المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[المثال الرابع إثبات اليدين حقيقة لله تعالى] - مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

[ابن الموصلي]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌[فصل فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ التَّأْوِيلِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا]

- ‌[فصل تَنَازَعَ النَّاسُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ]

- ‌[فصل تَعْجِيزِ الْمُتَأَوِّلِينَ عَنْ تَحْقِيقِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَسُوغُ تَأْوِيلُهُ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وما لا يسوغ]

- ‌[فصل إِلْزَامِهِمْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي جَعَلُوهُ تَأَوُّلًا نَظِيرَ مَا فَرُّوا مِنْهُ]

- ‌[فَصْلٌ شبهات الجهمي في الوجه والعين والجنب والساق والجواب عليها]

- ‌[فصل فِي الْوَظَائِفِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْمُتَأَوِّلِ]

- ‌[فصل بَيَانِ أَنَّ التَّأْوِيلَ شَرٌّ مِنَ التَّعْطِيلِ]

- ‌[فصل قَصْدَ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الْمُخَاطَبِ حَمْلَ كَلَامِهِ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ يُنَافِي قَصْدَ الْبَيَانِ]

- ‌[فصل فِي بَيَانِهِ أَنَّهُ مَعَ كَمَالِ عِلْمِ الْمُتَكَلِّمِ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يُرِيدَ بِكَلَامِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ]

- ‌[فصل بَيَانِ أَنَّ تَيَسُّرَ الْقُرْآنِ لِلذِّكْرِ يُنَافِي حَمْلَهُ عَلَى التَّأْوِيلِ الْمُخَالَفَاتِ لِحَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ]

- ‌[فَصْلُ اشْتِمَالُ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَكْثَرَ مِنَ اشْتِمَالِهَا عَلَى مَا عَدَاهُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَقْبَلُ التَّأَوُّلَ مِنَ الْكَلَامِ وَمَا لَا يَقْبَلُهُ]

- ‌[فَصْلٌ لَا يَأْتِي الْمُعَطِّلُ لِلتَّوْحِيدِ الْعِلْمِيِّ بِتَأْوِيلٍ إِلَّا أَمْكَنَ الْمُعَطِّلُ لِلتَّوْحِيدِ الْعَمَلِيِّ أَنْ يَأْتِيَ بِتَأْوِيلٍ مِنْ جِنْسِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي انْقِسَامِ النَّاسِ فِي نُصُوصِ الْوَحْيِ]

- ‌[فَصْلٌ أَسْبَابٌ قَبُولُ التَّأْوِيلِ]

- ‌[فَصْلٌ أَهْلَ التَّأْوِيلِ لَا يُمْكِنُهُمْ إِقَامَةَ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ عَلَى مُبْطِلٍ أَبَدًا وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الآفَاتِ]

- ‌[حُجَجُهُ سُبْحَانَهُ الْعَقْلِيَّةُ والسمعية على توحيده وأسمائه وصفاته]

- ‌[موافقة صريح العقل لصحيح النقل]

- ‌[كَسْرُ الطَّاغُوتِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُمْ إِذَا تَعَارَضَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ]

- ‌[تَقْدِيمَ الْعَقْلِ عَلَى الشَّرْعِ يَتَضَمَّنُ الْقَدْحَ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ]

- ‌[إتمام الله لدينه لا يحوجنا إلى العقل]

- ‌[اتفاق العقل والنقل]

- ‌[معارضة العقل للشرع من عادة الكفار]

- ‌[الاحتجاج بشهادة العقل وحده باطلة]

- ‌[غاية ما ينتهي إليه من عارض الشرع بالعقل]

- ‌[كذب من زعم أن السلف لا يدرون معاني ألفاظ الصفات]

- ‌[أنواع التوحيد الصحيحة والباطلة]

- ‌[تسمية أهل الزيغ توحيد الرسل شركا وتجسيما]

- ‌[لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتا لا نفيا]

- ‌[الجهة والفوقية والعلو نفيها عنه سبحانه تعطيل]

- ‌[فصل إنكار القدرية خلق أفعال العباد وتسميتهم بذلك بالعدل]

- ‌[العقل يصدق ما جاء الوحي أشد مما يصدق كثير من المحسوسات]

- ‌[أصول المعارضين للشرع بالعقل تنفي وجود الصانع لا صفاته فحسب]

- ‌[فصل مذهب أهل الكلام في الصفات]

- ‌[معارضة الوحي بالعقل]

- ‌[الفطرة والمعقول يثبتان صفات الله]

- ‌[أحسن ما قيل في المثل الأعلى]

- ‌[الصحابة كانوا يستشكلون بعض النصوص ببعضها لا بمعقولات]

- ‌[إنكار الصحابة على من عارض النصوص بآراء الرجال]

- ‌[الجهمية أول من عارض الوحي بالرأي]

- ‌[قيام ابن تيمية بالحجة واليد على غزو أهل الضلال]

- ‌[إثبات الصفات لا يلزم منه التشبيه]

- ‌[إفحام من ينكر الصفات]

- ‌[توحيد الجهمية والفلاسفة مناقض لتوحيد الرسل]

- ‌[أقوى الطرق وأدلها على الصانع]

- ‌[الأصل الذي قاد إلى القول بالتعطيل]

- ‌[فصل اتفاق الحكماء مع السلف على علو الله]

- ‌[فصل مناقشة من يمنعون الإشارة الحسية إليه تعالى]

- ‌[مناقشة نفاة الصفات وإفحامهم]

- ‌[فصل الْجَهْمِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ مُعْتَرِفُونَ بِوَصْفَهِ تَعَالَى بِعُلُوِّ الْقَهْرِ وَعُلُوِّ الْقَدْرِ]

- ‌[فصل رؤية الرب إمكانها بالعقل وإثباتها بالشرع]

- ‌[نفي الشبيه ليس في نفسه مدح]

- ‌[فَصْلٌ حُجَّةِ الْجَهْمِيِّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَرْضَى وَلَا يَغْضَبُ وَلَا يُحِبُّ وَلَا يَسْخَطُ وَالْجَوَابُ عَنْهَا]

- ‌[إدراك حكمة الله في خلقه]

- ‌[معنى قضاء الله في عباده وتنزيهه عن الظلم]

- ‌[فصل استدلال الجبرية بقوله تعالى لا يسأَل عما يفعل]

- ‌[فصل ذوو الأرواح الذين يلحقهم اللذة والآلام أربعة أَصناف]

- ‌[فصل العدل الإلهي في الثواب والعقاب]

- ‌[فصل حكمة الله تعالى في خلق الضدين]

- ‌[فصل العبودية إنما تظهر عند الامتحان بالشهوات]

- ‌[حكمة الله تعالى في خلق إبليس]

- ‌[رحمة الله سبقت غضبة]

- ‌[فصل من عدله سبحانه أنه لا يزيد أحدا في العذاب على القدر الذي يستحقه]

- ‌[فصل في كسر الطاغوت الثالث الذي وضعته الجهمية لتعطيل حقائق الأسماء والصفات]

- ‌[فصل القول بالمجاز قول مبتدع]

- ‌[تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز تقسيم فاسد]

- ‌[تفريقهم بين الحقيقة والمجاز لاضطراد وفساده]

- ‌[أن العرب لم تضع جناح الذل لمعنى ثم نقلته من موضعه إلى غيره]

- ‌[الألفاظ التي تستعمل في حق الخالق والمخلوق لها ثلاث اعتبارت]

- ‌[أن الله تعالى هو الذي علمهم البيان بألفاظهم عما في أنفسهم]

- ‌[اللغة كلها حقيقة أو كلها مجاز]

- ‌[أنواع القرائن]

- ‌[تقسيم معاني الكلام إلى خبر وطلب واستفهام]

- ‌[نقل كلام ابن جني في المجاز والرد عليه]

- ‌[فصل ذكر ما ادعوا فيه المجاز من القرآن]

- ‌[المثال الأول قوله وجاء ربك والملك صفا صفا]

- ‌[المثال الثاني اسم الرحمن ورحمة الله]

- ‌[المثال الثالث استواء الله على عرشه]

- ‌[المثال الرابع إثبات اليدين حقيقة لله تعالى]

- ‌[المثال الخامس إثبات الوجه لله تعالى حقيقة]

- ‌[المثال السادس اسم الله النور وقوله تعالى الله نور السماوات والأرض]

- ‌[المثال السابع إثبات فوقية الله تعالى على الحقيقة]

- ‌[المثال الثامن إثبات نزوله حقيقة]

- ‌[حديث الجمعة وهو شجي في حلوق المعطلة]

- ‌[حديث لقيط بن عامر الجهني وفيه فوائد]

- ‌[النزول إلى الأرض يوم القيامة تواترت به الأحاديث وجاء به القرآن]

- ‌[فصل اختلاف أهل السنة في نزول الرب تبارك وتعالى على ثلاثة أقوال]

- ‌[فصل ثبوت الانتقال والحركة لله تعالى]

- ‌[المثال التاسع معية الله تعالى وقربه من عباده]

- ‌[المثال العاشر نداء الله ومناجاته وكلامه بحرف وصوت]

- ‌[فصل مذاهب الناس في كلام الله]

- ‌[مذهب الاتحادية]

- ‌[مذهب الفلاسفة المتأخرين]

- ‌[مذهب المعتزلة]

- ‌[مذهب الكلابية]

- ‌[مذهب الأشعري]

- ‌[مذهب الكرامية]

- ‌[مذهب السالمية]

- ‌[فصل مذهب أتباع الرسل]

- ‌[مسألة تكلم العباد بالقرآن]

- ‌[فصل جواب السؤال هل حروف المعجم قديمة أو مخلوقة]

- ‌[فصل كون الكلام في محاله]

- ‌[فصل سماع كلام الله مباشرة وبواسكة]

- ‌[فصل وجود القرآن في المصحف]

- ‌[فصل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك]

- ‌[فصل منشأ النزاع هل كلام الرب بمشيئتة أم لا]

- ‌[فصل هل يمكن وجود حرف نطقي بلا صوت]

- ‌[فصل الاحتجاج بالأحاديث النبوية على إثبات صفات الله المقدسة العلية]

- ‌[المقام الأول بيان إفادة النصوص الدلالة القاطعة على مراد المتكلم]

- ‌[المقام الثاني موافقة القرآن للحديث]

- ‌[فصل كلام الشافعي في الاحتجاج بالسنة]

- ‌[فصل المقام الرابع إفادتها للعلم واليقين]

- ‌[فصل التفصيل في خبر الواحد وأنه ليس سواء]

- ‌[كلام الإمام ابن حزم في أن خبر الواحد يفيد العلم قطعا]

- ‌[فصل استدلال ابن القيم على أن خبر الواحد يفيد العلم قطعا]

- ‌[فصل الاستدلال بأحاديث الآحاد في العلم كالعمل]

- ‌[فصل المقام الخامس هذه الأخبار لو لم تفد اليقين فإن الظن الغالب حاصل منها]

- ‌[فصل المقام السابع اختلاف درجة الدليل بحسب درجة فهم المستدل]

- ‌[فصل المقام الثامن انعقاد الإجماع على قبول أحاديث الآحاد]

- ‌[فصل ليس في السنة ما يخالف القرآن]

- ‌[فصل المقام التاسع والعاشر أن قولهم خبر الواحد لا يفيد العلم قضية كاذبة]

الفصل: ‌[المثال الرابع إثبات اليدين حقيقة لله تعالى]

[المثال الرابع إثبات اليدين حقيقة لله تعالى]

الْمِثَالُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] قَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ: مَجَازٌ فِي النِّعْمَةِ أَوِ الْقُدْرَةِ، وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَصْلَ الْحَقِيقَةُ فَدَعْوَى الْمَجَازِ مُخَالَفَةٌ لِلْأَصْلِ، الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ عَلَى بُطْلَانِ هَذِهِ الدَّعْوَى، الثَّانِي: أَنَّ مُدَّعِيَ الْمَجَازِ الْمُعَيَّنِ يَلْزَمُهُ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: إِقَامَةُ الدَّلِيلِ الصَّارِفِ عَنِ الْحَقِيقَةِ، إِذْ مُدَّعِيهَا مَعَهُ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ وَمُخَالِفُهَا مُخَالِفٌ لَهُمَا جَمِيعًا، ثَانِيهَا: بَيَانُ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْمَجَازِ لُغَةً وَإِلَّا كَانَ مُنْشِئًا مِنْ عِنْدِهِ وَضْعًا جَدِيدًا، ثَالِثُهَا: احْتِمَالُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي هَذَا السِّيَاقِ الْمُعَيَّنِ، فَلَيْسَ كُلُّ مَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ يَحْتَمِلُهُ هَذَا السِّيَاقُ الْخَاصُّ، وَهَذَا مَوْضِعٌ غَلِطَ فِيهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَوْ يُمَيِّزْ بَيْنَ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ بِأَصْلِ اللُّغَةِ وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ الْخَاصِّ وَبَيْنَ مَا يَحْتَمِلُهُ فِيهِ، رَابِعُهَا: بَيَانُ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَجَازِ الَّذِي عَيَّنَهُ بِأَنَّهُ الْمُرَادُ إِذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ فِي اللَّفْظِ تَدُلُّ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، وَإِذَا طُولِبُوا بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ تَبَيَّنَ عَجْزُهُمْ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ اطِّرَادَ لَفْظِهَا فِي مَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ وَتَنَوُّعَ ذَلِكَ وَتَصْرِيفَ اسْتِعْمَالِهِ يَمْنَعُ الْمَجَازَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ:{خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وَقَوْلِهِ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] وَقَوْلِهِ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] فَلَوْ كَانَ مَجَازًا فِي الْقُدْرَةِ وَالنِّعْمَةِ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْهُ لَفْظُ يَمِينٍ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:" «الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ» " فَلَا يُقَالُ هَذَا يَدُ النِّعْمَةِ وَالْقُدْرَةِ، وَقَوْلِهِ:" «يَقْبِضُ اللَّهُ سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ وَالْأَرْضَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ» "، فَهُنَا هَزٌّ وَقَبْضٌ وَذِكْرُ يَدَيْنِ، وَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يَقْبِضُ يَدَيْهِ وَيَبْسُطُهَا تَحْقِيقًا لِلصِّفَةِ لَا تَشْبِيهًا لَهَا كَمَا قَرَأَ:{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134] وَوَضَعَ يَدَيْهِ

ص: 391

عَلَى عَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ تَحْقِيقًا لِصِفَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَأَنَّهُمَا حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَقَوْلِهِ:" «وَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ قَبَضَ بِيَدَيْهِ قَبْضَتَيْنِ وَقَالَ: اخْتَرْ، فَقَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، فَفَتَحَهَا فَإِذَا فِيهَا أَهْلُ الْيَمِينِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ» ".

وَأَضْعَافُ أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ فِي ثُبُوتِ الصِّفَةِ، كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:«إِنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» "، وَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: "«مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، تَقَبَّلَهَا بِيَمِينِهِ» "، وَقَوْلِهِ: "«وَمَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ إِلَّا كَخَرْدَلَةٍ فِي كَفِّ أَحَدِكُمْ» "، وَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ: "«فَيَأْخُذُ رَبُّكَ غُرْفَةً مِنَ الْمَاءِ فَيَنْضَحُ بِهَا قِبَلَكُمْ فَلَا يُخْطِئُ وَجْهَ أَحَدِكُمْ» "، يَعْنِي فِي الْمَوْقِفِ، فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ وَأَضْعَافُ أَضْعَافِهِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً، وَلَيْسَ مَعَهُ قَرِينَةٌ وَاحِدَةٌ تُبْطِلُ الْحَقِيقَةَ وَتُبَيِّنُ الْمَجَازَ.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ اقْتِرَانَ لَفْظِ الطَّيِّ وَالْقَبْضِ وَالْإِمْسَاكِ بِالْيَدِ يَصِيرُ الْمَجْمُوعُ حَقِيقَةً، هَذَا فِي الْفِعْلِ، وَهَذَا فِي الصِّفَةِ، بِخِلَافِ الْيَدِ الْمَجَازِيَّةِ، فَإِنَّهَا إِذَا أُرِيدَتْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْيَدِ حَقِيقَةً، بَلْ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَجَازِ كَقَوْلِهِ:«لَهُ عِنْدِي يَدٌ، وَأَنَا قُمْتُ يَدَهُمْ» وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا قِيلَ: قَبَضَ بِيَدِهِ وَأَمْسَكَ بِيَدِهِ أَوْ قَبَضَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ كَذَا وَبِالْأُخْرَى كَذَا، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ كَتَبَ كَذَا وَعَمِلَهُ بِيَمِينِهِ أَوْ بِيَدَيْهِ، فَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا أُتِيَ هَؤُلَاءِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ رَأَوُا الْيَدَ تُطْلَقُ عَلَى النِّعْمَةِ وَالْقُدْرَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، فَظَنُّوا أَنَّ كُلَّ تَرْكِيبٍ وَسِيَاقٍ صَالِحٌ لِذَلِكَ، فَوَهِمُوا وَأَوْهَمُوا، فَهَبْ أَنَّ

ص: 392

هَذَا يَصْلُحُ فِي قَوْلِهِ: «لَوْلَا يَدٌ لَكَ لَمْ أَجْزِكَ بِهَا» ، أَفَيَصْلُحُ فِي قَوْلِهِ:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] وَفِي قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُبَاشِرْ بِيَدِهِ أَوْ لَمْ يَخْلُقْ بِيَدِهِ إِلَّا ثَلَاثًا: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ، وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، أَفَيَصِحُّ فِي عَقْلٍ أَوْ نَقْلٍ أَوْ فِطْرَةٍ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَخْلُقْ بِقُدْرَتِهِ أَوْ بِنِعْمَتِهِ إِلَّا ثَلَاثًا.

الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَجَازِ لَا يُسْتَعْمَلُ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا مُفْرَدًا أَوْ مَجْمُوعًا كَقَوْلِكَ: لَهُ عِنْدِي يَدٌ يَجْزِيهِ اللَّهُ بِهَا وَلَهُ عِنْدِي أَيَادٍ، وَأَمَّا إِذَا جَاءَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ لَمْ يُعْرَفِ اسْتِعْمَالُهُ قَطُّ إِلَّا فِي الْيَدِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَهَذِهِ مَوَارِدُ الِاسْتِعْمَالِ أَكْبَرُ شَاهِدٍ فَعَلَيْكَ بِتَتَبُّعِهَا.

الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَعْهُودِ أَنْ يُطْلِقَ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ مَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالنِّعْمَةِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ بَلْ بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ الْحَقِيقَةِ، كَقَوْلِهِ {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة: 165] : وَكَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وَقَدْ يَجْمَعُ النِّعَمَ كَقَوْلِهِ: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20] وَأَمَّا أَنْ يَقُولَ: خَلَقْتُكَ بِقُدْرَتَيْنِ أَوْ بِنِعْمَتَيْنِ، فَهَذَا لَمْ يَقَعْ فِي كَلَامِهِ وَلَا كَلَامِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الْقُدْرَةُ، فَإِنَّهُ يُبْطِلُ فَائِدَةَ تَخْصِيصِ آدَمَ، فَإِنَّهُ وَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ حَتَّى إِبْلِيسُ مَخْلُوقٌ بِقُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ، فَأَيُّ مَزِيَّةٍ لِآدَمَ عَلَى إِبْلِيسَ فِي قَوْلِهِ:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] يُوَضِّحُهُ:

الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ ذَلِكَ خَاصَّةً خَصَّ بِهَا آدَمَ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ مُوسَى وَقْتَ الْمُحَاجَّةِ: أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ

ص: 393

مَلَائِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ لَهُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ إِذَا سَأَلُوهُ الشَّفَاعَةَ، فَهَذِهِ أَرْبَعُ خَصَائِصَ لَهُ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْيَدِ الْقُدْرَةَ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: خَلَقَكَ اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي ذَلِكَ، يُوَضِّحُهُ:

الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّكَ لَوْ وَضَعْتَ الْحَقِيقَةَ الَّتِي يَدَّعِي هَؤُلَاءِ أَنَّ الْيَدَ مَجَازٌ فِيهَا مَوْضِعَ الْيَدِ لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ فَائِدَةٌ وَلَمْ يَصِحَّ وَضْعُهَا هُنَاكَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ قَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِقُدْرَتِي، وَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَنْتَ أَوِ الْبَشَرُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ، وَقَالَتْ لَهُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ ذَلِكَ، لَمْ يَحْسُنْ ذَلِكَ الْكَلَامُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ شَيْءٌ وَتَعَالَى اللَّهُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا التَّخْصِيصِ إِنَّمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْفَضْلِ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ اخْتُصَّ بِهِ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى مَا يُبْطِلُ ذَلِكَ.

الْوَجْهُ الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّ نَفْسَ هَذَا التَّرْكِيبِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] يَأْبَى حَمْلَ الْكَلَامِ عَلَى الْقُدْرَةِ لِأَنَّهُ نَسَبَ الْخَلْقَ إِلَى نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ ثُمَّ عَدَّى الْفِعْلَ إِلَى الْيَدِ ثُمَّ ثَنَّاهَا ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْبَاءَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى قَوْلِهِ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَمِثْلُ هَذَا النَّصِّ صَرِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ الْمَجَازَ بِوَجْهٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: عَمِلْتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]{بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10] فَإِنْ نُسِبَ الْفِعْلُ إِلَى الْيَدِ ابْتِدَاءً، وَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا آلَةُ الْفِعْلِ فِي الْغَالِبِ، وَلِهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ خَلْقُ الْأَنْعَامِ مُسَاوِيًا لِخَلْقِ أَبِي الْأَنَامِ قَالَ تَعَالَى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71] فَأَضَافَ الْفِعْلَ إِلَى الْأَيْدِي وَجَمَعَهَا وَلَمْ يُدْخِلْ عَلَيْهَا الْبَاءَ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ فُرُوقٍ تُبْطِلُ إِلْحَاقَ أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ بِالْآخَرِ، وَيَتَضَمَّنُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا عَدَمَ مَزِيَّةِ أَبِينَا آدَمَ عَلَى الْأَنْعَامِ، وَهَذَا مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ وَأَعْظَمِ الْعُقُوقِ لِلْأَبِ، إِذْ سَاوَى الْمُعَطِّلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ وَالْأَنْعَامِ فِي الْخَلْقِ بِالْيَدَيْنِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّ يَدَ النِّعْمَةِ وَالْقُدْرَةِ لَا يَتَجَاوَزُ بِهَا لَفْظُ الْيَدِ فَلَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا بِمَا يَتَصَرَّفُ فِي الْيَدِ الْحَقِيقِيَّةِ، فَلَا يُقَالُ: كَفٌّ لَا لِلنِّعْمَةِ وَلَا لِلْقُدْرَةِ، وَلَا إِصْبَعٌ وَإِصْبَعَانِ وَلَا يَمِينٌ وَلَا شِمَالٌ، وَهَذَا كُلُّهُ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الْيَدُ نِعْمَةً أَوْ يَدَ قُدْرَةٍ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:«يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يُغِيضُهَا نَفَقَةٌ» وَقَالَ:

ص: 394

" «الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ» "، وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ:" «فَأَقُومُ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ مَقَامًا لَا يَقُومُهُ غَيْرِي» " وَإِذَا ضَمَمْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] إِلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " «يَأْخُذُ الْجَبَّارُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ " وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبِضُ يَدَهُ وَيَبْسُطُهَا» .

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ يُحْكَى عَنْ رَبِّهِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَقَالَ: " «مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ إِنْ شَاءَ يُقِيمُهُ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ» "، وَلَفْظَةُ " بَيْنَ " لَا تَقْتَضِي الْمُخَالَطَةَ وَلَا الْمُمَاسَّةَ وَالْمُلَاصَقَةَ لُغَةً وَلَا عَقْلًا وَلَا عُرْفًا، قَالَ تَعَالَى:{وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164] وَهُوَ لَا يُلَاصِقُ السَّمَاءَ وَلَا الْأَرْضَ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ:" «وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: زِدْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ وَثَلَاثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي، فَقَالَ عُمَرُ، حَسْبُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، دَعْنِي يَا عُمَرُ، وَمَا عَلَيْكَ أَنْ يُدْخِلَنَا الْجَنَّةَ كُلَّنَا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَدْخَلَ خَلْقَهُ الْجَنَّةَ بِكَفٍّ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَ عُمَرُ» "، فَصَدَّقَهُ فِي إِثْبَاتِ الْكَفِّ لِلَّهِ وَسَعَتِهَا وَعَظَمَتِهَا.

فَهَذَا الْقَبْضُ وَالْبَسْطُ وَالطَّيُّ وَالْيَمِينُ وَالْأَخْذُ وَالْوُقُوفُ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَالْكَفُّ وَتَقْلِيبُ الْقُلُوبِ بِأَصَابِعِهِ وَوَضْعُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْجِبَالِ عَلَى إِصْبَعٍ، فَذَكَرَ إِحْدَى الْيَدَيْنِ، ثُمَّ قَوْلُهُ وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى مُمْتَنِعٌ فِيهِ الْيَدُ الْمَجَازِيَّةُ سَوَاءٌ كَانَتْ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ أَوْ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ، فَإِنَّهَا لَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا هَذَا التَّصَرُّفُ، هَذِهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، نَظْمُهُمْ وَنَثْرُهُمْ، هَلْ تَجِدُونَ فِيهَا ذَلِكَ أَصْلًا.

ص: 395

الْوَجْهُ الثَّالِثُ عَشَرَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْكَرَ عَلَى الْيَهُودِ نِسْبَةَ يَدِهِ إِلَى النَّقْصِ وَالْعَيْبِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ إِثْبَاتَ الْيَدِ لَهُ تَعَالَى فَقَالَ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] فَلَعَنَهُمْ عَلَى وَصْفِ يَدِهِ بِالْعَيْبِ دُونَ إِثْبَاتِ يَدِهِ وَقَدْرُ إِثْبَاتِهَا بِهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا قَالُوهُ بِأَنَّهُمَا يَدَانِ مَبْسُوطَتَانِ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ تَلْبِيسُ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعَطَّلَةِ عَلَى أَشْبَاهِ الْأَنْعَامِ حَيْثُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْيَهُودَ عَلَى إِثْبَاتِ الْيَدِ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُمْ مُشَبِّهَةٌ وَهُمْ أَئِمَّةُ الْمُشَبِّهَةِ، فَتَأَمَّلْ هَذَا الْكَذِبَ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ وَالتَّلْبِيسَ، وَأَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ بِخِلَافِ قَوْلِهِ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ عَشَرَ: أَنَّ يَدَ الْقُدْرَةِ لَا يُعْرَفُ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يُقَالَ فِيهَا: يَدُ فُلَانٍ كَذَا هَكَذَا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: فَعَلَ هَذَا بِيَمِينِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: فَعَلَهُ بِيَدَيْهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: فَعَلَهُ بِيَمِينِهِ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَعْمَلُ فِي يَدِ الْقُدْرَةِ وَالنِّعْمَةِ أَنْ تَكُونَ مُجَرَّدَةً عَنِ الْإِضَافَةِ وَعَنِ التَّثْنِيَةِ وَعَنْ نِسْبَةِ الْفِعْلِ إِلَيْهَا، فَيُقَالُ: لِفُلَانٍ عِنْدِي يَدٌ، وَلَوْلَا يَدٌ لَهُ عِنْدِي، وَلَا يَكَادُونَ يَقُولُونَ يَدُهُ أَوْ يَدَاهُ عِنْدِي، وَلَهُ عِنْدِي يَدُهُ وَيَدَاهُ، يُوَضِّحُهُ:

الْوَجْهُ الْخَامِسُ عَشَرَ: أَنَّ الْيَدَ حَيْثُ أُرِيدَ بِهَا النِّعْمَةُ أَوِ الْقُدْرَةُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِاللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِيَحْصُلَ الْمُرَادُ، فَأَمَّا أَنْ تُطْلَقَ وَيُرَادَ بِهَا ذَلِكَ فَهَذَا لَا يَجُوزُ كَمَا إِذَا أَطْلَقَ الْبَحْرَ وَالْأَسَدَ وَادَّعَى بِذَلِكَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الرَّجُلُ الْجَوَادُ وَالشُّجَاعُ، فَهَذَا لَا يُجِيزُهُ عَاقِلٌ، وَلَا يَتَكَلَّمُ بِهِ إِلَّا مَنْ قَصْدُهُ التَّلْبِيسُ وَالتَّعْمِيَةُ، وَحَيْثُ أَرَادَ تِلْكَ الْمَعَانِيَ فَإِنَّهُ يَأْتِي مِنَ الْقَرَائِنِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ، فَأَيْنَ مَعَكُمْ فِي قَوْلِهِ:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وَ {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] وَقَوْلِهِ: " «يَقْبِضُ اللَّهُ سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ وَالْأَرْضَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى "، " فَأَقُومُ عَنْ يَمِينِ رَبِّي» "، وَقَوْلِهِ:" «فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ» " مَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ الْمَجَازِ.

الْوَجْهُ السَّادِسُ عَشَرَ: أَنَّ يَدَ الْقُدْرَةِ وَالنِّعْمَةِ لَا يُعْرَفُ اسْتِعْمَالُهَا الْبَتَّةَ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ يَدٌ حَقِيقَةً، فَهَذِهِ مَوَارِدُ اسْتِعْمَالِهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مُطَّرِدَةً فِي ذَلِكَ، فَلَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيُّ خِلَافَ ذَلِكَ، فَالْيَدُ الْمُضَافَةُ إِلَى الْحَيِّ إِمَّا أَنْ تَكُونَ يَدًا حَقِيقَةً أَوْ مُسْتَلْزِمَةً لِلْحَقِيقَةِ، وَإِمَّا أَنْ تُضَافَ إِلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ يَدٌ حَقِيقَةً، وَهُوَ حَيٌّ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْأَحْيَاءِ فَهَذَا لَا يُعْرَفُ الْبَتَّةَ.

وَسِرُّ هَذَا أَنَّ الْأَعْمَالَ وَالْأَخْذَ وَالْعَطَاءَ وَالتَّصَرُّفَ لَمَّا كَانَ بِالْيَدِ وَهِيَ الَّتِي تُبَاشِرُهُ عَبَّرُوا بِهَا عَنِ الْغَايَةِ الْحَاصِلَةِ بِهَا، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ أَصْلِ الْيَدِ حَتَّى يَصِحَّ اسْتِعْمَالُهَا

ص: 396

فِي مُجَرَّدِ الْقُوَّةِ وَالنِّعْمَةِ وَالْإِعْطَاءِ، فَإِذَا انْتَفَتْ حَقِيقَةُ الْيَدِ امْتَنَعَ اسْتِعْمَالُهَا فِيهَا فِيمَا يَكُونُ بِالْيَدِ فَثُبُوتُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ الْمَجَازِيِّ مِنْ أَدَلِّ الْأَشْيَاءِ عَلَى ثُبُوتِ الْحَقِيقَةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْيَهُودِ {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64] هُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِغَلِّ الْيَدِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَذَلِكَ لَا يَنْفِي ثُبُوتَ أَيْدِيهِمْ حَقِيقَةً، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْمُنَافِقِينَ {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة: 67] كِنَايَةً عَنِ الْبُخْلِ وَلَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَيْدٍ حَقِيقَةً، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] الْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ عَنِ الْبُخْلِ وَالتَّقْتِيرِ وَالْإِسْرَافِ، وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِحَقِيقَةِ الْيَدِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] أَيْ يَتَوَلَّى عَقْدَهَا، وَهُوَ إِنَّمَا يَعْقِدُهَا بِلِسَانِهِ، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ ذَلِكَ إِلَّا لِمَنْ لَهُ يَدٌ حَقِيقَةً، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:{وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} [الأعراف: 149] هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ النَّدَمِ وَتَيَقُّنِ التَّفْرِيطِ وَالْإِضَاعَةِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَقَطَ مِنْهُ الشَّيْءُ فَيُحِيلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَأَتَى فِي هَذَا بِلَفْظِ (فِي) دُونَ (مِنْ) لِأَنَّ النَّدَمَ سَقَطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَثَبَتَ فِيهَا وَاسْتَقَرَّ، وَلَوْ قِيلَ: سَقَطَ مِنْ أَيْدِيهِمْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَعُيِّنَ لَفْظُ الْيَدِ لِهَذَا الْمَعْنَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِي نَفْسِ يَدِهِ حَصَلَ فِي يَدِهِ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، كَمَا يُقَالُ: كَسَبَتْ يَدُهُ وَفَعَلَتْ يَدُهُ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهَا مِنَ الْجَوَارِحِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّدَمَ حَدَثٌ يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ وَأَثَرُهُ يَظْهَرُ فِي الْيَدِ، لِأَنَّ النَّادِمَ يَعَضُّ يَدَيْهِ تَارَةً، وَيَضْرِبُ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى تَارَةً، قَالَ تَعَالَى:{فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} [الكهف: 42] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] فَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ النَّدَمِ يَظْهَرُ عَلَى الْيَدِ أُضِيفَ سُقُوطُ النَّدَمِ إِلَيْهَا ; لِأَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لِلْعَيَانِ مِنْ فِعْلِ النَّدَمِ هُوَ تَقْلِيبُ الْكَفِّ وَعَضُّ الْأَنَامِلِ، وَأَتَى بِهَذَا الْفِعْلِ عَلَى بِنَاءِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ إِيهَامًا لِشَأْنِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِمْ: دُهِيَ فُلَانٌ وَأُصِيبَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ إِلَّا لِمَنْ لَهُ يَدٌ حَقِيقَةً، فَإِذَا قِيلَ: وَسُقِطَ فِي يَدِهِ عَرَفَ السَّائِلُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُسْتَلْزِمٌ لِحَقِيقَةِ الْيَدِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:

ص: 397

" «أَسْرَعُكُنَّ لُحُوقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا» " فَكُنَّ يُخْرِجْنَ أَيْدِيَهُنَّ لِيَعْلَمْنَ أَيَّتُهُنَّ أَطْوَلُ يَدًا، فَلَمَّا سَبَقَتْهُنَّ زَيْنَبُ إِلَى اللَّحَاقِ بِهِ وَلَمْ تَكُ يَدُهَا الذَّاتِيَّةُ أَطْوَلُ مِنْ أَيْدِيهِنَّ عَلِمْنَ أَنَّهُ أَرَادَ طُولَهَا بِالصَّدَقَةِ، وَكَانَتْ تُسَمَّى أَمَّ الْمَسَاكِينِ لِكَثْرَةِ صَدَقَتِهَا، وَمِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ، وَلِهَذَا فَهِمَ نِسَاؤُهُ مِنْهُ وَهُنَّ أَفْصَحُ نِسَاءِ الْعَرَبِ الْيَدَ الْحَقِيقِيَّةَ، حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُنَّ أَخِيرًا أَنَّهُ طَوُلُهَا بِالصَّدَقَةِ، وَهَذَا مِنَ التَّعْرِيضِ الْمُبَاحِ بِأَنْ يَذْكُرَ لَفْظًا مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ وَمُرَادُهُ أَحَدُهُمَا، كَقَوْلِهِ:" «نَحْنُ مِنْ مَاءٍ» "، وَقَوْلِهِ:" «ذَاكَ الَّذِي فِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ» "، وَقَوْلِهِ:" «الْجَنَّةُ لَا يَدْخُلُهَا الْعَجَزَةُ» "، وَقَوْلُ الصِّدِّيقِ: هَذَا هَادٍ يَهْدِينِي السَّبِيلَ، وَلَكِنْ لَا يُسْتَعْمَلُ طُولُ الْيَدِ بِالصَّدَقَةِ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ يَدٌ ذَاتِيَّةٌ، فَسَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:" «أَطْوَلُكُنَّ يَدًا» " الْيَدُ الذَّاتِيَّةُ أَوِ الْيَدُ الْمَعْنَوِيَّةُ فَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِثُبُوتِ يَدِ الذَّاتِ وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى مَا تُبَاشِرُهُ وَيَكُونُ بِهَا مِنَ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ، فَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ مَا يُعَيِّنُ ذَلِكَ فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمُرَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا يُعَيِّنُهُ فَهُوَ لِلْكِنَايَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي الْمَصْلَحَةِ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَنْفِي حَقِيقَةَ الْيَدِ لِلَّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَصْنَعُونَ بِيَدِ الْحَائِطِ فِي قَوْلَةِ لَبِيدٍ:

إِذْ أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشَّمَالِ زِمَامُهَا

وَقَوْلِ الْمُتَنَبِّي:

وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدِيَ مِنْ يَدٍ

تُخَبِّرُ أَنَّ الْمَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ

وَقَدِ اسْتُعْمِلَتِ الْيَدُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَوَاضِعَ حَقِيقَةً.

قِيلَ: لَا يَلْزَمُنَا هَذَا السُّؤَالُ لِأَنَّا قُلْنَا: مَتَى أُضِيفَتْ يَدُ الْقُدْرَةِ وَالنِّعْمَةِ إِلَى الْحَيِّ اسْتَلْزَمَتِ الْيَدَ الْحَقِيقِيَّةَ، وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ مُطَّرِدٌ غَيْرُ مُنْتَقِضٍ وَهَذَا يَتَعَيَّنُ: بِالْوَجْهِ السَّابِعِ عَشَرَ: وَهُوَ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي يَدِ الشِّمَالِ وَيَدِ الْحَائِطِ وَيَدِ اللَّيْلِ بَيَّنَتْ أَنَّ الْمُضَافَ مِنْ

ص: 398

جِنْسِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْإِضَافَةُ فِي الْبَعِيرِ وَالْفَرَسِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْحَيَوَانِ كَذَلِكَ، وَالْإِضَافَةُ فِي يَدِ الْمَلَكِ وَالْجِنِّ تُبَيِّنُ أَيْضًا أَنَّ يَدَيْهِمَا مِنْ جِنْسَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ الْإِضَافَةُ فِي يَدِ الْإِنْسَانِ وَكُلُّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ، كَذَلِكَ إِضَافَةُ الْيَدَيْنِ إِلَى الرَّحْمَةِ فِي قَوْلِهِ:{بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57] وَإِلَى النَّجْوَى فِي قَوْلِهِ: {بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] فَإِنَّ بَيْنَ يَدَيِ الشَّيْءِ أَمَامَهُ وَقُدَّامَهُ، وَهَذَا مِمَّا يَتَنَوَّعُ فِيهِ الْمُضَافُ إِلَيْهِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَاهِيَّةُ الْحَقِيقَةِ وَصِفَتُهَا، وَتَنَوَّعَتْ بِتَنَوُّعِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ.

فَإِذَا قِيلَ: يَدُ اللَّهِ وَوَجْهُهُ، وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ، وَحَيَاتُهُ وَعِلْمُهُ، وَقُدْرَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ، وَإِتْيَانُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ، كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةً وَالْمُضَافُ فِيهِ بِحَسْبِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مُمَاثِلًا لِغَيْرِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُضَافُ كَذَلِكَ ضَرُورَةً، فَدَعْوَى لُزُومِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ فِي إِثْبَاتِ الْمُضَافِ حَقِيقَةً زَعْمٌ كَاذِبٌ، فَإِنْ لَزِمَ مِنْ إِثْبَاتِ الْيَدِ حَقِيقَةً لِلَّهِ التَّمْثِيلُ وَالتَّشْبِيهُ لَزِمَ ذَلِكَ فِي إِثْبَاتِ سَائِرِ الصِّفَاتِ لَهُ حَقِيقَةً، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ فِي إِثْبَاتِ صِفَاتِهِ، فَإِنَّ الصِّفَةَ الْقَدِيمَةَ مَتَى أَشْبَهَتْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ لَزِمَ وُقُوعُ التَّشْبِيهِ بَيْنَ الذَّاتَيْنِ.

الْوَجْهُ الثَّامِنُ عَشَرَ: أَنْ يُقَالَ: مَا الَّذِي يَضُرُّكُمْ مِنْ إِثْبَاتِ الْيَدِ حَقِيقَةً، وَلَيْسَ مَعَكُمْ مَا يَنْفِي ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ لَا نَقْلِيِّهَا وَلَا عَقْلِيِّهَا وَلَا ضَرُورِيِّهَا وَلَا نَظَرِيِّهَا، فَإِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْحَقِيقَةِ خَشْيَةَ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، فَفِرُّوا مِنْ إِثْبَاتِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ خَشْيَةَ هَذَا الْمَحْذُورِ.

ثُمَّ يُقَالُ لَكُمْ: تَوَهُّمُكُمْ لُزُومَ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ مِنْ إِثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَغَيْرِهَا وَهْمٌ بَاطِلٌ، وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ يَدٌ تُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَتَطْوِيهَا، وَيَدٌ تَقْبِضُ الْأَرْضِينَ السَّبْعَ، وَلَا إِصْبَعٌ تُوضَعُ عَلَيْهَا الْأَرْضُ، وَإِصْبَعٌ تُوضَعُ عَلَيْهَا الْجِبَالُ، فَلَوْ كَانَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ يَدٌ وَإِصْبَعُ يَدٍ هَذَا شَأْنُهَا لَكَانَ لَكُمْ عُذْرٌ مَا فِي تَوَهُّمِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ مِنْ إِثْبَاتِ الْيَدِ وَالْإِصْبَعِ لِلَّهِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا هَذَا تَلْبِيسٌ مِنْكُمْ عَلَى ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ.

وَإِنْ فَرَرْتُمْ خَشْيَةَ التَّجْسِيمِ وَالتَّرْكِيبِ فَفِرُّوا مِنْ سَائِرِ الصِّفَاتِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا لِأَجْلِ هَذَا الْمَحْذُورِ، فَإِنِ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ التَّجْسِيمَ وَالتَّرْكِيبَ يَلْزَمُ مِمَّا فَرَرْتُمْ مِنْهُ دُونَ مَا لَمْ تَفِرُّوا مِنْهُ ظَهَرَ بُطْلَانُ دَعْوَاكُمْ لِلْعُقَلَاءِ قَاطِبَةً، فَإِنَّ الصِّفَاتِ أَعْرَاضٌ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا، وَقِيَامُهَا بِمَحَلِّهَا مُسْتَلْزِمٌ لِمَا تَدَّعُونَ أَنَّهُ تَجْسِيمٌ وَتَرْكِيبٌ.

ص: 399

ثُمَّ يُقَالُ لَكُمْ: مَا تُرِيدُونَ بِالتَّجْسِيمِ وَالتَّرْكِيبِ اللَّازِمِ؟ أَتُرِيدُونَ بِهِ مَا تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ فَكَأَنَّكُمْ قُلْتُمْ: لَا تَقُومُ بِهِ لِأَنَّهَا لَوْ قَامَتْ بِهِ لَزِمَ قِيَامُهَا بِهِ، هَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِكُمُ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، فَسَوَّيْتُمْ بَيْنَ اللَّازِمِ وَالْمَلْزُومِ وَنَفَيْتُمُ الشَّيْءَ بِنَفْسِهِ، أَمْ تُرِيدُونَ بِهِ التَّرْكِيبَ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ أَوْ مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ فَالْمُلَازَمَةُ مَمْنُوعَةٌ، وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ الْمَحْدُوثَةَ غَيْرُ مُرَكَّبَةٍ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا، فَكَيْفَ يَلْزَمُ هَذَا مِنْ ثُبُوتِ الصِّفَاتِ لِلرَّبِّ تَعَالَى، وَإِنْ أَرَدْتُمْ مُمَاثَلَتَهُ لِسَائِرِ الْأَجْسَامِ فَهَذَا بِنَاءٌ مِنْكُمْ عَلَى أَصْلِكُمُ الْفَاسِدِ عِنْدَ كَافَّةِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ، فَادَّعَيْتُمْ دَعْوَيَيْنِ كَاذِبَتَيْنِ: لُزُومُ التَّجْسِيمِ مِنْ إِثْبَاتِ صِفَاتِهِ، وَلُزُومُ تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَا فَرَرْتُمْ مِنْهُ، إِنْ كَانَ مَحْذُورًا، فَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ لِإِثْبَاتِ الْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعُلُوِّ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْذُورًا فَلَا وَجْهَ لِلْفِرَارِ، بَلْ هُوَ لَازِمُ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ الَّذِي هُوَ حَقٌّ، وَلَازِمُ الْحَقِّ حَقٌّ، فَأَنْتُمْ بَيْنَ دَعْوَيَيْنِ كَاذِبَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا دَعْوَى مُلَازَمَةٍ كَاذِبَةٍ، أَوْ دَعْوَى انْتِفَاءِ لَازِمِ الْحَقِّ فِي ثُبُوتِهِ، فَإِمَّا أَنْ تُحِيطُوا بِهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ اللُّزُومِيَّةِ أَوْ فِي الِاسْتِثْنَائِيَّةِ أَوْ فِيهِمَا، وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي كُلِّ مَا ادَّعَيْتُمْ نَفْيَهُ.

الْوَجْهُ التَّاسِعُ عَشَرَ: أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ كَلَفْظِ الْيَدَيْنِ وَالْوَجْهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا مَعْنًى أَوْ تَكُونَ أَلْفَاظًا مُهْمَلَةً لَا مَعْنَى لَهَا، وَالثَّانِي ظَاهِرُ الِاسْتِحَالَةِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِثْبَاتِ مَعْنًى لَهَا فَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى الذَّاتِ وَلَهُ مَفْهُومٌ غَيْرُ مَفْهُومِ الصِّفَةِ الْأُخْرَى، فَأَيُّ مَحْذُورٍ لَزِمَ فِي إِثْبَاتِ حَقِيقَةِ الْيَدِ لَزِمَ مِثْلُهُ فِي مَجَازِهَا، وَلَا خَلَاصَ لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَعْنًى أَصْلًا، وَتَكُونُ أَلْفَاظًا مُجَرَّدَةً، فَإِنَّ الْمَعْنَى الْمَجَازِيَّ إِمَّا الْقُدْرَةُ وَإِمَّا الْإِحْسَانُ، وَهُمَا صِفَتَانِ قَائِمَتَانِ بِالْمَوْصُوفِ، فَإِنْ كَانَتَا حَقِيقِيَّتَيْنِ غَيْرَ مُسْتَلْزِمَيْنِ لِمَحْذُورٍ فَهَلَّا حَمَلْتُمُ الْيَدَ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَجَعَلْتُمُ الْبَابَ بَابًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَتْ مَجَازًا وَهُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِكُمْ فَلَا يَدَ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا إِحْسَانَ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَجَازٌ مَحْضٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَالَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ ذَلِكَ إِلْزَامُ الْمَجَازِ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي وَافَقُوا عَلَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا إِلْزَامُ نَفْيِ مَا ادَّعَوْا أَنَّهُ مَجَازُ الْيَدِ، فَيَلْزَمُهُمْ نَفْيُ ذَلِكَ كُلِّهِ إِنِ اسْتَلْزَمَ تَشْبِيهًا أَوْ تَجْسِيمًا، أَوْ إِثْبَاتَ الْجَمِيعِ إِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ، وَأَمَّا كَوْنُ بَعْضِ الصِّفَاتِ يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ وَالتَّجْسِيمَ، وَبَعْضُهَا لَا يَسْتَلْزِمُهُ، فَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلَا مَعْلُومٍ بِصُورَةٍ وَلَا نَظَرٍ وَلَا نَصٍّ وَلَا قِيَاسٍ.

الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ: أَنَّ إِبْطَالَ حَقِيقَةِ الْيَدِ وَنَفْيَهَا وَجَعْلَهَا مَجَازًا هُوَ فِي الْأَصْلِ قَوْلُ

ص: 400

الْجَهْمِيَّةِ الْمُعَطِّلَةِ وَتَبِعَهُمْ عَلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ الْمُسْتَأْخِرِينَ مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى الْأَشْعَرِيِّ، وَالْأَشْعَرِيُّ وَقُدَمَاءُ أَصْحَابِهِ يَرُدُّونَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَيُبَدِّعُونَهُمْ وَيُثْبِتُونَ الْيَدَ حَقِيقَةً، قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْمَالِكِيُّ الْكِنَانِيُّ جَلِيسُ الشَّافِعِيِّ وَالْخِصِّيصُ بِهِ مَاتَ قَبْلَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي كِتَابِهِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ وَالزَّنَادِقَةِ، قَالَ: يُقَالُ لِلْجَهْمِيِّ: أَتَقُولُ إِنَّ لِلَّهِ وَجْهًا وَلَهُ نَفْسٌ وَلَهُ يَدٌ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، وَلَكِنْ مَعْنَى وَجْهِ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ، وَمَعْنَى نَفْسِهِ عَيْنُهُ، وَمَعْنَى يَدِهِ نِعْمَتُهُ، قَالَ: وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ لَهُ (فَذَكَرَ كَلَامًا يَتَعَلَّقُ بِالْوَجْهِ وَالنَّفْسِ)، ثُمَّ قَالَ:

أَمَّا قَوْلُهُ فِي الْيَدِ: إِنَّهَا يَدُ نِعْمَةٍ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: لَكَ عِنْدِي يَدٌ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26] وَقَالَ: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس: 83] وَقَالَ: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] وَقَالَ: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] وَقَالَ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] قَالَ: فَزَعَمَ الْجَهْمِيُّ أَنَّ يَدَ اللَّهِ نِعْمَتُهُ، فَبَدَّلَ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُ فَأَرَادَ الْجَهْمِيُّ أَنْ يُبَدِّلَ كَلَامَ اللَّهِ، إِذْ أَخْبَرَ أَنَّ لَهُ يَدًا بِهَا مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ فَبَدَّلَ مَكَانَ الْيَدِ نِعْمَةً، وَقَالَ: الْعَرَبُ تُسَمِّي الْيَدَ نِعْمَةً، قُلْنَا لَهُ: الْعَرَبُ تُسَمِّي النِّعْمَةَ يَدًا، وَتُسَمِّي يَدَ الْإِنْسَانِ يَدًا، فَإِذَا أَرَادَتْ يَدَ الذَّاتِ جَعَلَتْ عَلَى قَوْلِهَا عَلَمًا وَدَلِيلًا يَعْقِلُ بِهِ السَّامِعُ أَنَّهَا أَرَادَتِ الذَّاتَ، وَإِذَا أَرَادَتْ يَدَ النِّعْمَةِ جَعَلَتْ عَلَى قَوْلِهَا دَلِيلًا يَعْقِلُ السَّامِعُ كَلَامَهَا أَنَّهَا تُرِيدُ بِالْيَدِ النِّعْمَةَ، وَلَا تَجْعَلُ كَلَامَهَا مُشْتَبِهًا عَلَى سَامِعِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

نَاوَلْتُ زَيْدًا بِيَدَيَّ عَطِيَّةً

فَدَلَّ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى يَدِ الذَّاتِ بِالْمُنَاوَلَةِ وَالْيَاءِ حِينَ قَالَ: بِيَدَيَّ، فَجَعَلَ الْيَاءَ اسْتِقْصَاءً لِلْعَدَدِ حِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُ يَدَيْنِ، وَقَالَ الْآخَرُ حِينَ أَرَادَ يَدَ النِّعْمَةِ:

اشْكُرْ يَدَيْنِ لَنَا عَلَيْكَ وَأَنْعُمًا

شُكْرًا يَكُونُ مُكَافِئًا لِلْمُنْعِمِ

فَدَلَّ عَلَى يَدِ النِّعْمَةِ بِقَوْلِهِ: لَنَا عَلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ: وَأَنْعُمًا، ثُمَّ قَالَ: يَدَيْنِ، فَجَعَلَ النُّونَ مَكَانَ الْيَاءِ لَمْ يَسْتَقْصِ بِهِمَا الْعَدَدَ، فَهَذَا قَوْلُ الْعَرَبِ وَمَذْهَبُهَا فِي لُغَاتِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُسَمِّ فِي كِتَابِهِ يَدًا بِنِعْمَةٍ وَلَمْ يُسَمِّ نِعْمَةً يَدًا، سَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْيَدَ يَدًا وَالنِّعْمَةَ نِعْمَةً فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ.

ص: 401

فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ يَدَيْهِ وَيَدِهِ فَقَدْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ فِي صَدْرِ هَذَا الْكَلَامِ، وَأَمَّا النِّعْمَةُ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الْيَدِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 231] وَقَوْلُهُ: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] وَقَوْلُهُ: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى النِّعَمَ بِاسْمِ النِّعْمَةِ وَلَمْ يُسَمِّهَا بِغَيْرِ أَسْمَائِهَا، وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ وَذَكَرَ تَعَالَى أَيْدِي الْمَخْلُوقِينَ فَسَمَّاهَا بِالْأَيْدِي، فَقَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَقَالَ: {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 93] فَهَذِهِ أَيْدٍ لَا نِعْمَةٌ وَذَكَرَ نِعْمَتَهُ عَلَى زَيْدٍ وَنِعْمَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ فَسَمَّاهَا نِعْمَةً وَلَمْ يُسَمِّهَا يَدًا، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ يَدَيْهِ أَنَّهُمَا يَدَانِ لَا ثَلَاثَةَ، وَجَعَلَ الْيَاءَ اسْتِقْصَاءً لِلْعَدَدِ حِينَ قَالَ:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا يَدَا الذَّاتِ، لَا يَتَعَارَفُ الْعَرَبُ فِي لُغَاتِهَا وَلَا أَشْعَارِهَا إِلَّا أَنَّ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ يَدَا الذَّاتِ لِاسْتِقْصَاءِ الْعَدَدِ بِالْيَاءِ، وَأَمَّا نِعَمُ اللَّهِ فَهِيَ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ أَوْ تُعَدَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] .

وَاعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ قَائِلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ جَاهِلٌ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ وَبِلُغَةِ الْعَرَبِ وَمَعَانِيهَا وَكَلَامِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ إِذَا افْتَتَحَ الْخَبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ خَتَمَ الْكَلَامَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَإِذَا افْتَتَحَ الْكَلَامَ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ خَتَمَ الْكَلَامَ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا يَعْنِي الْخَبَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ جَمْعًا، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ لَفْظِ الْوَاحِدِ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَقَضَى رَبُّكَ} [الإسراء: 23] فَافْتَتَحَ الْخَبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ، وَبِمِثْلِهِ خَتَمَ الْكَلَامَ فَقَالَ:{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] وَقَالَ: {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] وَقَالَ: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} [الإسراء: 54] أَمَّا مَا افْتَتَحَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَهُوَ قَوْلُهُ: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4] فَافْتَتَحَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ ثُمَّ خَتَمَهُ بِمِثْلِ مَا افْتَتَحَهُ بِهِ فَقَالَ:

ص: 402

{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الإسراء: 5] وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ نَفْسَهُ لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ مُلُوكِيَّةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ.

وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَقِيَ أَعْرَابِيًّا وَمَعَهُ نَاقَةٌ فَقَالَ: لِمَنْ هَذِهِ؟ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَنَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَمْ أَنْتُمْ؟ فَقَالَ: أَنَا وَاحِدٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَكَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: نَحْنُ وَخَلَقْنَا وَقَضَيْنَا، إِنَّمَا يَعْنِي نَفْسَهُ، وَالْمُبْهَمُ يُرَدُّ إِلَى الْمُحْكَمِ فَكُلُّ كَلِمَةٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ لَفْظِ جَمْعٍ قَبْلَهَا مُحْكَمٌ مِنَ التَّوْحِيدِ تُرَدُّ إِلَيْهِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ} [الإسراء: 4] يُرَدُّ إِلَى قَوْلِهِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] وَقَوْلُهُ: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ: 8] يُرَدُّ إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ} [يس: 82] وَقَوْلُهُ: {لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} [هود: 101] كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71] يُرَدُّ إِلَى قَوْلِهِ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] فَلَمَّا افْتَتَحَ الْكَلَامَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَقَالَ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ} [يس: 71] قَالَ: {أَيْدِينَا} [يس: 71] وَلَمَّا افْتَتَحَ بِقَوْلِهِ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] خَتَمَ الْكَلَامَ عَلَى مَا افْتَتَحَهُ بِهِ، فَهَذَا بَيَانٌ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ.

وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ قَسَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَقْسَمَ أَنْ يَقُولَ: «لَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ» وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِهِ النِّعْمَةُ وَهَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «يُصَدِّقُ كِتَابَ اللَّهِ» . انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَلَوْ ذَكَرْنَا كَلَامَ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ لَطَالَ جِدًّا، وَالْأَشْعَرِيُّ فِي كُتُبِهِ يُصَرِّحُ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ فِي كُتُبِهِ كُلِّهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا لَا يُنْكِرُ لَفْظَهَا وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا حَقَائِقَهَا وَمَعَانِيَهَا الظَّاهِرَةَ، وَكَلَامُ الْأَشْعَرِيِّ مَوْجُودٌ فِي الْإِبَانَةِ وَالْمُوجَزِ وَالْمَقَالَاتِ وَمَوْجُودٌ فِي تَصَانِيفِ أَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ وَأَجَلُّهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الطَّيِّبِ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ وَالتَّمْهِيدِ وَغَيْرِهِمَا وَذَكَرَهُ ابْنُ فُورَكٍ فِيمَا جَمَعَهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كُلَّابٍ وَكَلَامِ الْأَشْعَرِيِّ، وَذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالِاعْتِقَادِ، وَذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ فِي كِتَابِ الشِّكَايَةِ لَهُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ تَبْيِينِ كَذِبِ الْمُفْتَرِي، حَتَّى ابْنُ الْخَطِيبِ وَالسَّيْفُ الْآمِدِيُّ حَكَوْا ذَلِكَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَأَنَّهُ أَثْبَتَ الْيَدَيْنِ صِفَةً لِلَّهِ، وَلَكِنْ غَلِطُوا حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ لَهُ قَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ، وَهَذِهِ كُتُبُهُ كُلُّهَا لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الْإِثْبَاتُ، فَهُوَ الَّذِي يَحْكِيهِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَيَنْصُرُهُ، وَيَحْكِي خِلَافَهُ عَنِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ.

نَعَمْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يَقُولُ بِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ وَصَرَّحَ بِخِلَافِهِمْ وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ.

ص: 403

قَالَ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ آخِرُ كُتُبِهِ وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ فِي ذِكْرِهِ مَنَاقِبَهُ وَاعْتِقَادِهِ، قَالَ: فَإِنْ سَأَلَنَا سَائِلٌ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ إِنَّ لِلَّهِ يَدَيْنِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، نَقُولُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ بِيَدِهِ وَغَرَسَ جَنَّةَ طُوبَى بِيَدِهِ» "، وَقَالَ تَعَالَى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] وَفِي الْحَدِيثِ: " «كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ» " وَلَيْسَ يَجُوزُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَلَا فِي عَادَةِ أَهْلِ الْخِطَابِ أَنْ يَقُولُوا لِقَائِلٍ: عَمِلْتُ كَذَا وَكَذَا بِيَدِي، هُوَ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ، إِذَا كَانَ اللَّهُ خَاطَبَ الْعَرَبَ بِلُغَاتِهَا، وَمَا تَجِدُهُ مَفْهُومًا فِي كَلَامِهَا وَمَعْقُولًا فِي خِطَابِهَا، وَإِذْ لَا يَجُوزُ فِي خِطَابِهَا أَنْ يَقُولَ الْقَائِلَ: فَعَلْتُ بِيَدِي وَيَعْنِي النِّعْمَةَ، بَطَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى بِيَدِي النِّعْمَةَ وَسَاقَ الْكَلَامَ فِي إِنْكَارِ هَذَا التَّأْوِيلِ وَأَطَالَهُ جِدًّا وَقَرَّرَ أَنَّ لَفْظَ الْيَدَيْنِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ اللُّغَةَ الَّتِي أُنْزِلَ بِهَا الْقُرْآنُ لَا تَحْتَمِلُ مَا تَأَوَّلَتِ الْجَهْمِيَّةُ.

وَقَالَ لِسَانُ أَصْحَابِهِ وَأَجَلُّهُمُ ابْنُ الطَّيِّبِ فِي كِتَابِ التَّمْهِيدِ وَهُوَ أَشْهَرُ كُتُبِهِ: فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ: فَمَا الْحُجَّةُ فِي أَنَّ لِلَّهِ وَجْهًا وَيَدَيْنِ قِيلَ لَهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] وَقَوْلُهُ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] فَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ وَجْهًا وَيَدَيْنِ، فَإِنْ قَالُوا: بِمَ أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَنَّهُ خَلَقَهُ بِقُدْرَتِهِ أَوْ بِنِعْمَتِهِ لِأَنَّ الْيَدَيْنِ فِي اللُّغَةِ تَكُونُ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ وَبِمَعْنَى الْقُدْرَةِ كَمَا يُقَالُ: لِفُلَانٍ عِنْدِي يَدٌ بَيْضَاءُ، وَهَذَا شَيْءٌ فِي يَدِ فُلَانٍ، وَتَحْتَ يَدِهِ، وَيُقَالُ رَجُلُ أَيْدٍ إِذَا كَانَ قَادِرًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71] يُرِيدُ عَمِلْنَا بِقُدْرَتِنَا، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ

تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] يَعْنِي بِقُدْرَتِهِ وَنِعْمَتِهِ، قَالَ: فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا بَاطِلٌ، إِذْ قَوْلُهُ بِيَدَيَّ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ يَدَيْنِ هُمَا صِفَةٌ لَهُ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِمَا الْقُدْرَةُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُدْرَتَانِ، وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى قُدْرَةً وَاحِدَةً فَكَيْفَ يَجُورُ أَنْ تُثْبِتُوا قُدْرَتَيْنِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ الْمُثْبِتُونَ لِلصِّفَاتِ وَالنَّافُونَ لَهَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُورُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى قُدْرَتَانِ فَبَطَلَ مَا قُلْتُمْ.

وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ بِنِعْمَتَيْنِ ; لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى آدَمَ وَغَيْرِهِ لَا تُحْصَى ; وَلِأَنَّ الْقَائِلَ لَا يَجُورُ أَنْ يَقُولَ: رَفَعْتُ الشَّيْءَ أَوْ وَضَعْتُهُ بِيَدَيَّ أَوْ تَوَلَّيْتُهُ بِيَدِي وَهُوَ يُرِيدُ نِعْمَتَهُ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُورُ أَنْ يُقَالَ لِي: عِنْدَ فُلَانٍ يَدَانِ يَعْنِي

ص: 404

نِعْمَتَيْنِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: لِي عِنْدَهُ يَدَاهُ بَيْضَاوَانِ ; وَلِأَنَّ فِعْلَتَهُ بِيَدِي لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْيَدِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الذَّاتِ.

وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ تَأْوِيلِهِمْ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوهُ لَمْ يَغْفُلْ عَنْ ذَلِكَ إِبْلِيسُ وَأَنْ يَقُولَ: وَأَيُّ فَضْلٍ لِآدَمَ عَلَيَّ يَقْتَضِي لَهُ وَأَنَا أَيْضًا بِيَدِكَ خَلَقَتْنِي، وَفِي الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَضَّلَ آدَمَ عَلَيْهِ بِخَلْقِهِ بِيَدَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا قَالُوهُ.

فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ: فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ وَوَجْهُهُ جَارِحَةً إِذْ كُنْتُمْ لَا تَعْقِلُونَ يَدًا وَوَجْهًا هُمَا صِفَةٌ غَيْرُ الْجَارِحَةِ؟ قُلْنَا: لَا يَجِبُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَجِبُ إِذَا لَمْ نَعْقِلْ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إِلَّا جِسْمًا أَنْ نَقْضِيَ نَحْنُ وَأَنْتُمْ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ، وَكَمَا لَا يَجِبُ إِذَا كَانَ قَائِمًا بِذَاتِهِ أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا لِأَنَّا وَإِيَّاكُمْ لَمْ نَجِدْ قَائِمًا بِنَفْسِهِ فِي شَاهِدِنَا إِلَّا كَذَلِكَ، الْجَوَابُ لَهُمْ أَنْ قَالُوا: فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ وَكَلَامُهُ وَحَيَاتُهُ وَسَائِرُ صِفَاتِ ذَاتِهِ أَعْرَاضًا وَأَجْسَامًا وَأَجْنَاسًا أَوْ حَوَادِثَ أَوْ أَغِيَارًا لَهُ تَعَالَى وَمُحْتَاجَةٌ إِلَى قَلْبٍ، وَلَوْ تَتَبَّعْنَا الْقَوْلَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ لَزَادَتْ عَلَى الْمِائَتَيْنِ.

خَاتِمَةٌ لِهَذَا الْفَصْلِ

وَرَدَ لَفْظُ الْيَدِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي أَكْثَرِ مِنْ مِائَةِ مَوْضِعٍ وُرُودًا مُتَنَوِّعًا مُتَصَرَّفًا فِيهِ مَقْرُونًا بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا يَدٌ حَقِيقَةً مِنَ الْإِمْسَاكِ وَالطَّيِّ وَالْقَبْضِ وَالْبَسْطِ وَالْمُصَافَحَةِ وَالْحَثَيَاتِ وَالنَّضْحِ بِالْيَدِ، وَالْخَلْقِ بِالْيَدَيْنِ وَالْمُبَاشَرَةِ بِهِمَا وَكَتْبِ التَّوْرَاةِ بِيَدِهِ وَغَرْسِ جَنَّةِ عَدْنٍ بِيَدِهِ وَتَخْمِيرِ طِينَةِ آدَمَ بِيَدِهِ وَوُقُوفِ الْعَبْدِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَوْنِ الْمُقْسِطِينَ عَنْ يَمِينِهِ، وَقِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ يَمِينِهِ، وَتَخْيِيرِ آدَمَ بَيْنَ مَا فِي يَدَيْهِ، فَقَالَ:«اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي» ، وَأَخْذِ الصَّدَقَةِ بِيَمِينِهِ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا، وَكِتَابِهِ بِيَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّ رَحْمَتَهُ تَغْلِبُ غَضَبَهُ، وَأَنَّهُ مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ وَيَدَاهُ مَفْتُوحَتَانِ: اخْتَرْ، فَقَالَ اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ، وَأَنَّ يَمِينَهُ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقِسْطُ يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ، وَأَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ يَطْوِي السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَطْوِي الْأَرْضَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، وَأَنَّهُ خَطَّ الْأَلْوَاحَ الَّتِي كَتَبَهَا لِمُوسَى بِيَدِهِ.

وَذَكَرَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: يَا رَبِّ قَدْ أَعْطَيْتَ بَنِي آدَمَ الدُّنْيَا يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَيَلْبَسُونَ،

ص: 405

فَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ كَمَا جَعَلْتَ لَهُمُ الدُّنْيَا؟ فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ، فَأَعَادُوا ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ، فَأَعَادُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ فَقَالَ:" وَعِزَّتِي لَا أَجْعَلُ ذَرِّيَّةَ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ كَمَنْ قُلْتُ لَهُ كُنْ فَكَانَ» " وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا.

وَقَوْلُهُ: «الْأَيْدِي ثَلَاثَةٌ، فَيَدُ اللَّهِ الْعُلْيَا وَيَدُ الْمُعْطِي الَّتِي تَلِيهَا، وَيَدُ السَّائِلِ السُّفْلَى» فَهَلْ يَصِحُّ فِي عَقْلٍ أَوْ لُغَةٍ أَوْ عُرْفٍ أَنْ يُقَالَ: قُدْرَةُ اللَّهِ أَوْ نِعْمَتُهُ الْعُلْيَا وَيَدُ الْمُعْطِي الَّتِي تَلِيهَا، فَهَلْ يَحْتَمِلُ هَذَا التَّرْكِيبُ غَيْرَ يَدِ الذَّاتِ بِوَجْهٍ مَا؟ وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ، وَالْيَدُ السُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ، فَضَمُّ هَذَا إِلَى قَوْلِهِ: الْأَيْدِي ثَلَاثَةٌ، فَيَدُ اللَّهِ الْعُلْيَا، وَيَدُ الْمُعْطِي هِيَ الَّتِي تَلِيهَا، وَإِلَى قَوْلِهِ:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] تَقْطَعُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمُرَادَ يَدُ الذَّاتِ لَا يَدُ الْقُدْرَةِ وَالنِّعْمَةِ، فَإِنَّ التَّرْكِيبَ وَالْقَصْدَ وَالسِّيَاقَ لَا يَحْتَمِلُهُ الْبَتَّةَ.

وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] فَلَمَّا كَانُوا يُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَيْدِيهِمْ وَيَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى أَيْدِيهِمْ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ السَّفِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كَانَتْ مُبَايَعَتُهُمْ لَهُ مُبَايَعَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ وَعَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ كَانَتْ يَدُهُ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَهُمْ، فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا لِمَنْ لَيْسَ لَهُ يَدٌ حَقِيقَةً؟ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى قُدْرَةُ اللَّهِ وَنِعْمَتُهُ فَوْقَ قُدَرِهِمْ وَنِعَمِهِمْ، أَمْ تَقْتَضِي الْمُقَابَلَةُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى الْأَفْهَامِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ؟

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ " «مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ صَدَقَةً مِنْ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ» "، فَهَلْ يَحْتَمِلُ هَذَا الْكَلَامُ غَيْرَ الْحَقِيقَةِ؟

ص: 406