتْنَا الْوَضْعَ الثَّانِيَ.
قِيلَ لَكُمْ: هَذَا دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ كَوْنِهِ مَجَازًا مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْوَضْعِ الثَّانِي وَمُسْتَفَادٌ مِنْهُ، فَلَوِ اسْتُفِيدَ مَعْرِفَةُ الْوَضْعِ مِنْ كَوْنِهِ مَجَازًا لَزِمَ الدَّوْرُ الْمُمْتَنِعُ، فَمِنْ أَيْنَ عَلِمْتُمْ أَنَّ هَذَا وَضْعٌ ثَانٍ لِلَّفْظِ، وَلَيْسَ مَعَكُمْ إِلَّا أَنِ ادَّعَيْتُمْ أَنَّهُ مَجَازٌ، ثُمَّ قُلْتُمْ: فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا وَضْعًا ثَانِيًا، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا اسْتَفَدْتُمْ كَوْنَهُ مَجَازًا مَنْ كَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ فَكَيْفَ يُسْتَفَادُ كَوْنُهُ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ مَنْ كَوْنِهِ مَجَازًا.
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ لَيْسَ مَعَكُمْ إِلَّا اسْتِعْمَالٌ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي هَذَا وَهَذَا، فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ وَضْعَهُ لِأَحَدِهِمَا سَابِقٌ عَلَى وَضْعِهِ لِلْآخَرِ، وَلَوِ ادَّعَى آخَرُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ كَانَتْ دَعْوَاهُ مِنْ جِنْسِ دَعْوَاكُمْ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ مَا تَعْرِفُونَهُ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُفِيدُكُمْ شَيْئًا الْبَتَّةَ.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ إِذَا أَفْهَمَ هَذَا الْمَعْنَى تَارَةً وَهَذَا تَارَةً فَدَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَأَنَّهُ عِنْدَ فَهْمِ أَحَدِهِمَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ، وَتَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ.
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّ هَذَا تَقْسِيمٌ فَاسِدٌ لَا يَنْضَبِطُ بِضَابِطٍ صَحِيحٍ، وَلِهَذَا عَامَّةُ مَا يُسَمِّيهِ بَعْضُكُمْ مَجَازًا يُسَمِّيهِ غَيْرُهُ حَقِيقَةً، وَهَذَا يَدَّعِي أَنَّهُ اسْتُعْمِلَ فِيمَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ، وَذَلِكَ يَدَّعِي أَنَّ هَذَا مَوْضُوعُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَرْقٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، فَإِنَّ الْفَرْقَ إِمَّا فِي نَفْسِ اللَّفْظِ وَإِمَّا فِي الْمَعْنَى، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ قَطْعًا، أَمَّا انْتِفَاءُ الْفَرْقِ فِي اللَّفْظِ فَظَاهِرٌ، فَإِنَّ اللَّفْظَ بِمَا سَمَّيْتُمُوهُ حَقِيقَةً وَمَا سَمَّيْتُمُوهُ مَجَازًا وَاحِدٌ، وَأَمَّا الْفَرْقُ الْمَعْنَوِيُّ فَمُنْتَفٍ أَيْضًا، إِذْ لَيْسَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ مِنَ الْفَرْقِ مَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وُضِعَ لِهَذَا وَلَمْ يُوضَعْ لِهَذَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الدَّلَالَةِ، وَلِهَذَا لَمَّا تَفَطَّنَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ لِذَلِكَ قَالَ: إِنَّمَا يُعْرَفُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِنَصِّ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ، فَإِنْ أَرَادَ بِأَهْلِ اللُّغَةِ الْعَرَبَ الْعَارِبَةَ الَّذِينَ نُقِلَتْ عَنْهُمُ الْأَلْفَاظُ وَمَعَانِيهَا، فَلَمْ يَنُصَّ أَحَدٌ مِنْهُمُ الْبَتَّةَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ مَنْ نُقِلَ عَنْهُمُ الْأَلْفَاظُ وَمَعَانِيهَا مُشَافَهَةً مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ كَالْأَصْمَعِيِّ وَالْخَلِيلِ وَالْفَرَّاءِ وَأَمْثَالِهِمْ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمُ الَّذِينَ قَسَّمُوا اللَّفْظَ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ كَابْنِ جِنِّي وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ وَأَمْثَالِهِمْ فَهَذَا اصْطِلَاحٌ مِنْهُمْ لَا إِخْبَارٌ عَنِ الْعَرَبِ، وَلَا عَنْ نَقَلَةِ اللُّغَةِ أَنَّهُمْ نَقَلُوهُ عَنِ الْعَرَبِ، وَحِينَئِذٍ فَتَعُودُ الْمُطَالَبَةُ لَهُمْ بِالْفَرْقِ الْمُطَّرِدِ الْمُنْعَكِسِ بَيْنَ مَا سَمَّوْهُ حَقِيقَةً وَمَا سَمَّوْهُ مَجَازًا، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ تَعَالَى فِرَقَهُمْ وَنُبْطِلُهَا، يُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ تَمْيِيزَ الْأَلْفَاظِ وَالتَّفْرِيقَ بَيْنَهَا تَابِعٌ لِتَمْيِيزِ الْمَعَانِي وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ بَعْضِهَا وَبَعْضٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَعْنَى الَّذِي سَمَّوْهُ حَقِيقِيًّا مُنْفَصِلًا مُتَمَيِّزًا مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي سَمَّوْهُ مَجَازِيًّا بِفَصْلٍ يُعْلَمُ بِهِ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي هَذَا حَقِيقَةٌ، وَاسْتِعْمَالَهُ فِي الْآخَرِ مَجَازٌ، لَمْ يَصِحَّ التَّفْرِيقُ فِي اللَّفْظِ، وَكَانَ تَسْمِيَتُهُ لِبَعْضِ الدَّلَالَةِ حَقِيقَةً وَلِبَعْضِهَا مَجَازًا تَحَكُّمًا مَحْضًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَلْ تَفْتَقِرُ صِحَّةُ الِاسْتِعْمَالِ الْمَجَازِيِّ إِلَى النَّقْلِ فِي كُلِّ صُورَةٍ، كَمَا تَفْتَقِرُ إِلَى ذَلِكَ الْحَقِيقَةُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، قَالُوا: وَلَيْسَ مَوْرِدُ النِّزَاعِ فِي الْأَشْخَاصِ كَزَيْدٍ وَأَسَدٍ وَبَحْرٍ وَغَيْثٍ، إِذْ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ هَذَا الْإِطْلَاقِ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ عَلَى النَّقْلِ.
فَنَقُولُ: لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْأَشْخَاصِ وَلَا فِي الْأَنْوَاعِ، أَمَّا الْأَشْخَاصُ فَظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا النَّقْلُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، إِذَا كَانَتِ الْعَلَاقَةُ مَوْجُودَةً فِي الْأَفْرَادِ، وَأَمَّا الْأَنْوَاعُ فَلَا يَكْفِي فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي كُلِّ صُورَةٍ ظُهُورُ نَوْعٍ مِنَ الْعَلَاقَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، فَإِنَّ مِنَ الْعَلَاقَاتِ عِنْدَهُمْ عَلَاقَةَ اللُّزُومِ، بِحَيْثُ يُتَجَوَّزُ عَنِ الْمَلْزُومِ إِلَى لَازِمِهِ وَعَكْسِهِ، وَعَلَاقَةَ التَّضَادِّ بِأَنْ يُتَجَوَّزَ مِنْ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ إِلَى الْآخَرِ، وَعَلَاقَةَ الْمُشَابَهَةِ وَعَلَاقَةَ الْجِوَارِ وَالْقُرْبِ، وَعَلَاقَةً تُقَدِّمُ ثُبُوتَ الصِّفَةِ لِلْحَمْلِ، وَعَلَاقَةَ كَوْنِهِ آيِلًا إِلَيْهَا، فَبَعْضُهُمْ جَعَلَ أَنْوَاعَ الْعَلَاقَاتِ أَرْبَعَةً، وَبَعْضُهُمْ أَوْصَلَهَا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ عَلَاقَةً، وَبَعْضُهُمْ أَوْصَلَهَا إِلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، وَلَوْ أَوْصَلَهَا آخَرُ إِلَى خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ لَقَبِلُوا مِنْهُ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إِلَّا وَبَيْنَهُمَا عَلَاقَةٌ مِنْ هَذِهِ الْعَلَاقَاتِ، فَإِذَا لَمْ يُشْتَرَطِ النَّقْلُ فِي آحَادِ الصُّوَرِ وَاكْتُفِيَ بِنَوْعِ الْعَلَاقَةِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ صِحَّةُ التَّجَوُّزِ بِإِطْلَاقِ كُلِّ لَازِمٍ عَلَى لَازِمِهِ، وَكُلِّ لَازِمٍ عَلَى مَلْزُومِهِ، وَكُلِّ ضِدٍّ عَلَى ضِدِّهِ، وَكُلِّ مُجَاوِرٍ عَلَى مُجَاوِرِهِ، وَكُلِّ شَيْءٍ كَانَ عَلَى صِفَةٍ، ثُمَّ فَاقَهَا عَلَى مَا اتُّصِفَ بِهَا، وَكُلِّ مُشَبَّهٍ عَلَى مُشَبَّهِهِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْخَبْطِ وَفَسَادِ اللُّغَاتِ وَبُطْلَانِ التَّفَاهُمِ وَوُقُوعِ اللَّبْسِ وَالتَّلْبِيسِ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ وَمَصَالِحُ الْآدَمِيِّينَ، فَيَجُوزُ تَسْمِيَةُ اللَّيْلِ نَهَارًا وَالنَّهَارِ لَيْلًا، وَالْمُؤْمِنِ كَافِرًا وَالْكَافِرِ مُؤْمِنًا، وَالصَّادِقِ كَاذِبًا وَالْكَاذِبِ صَادِقًا، وَالْمِسْكِ نَتِنًا وَالنَّتِنِ مِسْكًا، وَالْبَوْلِ طَعَامًا وَالطَّعَامِ بَوْلًا، وَتَسْمِيَةُ كُلِّ شَيْءٍ بِاسْمِ ضِدِّهِ وَمُجَاوَرِهِ وَمُشَابِهِهِ وَلَازِمِهِ، فَهَلْ يَقُولُ هَذَا أَحَدٌ مِنْ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ؟ وَهَلْ فِي الْعَالَمِ قَوْلٌ أَفْسَدُ مِنْ قَوْلٍ هَذَا لَازِمُهُ؟ .
وَلَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِمْ وَعَرَفُوا أَنَّهُ وَارِدٌ لَا مَحَالَةَ قَالُوا: الْمَانِعُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْلَا الْمَانِعُ لَقُلْنَا بِهِ، فَيُقَالُ: يَا لَلَّهِ الْعَجَبَ، مَا أَسْهَلَ الدَّعْوَى الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا عَلَيْكُمْ، أَلَيْسَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ إِضَافَةَ الْحُكْمِ إِلَى الْمَانِعِ يَسْتَلْزِمُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا قِيَامُ الْمُقْتَضِي وَالْآخَرُ إِثْبَاتُ الْمَانِعِ، فَقَدْ سَلَّمْتُمْ حِينَئِذٍ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلتَّجَوُّزِ الْمَذْكُورِ مَوْجُودٌ، وَادَّعَيْتُمْ عَلَى الْعَرَبِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ هَذِهِ الْعَلَاقَاتِ عِنْدَهُمْ مُقْتَضِيَةٌ لِإِطْلَاقِ اسْمِ الضِّدِّ عَلَى ضِدِّهِ، وَاللَّازِمِ عَلَى مَلْزُومِهِ وَالْمُجَاوِرِ عَلَى مُجَاوَرِهِ، ثُمَّ ادَّعَيْتُمْ أَنَّهُمْ مَنَعُوكُمْ مِنْ هَذَا التَّجَوُّزِ فِيمَا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَمِنْ أَيْنَ لَكُمُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْمُقْتَضَى وَهَذَا الْمَانِعِ، وَأَيْنَ قَالُوا لَكُمْ: أَبَحْنَا لَكُمْ إِطْلَاقَ هَذِهِ الْأَضْدَادِ الْخَاصَّةِ عَلَى أَضْدَادِهَا، وَهَذِهِ اللَّوَازِمِ عَلَى مَلْزُومَاتِهَا وَحَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ مَا عَدَاهَا، وَهَلْ مَعَكُمْ غَيْرُ الِاسْتِعْمَالِ الثَّابِتِ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ الِاسْتِعْمَالُ لَا يُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ بِوَضْعِهِمْ وَعُرْفِهِمْ مِنْ خِطَابِهِمْ، فَمَا لَمْ يَسْتَعْمِلُوهُ وَمَا لَمْ يَتَفَاهَمُوهُ مِنْ مُخَاطَبَاتِهِمْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ لُغَتِهِمْ، وَمَا فَهِمُوهُ وَاسْتَعْمَلُوهُ هُوَ مِنْ لُغَتِهِمْ، وَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ إِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى عَدَمِ مُقْتَضِيهِ وَإِضَافَتِهِ إِلَى وُجُودِ مَانِعِهِ تَعَيَّنَتْ حَوَالَتُهُ عَلَى عَدَمِ مُقْتَضِيهِ تَخَلُّصًا مِنْ دَعْوَى التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ، فَإِنَّ الصُّورَةَ الْمَمْنُوعَ مِنْهَا إِذَا كَانَتْ مِثْلَ الصُّورَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ كَانَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَالْعَقْلُ يَأْبَاهُ وَيَمْنَعُ مِنْهُ.
وَهَذِهِ الْمُحَاوَلَاتُ إِنَّمَا لَزِمَتْ مِنْ تَقْسِيمِ الْكَلَامِ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ، وَفَسَادُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَلْزُومِ، يُوَضِّحُهُ: الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ الَّذِينَ اشْتَرَطُوا النَّقْلَ قَالُوا: لَوْ جَازَ الْإِطْلَاقُ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ
لَكَانَ ذَلِكَ إِمَّا قِيَاسًا، إِنْ كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى وَصْفِ ثُبُوتِيٍّ مُشْتَرِكٍ بَيْنَ صُورَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَصُورَةِ الْإِلْحَاقِ، وَإِمَّا اخْتِرَاعًا، إِنْ لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى ذَلِكَ، فَأَجَابَهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ النَّقْلَ بِأَنْ قَالُوا: الْعَلَاقَةُ مُصَحِّحَةٌ لِلتَّجَوُّزِ، كَرَفْعِ الْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْمَفْعُولِ، فَإِنَّا لَمَّا اسْتَقْرَأْنَا لُغَتَهُمْ وَجَدْنَاهُمْ يَرْفَعُونَ مَا نَطَقُوا بِهِ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَفْعُولِينَ عَلِمْنَا أَنَّ سَبَبَ الرَّفْعِ هُوَ الْفَاعِلِيَّةُ وَسَبَبَ النَّصْبِ هُوَ الْمَفْعُولِيَّةُ، فَهَكَذَا اسْتِقْرَاءُ عَلَاقَاتِ الْمَجَازِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِطْلَاقُهُمْ كُلَّ ضِدٍّ عَلَى ضِدِّهِ، وَكُلَّ لَازِمٍ عَلَى لَازِمِهِ.
وَهَذَا الْجَوَابُ مِنْ أَفْسَدِ الْأَجْوِبَةِ، فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ لُغَتِهِمْ رَفْعَ كُلِّ فَاعِلٍ وَنَصْبَ كُلِّ مَفْعُولٍ، وَجَرَّ كُلِّ مُضَافٍ، وَلَا يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ صُورَةٌ مِنَ الصُّوَرِ، فَإِنَّا لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ بِنَقْلِ تَوَاتُرٍ وَلَا آحَادٍ وَلَا اسْتِقْرَاءٍ يُفِيدُ عِلْمًا وَلَا ظَنًّا وَلَا اطِّرَادَ اسْتِعْمَالٍ، فَقِيَاسُ التَّجَوُّزِ بِكُلِّ ضِدٍّ عَلَى ضِدِّهِ، وَبِكُلِّ مَلْزُومٍ عَلَى مَلْزُومِهِ عَلَى رَفْعِ الْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْمَفْعُولِ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهُمْ قَالُوا: يُعْرَفُ الْمَجَازُ بِصِحَّةِ نَفْيِهِ، أَيْ إِذَا صَحَّ نَفْيُهُ عَمَّا أُطْلِقَ عَلَيْهِ كَانَ مَجَازًا، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ قَالَ: فُلَانٌ بَحْرٌ وَأَسَدٌ وَشَمْسٌ، وَحِمَارٌ وَكَلْبٌ وَمَيِّتٌ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُنْفَى عَمَّا أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظًا، فَلَا يُقَالُ لِلْحِمَارِ وَالْأَسَدِ وَالْبَحْرِ وَالشَّمْسِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ كَذِبًا، وَقَدِ اعْتَرَفُوا هُمْ بِبُطْلَانِهِ فَقَالُوا: هَذَا فَرْقٌ يَلْزَمُ مِنْهُ الدَّوْرُ، وَذَلِكَ أَنَّ صِحَّةَ النَّفْيِ وَامْتِنَاعَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، فَلَوْ عَرَفْنَاهُمَا بِصِحَّةِ النَّفْيِ وَامْتِنَاعِهِ لَزِمَ الدَّوْرُ.
الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحَقَائِقِ يَصِحُّ إِطْلَاقُ النَّفْيِ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِ عَدَمِ فَائِدَتِهِمَا، وَلَيْسَتْ مَجَازًا كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْكُهَّانِ " «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» "، وَمِنْ هَذَا سَلْبُ الْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعَقْلِ عَنِ الْكُفَّارِ، وَمِنْ هَذَا سَلْبُ الْإِيمَانِ عَمَّنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَسَلْبُهُ عَنِ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَالشَّارِبِ الْخَمْرَ وَالْمُنْتَهِبِ، وَسَلْبُ الصَّلَاةِ عَنِ الْفَذِّ خَلْفَ الصَّفِّ، وَسَلْبُ الصَّلَاةِ عَمَّنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَلَمْ يَطْمَئِنَّ فِي صَلَاتِهِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْحَقَائِقَ ثَابِتَةٌ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا السَّلْبُ، وَلَيْسَ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ» " وَ " «لَيْسَ
الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ» " وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يُنْفَ فِيهِ صِحَّةُ إِطْلَاقِ الِاسْمِ، وَإِنَّمَا نُفِيَ اخْتِصَاصُ الِاسْمِ بِهَذَا الِاسْمِ وَحْدَهُ، وَإِنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِهَذَا الِاسْمِ مِنْهُ، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ نَقَضَ بِهِ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ: إِنَّ الْمَجَازَ مَا صَحَّ نَفْيُهُ، وَهُوَ نَقْضٌ بَاطِلٌ، وَأَمَّا النَّقْضُ الصَّحِيحُ فَمَا صَحَّ لِنَقْضِهِ وَعَدَمِ حُصُولِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ مَعَ إِطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ: أَنْ يُقَالَ: مَا تَعْنُونَ بِصِحَّةِ النَّفْيِ، نَفْيَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَمِ الْمُسَمَّى عِنْدَ التَّقْيِيدِ أَمِ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ أَمْ أَمْرًا رَابِعًا، فَإِنْ أَرَدْتُمُ الْأَوَّلَ كَانَ حَاصِلُهُ أَنَّ اللَّفْظَ لَهُ دَلَالَتَانِ:
دَلَالَةٌ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَدَلَالَةٌ عِنْدَ التَّقْيِيدِ، بَلِ الْمُقَيَّدُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَوْضُوعِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَنْفِيٌّ عَنِ الْآخَرِ، وَإِنْ أَرَدْتُمُ الثَّانِيَ لَمْ يَصِحَّ نَفْيُهُ فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ هُوَ الْمَعْنَى الْمُقَيَّدُ فَكَيْفَ يَصِحُّ نَفْيُهُ؟ وَإِنْ أَرَدْتُمُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ مَا سَمَّيْتُمُوهُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا لَمْ يَصِحَّ نَفْيُهُ أَيْضًا، فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَمْرًا رَابِعًا فَبَيِّنُوهُ لِنَحْكُمَ عَلَيْهِ بِصِحَّةِ النَّفْيِ أَوْ عَدَمِهَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا لَا جَوَابَ عَنْهُ كَمَا تَرَى.
الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ هَذَا النَّفْيَ الَّذِي جَعَلْتُمْ صِحَّتَهُ عِيَارًا عَلَى الْمَجَازِ، وَفَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِيقَةِ، هُوَ الصِّحَّةُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ أَوْ عِنْدَ أَهْلِ الْإِصْلَاحِ عَلَى التَّقْسِيمِ إِلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، أَوْ عِنْدَ أَهْلِ الْعُرْفِ، فَمَنْ هُمُ الَّذِينَ يُسْتَدَلُّ بِصِحَّةِ نَفْيِهِمْ، وَيُجْعَلُ عِيَارًا عَلَى كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولَهُ، بَلْ كَلَامِ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ؟ فَإِنْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ نَفْيَ أَهْلِ اللِّسَانِ، طُولِبْتُمْ بِصِحَّةِ النَّقْلِ عَنْهُمْ بِأَنَّ هَذَا يَصِحُّ نَفْيُهُ وَهَذَا لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ، وَلَنْ تَجِدُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا.
وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ نَفْيَ أَهْلِ الِاصْطِلَاحِ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا، لِأَنَّهُمُ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ هَذَا مَجَازٌ، فَيَصِحُّ لَهُمْ نَفْيُهُ، وَهَذَا حَقِيقَةٌ فَلَا يَصِحُّ لَهُمْ نَفْيُهُ، فَكَانَ مَاذَا؟ وَهَلِ اسْتَفَدْنَا بِذَلِكَ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِصِحَّةِ نَفْيِ أَهْلِ الْعُرْفِ فَنَفْيُهُمْ تَابِعٌ لِعُرْفِهِمْ وَفَهْمِهِمْ، فَلَا يَكُونُ عِيَارًا عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ.
الْوَجْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّ صِحَّةَ النَّفْيِ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِالْمَجَازِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَيْهِ إِذْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ دَلِيلًا عَلَى نَفْسِهِ وَمَدْلُولًا لِنَفْسِهِ، وَهَذَا عَيْنُ لُزُومِ الدَّوْرِ.
الْوَجْهُ التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّكُمْ فَرَّقْتُمْ أَيْضًا بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَجَازَ مَا يَتَبَادَرُ غَيْرُهُ إِلَى الذِّهْنِ،
فَالْمَدْلُولُ إِنْ تَبَادَرَ إِلَى الذِّهْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ كَانَ حَقِيقَةً، وَكَانَ غَيْرُ الْمُتَبَادِرِ مَجَازًا، فَإِنَّ الْأَسَدَ إِذَا أُطْلِقَ تَبَادَرَ مِنْهُ الْحَيَوَانُ الْمُفْتَرِسُ دُونَ الرَّجُلِ الشُّجَاعِ، فَهَذَا الْفَرْقُ مَبْنِيٌّ عَلَى دَعْوَى بَاطِلَةٍ وَهُوَ تَجْرِيدُ اللَّفْظِ عَنِ الْقَرَائِنِ بِالْكُلِّيَّةِ وَالنُّطْقِ بِهِ وَحْدَهُ، وَحِينَئِذٍ فَيَتَبَادَرُ مِنْهُ الْحَقِيقَةُ عِنْدَ التَّجَرُّدِ، وَهَذَا الْفَرْضُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَكُمْ فِي الْوَهْمِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ بِدُونِ الْقَيْدِ وَالتَّرْكِيبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْوَاتِ الَّتِي يُنْعَقُ بِهَا لَا تُفِيدُ فَائِدَةً، وَإِنَّمَا يُفِيدُ تَرْكِيبُهُ مَعَ غَيْرِهِ تَرْكِيبًا إِسْنَادِيًّا يَصِحُّ السُّكُوتُ عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ فَإِنَّهُ يَتَبَادَرُ مِنْهُ عِنْدَ كُلِّ تَرْكِيبٍ بِحَسْبِ مَا قُيِّدَ بِهِ، فَيَتَبَادَرُ مِنْهُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ مَا لَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ الْأَخِيرِ.
فَإِذَا قُلْتَ: هَذَا الثَّوْبُ خِطْتُهُ لَكَ بِيَدِي، تَبَادَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْيَدَ آلَةُ الْخِيَاطَةِ لَا غَيْرُ، وَإِذَا قُلْتَ: لَكَ عِنْدِي يَدُ اللَّهِ يَجْزِيكَ بِهَا، تَبَادَرَ مِنْ هَذَا النِّعْمَةُ وَالْإِحْسَانُ، وَلَمَّا كَانَ أَصْلُهُ الْإِعْطَاءَ وَهُوَ بِالْيَدِ عَبَّرَ عَنْهُ بِهَا، لِأَنَّهَا آلَةٌ، وَهِيَ حَقِيقَةٌ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ، وَهَذَا التَّرْكِيبِ، فَمَا الَّذِي صَيَّرَهَا حَقِيقَةً فِي هَذَا، مَجَازًا فِي الْآخَرِ؟ .
فَإِنْ قُلْتَ: لِأَنَّا إِذَا أَطْلَقْنَا لَفْظَةَ يَدٍ تَبَادَرَ مِنْهَا الْعُضْوُ الْمَخْصُوصُ، قِيلَ: لَفْظَةُ يَدٍ بِمَنْزِلَةِ صَوْتٍ يُنْعَقُ بِهِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا الْبَتَّةَ حَتَّى تُقَيِّدَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ، وَمَعَ التَّقْيِيدِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ لَا يَتَبَادَرُ سِوَاهُ، فَتَكُونُ الْحَقِيقَةُ حَيْثُ اسْتُعْمِلَتْ فِي مَعْنًى يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ، كَذَلِكَ أَسَدٌ لَا تُفِيدُ شَيْئًا وَلَا يُعْلَمُ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ حَتَّى إِذَا قَالَ زَيْدٌ أَسَدٌ، أَوْ رَأَيْتُ أَسَدًا يُصَلَّى، أَوْ فُلَانٌ افْتَرَسَهُ الْأَسَدُ فَأَكَلَهُ، أَوِ الْأَسَدُ مَلِكُ الْوُحُوشِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، عُلِمَ الْمُرَادُ بِهِ مِنْ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ، وَتَبَادَرَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إِلَى ذِهْنِ السَّامِعِ بِحَسَبِ ذَلِكَ التَّقْيِيدِ وَالتَّرْكِيبِ، فَلَا يَتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِكَ: رَأَيْتُ أَسَدًا يُصَلِّي، إِلَّا رَجُلًا شُجَاعًا، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً.
فَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَبَادِرُ، وَلَكِنْ لَا يَتَبَادَرُ إِلَّا بِقَرِينَةٍ، بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّهَا يَتَبَادَرُ مَعْنَاهَا بِغَيْرِ قَرِينَةٍ، بَلْ لِمُجَرَّدِ الْإِطْلَاقِ، قِيلَ لَكُمْ: عَادَ الْبَحْثُ جَذِعًا، وَهُوَ أَنَّ اللَّفْظَ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ وَلَا تَرْكِيبٍ لَا يُفِيدُ شَيْئًا وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي كَلَامِنَا فِي الْأَلْفَاظِ الْمُقَيَّدَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي التَّخَاطُبِ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا عِنْدَ التَّرْكِيبِ تَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَسْبَقُ إِلَى الذِّهْنِ مِنَ الْآخَرِ، وَهَذَا الَّذِي نَعْنِي بِالْحَقِيقَةِ، مِثَالُهُ أَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: رَأَيْتُ الْيَوْمَ أَسَدًا، تَبَادَرَ إِلَى ذِهْنِ السَّامِعِ الْحَيَوَانُ الْمَخْصُوصُ، دُونَ الرَّجُلِ الشُّجَاعِ، هَذَا غَايَةُ مَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْفَرْقِ وَهُوَ أَقْوَى مَا عِنْدَكُمْ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُهُ، وَلَكِنْ نَقُولُ: اللَّفْظُ الْوَاحِدُ تَخْتَلِفُ
دَلَالَتُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، وَيَكُونُ حَقِيقَةً فِي الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيِّدِ، مِثَالُهُ لَفْظُ الْعَمَلِ، إِنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ عَمَلُ الْجَوَارِحِ، فَإِذَا قُيِّدَ بِعَمَلِ الْقَلْبِ كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَيْهِ أَيْضًا حَقِيقَةً، اخْتَلَفَتْ دَلَالَتُهُ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، وَلَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ حَقِيقَةً، وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْإِيمَانِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَدْخُلُ فِيهِ الْأَعْمَالُ، كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلَاهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» " فَإِذَا قُرِنَ بِالْأَعْمَالِ كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ، وَكَقَوْلِهِ:{آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 25] فَاخْتَلَفَتْ دَلَالَتُهُ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقَيُّدِ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ يَدْخُلُ فِيهِ الْآخَرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَدْخُلْ مُسَمَّى أَحَدِهِمَا فِي مُسَمَّى الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ التَّقْوَى وَالْقَوْلِ السَّدِيدِ إِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ التَّقْوَى تَنَاوَلَ تَقْوَى الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ وَاللِّسَانِ فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا تَقَيَّدَتْ دَلَالَتُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] وَكَذَلِكَ لَفْظُ التَّقْوَى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَدْخُلُ فِيهِ الصَّبْرُ، فَإِذَا قُرِنَ بِالصَّبْرِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} [آل عمران: 125] وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186] وَنَظَائِرُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ.
وَأَخَصُّ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا مُقَيَّدًا كَالرَّأْسِ وَالْجَوَارِحِ وَالْيَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَسْتَعْمِلْ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مُطْلَقَةً بَلْ لَا تَنْطِقُ بِهَا إِلَّا مُقَيَّدَةً كَرَأْسِ الْإِنْسَانِ وَرَأْسِ الطَّائِرِ وَرَأْسِ الدَّابَّةِ وَرَأْسِ الْمَاءِ وَرَأْسِ الْأَمْرِ وَرَأْسِ الْمَالِ وَرَأْسِ الْقَوْمِ، فَهَاهُنَا الْمُضَافُ وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ جَمِيعًا حَقِيقَةٌ وَهُمَا مَوْضُوعَانِ، وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الرَّأْسِ لِلْإِنْسَانِ وَأَنَّهُ نُقِلَ مِنْهُ إِلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فَقَدْ غَلِطَ أَقْبَحَ غَلَطٍ، وَقَالَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَوْ عَارَضَهُ آخَرُ بِضِدِّ مَا قَالَهُ كَانَ قَوْلُهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، فَالْمُفِيدُ مَوْضِعُ النِّزَاعِ وَالْمُطْلَقُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ وَلَا يُفِيدُ فَتَأَمَّلْهُ.
وَكَذَلِكَ الْجَنَاحُ
لِجَنَاحِ الطَّائِرِ حَقِيقَةٌ، وَجَنَاحُ السَّفَرِ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَجَنَاحُ الذُّلِّ حَقِيقَةٌ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ لِلذُّلِّ جَنَاحٌ، قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ جَنَاحُ رِيشٍ، وَلَهُ جَنَاحٌ مَعْنَوِيٌّ يُنَاسِبُهُ، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ وَالْمَالَ وَالْمَاءَ لَيْسَ لَهُ رَأْسُ الْحَيَوَانِ وَلَهَا رَأْسٌ بِحَسَبِهَا، وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمُضَافَةِ كَالْيَدِ وَالْعَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.
فَيَدُ الْبَعُوضَةِ حَقِيقَةٌ وَيَدُ الْفِيلِ حَقِيقَةٌ وَلَيْسَتْ مَجَازًا فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ حَقِيقَةً فِي الْآخَرِ، وَلَيْسَتِ الْيَدُ مُشْتَرِكَةً بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا، وَكَذَلِكَ إِرَادَةُ الْبَعُوضِ وَحَيَاتُهَا وَقُوَّتُهَا حَقِيقَةٌ، وَإِرَادَةُ الْمَلِكِ وَقُوَّتُهُ وَحَيَاتُهُ حَقِيقَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْأَسَدِ وَالرَّجُلِ الشُّجَاعِ وَبَيْنَ الْبَلِيدِ وَالْحِمَارِ أَعْظَمُ مِنَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي بَيْنَ الْبَعُوضَةِ وَالْفِيلِ وَبَيْنَ الْبَعُوضَةِ وَالْمَلِكِ، فَإِذَا جَعَلْتُمُ اللَّفْظَ حَقِيقَةً هُنَاكَ لِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ فَهَلَّا جَعَلْتُمُوهُ حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ فِيمَا هُوَ أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَنَاقُضِكُمْ وَتَفْرِيقِكُمْ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَسَلْبِكُمُ الْحَقِيقَةَ عَمَّا هُوَ أَوْلَى بِهَا.
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ: وَهُوَ أَنَّكُمْ فَرَّقْتُمْ بِقَوْلِكُمْ: إِنَّ الْمَجَازَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَرِينَةِ، وَالْحَقِيقَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَرِينَةِ، وَمُرَادُكُمْ أَنَّ إِفَادَةَ الْحَقِيقَةِ لِمَعْنَاهَا الْإِفْرَادِيِّ غَيْرُ مَشْرُوطٍ بِالْقَرِينَةِ، وَإِفَادَةَ الْمَجَازِ لِمَعْنَاهُ الْإِفْرَادِيِّ مَشْرُوطٌ بِالْقَرِينَةِ.
فَيُقَالُ لَكُمْ: اللَّفْظُ عِنْدَ تَجَرُّدِهِ عَنْ جَمِيعِ الْقَرَائِنِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْوَاتِ الَّتِي يَنْعَقُ بِهَا، فَقَوْلُكَ: تُرَابُ مَاءٍ حَجْرُ رَجُلٍ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: طَقْ غَاقْ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَصْوَاتِ، فَلَا يُفِيدُ اللَّفْظُ وَيَصِيرُ كَلَامًا إِلَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِهِ مَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يُسَمَّى حَقِيقَةً فِي ذَلِكَ وَمَا يُسَمَّى مَجَازًا، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ مُنْكِرِي الْمَجَازِ وَمُثْبِتِيهِ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ بِالْمَجَازِ احْتِيَاجَ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ فِي إِقَامَةِ الْمَعْنَى إِلَى قَرِينَةٍ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ اللُّغَاتُ كُلُّهَا مَجَازًا، وَإِنْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ بَعْضِ الْقَرَائِنِ وَبَعْضٍ كَانَ ذَلِكَ تَحَكُّمًا مَحْضًا لَا مَعْنَى لَهُ.
وَإِنْ قُلْتُمُ الْقَرَائِنُ نَوْعَانِ: لَفْظِيَّةٌ وَعَقْلِيَّةٌ، فَمَا تَوَقَّفَ فَهْمُ الْمُرَادِ مِنْهُ عَلَى الْقَرَائِنِ الْعَقْلِيَّةِ فَهُوَ الْمَجَازُ، وَمَا تَوَقَّفَ عَلَى اللَّفْظِيَّةِ فَهُوَ الْحَقِيقَةُ.
قِيلَ: هَذَا لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ الْعَقْلَ الْمُجَرَّدَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي إِفَادَةِ اللَّفْظِ لِمَعْنَاهُ سَوَاءٌ كَانَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ بِالنَّقْلِ وَالِاسْتِعْمَالِ، وَحِينَئِذٍ فَيَفْهَمُ الْعَقْلُ الْمُرَادَ بِوَاسِطَةِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ اطَّرَدَ اسْتِعْمَالُهُ فِي عُرْفِ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، الثَّانِي: عِلْمُهُ بِأَنَّ الْمُخَاطَبَ لَهُ أَرَادَ إِفْهَامَهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَإِنْ تَخَلَّفَ وَاحِدٌ مِنَ الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَحْصُلُ الْفَهْمُ الْمُرَادُ الْمُتَكَلَّمُ، وَأَمَّا الْقَرِينَةُ الْمُجَرَّدَةُ بِدُونِ اللَّفْظِ فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى حَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ، وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى مُرَادِ الْحَيِّ فَتِلْكَ دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِشَارَةِ
وَالْحَرَكَةِ وَالْأَمَارَاتِ الظَّاهِرَةِ.
وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ الْمَعْنَى الْإِفْرَادِيَّ تُقَيِّدُهُ الْحَقِيقَةُ بِمُجَرَّدِ لَفْظِهَا وَلَا يُقَيِّدُهُ الْمَجَازُ إِلَّا بِقَرِينَةٍ تَقْتَرِنُ بِلَفْظِهِ، قِيلَ لَكُمْ: الْمَعْنَى الْإِفْرَادِيُّ نَوْعَانِ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ، فَالْمُطْلَقُ يُفِيدُهُ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ، وَالْمُقَيَّدُ يُفِيدُهُ اللَّفْظُ الْمُقَيَّدُ، وَكِلَاهُمَا حَقِيقَةٌ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ، فَمَعْنَى الْأَسَدِ الْمُطْلَقُ يُفِيدُهُ لَفْظُهُ الْمُطْلَقُ، وَالْأَسَدُ الْمُشَبَّهُ وَهُوَ الْمُقَيَّدُ يُفِيدُهُ لَفْظُهُ الْمُقَيَّدُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا بِالْمُطْلَقِ الْكُلِّيَّ الذِّهْنِيَّ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الْمُجَرَّدُ عَنِ الْقَرِينَةِ، وَإِنْ كَانَ شَخْصًا، وَهَذَا الْأَمْرُ مَعْقُولٌ مَضْبُوطٌ يَطَّرِدُ وَيَنْعَكِسُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ تُشَاحِحُونَا فَإِنَّا اصْطَلَحْنَا عَلَى تَسْمِيَةِ الْمُطْلَقِ بِالِاعْتِبَارِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ حَقِيقَةً وَعَلَى تَسْمِيَةِ الْمُقَيَّدِ مَجَازًا.
قِيلَ: لَمْ نُشَاحِحْكُمْ فِي مُجَرَّدِ الِاصْطِلَاحِ وَالتَّعْبِيرِ، بَلْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الِاصْطِلَاحَ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ وَلَا مُطَّرِدٍ وَلَا مُنْعَكِسٍ، بَلْ هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنَّكُمْ لَا تَقُولُونَ إِنَّ كُلَّ مَا تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهُ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فَهُوَ مَجَازٌ، إِذْ عَامَّةُ الْأَلْفَاظِ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمَّا تَفَطَّنَ بَعْضُكُمْ لِذَلِكَ الْتَزَمَهُ وَقَالَ: أَكْثَرُ اللُّغَةِ مَجَازٌ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ صَنَّفُوا فِي مَجَازِ الْقُرْآنِ هُمْ بَيْنَ خُطَّتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا التَّنَاقُضُ الْبَيِّنُ، إِذْ يَحْكُمُونَ عَلَى اللَّفْظِ بِأَنَّهُ مَجَازٌ، وَعَلَى نَظِيرِهِ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ، أَوْ يَجْعَلُونَ الْجَمِيعَ مَجَازًا، فَيَكُونُ الْقُرْآنُ كُلُّهُ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُ مَجَازًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَهَذَا مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ كُلُّ مَا دَلَّ بِالْقَرِينَةِ دَلَالَتُهُ غَيْرُ دَلَالَتِهِ عِنْدَ التَّجَرُّدِ مِنْهَا مَجَازًا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ اللُّغَةُ كُلُّهَا مَجَازًا فَإِنَّ كُلَّ لَفْظٍ يَدُلُّ عِنْدَ الِاقْتِرَانِ دَلَالَةً خَاصَّةً غَيْرَ دَلَالَتِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَإِنْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ بَعْضِ الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ وَبَعْضٍ لَمْ يُمْكِنْكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا أَنْوَاعًا مِنْهَا إِلَّا عُرِفَ بِهِ بُطْلَانُ قَوْلِكُمْ، إِذْ لَيْسَ فِي الْقَرَائِنِ الَّتِي تُعَيِّنُوهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَوْضِعِهِ وَلَا فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، فَإِنْ طَرَّدْتُمْ ذَلِكَ وَقُلْتُمْ: نَقُولُ: إِنَّ الْجَمِيعَ مَجَازٌ، كَانَ هَذَا مَعْلُومًا كَذِبُهُ وَبُطْلَانُهُ بِالضَّرُورَةِ وَاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَابِ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ أَصْلِ وَضْعِهَا، وَجُمْهُورُ الْقَائِلِينَ بِالْمَجَازِ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ كُلَّ مَجَازٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَقِيقَةٍ، فَالْحَقِيقَةُ عِنْدَهُمْ أَسْبَقُ وَأَعَمُّ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا، وَقَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهَا الْأَصْلُ وَالْمَجَازُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَمْلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَوْ كَانَتِ اللُّغَةُ أَوْ أَكْثَرُهَا مَجَازًا كَانَ الْمَجَازُ هُوَ الْأَصْلُ، وَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ