الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْأَسَدِ فَحَمَانَا وَأَقْرَأَنَا كَانَ بَيِّنًا بِنَفْسِهِ، وَكَانَ حَقِيقَةً، وَهُوَ مَوْضُوعٌ لِكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ، مُسْتَعْمَلٌ فِي مَوْضُوعِهِ، كَالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ وَسَوَاءٌ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ ذَلِكَ حَتَّى يُدَّعَى الْمَجَازُ فِي بَعْضِ الِاسْتِعْمَالَاتِ وَالْحَقِيقَةُ فِي بَعْضِهَا.
وَلِهَذَا لَمَّا تَفَطَّنَ لِهَذَا مَنْ تَفَطَّنَ لَهُ مِنَ الْأَذْكِيَاءِ صَارُوا فَرِيقَيْنِ: فِرْقَةً أَنْكَرَتِ الْمَجَازَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَفِرْقَةً ادَّعَتْ أَنَّ اللُّغَةَ كُلَّهَا إِلَّا النَّادِرَ مِنْهَا مَجَازٌ، فَإِنَّهُمْ رَأَوْا فَسَادَ تِلْكَ الْفُرُوقِ وَتَنَاقُضَهَا فَلَمْ يَرْضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالتَّنَاقُضِ وَالتَّحَكُّمِ الْبَارِدِ، يُوَضِّحُهُ:
[اللغة كلها حقيقة أو كلها مجاز]
الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّهَا مَجَازًا، وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ فَكُلُّهَا حَقِيقَةٌ.
بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُفْرَدَاتِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَسْمَاءٌ وَأَفْعَالٌ وَحُرُوفٌ، وَهِيَ رَوَابِطُ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ، وَهَذِهِ الرَّوَابِطُ دَلَالَتُهَا عَلَى مَعْنَاهَا الْإِفْرَادِيِّ مَشْرُوطٌ بِذِكْرِ مُتَعَلِّقِهَا، وَهُوَ الْقَرِينَةُ الْمُبَيِّنَةُ لِمَعْنَاهَا؟ فَدَلَالَتُهَا الْمَوْقُوفَةُ عَلَى الْقَرِينَةِ لَا تَدُلُّ بِمُطْلَقِهَا، وَذَلِكَ أَمَارَةُ الْمَجَازِ عِنْدَهُمْ، بَلْ هَذَا أَبْلَغُ فِي ثُبُوتِ الْمَجَازِ حَيْثُ كَانَتِ الْقَرِينَةُ شَرْطًا فِي إِفَادَتِهِ، فَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَدَّعُوا أَنَّ الْحُرُوفَ كُلَّهَا مَجَازٌ، فَهَذَا غَلَطٌ، لَوْ كَانَ الْمَجَازُ ثَابِتًا فَإِنَّهَا لَمْ يَسْبِقْ لَهَا مَوْضُوعٌ غَيْرُ مَوْضُوعِهَا الَّذِي هِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيهِ، بَلِ اسْتِعْمَالُهَا فِي مَوْضُوعَاتِهَا.
وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: إِنْ تَوَقَّفَ فَهْمُ مَعْنَاهَا عَلَى الْقَرِينَةِ لَا يُوجِبُ لَهَا أَنْ تَكُونَ مَجَازًا فَيُقَالُ لَهُمْ: وَهَكَذَا الْأَسْمَاءُ وَالْأَفْعَالُ الَّتِي لَهَا دَلَالَةٌ عِنْدَ الِاقْتِرَانِ وَدَلَالَةٌ عِنْدَ التَّجَرُّدِ لَا يُؤَدِّي تَوَقُّفُ فَهْمِ مَعْنَاهَا عِنْدَ الِاقْتِرَانِ عَلَى الْقَرِينَةِ أَنْ تَكُونَ مَجَازًا، وَهَلِ الْفَرْقُ إِلَّا مَحْضٌ؟ .
فَإِنْ قُلْتُمُ: الْأَسْمَاءُ وَالْأَفْعَالُ لَهَا دَلَالَتَانِ: دَلَالَةٌ عِنْدَ التَّجَرُّدِ وَدَلَالَةٌ عِنْدَ الِاقْتِرَانِ، فَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ لَهَا جِهَتَانِ، وَأَمَّا الْحُرُوفُ فَلَا تَدُلُّ إِلَّا مَعَ الِاقْتِرَانِ، فَلَيْسَ لَهَا جِهَةُ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ، قِيلَ لَكُمْ: دَلَالَةُ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ عِنْدَ التَّجَرُّدِ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ كَدَلَالَةِ الْحُرُوفِ سَوَاءً، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لُغَةً وَلَا عَقْلًا، فَإِنَّ قَوْلَكَ: رَجُلٌ وَمَاءٌ وَتُرَابٌ، كَقَوْلِكَ: فِي وَعَلَى وَثُمَّ وَقَامَ وَقَعَدَ وَضَرَبَ، فَالْجَمِيعُ أَصْوَاتٌ يُنْعَقُ بِهَا لَا تُفِيدُ شَيْئًا، وَشَرْطُ إِفَادَتِهَا تَرْكِيبُهَا، فَكَمَا أَنَّ شَرْطَ إِفَادَةِ الْحَرْفِ تَرْكِيبُهُ مَعَ غَيْرِهِ فَشَرْطُ إِفَادَةِ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ تَرْكِيبُهُمَا.
فَإِنْ قُلْتَ: أَنَا أَفْهَمُ مِنْ رَجُلٍ وَمَاءٍ وَتُرَابٍ مُسَمَّى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِهَا، قِيلَ: فَإِنَّهُ يَفْهَمُ مِنْ قَوْلِكَ: فِي وَعَلَى وَثُمَّ مُسَمَّى تِلْكَ الْحُرُوفِ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِهَا، وَهِيَ الظَّرْفِيَّةُ وَالِاسْتِعْلَاءُ وَالتَّرْتِيبُ وَالتَّرَاخِي.
فَإِنْ قُلْتَ: لَا يُعْقَلُ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ إِلَّا بِالْمَظْرُوفِ وَالظَّرْفِ، وَلَا مَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ إِلَّا بِالْمُسْتَعْلِي وَالْمُسْتَعْلَى عَلَيْهِ، وَلَا مَعْنَى التَّرْتِيبِ إِلَّا بِالْمُرَتَّبِ وَالْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ هِيَ مُتَعَلِّقَاتُ الْحُرُوفِ، قِيلَ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ (فِي) ظَرْفِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ، وَمِنْ (عَلَى) اسْتِعْلَاءٌ مُطْلَقٌ، وَمِنْ (ثُمَّ) تَرْتِيبٌ مُطْلَقٌ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ رَجُلٍ وَمَاءٍ وَتُرَابٍ مَعَانٍ مُطْلَقَةٌ، وَهِيَ صُوَرٌ ذِهْنِيَّةٌ مُجَرَّدَةٌ لَا يُقَارِنُهَا عِلْمٌ بِوُجُودِهَا فِي الْخَارِجِ وَلَا عَدَمِهَا وَلَا وُجُودِ شَيْءٍ لَهَا وَلَا سَلْبِ شَيْءٍ عَنْهَا، بَلْ هِيَ تَخَيُّلَاتٌ سَاذَجَةٌ، وَفَهْمُ مَعَانِيهَا الْمَخْصُوصَةِ الْمُفِيدَةِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَرْتِيبِهَا.
فَإِذَا قُلْتَ: جَاءَنِي رَجُلٌ فَأَكْرَمْتُهُ، كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمُقَيَّدِ، كَدَلَالَةِ الْحَرْفِ عَلَى مَعْنَاهُ الْمُقَيَّدِ عِنْدَ تَرْكِيبِهِ، كَقَوْلِكَ: عَلِمْتُ عَلَى السَّطْحِ، وَتَقُولُ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ وَ (فِي) لِلْوِعَاءِ فَتُفِيدُ الْحُكْمَ عَلَى مَعْنَاهَا الْمُطْلَقِ، كَمَا تَقُولُ: الذَّكَرُ أَشْرَفُ مِنَ الْأُنْثَى، وَالرَّجُلُ أَنْفَعُ مِنَ الْمَرْأَةِ، فَيُفِيدُ الْحُكْمَ عَلَى الْمَعْنَى الْمُطْلَقِ.
فَهَاهُنَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ، وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْحُرُوفِ وَتَسْمِيَتِهَا، فَإِنَّكَ تَقُولُ (عَلَى) مُجَرَّدَةً وَتَقُولُ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ، وَتَقُولُ: زَيْدٌ عَلَى السَّطْحِ، كَمَا تَقُولُ: رَجُلٌ، وَالرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ الْمَرْأَةِ، فَدَعْوَى الْمَجَازِ فِي بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ تَحَكُّمٌ لَا وَجْهَ لَهُ.
وَدَلَالَةُ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُطَبَّقِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ إِنْ كَانَتْ هِيَ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ كَانَ كُلُّ مُقَيَّدٍ مَجَازًا، وَإِنْ كَانَتْ دَلَالَتُهَا عِنْدَ التَّقْيِيدِ لَمْ تُوجِبْ لَهُمَا مُفَارَقَةَ الْحَقِيقَةِ، فَكُلُّ مُقَيَّدٍ حَقِيقَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: عِنْدِي رَجُلٌ فَيَكُونُ لَهُ دَلَالَةٌ، فَإِذَا قُلْتَ: الرَّجُلُ عِنْدِي تَغَيَّرَتْ دَلَالَتُهُ وَانْتَقَلَتْ مِنَ التَّنْكِيرِ إِلَى التَّعْرِيفِ، فَإِذَا قُلْتَ: عِنْدِي رَجُلٌ عَالِمٌ تَقَيَّدَ بِقَيْدٍ مَنَعَ دَلَالَتَهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِذَا قُلْتَ: عِنْدِي رَجُلَانِ كَانَ لَهُ دَلَالَةٌ أُخْرَى، فَإِذَا قُلْتَ: رِجَالٌ تَغَيَّرَتِ الدَّلَالَةُ وَلَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَمَوْضُوعِهِ، بَلِ اخْتَلَفَتْ دَلَالَتُهُ بِحَسَبِ الْقَرَائِنِ الَّتِي تَكُونُ فِي أَوَّلِهِ تَارَةً، وَفِي أَوْسَطِهِ تَارَةً، وَفِي آخِرِهِ تَارَةً، وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِهِ وَتَكُونُ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ تَارَةً، إِمَّا لَفْظِيَّةٌ وَإِمَّا عُرْفِيَّةٌ وَإِمَّا عَقْلِيَّةٌ، فَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ فِي مُخَاطَبَاتِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَهُوَ مِنْ ضَرُورَةِ الْفَهْمِ وَالتَّفْهِيمِ لَا يَخْتَصُّ بِلُغَةٍ دُونَ لُغَةٍ. .
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعَانِي الْمُطْلَقَةِ وَالْمُقَيَّدَةِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، وَالْحَاجَةُ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا فِي الْعِبَارَةِ مِنْ لَوَازِمِ النُّطْقِ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّ بَعْضَهَا هُوَ الْأَصْلُ، وَأَنَّ اللَّفْظَ وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ نُقِلَ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْمَعَانِي الْأُخَرِ فَهُوَ مُكَابِرٌ، إِذْ تَصَوُّرُ تِلْكَ الْمَعَانِي وَالتَّعْبِيرُ
عَنْهَا أَمْرٌ لَازِمٌ لِلنَّاطِقِ وَنُطْقِهِ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ لُزُومَ الْمُقَيَّدِ لَهُ وَحَاجَتَهُ إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ وَإِفْهَامَهُ فَوْقَ حَاجَتِهِ إِلَى الْمُطْلَقِ، فَإِنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْخِطَابِ قِيَامُ مَصَالِحِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ بِالْفَهْمِ وَالتَّفْهِيمِ وَالْمُطْلَقِ صُورَةٌ ذِهْنِيَّةٌ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْخَارِجِ، وَكَذَلِكَ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ الْمُجَرَّدُ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً وَإِنَّمَا مَحَلُّ الْإِفَادَةِ وَالِاسْتِفَادَةِ هُوَ طَلَبُ الْمَعَانِي الْمُقَيَّدَةِ وَالْأَلْفَاظِ الْمُقَيَّدَةِ، فَهِيَ الَّتِي تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إِلَى طَلَبِهَا وَالْخَبَرِ عَنْهَا، فَهَؤُلَاءِ عَكَسُوا الْأَمْرَ فَجَعَلُوا مَا لَا غِنَى لِلنَّاطِقِ عَنْهُ مَجَازًا وَمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلَا تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ إِلَى فَهْمِهِ وَتَفْهِيمِهِ حَقِيقَةً.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَجَازُ حَقًّا ثَابِتًا فَاللُّغَةُ كُلُّهَا مَجَازٌ، فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا مُقَيَّدَةً تُخَالِفُ دَلَالَتَهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَقِيقَةُ مَوْجُودَةً فَإِنَّ اللُّغَةَ كُلَّهَا حَقِيقَةٌ مَا دَلَّتْ عَلَى الْمُرَادِ بِتَرْكِيبِهَا، وَهَذَا شَأْنُ جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ: يُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ هَؤُلَاءِ أُوتُوا مِنْ تَقْدِيرٍ فِي الذِّهْنِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَإِنَّهُمْ أَصَابَهُمْ فِي تَجْرِيدِ الْأَلْفَاظِ عَنْ قُيُودِهَا وَتَرْكِيبِهَا ثُمَّ الْحُكْمِ عَلَيْهَا مُجَرَّدَةً بِحُكْمٍ وَعَلَيْهَا عِنْدَ تَقْيِيدِهَا بِحُكْمِ غَيْرِهِ مَا أَصَابَ الْمَنْطِقِيِّينَ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ فِي تَجْرِيدِ الْمَعَانِي وَأَخْذِهَا مُطْلَقَةً عَنْ كُلِّ قَيْدٍ، ثُمَّ حَكَمُوا عَلَيْهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ بِأَحْكَامٍ، وَرَأَوْا وُجُودَهَا الْخَارِجِيَّ مَعَ قُيُودِهَا يَسْتَلْزِمُ ضِدَّ تِلْكَ الْأَحْكَامِ، فَبَقُوا حَائِرِينَ بَيْنَ إِنْكَارِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ وَبَيْنَ إِبْطَالِ تِلْكَ الْحَقَائِقِ الَّتِي اعْتَبَرُوهَا مُجَرَّدَةً مُطْلَقَةً، فَصَارُوا تَارَةً يُثْبِتُونَ تِلْكَ الْمُجَرَّدَاتِ فِي الْخَارِجِ مُجَرَّدَةً مُطْلَقَةً وَيُسَمُّونَهَا الْمُثُلَ، أَيِ الْمِثَالَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْحَقَائِقَ الْخَارِجِيَّةَ، وَتَارَةً يُثْبِتُونَهَا مُقَارَنَةً لِلْمُشَخَّصَاتِ لَا تُفَارِقُهَا، وَتَارَةً يَجْعَلُونَهَا جُزْءًا مِنَ الْمُعَيَّنَاتِ، وَتَارَةً يَرْجِعُونَ إِلَى حُكْمِ الْعَقْلِ وَيَقُولُونَ: إِنَّ وُجُودَهَا ذِهْنِيٌّ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْخَارِجِ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إِلَّا مُشَخَّصٌ مُعَيَّنٌ مُخْتَصٌّ بِأَحْكَامٍ وَلَوَازِمَ لَا تَكُونُ الْمَطْلُوبَ.
وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَرَّدُوا الْحَقَائِقَ عَنْ قُيُودِهَا وَأَخَذُوهَا مُطْلَقَةً أَخْرَجُوا عَنْ مُسَمَّيَاتِهَا وَمَاهِيَّاتِهَا جَمِيعَ الْقُيُودِ الْحَرِجَةِ فَلَمْ يَجْعَلُوهَا دَاخِلَةً فِي حَقِيقَتِهَا، فَأَثْبَتُوا إِنْسَانًا لَا طَوِيلًا وَلَا قَصِيرًا، وَلَا أَسْوَدَ وَلَا أَبْيَضَ، وَلَا فِي زَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ، وَلَا سَاكِنًا وَلَا مُتَحَرِّكًا، وَلَا هُوَ فِي الْعَالَمِ وَلَا خَارِجِهِ وَلَا لَهُ لَحْمٌ وَلَا عَظْمٌ، وَلَا عَصَبٌ وَلَا ظُفْرٌ، وَلَا لَهُ شَخْصٌ وَلَا ظِلٌّ وَلَا يُوصَفُ بِصِفَةٍ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِقَيْدٍ، ثُمَّ رَأَوُا الْإِنْسَانَ الْخَارِجِيَّ بِخِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَقَالُوا: هَذِهِ عَوَارِضُ خَارِجَةٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَجَعَلُوا حَقِيقَةَ تِلْكَ الصُّورَةِ الْخَيَالِيَّةِ الَّتِي جَرَّدُوهَا، فَهِيَ الْمَعْنَى وَالْحَقِيقَةُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اعْتَبَرُوهَا